عرض مقدمة ابن خلدون: ب6:(ف 45 :51 ) الشعر والنثر

آحمد صبحي منصور في السبت ١٩ - سبتمبر - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب مقدمة إبن خلدون: دراسة تحليلية 

القســــــم الأول : عـرض مقدمــــــــــة إبن خلــــــــــــدون

تابع  الباب السادس في ثقافة العمران في العلوم وأصنافها والتعليم وطرقه وسائر وجوهه ومايعرض في ذلك كله من الأحوال وفيه مقدمة ولواحق     

                                              الفصل الخامس والأربعون

                                     إنقسام الكلام إلى فني النظم والنثر

بين الشعر والنثر

    ينقسم كلام العرب إلى فنِين :- الشعر المنظوم ، وهو الكلام الموزون المقفي ، وأوزانه كلها على رَوِيْ واحد أي قافية واحدة ، ثم النثر وهو الكلام غير الموزون . وكل منهما يشمل فنونا ومذاهب . ففي الشعر نجد المدح والهجاء والرثاء ، وفي النثر نرى المسجع وهو إلتزام القافية في كل كلمتين منه ، والمرسل وهو الكلام المنطلق بلا تقييد ، والقرآن يخرج عن النوعين وإن كان منثورا ، فليس مرسلا ولا مسجعا ، بل تفصيل آيات تنتهي إلى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها، ثم يعاد الكلام في الآية الأخرى بدون التزام سجع أو قافية ، وآخر الآيات تشمل فواصل ليست قوافي أو أسجاعا .

أساليب الشعر والنثر

    ولكل فن من هذين الفنّين أساليب ، مثل التشبيب في الشعر ، والحمد والدعاء في الخطب ، واستعمل المتأخرون أساليب الشعر وموازينه في النثر ، مثل السجع والقافية ، ولم يختلف عن  الشعر إلا في الوزن . وظهر ذلك في المشرق في الكتابات السلطانية . ويرى إبن خلدون أن السجع الغليظ لايناسب الخطاب مع السلطان ، بل يناسبه الترسل في الكلام من غير تكلف مع مراعاة مقتضى الحال . ويرى أن وقوع الأدباء في العجمة وعجزهم عن الفصاحة هو السبب في الولوع بهذا السجع المتكلف ليستروا به فقرهم في البلاغة ، حتى أنهم يقعون في أخطاء نحوية وصرفية لكي يحافظوا على السجع والجناس .

                                              الفصل السادس والأربعون

                                        لا تتفق الإجادة في الشعر والنثر معا إلا للأقل

     ملكة الفصاحة الفطرية تتم في الطفل العربي منذ نشأته حيث لم يعرف إلا العربية الفصحى . وإذا تنازعت ملكتان تعذر أن تتم الملكتان معا مثل البربري الذي يتعلم العربية ، ولا يمكن للعربية أن تتسيد على لسانه فيظل فيها قاصرا ، فالألسن واللغات مثل الصنائع ، والصنائع وملكاتها لا تزدحم ، ومن سبقت له إجادة في صناعة فقل أن يجيد في صناعة أخرى.

                                              الفصل السابع والأربعون

                                         صناعة الشعر ووجه تعلمه

قوانين الشعر العربي

     يوجد الشعر في كل اللغات ، وله قوانينه في كل لغة ، والشعر العربي كلام مفصل قطعة قطعة متساوية في الوزن متحدة في الحرف الأخير من كل قطعة ، وكل قطعة تسمى بيتا والحرف الأخير من البيت هو الروي والقافية . وجملة الكلام تسمى قصيدة ، وكل بيت قائم بمعناه مستقل عما قبله وما بعده ، وإذا كان بيتا قائما بذاته كان تاما في المدح أو الهجاء. ويحرص الشاعر في القصيدة على أن ينتقل من أسلوب إلى آخر من النسيب إلى المديح مثلا ، وقد يمهد قبل أن ينتقل من غرض إلى آخر ، ومع اختلاف الأساليب أو الموضوعات فإنه يلتزم بالوزن الواحد.

علم العروض ، والبحور

     وللموازين قواعد يتضمنها علم العروض ، وهناك خمسة عشر بحرا أو وزنا للقصيدة العربية ، وكان الشعر أشرف كلام للعرب ، واستحكمت ملكته فيهم ، مع صعوبة ملكة الشعر . وعلى من يريد اكتساب ملكة الشعر من المتأخرين أن يتعمق في رعاية الأساليب الشعرية القديمة واستعمالها وأن يحاول السير على منوالها ، ذلك أن الشعر يرجع إلى صورة ذهنية للتراكيب المنظمة التي تنطق على تركيب خاص ، ولكل فن من الكلام أساليب خاصة وتوجد فيه على أنحاء مختلفة . وذكر إبن خلدون أمثلة من افتتاحيات القصائد العربية المشهورة وأبيات أخرى في أغراض مختلفة .

الفصاحة أساس الشعر والنثر

    ويقول إبن خلدون أن مؤلف الكلام كالبّناء أو النساج ، والصورة الذهنية المنطبقة كالقالب الذي يبني فيه أو المنوال الذي ينسج عليه ،فإن خرج عن القالب في بنائه أو عن المنوال في نسجه كان فاسدا . ولا تكفي في ذلك معرفة قوانين البلاغة لأنها قواعد علمية قياسية مثل قواعد اللغة العربية النحوية ، وإنما المطلوب ملكة الفصاحة التي تتكون من معايشة الفصاحة العربية الشعرية فينتج العقل والوجدان أمثلة لها من الشعر والنثر ، ولذلك كان الفصحاء من الشعراء والأدباء من غير النحويين وعلماء البلاغة والعروض . وأولئك الفصحاء عرفوا قواعد النحو والبلاغة ولكن أضافوا لها فهم القوالب الشعرية والنثرية وحفظ الأساليب والأدب والشعر القديم ومعايشته فانتحوا على مقايسه مما يناسب عصرهم .

حقيقة الشعر عند إبن خلدون

     وعن حد الشعر أو رسمه لا يكتفي إبن خلدون بما قيل أن الشعر هو الكلام الموزون المقفي ولكنه يرى أن الشعر هو الكلام البليغ المبني على الإستعارة والأوصاف ، المفصل بأجزاء متفقة في الوزن ، مستقل كل جزء منها في غرضه ومقصده عما قبله ، والجاري على أساليب العربية المخصوصة به . وافاض إبن خلدون في شرح هذا التعريف الذي وضعه لممفهوم الشعر ، وأوضح به الفارق بين الشعر والنثر الفني ، بل أوضح به الفارق بين الشعر بهذا المفهوم وشعر المتنبي والمعري حيث لم يجريا على أساليب العرب .

كيفية عمل الشعر عند إبن خلدون

     ويضع إبن خلدون شروطا لكيفية عمل الشعر وإحكام صناعته ، وهي الحفظ من جنس شعر العرب حتى تنشأ في النفس ملكة الشعر العربي وينسج على منوالها ، ويختار منه المحفوظ النقي الحر ، وأقل ما يكفي فيه شعر شاعر من الفحول الإسلاميين مثل جرير وإبن أبي ربيعة وكثير والبحتري وأبي نواس ، وأكثره في الأغاني ، والمختار من شعراء الجاهلية ، ومن كان خاليا من المحفوظ فشعره قاصر ردئ وأولى به ترك الشعر . ثم بعد امتلاء الحفظ يأخذ في نظم الشعر ويستكثر من النظم حتى تستحكم ملكته الشعرية ، ويشير إبن خلدون إلى نسيان المحفوظ  على اللسان بعد أن يكون قد ترسخ في أعماق الشاعر ، وهنا يستعمل الشاعر ألفاظ عصره ولكن بقواعد ورسوم الشعر الأصيل .

     ثم يتخير الخلوة والمكان الرائع الذي يستجلب قول الشعر مثل الحدائق ومجالس الطرب حتى تستنير القريحة الشعرية وتنشط ، بالإضافة إلى العوامل النفسية مثل السرور والعشق والإنتشاء كما أوضح إبن رشيق في كتابه العمدة ، وإن استصعب عليه الوقت فليترك الشعر إلى وقت آخر.

    ويبني القصيدة على قافية واحدة ، وذلك في كل بيت ، ويكون كل بيت شعري مستقلا بنفسه مع مراعاة المناسبة بين الأبيات . ثم يراجع شعره بعد الإنتهاء منه ويقوم بتنقيحه ونقده ، ويتركه إذا لم يكن جيدا بما فيه الكفاية ، ولايستعمل فيه إلا أفصح التراكيب ، ولايلجأ إلى الضرورات اللسانية النحوية ، ويتجنب التراكيب المعقدة ، ويختار منها أقربها لسهولة الفهم ، ويبتعد عن حشد المعاني الكثيرة وتكثيفها في البيت الواحد لأن ذلك تعقيد لا ضرورة له . والمهم أن تكون المعاني على قدر الألفاظ ، والشعر السهل هو الذي تسابق معانيه ألفاظه ، ويجتنب الألفاظ الغربية والعامية والمبتذلة ، والشعر في الربانيات والنبوات قليل الجودة ولا ينبغ فيه إلا الفحول ، لأن معانية معروفة . وإذا تعذر الشعر فلا ييأس ، ولكن يعاوده لأن القريحة مثل الضرع يدر بالإمتراء ويجف بالترك والإهمال كما يذكر إبن رشيق ، وهو ما ينقل عنه إبن خلدون وينصح بالرجوع إليه.

                                    الفصل الثامن والأربعون

                     صناعة النظم والنثر في الألفاظ وليس في المعاني

    صناعة الشعر والنثر في الألفاظ ، والمعاني تتبع الألفاظ التي هي الأصل ، وملكة الشعر والنثر تتكون بالألفاظ وما تضمه من حفظ أشعار وآداب فصيحة . واللسان نفسه له ملكة النطق بالألفاظ وتكرارها ، وأما المعاني ففي الضمائر ، وهي موجودة لدى الجميع ولكن تحتاج إلى قوالب لفظية فنية من شعر ونثر تخرج فيها ، وبذلك يتميز الأديب عن غيره . والمعاني كالماء ، والألفاظ كالأواني ، وقد تختلف الأواني الذهبية عن القضية ، ولكن الماء واحد ، وكذلك جودة اللغة وبلاغتها تختلف باختلاف طبقات الكلام .

                                      الفصل التاسع والأربعون

                 حصول هذه الملكة بكثرة الحفظ ، وجودتها بجودة المحفوظ

    لابد من كثرة الحفظ لمن يريد تعلم اللسان العربي ، وعلى قدر جودة المحفوظ  تكون جودة الملكة الناشئة عن هذا الحفظ ، فمن يحفظ للعتابي وإبن المعتز وإبن المقفع وإبن الزيات تكون ملكته أعلى ممن يحفظ للشعراء والأدباء المتأخرين ، فعلى مقدار جودة المحفوظ أو المسموع تكون جودة الإستعمال ، ثم تترقى الملكة بارتقاء المحفوظ ، وينشأ الطبع على منوالها .

    والنفس تختلف في البشر بحسب ما يرد عليها من الإدراكات والملكات والألوان ، وتتطور الملكات بالتدريج سواء كانت في الشعر أم في النثر أم في العلوم أم في التصوف والروحانيات ، وتتلون النفس بذلك ، وكذلك الملكات داخل النفس .

قصور الفقهاء في الشعر

    ولذلك ترى الفقهاء والعلماء قاصرين في الشعر والبلاغة حيث امتلأ حفظهم وملكاتهم بالفقه أو بالعلم ، وكلاهما بعيد عن البلاغة والشعر ، وتلونت بذلك أنفسهم وملكاتهم . حتى أن الفقيه الشاعر يتبدى فقهه في أبيات شعره ، ويعترف إبن خلدون أنه مع خبرته بالشعر فإنه يصعب عليه قول الشعر ، هذا مع أنه يحفظ من القرآن والحديث وكلام العرب ، ويرى السبب في تباعده عن الشعر ، أنه حفظ قصيدتي  الشاطبي في القراءات ودرس كتابي إبن الحاجب في الفقه والأصول وجمل الخونجي في المنطق وبعض كتاب التسهيل وكثيرا من قوانين التعليم في المجالس . وهذه الثقافة العلمية والفقهية غطت على ملكته الشعرية .

أدباء المسلمين الأوائل أفصح من الجاهليين

    ويرى إبن خلدون أن الأدباء المسلمين في القرنين الأول والثاني من الهجرة أعلى فصاحة من أدباء العصر الجاهلي بسبب معايشة المسلمين للقرآن وإعجازه الفصاحي والبلاغي ، ويضع إبن خلدون الحديث في نفس منزلة القرآن في الإعجاز الفصاحي وغيره ،إذ يقول " والسبب في ذلك أن هؤلاء الذين أدركوا الإسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما ".

                                           الفصل الخمسون

                             ترفع أهل المراتب عن انتحال الشعر

     كان الشعر ديوان العرب ، وكان الشاعر فخر قبيلته ، وافتخرت القبائل بشعرها ، ومن هنا كانت المعلقات السبع على الكعبة . وهي قصائد امرؤ القيس والنابغة الذبياني وزهير بن أبي سلمي وعنترة وطرفة بن العبد وعلقمة بن عبده والأعشى . ثم ظهر الإسلام بالقرآن فانشغل العرب به عن الشعر ، ولكن لم يحرم القرآن الشعر بل استمع إليه النبي ، فعاد العرب للشعر ، ولقى الشعر حظوته لدى الخلفاء  في العصر الأموي والعصر الأول العباسي ، حيث تقرب الشعراء المجيدون للخلفاء ونالوا حظوتهم ومكانتهم . ثم تحكم الملوك والأعاجم في الخلافة العباسية وظهر شعراء الصنعة بلا ملكة شعرية حقيقية ، وتحولوا إلى الإستجداء بالشعر ونفاق ذلك الحاكم والكذب على ذاك . فاستنكف عن قول الشعر أهل المراتب من المتأخرين واصبح تعاطي الشعر مما يعاب به أهل الرياسة في عصر إبن خلدون .

                                          الفصل الحادي والخمسون

                         في أشعار العرب وأهل الأمصار في عهد إبن خلدون

تأثر الشعر باللهجات

    الشعر موجود في كل لغة ، عرفه الفرس واليونان وحميَر ومُضر ، إلا أن إختلاط العرب بالأعاجم أنشأ لغة جديدة بين الأمصار ، وهي لغة تخالف لغة مُضر في الإعراب والتصاريف ، وتخالف أيضا لغة الجيل العربي في عهد إبن خلدون ، بل هي تختلف بين أمصار المشرق والمغرب والأندلس . ومن الطبيبعي أن يتأثر الشعر بهذا التحول حيث يوجد الشعر بالطبع في كل لسان . ولذلك تغير الشعر بهذه اللغة الجديدة وإن حافظ على الوزن والقافية .

أنواع جديدة من الشعر في عصر إبن خلدون

     والجيل العربي في عهد إبن خلدون حافظوا على الشعر السلفي وجاءوا بالمطولات مشتملة على أغراض الشعر بنفس الطريقة القديمة ، وسموا هذه القصائد بالأصمعيات في المغرب ، وييسميه أهل المشرق بالشعر البدوي . ويلحقون بعض الغناء بألحان بسيطة يسمونه الحوراني ، ولهم فن آخر إذ يأتون بالشعر على أربعة أجزاء يخالف المقطع الأخير المقاطع الثلاثة في القافية ، ويلتزمون بالقافية الرابعة في كل بيت إلى آخر القصيدة.

 ويرى إبن خلدون أن ذلك راجع إلى فقدان الملكة في لغة عصره ، وقد تصح فيه البلاغة ،وإن كان الإعراب لا يوجد فيه ، إذ غالب كلاماتهم ساكنة ، ويتميز عندهم الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر بحسب القرينة ، وليس بحركات الأعراب

.الموشحات والأزجال في الأندلس

     والملكة في الأندلس أتم ، وعندهم يكثر الشعر ويتهذب، فاستحدث المتأخرون فيهم فن الموشحات ، ينظمونه أسماطا أسماطا وأغصانا أغصانا ، ويسمون المتعدد منها بيتا ، ويلتزمون القوافي عند الأغصان ، وتتكون القصيدة من سبعة أبيات تقريبا ، ويشتمل كل ببيت على عدد من الأغصان بحسب المذهب ، وفيها الغزل والمدح ، وانتشر هذا اللون لسهولته وقربه .

    واخترع الموشحات مقدم بن معافر الفريري ، وأخذه عنه أبو عبدالله بن عبد ربه صاحب كتاب العقد الفريد ، ثم برع فيه عبادة القزاز .. وذكر إبن خلدون بعض أخبار الموشحين وبعض الموشحات الأندلسية .

     وفي النهاية يقول إبن خلدون أن الذوق البلاغي يأتي بالمخالطة اللغوية من الإستماع والقراءة والإستعمال ، وكل واحد منهم مدرك لبلاغة لغته .

 

     وبعد ..

فهذا عرض للمقدمة أتى بلغة متوسطة بين لغة إبن خلدون ولغتنا المعاصرة . واحتوى العرض على كل ما جاء في المقدمة ، معتمدا على نسخة بولاق أقدم النسخ .

اجمالي القراءات 26676