النبي الأمي
اقرأ

عبدالوهاب سنان النواري في السبت ١٠ - سبتمبر - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

من الأخطاء التراثية الشائعة أن خاتم النبيين كان لا يقرأ ولا يكتب، وقد ترسخت هذه الكذبة في أذهان البسطاء حتی أصبح إنكارها بمثابة إنكار شيء من الدين.

ويتشبث العامة بهذه الكذبة أعتمادا علی الفهم الأعرج لكلمتي (أمي وأميين) الواردتين في قوله تعالی: فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي (الأعراف 170) . وفي قوله تعالی: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم (الجمعة 2) .

وقبل أن نخوض في التفصيل علينا أن نوضح شيئا ما، وهو أن اللغة - أي لغة - هي كائن حي تتطور، وتدخل عليها مفردات جديدة، وتندثر وتتغير معاني الكثير من مفرداتها.

ومثلا كلمة (عميد) في عصرنا تعني رتبة عسكرية عالية في الجيش، وتعني منصبا أكاديميا، غير أن كلمة عميد في العصر الجاهلي كانت تعني (المتيم أو الهائم أو المريض بالحب) ، يقول امرؤ القيس:

يلومونني في حب ليلی عواذلي

لكنني في حبها لعميد

فلا يصح أن نفهم أنه في حبها عميد كلية أو ظابط في الجيش.

كلمة الأمي أو الأميين أيضا، لا يجب أن نفهمها حسب مفاهيم عصرنا، بل علينا أن نفهمها حسب مفاهيم العصر الذي نزل فيه القرآن، وحسب مفاهيم القرآن نفسه.

وبناء علی هذا نستطيع أن نقول: أن كلمة الأمي، تعني العربي، وكلمة الأميين تعني العرب، وفي هذا العديد من النظريات، أهمها أنهم سموا بذلك نسبة إلی أم القری (مكة) ، فقالوا: أن الأمي تعني القرشي، وأن الأميين تعني القرشيين .. الخ.

وبعيدا عن هذا كله، وعودة إلی كتاب الله جل وعلا، وإعتمادا عليه تتضح الحقائق التالية:

أولا: لا يمكن أن يأمر الحق تبارك وتعالی رسوله بأمر وهو يعلم أنه غير قادر عليه أو جاهل به، فلا يمكن أن يقول له: اقرأ باسم ربك الذي خلق .. اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم (العلق 1-5) . لا يمكن أن يأمره بالقرآءة وهو يعلم أنه لا يقرأ، إلا إذا كان من باب أمر الرسول بتعلم القراءة والكتابة، أي أن يكون معنی الآيات: تعلم القراءة والكتابة بالقلم. أو من باب كن فيكون، أي كن قارئا وكاتبا بالقلم، وفي كل الحالات فالآيات تثبت أن خاتم النبيين يقرأ ويكتب.

ثانيا: أن المشركين عندما وصفوا حال خاتم النبيين مع القرآن، وصفوه بأنه كان يكتبه، وأن هناك من يملي عليه. المشركين هنا لم ينكروا ما يرونه وهو أن النبي يكتب، فقط أنكروا الوحي، لانهم لا يرونه، لذا قالوا أن هناك من يملي عليه (جن أو ساحر أو يهودي) وهو يكتب ، وقد أورد القرآن الكريم مقالتهم، ولم ينكر عليهم قولهم أن خاتم النبيين يكتب، فقط أنكر عليهم قولهم بأن هناك من يملي عليه، جاء كل هذا في قوله تعالی: وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملی عليه بكرة وأصيلا ، قل أنزله الذي يعلم السر في السماوات والأرض إنه كان غفورا رحيما (الفرقان 5-6) .

ثالثا: القرآن يؤكد في كثير من الآيات أن خاتم النبيين كان يتلوا القرآن، أو يتلوا آيات الله، وحتی لا يقول قائل أن المعنی هنا هو أن يقرأها من ذاكرته نورد الآيات التي ارتبطت بالتلاوة والصحف والكتب:

ففي سورة البينة يقول الحق تبارك وتعالی: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتی تأتيهم البينة ، رسول من الله يتلوا صحفا مطهرة ، فيها كتب قيمة (1-3) . فالآيات هنا تتحدث عن رسول (محمد) يتلوا صحف وكتب، أي يقرأها.

أخيرا: يحاول كهنة الموروث عابثين أن يثبتوا أن خاتم النبيين لا يقرأ ولا يكتب بالإستدلال بقوله تعالی: وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطن (العنكبوت 48) .

يقوم الكهنة بعزل الآية عن سياقها ولي عنقها كما يفعلون مع كل الآيات، وحتی نفهم الآية الفهم الصحيح دعونا نقرأها في سياقها، قال تعالی: وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين ءاتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من لا يؤمن به وما يجحد بأياتنا إلا الكافرون ، وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ، بل هو ءايات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بأياتنا إلا الظالمون (العنكبوت 47-49) .

الآيات هنا تخاطب خاتم النبيين في موضوع متصل بأهل الكتاب الذين كانوا يخفون آيات الله جل وعلا ولم يطلعوا أحدا عليها، وعندما نزلت آيات الله جل وعلا مصدقة ومتطابقة مع ما لديهم أصيبوا بالدهشة، فمنهم من آمن ومنهم جحد، ثم يوضح الله الحق تبارك وتعالی لرسوله: بأنه لو قرأ أو خط كتابا سماويا بيده قبل القرآن الكريم، لكان في ذلك حجة ليزايد المبطلون بها، ولكن الله جل علا أتم الحجة عليهم، فهم أصلا يخفون آيات الكتاب (التوراة) ، وبالتالي لم يطلع عليها خاتم النبيين، لذلك كان القرآن الكريم ءايات بينات في صدور الذين أوتوا العلم (أهل الكتاب) ، فلم يعد لهم بعد ذلك حجة، كما لم يعد لقارئ هذا المقال حجة في أن يجهل أن خاتم النبيين كان أميا (عربيا - قرشيا) يقرأ ويكتب

اجمالي القراءات 6441