( وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ) ( 2/ 282 )

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٢٢ - فبراير - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة عن الفسوق الجُزئى والفسوق الكلى

1 ـ فى أطول آية قرآنية جاءت أحكام كتابة الديون والاشهاد عليها ، وفى ختام الآية قال جل وعلا : ( وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ) (282) البقرة ). مفروض أن الكاتب والشهيد محايدان ، ولهما حصانة . فإذا حدث لهما ضرر فهذا فسوق وخلل فى بنية الدولة وقيم المجتمع الاخلاقية والثقافية ..والدينية . والتعبير جاء غاية فى الروعة (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ ). نحن هنا أمام حالة ( فسوق جزئى ) لو حدث ظلم لشاهد واحد أو كاتب واحد ، فماذا إذا عمّ الظلم أغلبية الشعب ؟ ماذا إذا تسلطت أغلبية ضئيلة جدا جدا جدا فجعلت بقية الشعب من المستضعفين فى أرضه ودولته ؟ هنا ( الفسوق الكلّى ) . هذا هو بالضبط ما يحدث فى مصر بعد حوالى 64 عاما من حكم الجيش .

2 ـ نعرض هنا لملامح ( الفسوق الكلى ) الذى يجرى فى مصر علنا وجهرا .

أولا : قلب الأوضاع فى أجهزة الحكم :

1 ـ الجيش : واجب الجيش الوحيد حماية الوطن والتمركز على الحدود والمناطق الاستراتيجية حسبما تقتضية الاستراتيجية العسكرية والطبيعة الجغرافية والديموجرافية المصرية،  أى أن تتركز معسكرات الجيش على الحدود مع اسرائيل وغزة ، وبين مصر والسودان وبين مصر وليبيا . وعلى نقاط استراتيجية بحرية فى البحرين الأحمر والمتوسط ، وحماية السد العالى  ، وعلى تخوم الصحراء على حواف الوادى فى الدلتا والصعيد . وقواعد جوية لحماية المدن المصرية . المفروض أن أسلحة الجيش التى يشتريها بأموال المصريين يجب أن تتوجه نحو أى عدو لترهبه حتى لا يفكر فى الاعتداء على مصر .

الذى يحدث أن الجيش المصرى منذ إنقلاب 1952 أصبح يحكم مصر ، ويوجه سلاحه ضد الشعب المصرى الأعزل إذا ثار . وبالتالى عرف الهزائم والنكسات ، وفقد السيطرة على سيناء ، وعلى شلاتين وحلايب ، وتجرأت عليه أثيوبيا ، ومن قبل ليبيا القذافى وصدام العراق . لم ينجح الجيش المصرى فى إحراز إنتصار إلا على المصريين . وشهد العالم إنتصاراته الحاسمة فى معارك داخل ميادين القاهرة . آه ..نسينا إن تركز الجيش فى القاهرة والمدن الكبرى لردع العدو (الشعب المصرى). شرب الجيش المصرى من دماء المصريين بعد ثورة 25 يناير 2011 ، ولم يرتو .. ولا يزال فى ظمأ للمزيد . وضباط  الجيش يؤمنون أنهم ( سادة البلد ).!! أى بقية المصريين عبيد لهم .!!

2 ـ الشرطة : كان هناك شعار مرفوع على كل قسم للبوليس  يعلن ( الشرطة فى خدمة الشعب). وتحت هذا الشعار كان يجرى تعذيب المتهمين الجنائيين للإعتراف ، سواء كانوا مجرمين أو أبرياء . ثم أضيفت للشرطة مهمة سياسية هى حماية النظام العسكرى لتصبح طليعة حربية متقدمة أمام الجيش فى إرهاب الشعب تطارد المثقفين والسياسيين والنشطاء ، وأعطاها العسكر الحاكم جيشا خاصا هو ( الأمن المركزى ) من المجندين الأميين الفقراء . وأصبح ( أمن الدولة / الأمن الوطنى ) بضباطه وجيشه الخاص ( الأمن المركزى ) متفرغا لارهاب المصريين ، ومعه كل الصلاحيات ، من أجهزة تعذيب متقدمة ، ونيابات متخصصة وسجون سرية . وظيفة الشرطة فى الأصل هى حماية المواطن فأصبحت فى قهر المواطن وتعذيب المواطن وإحتقار المواطن و إرهاب المواطن .  والعاملون فى الشرطة يؤمنون أنهم ( سادة البلد ).!! أى بقية المصريين عبيد لهم .!!

 3 ـ  القضاة : المفروض أنهم حُماة العدالة وليسوا حُماة الظلم ومصدر الظلم . هم فى مصر ـ خلال عدة أعوام أقل من أصابع القدم الواحدة ـ سجلوا عارا غير مسبوق فى التاريخ المصرى والعالمى  ، من الحكم السريع بالاعدام على المئات ، ومن الحكم السريع على أطفال وشباب لمجرد حمل لافتة أو ترديد شعار، وأحكام بالبراءة للمفسدين ناهبى البلايين من عرق الشعب المسكين وإفراج عن القتلة المنتمين للنظام العسكرى . ثم يتأكد باستمرار فسادهم وأن معظمهم ضباط شرطة سابقون كانوا متخصصين فى التعذيب والظلم ، فانتقلوا من سلخانات التعذيب الى كرسى القضاء ، فى تعاون وثيق ليس على البر والتقوى ولكن على الإثم والعدوان . والقضاة ومعهم أعضاء النيابة يؤمنون أنهم ( سادة البلد ).!! أى بقية المصريين عبيد لهم .!!

4 ـ قلب الأوضاع هذا يستلزم تبريرا دينيا ، يقوم به ــ  بكل نجاح ــ شيوخ الازهر . صحيح أن الواجب قانونا  أن يقوم شيوخ الأزهر بتجلية حقائق الاسلام ، وصحيح أن هذه المهمة مسألة حياة أو موت مع تعاظم دور الارهاب المتستر بالاسلام ، فلا بد من نسف دعائم الارهاب بتجلية حقائق الاسلام . هذا هو الصحيح . ولكن الأصحّ منه أن نظام العسكر يحتاج الى وجود التطرف الدينى وحركات الارهاب الدينية ليخيف المصريين ، وليبرر بقاءه على أنفاسهم بحجة حمايتهم من هذا الارهاب . لذا فإن شيوخ الأزهر يقومون بوظيفتين هامتين للعسكر: الدفاع دينيا عن النظام العسكرى ، ورعاية تراث الارهاب الدينى السُّنّى ليفرّخ المزيد من الارهابيين لتظل حجة العسكر قائمة ومستمرة فى البقاء فى الحكم . وهكذا يوضع من يخالف شيوخ الأزهر فى السجن . هو تعاون ـ ليس على البر والتقوى ـ ولكن على الإثم والعدوان بين الأزهر والقضاء والشرطة والجيش . فى مقدمة الضحايا : المثقفون والناشطون والسياسيون المستنيرون . أما الشعب المُستضعف فقل عليه السلام .!

ثانيا : قلب الأوضاع فى منظومة القيم الاجتماعية :

1 ـ التعليم : هو تصنيع للإنسان . تخيل أفى نفس اللحظة يولد طفلان : أحدهما فى قبيلة بدائية فى غابة الأمازون ( البرازيل ) والآخر فى أسرة أمريكية راقية فى واشنطن .  الطفلان يولدان بنفس الامكانات ، ولكن يتم تصنيعهما بالتعليم ليصبح أحدهما بُدائيا مثل قومه ، وليصبح الآخر عالما فى الاليكترونيات أو الفضاء مثل بنى قومه . الحال فى مصر أسوأ وأكثر تعقيدا . هناك ( اميون ) مصريون بالملايين لا يعرفون القراءة والكتابة  ولم يتعلموا فى المدارس . وهناك ملايين من المصريين تخرجوا فى الأزهر والكليات العملية ، وهم أبشع جهلا وأكثر خطرا من الأميين العاديين ، لأنهم تعلموا تعليما فاسدا فى الأزهر والتعليم العام من الحضانة الى الثانوى . فالمناهج الدينية تقوم على حفظ وإستظهار وإبتلاع ثوابت الفكر السُّنّى المتخلف ، ويتشرب الشاب هذا حتى فى والمساجد وأجهزة الاعلام . ويؤمن به حقائق مطلقة ، ومن يعترض أو يناقش فهو مرتد يستحق القتل . يتخرج متعلما جاهلا ، يستخدم ما تعلمه من جهله فى تدمير نفسه وبلده . أنفق العسكر الحاكم بلايين الجنيهات فى تعليم هذا الجهل الدينى ، وتخرج ملايين الشباب المتطرف ، هم أعمدة التخريب فى الداخل وجنود داعش فى الداخل والخارج . لو بقوا أميين فى الحقول كان الأفضل لهم والأفضل لمصر .

2 ـ إنقلاب القيم :

(الغش ) : لم يعد عيبا ، بل فيه يتنافس المتنافسون ويتعاون فيه أولياء الأمور مع الأجهزة المختصة فى تعاون هائل على الإثم والعدوان . ليس مهما عاقبة الغش فى أن يتخرج مهندس جاهل وطبيب فاشل ومحامى فاسد . ليس مهما سقوط العمائر وفشل مهنة الطب و فساد الذمم وضياع المستقبل . المهم أن ينجح (الولد ) فى الثانوية وأن يدخل الكلية .

(الرشوة ): أصبحت عندهم حقا مكتسبا من الثوابت لا يُمارى فيه إلا جاهل . الدولة العسكرية المركزية تدس أنفها فى كل شىء ، ولديها قوانين وقرارات متشابكة ومتناقضة لا حصر لها . والموظف الحكومى يملك المنع ويملك المنح . ويداه ـ بل ذراعاه ـ مفتوحتان للرشوة .

 ( الواسطة ):  ليس فى التوسط لصاحب الحق فى الحصول على حقه ( أو الشفاعة الحسنة فى الدنيا ) ولكن فى التوسط ليأخذ المعتدى ما ليس حقا له ( أو الشفاعة السيئة  فى الدنيا) . والله جل وعلا يقول : (مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) النساء ). وبدءا من عصر السادات تأسس تعليم جامعى مواز بالمصاريف الباهظة ، يتخرج فيه أبناء السادة المترفين  الذين لا يحتاجون أصلا للتوظيف فما تركه (بابى ومامى ) ملايين تكفيهم آلاف السنين ، ولكنهم يحتاجون الى شغل أوقات الفراغ ، ولديهم سلاح الواسطة ، فيتم تعيينهم فى البنوك والخارجية والنيابة والبورصة ..الخ .. هذا بينما يحتكر الضباط لأبنائهم وذويهم الكليات العسكرية وكلية الشرطة . أصبح هذا حقا مكتسبا ، ومن يناقشه عدو للوطن . وأصبحت الفجوة هائلة بين ملايين الشباب العاطلين وبضع آلاف من أبناء المترفين المُنعّمين.

( قيمة الشرف) : فى كل هذا وخلال 60 عاما تبدلت قيمة الشرف . أصبح الشرف محصورا بين ساقى المرأة . ليس من العار أن يرتكب الرجل جريمة الزنا ، بل يتفاخر بذلك ، وهو فى نفس الوقت يُكلله العار لو إرتكبت زوجته أو أخته جريمة الزنا . لم يعد من الشرف قيم الشجاعة والمروءة وقول الحق والكرم والاحسان والعفو والرحمة والوقوف مع المظلوم . بل إن من يقف الى جانب الحق يتجنبه الناس ويتعرض الى إغتيال معنوى تلاحقه الاتهامات بالعمالة والخيانة والاستقواء بالخارج ..هذا بينما يضع أصحاب الاستقواء بالعسكر أقدامهم على رقبة الشعب المصرى ، فإذا جأر بالشكوى فهو متهم بالخيانة والعمالة والاستقواء بالخارج .!!

أخيرا :

1 ـ إذا فعلت الواجب فعله  أصبحت مجرما : إذا قمت بواجبك فى المناداة بالاصلاح الدينى أصبحت مجرما لأنك تزدرى الدين .

واصبح المباح جريمة ، فإذا إنتقدت هيئة حاكمة ( الجيش / الشرطة / القضاء / الأزهر ) دخلت السجن . إذا رفعت شعار رابعة أو حملت لافتة أو حتى حملت زهورا فى مظاهرة سلمية فأنت متهم بتكدير الأمن العام والخروج على السلطة ، وربما يقتلونك بدم بارد فى الشارع .

هذا بينما أصبح التعذيب الذى هو جريمة لا تسقط بالتقادم وظيفة يؤديها المتخصصون بكل إخلاص ، وبأحدث الأجهزة التى يشتريها العسكر بأموال المصريين لتعذيب المصريين . ثم هم أيضا وبأموال المصريين ينشئون ـ ليس بيوتا للمشردين وسكان المقابر والعشوائيات ـ ولكن سجونا على أحدث نظام ، فإذا ضاقت على المصريين ارض مصر بما رحبت ففى السجون سكن مجانى .

 2 ـ الحل :لا علاج لهذا الفسوق العام والكلى إلا بتخلى الجيش المصرى عن الحكم وعودته الى ثكناته كما قال الرئيس الراحل الأسبق محمد نجيب عام 1954.

3 ـ تذكروا هذا جيدا .. 

اجمالي القراءات 8026