الفصل الخامس : تحقيق النظرية الخلدونية فى الدولة السعودية الأولى (1158-1233 /1745 –1818 ):
الرؤية الخلدونية وسقوط الدولة السعودية الأولى والثانية

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٥ - أكتوبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

الرؤية الخلدونية وسقوط الدولة السعوديةالأولى والثانية

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

  القسم الثاني : قراءة في مقدمة إبن خلدون   

الفصل الخامس : تحقيق النظرية الخلدونية فى الدولة السعودية الأولى (1158-1233 /1745 1818 ): 

 الرؤية الخلدونية وسقوط الدولة السعودية الأولى والثانية :-

أولا :

وضع إبن خلدون بعض القواعد التي يمكن في إطارها تفسير إضمحلال وسقوط الدول منها ما هو قريب الصلة بالدولة السعودية  .

 1 ـ الدولة السعودية الأولى قد وصلت إلى أقصي توسع لها حسب الإمكانيات المتاحة ،وهذا ما قرره إبن خلدون  فى قاعدتين ،أن عظم الدولة واتساعها بقدر نسبة القائمين عليها ،والقاعدة الثانية   أن كل دولة لها حصة من الممالك والأوطان لا تزيد عليها .[36].

وبالتالي فإن العصبية السعودية وقوتها قد تحددت داخل الجزيرة العربية ولا يمكن أن تتوسع خارجها ،وعندما إستولت على الحجاز كان في ذلك نهاية أمرها ،حيث توقف وصول الحجاج بعد منع المحمل ،وبالتالي نضب مورد الرزق الذي يعيش عليه أهل الحجاز من بدو وحضر ،ومن ناحية أخرى كان ضم الحجاز تحديا للدولة العثمانية ،فجاء التدخل الخارجي ردا على هذا ليقضي على الدولة بعد أن وصلت إلى أقصى إتساع لها داخل الجزيرة العربية .

2 ــ وفي موضع آخر يقول إبن خلدون أن الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قل أن تتحكم فيها دولة [37].

والجزيرة العربية كثيرة القبائل والعصبيات ،وصحيح أن أكثر قبائل نجد وعصبياتها قد اقتنعت بالدعوة السلفية وصارت عضدا لها ،وتوسعت بها في الجزيرة العربية ولكن حين توسعت أكثر وضمت الحجاز دخلت في الدولة قبائل لم يكتمل إقتناعها بالدعوة ،مما سهل على محمد علي أن يستميلهم بالمال ،خصوصا و قد فقدوا موارد رزقهم بانقطاع قوافل الحجاج ،هذا بالإضافة إلى دور الأشراف ،وبهذا يمكن القول أن الجزيرة العربية بقبائلها الكثيرة قل أن تتحكم فيها دولة موحدة لمدة طويلة من الزمن حسبما يري إبن خلدون .

3 ــ وبمناسبة الزمن نجد أن إبن خلدون قد وضع قواعد لمراحل الدولة من بدايتها إلى نهايتها ،يقول أن نهاية الحسب ، أي النفوذ ،في العقب الواحد( أي الأسرة) هو أربع أبناء ،وقال أن الغالب أن ينتهي الشرف في الأسرة بالجيل الرابع ،وإذا كانت هذه الأسرة حاكمة فإن دولتها لا تزيد على ثلاثة أجيال إلا في ظروف إستثنائية ،وهذا ما أكده تحت عنوان (الدولة لها أعمار طبيعية كالأشخاص )وقد إعتبر الجيل أربعين عاما وجعل عمر الدولة مائة وعشرين عاما في أغلب الأحوال .

وتحت عنوان أطوار الدولة واختلاف أحوالها باختلاف الأطوار يجعل للدولة خمسة أطوار تبدأ بالإستيلاء على الحكم ،ثم الإنفراد به ،ثم التمتع به ،ثم القنوع والمسالمة وتقليد السلف ،ثم الإسراف والترف والتبذير ،وهي نهاية الدولة ،وأشار في مواضع أخرى إلى أثر الترف في إسقاط الدولة [38].

غير أن هذه القاعدة الخلدونية لا تنطبق على الدولة السعودية الأولى فلم تعمر سوي 75 عاما هجريا وسقطت في عز شبابها قبل أن تعرف الترف ،وسقطت بفعل عامل خارجي وليس لأسباب داخلية ..

4 ــ ولأنها سقطت بسبب تدخل حربي خارجي ،فلنستطلع رأي إبن خلدون في الحروب ،

لقد إستعرض إبن خلدون أسباب الحروب وأنواعها وتكتيكاتها القتالية المعروفة حتى عصره . ويرى أن أسباب النصر تتمثل في عدد الجيش وقوته ووفرة الأسلحة وجودتها وشجاعة الجند وترتيب وتنظيم الخطة الحربية والصبر في القتال وجودة الخداع والمهارات والتجسس ،واختيار المرتفعات عند الهجوم ،وإقامة الكمائن المفاجئة ،ويجعل ذلك كله من الأسباب الجلية الواضحة ولكنه يؤكد على الأسباب الخفية وهي إمكانية النصر بالحظ والنصيب [39].

وبالأسباب الجلية الواضحة نستطيع أن نفهم إنتصار السعوديين على أقرانهم داخل الجزيرة العربية ، ونستطيع أيضا أن نفهم هزيمتهم أمام جيش يفوقهم في العتاد ويستخدم أسلحة أحدث ،ولعل هذا هو السبب الحقيقي الذي كان ينقص الدولة السعودية الأولى ،أن تقرن دعوتها الدينية بتطور يواكب العصر . وربما فهم الملك عبد العزيز مؤسس الدولة السعودية الثالثة الراهنة هذا الدرس ووعاه.  وكان التحديث واستعمال التليفون والموتوسيكل ومخترعات العصر ضمن اسباب خلافه مع الأخوان بعد قرن من سقوط الدولة السعودية الأولي .وبذلك نربط بين الدولتين السعوديتين الأولى والثالثة .

ثانيا :

1-وفي الطور الثاني للدولة السعودية توارت الدعوة الدينية ، بقدر ما برزت العصبية القبلية، فتحول السعوديون  غالبا في هذا الدور إلى مجرد عصبية تتحارب مع غيرها من العصبيات في الخارج ، بل    تدور الصراعات داخل البيت السعودي نفسه بما  يسفر احيانا عن قتل بعضهم لبعض ،إذ أنه بعد إبعاد عبد الله لإبن سعود سنة 1234 هـ إستولي إبن معمر على الدرعية ، ولكن وصل إليها مشاري بن سعود سنة 1235 هـ واستردها ،ثم إستردها منه إبن معمر ،ولكن تركي بن عبد الله بن سعود يقتل إبنه سعود ويحكم الدرعية فيما بين 1235 :1249 .وقد إسترد الرياض وأخضع نجد إلا أن إبن عمه شباري بن سعود قتله سنة 1249 ،ويتمكن فيصل بن تركي من قتل قاتل أبيه ،وحكم الرياض ،وكان فيصل بن تركي قد فر من مصر ووفد على أبيه وشاركه في حملاته ضد خصومه السعوديين وغيرهم .ثم حكم بعد أبيه من 1250 :1254  ، وأخضع معظم الجزيرة ما عدا الحجاز ، وأعاد الأمن مما جعل الأتراك يرسلون حملة عسكرية فيها خالد بن سعود، واستمرت الحرب الأهلية سجالا بين الفريقين إلى أن استسلم فيصل وعاد إلى مصر وبقي فيها من 1254 :1259 تاركا حربا أهلية بين الأمراء السعوديين ، منهم إبراهيم بن خالد بن سعود وعبد الله بن ثنيان آل سعود . ثم هرب فيصل من مصر واستعاد مملكته القديمه ، فيما عدا الحجاز خصوصا بعد إنسحاب الجيوش المصرية من البلاد العربية واتفاقه مع الأتراك على الإعتراف بسيادتهم الإسمية ، وفي فترة حكمه الثانية 1259 :1281 هـ أعاد الإمام فيصل التركي الأمن للجزيرة العربية ونشطت الدعوة السلفية في البلاد الخاضعة له إلا أنه توفي 1280 هـ 1886 م  وبموته إشتعلت الحرب الأهلية بين إبنيه عبد الله وسعود، وتدخل فيها أخوهم عبد الرحمن بن فيصل  وانتهت باندثار النفوذ السعودي ولجوء عبد الرحمن بن فيصل للكويت بعد ان يأس من إستعادة الرياض ..

ثم ينجح إبنه عبد العزيز في إستعادة الرياض وتأسيس الدولة السعودية  الثالثة [40].

2 ــ و هذا الطور الثاني للدولة السعودية ينطبق عليه حديث إبن خلدون عن الصراع السائر بين العصبيات القبلية في الصحراء والذي يصل إلى درجة الإقتتال بين الإخوة وقد سبقت الإشارة إلى ذلك، وهو شبيه بالصراعات العادية بين أمراء نجد والتى تصل الى تقاتل الأخوة  .  

3 ــ إلا أن إبن خلدون يعطي بعض الإشارات التي تتفق  بعض الشئ مع حال السعوديين في الطور الثاني ،إذ يحدد طريقتين لتسرب الخلل إلى الدولة، من جهة الجند ومن جهة المال ،كما يشير إلى نوعين من إنهيار الدولة ،إما إستقلال أمراء الأطراف فتقوم دول مستقلة أو خروج ثائر من الخارج بدعوة دينية أو دعوة عصبية ،كما أنه يشير إلى أن الملك إذا ذهب عن العائلة الملكية أمكن أن يعود إليها طالما أنه لديهم عصبية [41].

 وفي كل هذه الإشارات الخلدونية بعض السمات التي صاحبت الدولة السعودية في سقوطها سنة 1818 وفي طورها الثاني .

4 ــ إلا أن أهم ما ينطبق عليها هو ما سبقت الإشارة إليه من أقوال إبن خلدون عن أهمية الدعوة في جمع القلوب على هدف واحد بعيد عن الخلافات والأطماع السياسية، وهكذا نري رؤى إبن خلدون في المقدمة تصاحب الدولة السعودية في أطوارها الثلاثة سواء كانت تجسيدا وتمسكا بدعوتها الدينية السلفية أم إبتعدت عنها فوقعت في الخلاف والحروب الأهلية ،ومن الغريب أن عهد الإمام فيصل بن تركي في فترتي حكمه إقترن تمسكه بالدعوة السلفية الوهابية بنجاحه سياسيا وعسكريا وتوطيده للأمن ،والعكس صحيح في من كان قبله أو بعده من الأمراء المتنازعين.

اجمالي القراءات 7477