ملك اليمين : الاسترقاق والتجنيد العسكرى

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٠٥ - أغسطس - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :

1 ـ ليس فى الاسلام ـ دين السلام ـ ودولته المسالمة ـ تجنيد إجبارى إلزامى ، ومثل سائر العبادات فالقتال الدفاعى فريضة يلتزم بها المؤمن القادر إبتغاء وجه ربه جل وعلا ، وليست هناك عقوبة دنيوية توقعها الدولة الاسلامية على ترك الصلاة أو الصيام أو الحج أو الصدقة أو قراءة القرآن أو ذكر الله جل وعلا ، أو الجهاد فى سبيل الله جل وعلا بالأنفس والأموال . وكان المنافقون يتخلفون عن فريضة القتال الدفاعى، قال جل وعلا عنهم  : ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)التوبة). وكانت عقوبتهم هى منعهم مستقبلا من شرف القتال الدفاعى ، يقول جل وعلا : ( فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) البقرة ) .

2 ـ وقتها ـ فى العصور الوسطى ـ تداخل الاسترقاق مع التجنيد الحربى فى دول الاستبداد والاعتداء ، بل أصبح هناك ما يمكن تسميته بالاسرقاق الطوعى .  

 3 ـ تأسست فى المناطق النهرية دول مستقرة ، يحكمها مستبد فرعونى ، معه جيشه ورجال دينه الأرضى وحكومته ، وهم يمتلكون ـ أو يسترقون ـ الشعب العامل فى الزراعة وخدمة المستبد وقومه . فرعون موسى خيرمثال ، وهو الذى نادى فى قومه فقال : (يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف ). وطالما يملك الأرض فهو يملك من يزرعها ، فالشعب هنا رقيق للفرعون .

هذه الدول النهرية المستقرة فى  مصر وايران والهند والصين كانت تتعرض وقت ضعفها الى غزوات من القبائل الصحراوية والرعوية التى تحترف القتال ، والقبيلة  فيها هى الجيش المتحرك والدولة المتحركة . كان هذا حال القبائل فى الجزيرة العربية والقبائل التركية والتترية والمغولية ..الخ .. فى أواسط آسيا حيث السهول الرعوية الواسعة والخيول السريعة والقتال اليومى بين قبائل شتى ، وحين تتحد تتكون منها إمبراطوريات ( مؤقتة ) وشاسعة تتوسع فى ( العالم القديم ) ودول الأنهار كما فعل العرب والتتار والعثمانيون. ثم لا يلبث أن ينضب معينها من الجنود ، ويثور النزاع على السلطة بين الورثة وتنقسم  وتسقط لترثها قوة أخرى ، تتوسع ويختلف الورثة وتتقسم وتسقط ، وهكذا تتكرر الدورة . وعلى هامشها يجرى الاسترقاق لسدّ النقص فى الجنود ، ويكون الاسترقاق طوعا حينا ، وشراءا أحيانا .

ونعطى لمحة سريعة :

أولا :

 الرقيق فى خدمة المستبد  

1 ـ بدلا من التقاتل بين القبائل العربية قامت قريش بتجميع العرب وحشدهم لغزو وإحتلال البيئات النهرية تحت شعار الاسلام والجهاد ، وفى أقل من قرن من الزمان وصلوا الى تخوم الصين شرقا وجنوب فرنسا غربا .

2 ـ كان العرب هم الجنود ، وفى الدولة الأموية تم تجنيد غير العرب من الموالى ، ومن العبيد التابعين للسادة العرب  . ثم توسعت الدولة العباسية فى تجنيد الفرس ( الموالى ) ، وحدث تنافس بين العرب والفرس ظهر فى الصراع بين الأمين والمأمون ، وانتصر الفرس .

3 ـ الخليفة المعتصم العباسى ( 218 : 227 ) بدأ ظاهرة جديدة هى شراء الشباب الأتراك من أواسط آسيا ، بالاضافة الى عناصر أخرى قام بتجنيدها ـ وفق نظام المرتزقة ـ من أعراب مصر وقبائل من سمرقند، وأشروسنة، وفرغانة . وهنا بداية التجنيد بالاسترقاق فى تاريخ الخلفاء القرشيين العباسيين .

ثانيا :

العبيد يتحكمون فى الخليفة العباسى

1 ـ ثم جاء المتوكل بن المعتصم فى خلافته ( 232 : 247 ) فاعتمد على العبيد الأتراك فى جيشه وحراسته وحكمه ، فبدأ عصر جديد يتحكم فيه القواد الأتراك فى الخلافة العباسية الى درجة عزل الخلفاء وقتلهم ونجاح بعض القواد الأتراك فى إقامة دول مستقلة فى إطار الدولة العباسية كالدولة الطولونية ( 256 : 292 ) والدولة الاخشيدية ( 323 : 358 ) فى مصر والشام .

2 ـ يهمنا هنا أن أولئك الأتراك كان يؤتى بهم ـ فى الأغلب ـ رقيقا ، ويتجند عسكريا ، ثم يترقى أحدهم ليكون قائدا . وبالتالى كان بعضهم يأتى طوعا ـ أو يقع فى الاسترقاق طوعا أملا فى وضع أفضل فى الخلافة العباسية ، التى نضب معينها من جند العرب والفرس ، ولم يعد لها قوة عسكرية إلا المجلوب لهم من أواسط آسيا ، وفيها كانت القبائل التركية تهاجر من الشرق الى الغرب بسبب شظف العيش والضغط الحربى من قبائل أكثر شراسة فى الشرق، ويأتى شبابها الى العراق طوعا أو كرها ليصبحوا القوة المتحكمة  .

ثالثا :

تعاقب حكم القبائل الآسيوية فى الخلافة العباسية

1 ـ إستمر تحكم القواد الأتراك فى الخلفاء العباسيين حتى حل محلهم عصبيات قبلية فارسية وهم بنو بويه الشيعة  ، وقد حكموا العراق وفارس ومناطق من أواسط آسيا بدءا من عام  334 ، وتقسموا واختلفوا وضعفوا وسقطوا . وحلّ محلهم عصبيات قبلية تركية هم الأتراك السلاجقة ،السنيين المتطرفين ، الذين ظهروا عام 420 ، وتوسعوا  بدءا من  عام 447 ، وشملت سيطرتهم أواسط آسيا وآسيا الصغرى الى العراق والشام ، ودخلوا فى صدام حربى مع الصليبيين . وكالعادة تقسموا وضعفوا فورثهم فى الشام الزنكيون ( عماد الدين زنكى ) ثم نور الدين زنكى ، وإشتهروا بسبب قتالهم الصليبيين.

2 ـ  ، وضعف الزنكيون بوفاة نور الدين زنكى فحل محلهم الأيوبيون الأكراد ، وبهم تمهد الطريق لأن يحكم العبيد الشعوب الحرة .

رابعا :

العبيد ( المماليك )يصبحون سلاطين يحكمون الأحرار

1 ـلم يكن الأيوبيون قبيلة بل أسرة من القادة ، على رأسهم نجم الدين ايوب وأخوه أسد الدين شيركوه ، ثم صلاح الدين بن نجم الدين. كانوا قادة لجيش نور الدين زنكى .

 2 ـ لتكوين قوة لهم بدأوا فى شراء مماليك . أسد الدين شيركوه الذى تولى مصر نيابة عن سيده نور الدين زنكى ـ فى خلافة العاضد الفاطمى ـ أكثر من شراء المماليك ليحمى نفسه وسلطانه ووضعه القلق فى مصر . تكاثر مماليك شيركوه وتسموا بالمماليك ( الأسدية ) نسبة الى سيدهم ( أسد الدين شيركوه ). مات وتولى ابن أخيه صلاح الدين الأيوبى فى مصر فأكثر صلاح الدين من شراء المماليك فكان المماليك ( الصلاحية ) يتنافسون فى النفوذ مع المماليك الأسدية . تولى العادل الأيوبى بعد موت أخيه صلاح الدين فاستولى على كل الدولة وكوّن المماليك (العادلية) ليحمى نفسه ونفوذه . وتولى ( الكامل ) بعد أبيه العادل فاصبح له المماليك ( الكاملية ) . فى كل مرحلة يأتى السلطان الجديد فيكون له مماليكه الخاصين به ويضطهد مماليك أبيه . مات الكامل وجاء ابنه العادل الثانى وقبل أن ينقلب العادل الثانى على مماليك أبيه ( الكاملية ) إعتقله المماليك الكاملية وبعثوا لأخيه الأكبر الصالح أيوب فجاء إلى مصر وتسلطن.

وتكاثر مماليك الصالح أيوب حتى ضاقت بهم القاهرة فأسكنهم في معسكرات فى الجزيرة فعرفوا ( بالبحرية) نسبة لبحر النيل .  وأولئك البحرية كرهوا ابن سلطانهم الصالح أيوب – وهو توران شاه  ـ إذ كان على شيمة أسلافه يضطهد مماليك أبيه ويعول على إنشاء عصبة مملوكية جديدة تدين بالولاء له وعلى ذلك فلم يكافئهم على جميلهم حين حفظوا له ملكه وهزمزا لويس التاسع واسروه . أظهر لهم العداء والتآمر فقتلوه ، وانفردوا بالحكم من دونه ومن دون الأيوبيين جميعا . فاصبح المماليك هم السلاطين الذين يحكمون الأحرار .

3 ـ كانت هذه سابقة غير مألوفة ، أن يحكم العبيد السابقون شعبا من الأحرار . لذا ثار المصريون الذين قلّما يثورون ، يقول أبو المحاسن ( أن أهل مصر لم يرضوا بسلطان مسّه الرق , وظلوا إلى أن مات السلطان أيبك وهم يسمعونه ما يكره حتى في وجهه إذا ركب في الطرقات ) ولذا اشتد المماليك في قسوتهم على العامة المتذمرين من توليهم السلطة حتى أن المقريزي وأبا المحاسن يقولان إن الصليبين لو ملكوا مصر ما فعلوا بالمصريين كما فعل بهم المماليك في بداية عهدهم . ولا ريب أن المصريين وإن خضعوا بالقهر للقوة الجديدة إلا أن القهر لا يعني إلا الحقد الدفين المكبوت , وقد أستغل هذا الشعور بعض العلويين فجمع إلى جانبه كثيرا من الأعراب وأعلن الثورة وأن ملك مصر يجب أن يكون للعرب وليس للأرقاء , وهذا ما فعله حصن الدين ثعلب . الذي أقام دولة عربية مستقلة في مصر الوسطى ومنطقة الشرقية في بداية الدولة المملوكية وحاول حصن الدين الاتصال بالناصر الأيوبي عدو المماليك إلا أن عقد الصلح بينهما أضاع أمل حصن الدين فعول على الاعتماد على جهوده الذاتية . وبعد أن فرغ أيبك من الخطر الأيوبي الخارجي قام بتوطيد سلطته في الداخل فأرسل أقطاى زعيم المماليك البحرية بجيش تمكن من هزيمة الأعراب في بلبيس وطلب حصن الدين الأمان فأمنه المعز أيبك ثم اعتقله وقتل أصحابه وعامل الأعراب بالعسف حتى ذلوا وقلوا على حد قول المقريزي.

4 ـ هنا بدأ عصر جديد يحكم فيه ( العبيد ) السابقون ، ويصير من مؤهلات السلطان أن يكون ( مملوكا ) أى عبدا سابقا ، جىء به من بلاده عبدا ، ثم يصبح مملوكا لسيده الذى كان هو الآخر مملوكا سابقا . وبعد أن يتعلم فنون الحرب ويتثقف ويتدرب يتم عتقه ليصبح تابعا لسيده ويكون من حقه أن يشترى مماليك له ، ويترقى حسب كفاءته فى التآمر ودهاليز السياسة .

بل أصبح من عيوب السلطان ألا يكون مملوكا سابقا ، ولذا فإن ابن السلطان المولود حُرا ويرث أباه لم يكن ليستمر فى السلطنة إلا بمشقة ، لأن الآخرين يرون أنهم الأحق منه بالسلطنة ، لأنهم تأهلوا لها بكونهم عبيدا مماليك سابقين ، ذاقوا مرارة الاسترقاق والتدريب العسكرى حتى الوصول الى المراكز القيادية عكس الذى ورث السلطة بلا تعب ولا نصب . ومن هنا حرص السلطان قلاوون على إستمرار السلطة فى ذريته بالاكثار من شراء المماليك ، وأسكنهم الى جانبه فى قلعة الجبل ، فأصبح لقبهم ( المماليك البرجية ) نسبة لأبراج القلعة . وهؤلاء المماليك البرجية هم الذين حكموا فيما بعد ، بعد أن تحكموا ردحا من الزمن فى سادتهم من ذرية سيدهم الأكبر قلاوون  .

5 ـ وبالاسترقاق كان المجتمع المملوكي يجدد دماءه باستمرار ، فكل أمير أو سلطان مملوكي يشترى مماليك تزداد بهم قوته، وأعظم الطوائف المملوكية هم المماليك السلطانية، أى مماليك السلطان القائم في الحكم. ويتدرج المملوك ـ بعد عتقه ــ في المناصب حسب كفاءته وقدرته على فن التآمر إلى أن يصل إلى الصفوف الأول في الجيش فيكون أمير مائة مقدم ألف، أو يصل في الصفوف الأولى في المناصب الرسمية مثل الداودار والزمام والاستادار. ثم يناضل للوصول الى السلطنة ، وقد يصل اليها وقد يفقد حياته دونها .

6 ـ وحكم المماليك لمصر والشام نشر ( الاسترقاق الطوعى ) ، فالشباب فى أوربا وآسيا ـ حيث يؤتى بالمماليك صغارا بالشراء أو بالخطف ـ رأوا فرصة أعظم فى أن يؤتى بهم الى مصر رقيقا ، خصوصا وأن السلطان المملوكى أو الأمير المملوكى عندما يتوطد نفوذه فى مصر يستقدم أهله اليها ويعطيهم المناصب والثروات. تكاثر( جلب ) الشباب من الخارج رقيقا ليكونوا مماليك وحكاما فى مصر ، فظهر ما يعرف بالمماليك ( الجلبان )، الذين يؤتى بهم كبارا فى السن وليسوا أطفالا كما كان من قبل . وحتى الآن يطلق إسم ( شلبى / جلبى ) على الأشقر ابيض البشرة نسبة للمماليك الجلبان القادمين من أواسط آسيا وأوربا . هؤلاء المماليك الجلبان كانوا شرا مستطيرا يسير على قدمين . إحترفوا السلب والنهب والاغتصاب للنساء والأطفال فى مصر والشام بالاضافة الى كونهم عماد الفتن والقلاقل السياسية والعسكرية .

ونفس الحال مع الانكشارية فى الدولة العثمانية ، بدأ إسترقاقهم وتدريبهم صغارا ، ثم تدهور هذا النظام مع ضعف الدولة العثمانية ، وإنضم للإنكشارية رجال ، بالاسترقاق الاختيارى ـ فتحولوا الى عصابات للسلب والنهب . واصبح جيش المماليك والجيش العثمانى فى النهاية عصابات تنشر الفوضى والفساد ، الى أن تخلص منهما الوالى محمد على فى مصر .  

أخيرا : أمامنا حالات متنوعة :

1 ـ فرعون مستبد ومعه جيشه من المرتزقة، وبه يسترق الشعب .

2ـ  الجيش قد يكون هو القبيلة أو القبائل المتحكمة ، وتقوم بتجنيد آخرين ، وإسترقاق أخرين وتجنيدهم .

3 ـ يلجأ الفرعون المستبد الى شراء مماليك ليحكم بهم شعبه فلا يلبثون أن يتحكموا فيه هو واسرته . حدث هذا مع الخلفاء العباسيين ومماليكهم الأتراك ، وحدث فيما بعد مع الدولة العثمانية ومماليكها من الانكشارية .

4 ـ نجح مماليك الأيوبيين فى إقامة الدولة المملوكية وكانوا اكفأ من سادتهم الأيوبيين ، وكان المعيار فى التأهل للسلطة أن يكون مملوكا سابقا متمرسا فى فنون الحرب والتآمر .

5 ـ فى كل الأحوال جدّت ظاهرة الاسترقاق الطوعى ، أن يقع أحدهم فى الرق ليحقق طموحه فى السلطنة . بدأ هذا فى الدولة العباسية الثانية وتعاظم فى الدولة المملوكية الثانية ( البرجية ) والمماليك الجلبان .

6 ـ فى النهاية فإن ( ملك اليمين ) فى هذه الناحية موضوع مسكوت عنه .

اجمالي القراءات 6568