هل تشبه المقامة الرواية البخارية ؟
بين المقامة الحلوانية ، والرواية البخارية

لطفية سعيد في الأحد ١٨ - يناير - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

 ولأن المقامة تشترك مع الرواية البخارية في حاجة كل منهما إلى الراوي والبطل والفكرة .. واعتماد كل من المقامة والرواية البخارية على الخيال .. إذ أن الراوي والبطل كلاهما من خيال الكاتب .. لذا فقد آثرنا بأن نأتي بالمقامة الحلوانية، لبديع الزمان الهمزاني ، لنراها عن قرب حتى نستطيع الحكم وتحديد أوجه الشبه والاختلاف ،بين المقامة والقصة القصيرة من ناحية ،  والرواية البخارية من ناحية أخري  .. . والله نسأل التوفيق ..

أولا : سنعرف المقامة ، ثم نتحدث عن أهم أسباب نشأتها ، وبعد ذلك نحدد عناصرها . وسوف نناقش معا المقامة الحلوانية كمثال على المقامات، و سنحدد بعض خصائص المقامة ،التي هي خصائص بديع الزمان ( كاتبها ) أيضا ،  ثم نجيب على سؤال هل المقامة تعد نواة للقصة العربية ..؟  ما لها ، وما عليها.

أولا تعريف المقامة:  المقامةهي إحدى فنون الأدب العربي النثرية المطعمة أحيانا بالشعر ، وهي أقرب إلى قصة قصيرة يكثر فيها السجع ، وهي حكاية خيالية أدبية بليغة . ينقلها راو من صنع خيال الكاتب ، ولها بطل إنساني ظريف  يصوره وكأنه عاش أحداثها..

 أسباب نشأتها :ظهورالمقامات في الأدب العربي، كان له أسبابه وداوفعه ، منها : إظهار الأدباء لمقدرتهم اللغوية،  ، أو طلبا للتكسب ، وقد ظهرت المقامات في القرن الرابع الهجري،  وتحديدا عند العرب بسبب اختلاطهم مع أمم أخرى مثل فارس .

 أركان المقامة: ثلاثة :  الراوي ، البطل ، والنكتة أو الفكرة : عادة المقامات أن يكون لها راوي يقص الحكاية ، كما يكون لها بطل لهذه الحكاية ، ونكتة خاصة ،أو فكرة معينة يراد إيصالها .. لكن في بعض المقامات كالتي بين أيدينا الآن الراوي هو البطل نفسه،  فالروي هنا الذي يستخدمه بديع الدين الهمزاني، هو عيسى بن هشام وهو البطل في نفس المقامة أيضا ،فهو  يحكي عن نفسه في هذه المقامة المقامة الحلوانية، وقد سميت بهذا الاسم نسبة إلى حلوان ببغداد، وهي مقامة خيالية ساخرة تعمد إلى الفكاهة لتعالج بعض االمشكلات الاجتماعية  بأسلوبها الفكاهي المبدع ، والمقامات أيضا وسيلة من وسائل الحفاظ على اللغة بما تتضمنه من أساليب تكون متواجدة في ذاكرة الناس مما يساعد على حفظ اللغة العربية،  بالإضافة إلى استخدامها لمجموعة من الألفاظ الغريبة التي لولا وجودها في المقامة لاندثرت ،ولم يعد لها وجود .. وسنعرض النص الكامل لهذه المقامةعلى ثلاثة أجزاء  مع قليل من التعليق على كل جزء:

بديع الزمان الهمذاني :  المقامة الحلوانية

 

(حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامِ قَالَ: لَمَّا قَفَلْتُ مِنَ الحَجِّ فِيمَنْ قَفَلَ، وَنَزَلْتُ مَعَ مَنْ نَزلَ، قُلْتُ لِغُلامي: أَجِدُ شَعْرِي طَوِيلاً، وَقَدْ اتَّسَخَ بَدَنِي قَليلاً، فَاخْتَرْ لَنَا حَمَّامَاً نَدْخُلهُ، وَحَجَّامَاً نَسْتَعْمِلهُ، وَلِيَكُنْ الحَمَّامُ وَاسِعَ الرُّقْعَةِ، نَظِيفَ البُقْعَةِ، طَيِّبَ الهَوَاءِ، مُعْتَدِلَ المَاءِ، وَلْيِكُنْ الحَجَّامُ خَفِيفَ اليَدِ، حَدِيدَ المُوسَى، نَظيفَ الثِّيابِ، قَليلَ الفُضُولِ)،

وكما قرأنا  تبدأ المقامة بـ (حدثنا عيسى بن هشام) وهو الراوي والبطل في نفس الوقت الذي يقص ما مر به من أحداث فهو من عاد من موسم الحج ، وقد كان الحج في ذلك الوقت مجهدا لذا فقد طلب من خادمه أن يبحث له عن حمام ليغتسل فيه ، وحجاما أي حلاقا ليقصر شعره على أن يكون الحمام له شروط خاصة منها أن يكون واسع المساحة ،و نظيف له هواء طيب ، ماء معتدل في درجة السخونة وفي قوة اندفاعه .. والحجام الحلاق خفيف اليد (ليس في السرقة بالطبع)  ولكن في صنعة الحلاقة مع جودة أدوات الحلاقة ونظافة ثيابه ، وشيء بالغ الدقة ، يكثر اقترانه في أصحاب مهنة الحلاقة وهو: الفضول ..

كما نلاحظ كثرة المحسنات البديعية  من سجع ، ويكون اتفاق الحرف الأخير في نهاية الفواصل (أي الجمل)

 كما في (فِيمَنْ قَفَلَ، وَنَزَلْتُ مَعَ مَنْ نَزلَ) ، (حَمَّامَاً نَدْخُلهُ، وَحَجَّامَاً نَسْتَعْمِلهُ)أما :( الحَمَّامُ وَاسِعَ الرُّقْعَةِ، نَظِيفَ البُقْعَةِ، طَيِّبَ الهَوَاءِ، مُعْتَدِلَ المَاءِ،) بين الجمل السابقة ازدواج ، وبين( البقعة والرقعة ) : جناس ناقص،

 أما عن التصوير البلاغي فهو قليل فلدينا صورة : (خفيف اليد )  كناية عن المهارة وسر جمالها الإتيان بالمعنى مصحوبا بالدليل عليه .

 ونتابع المقامة:       

( فَخَرَجَ مَلِيّاً وَعَادَ بَطِيّاً، وَقالَ: قَدْ اخْتَرْتُهُ كَمَا رَسَمْتَ، فَأَخَذْنَا إِلَى الحَمَّامَ السَّمْتَ، وَأَتَيْناهُ فَلَمْ نَرَ قَوّامَهُ، لَكِنِّي دَخَلْتُهُ وَدَخَلَ عَلى أَثَرِي رَجُلٌ وَعَمَدَ إِلى قِطْعَةِ طِينٍ فَلطَّخَ بِها جَبِينِي، وَوَضَعَها على رأَسِي، ثُمَّ خَرَجَ وَدَخَل آخَرُ فَجَعَلَ يَدْلِكُنِي دَلْكَاً يَكُدُّ العِظامَ، وَيَغْمِزُنِي غَمْزَاً يَهُدُّ الأَوْصالَ وَيُصَفِّرُ صَفِيراً يَرُشُ البُزَاقَ، ثُمَّ عَمَدَ إِلى رَأَسِي يَغْسِلْهُ، وَإِلَى المَاءِ يُرْسِلهُ، وَمَا لَبِثَ أَنْ دَخَلَ الأَوَّلُ فَحَيَّا أَخْدَعَ الثَّانِي بِمَضُمومَةٍ قَعْقَعَتْ أَنْيابَهُ، وَقَالَ: يَا لُكَعُ مَا لَكَ وَلِهَذا الرَّأْسِ وَهُوَ لي؟ ثُمَّ عَطَفَ الثَّاني عَلى الأَوَّلِ بِمَجْمُوعَةٍ هَتَكَتْ حِجَابَهُ، وَقالَ: بَلْ هَذَا الرَّأْسُ حَقِّي وَمِلْكِي وَفِي يَدِي، ثُمَّ تَلاكَمَا حّتَّى عَيِيَا،)

كما رأينا في المقامة فقد من أمر الخادم الذي ذهب ليختار لسيده الحمام والحجام ، كما طلب منه .. وقد تأخر وعاد متمهلا . دليلا على أنه  قد دقق في الاختيار ، وعلى الفور قد ذهب معه ابن هشام إلى الحمام ، (السمت: هو الطريق، وجمعه :سموت ) وبدأت معالم الواقعة، عندما دخل عليه عامل، وقد وضع على رأسه قطعة طين وكان الطين يستخدم للعلاج وفي الحمامات العامة ، ثم خرج هذا العامل بعد أن حجز الزبون بما وضعه على جبهته ورأسه من طين ، وأتى عامل آخر ،وقد بدأ في تدليك ابن هشام بشدة ،حتى كسر عظامه،  وتعبت مفاصله ، وكان لهذه الشدة في التدليك أثر بالغ على ابن هشام فيما وصل إليه من فم هذا العامل من لعاب ، لكنه قد تحامل على نفسه ، وجلس مستسلما فماذا يفعل  ..دخل العامل الأول صاحب الطين حيا أخدع الثاني بصفعة قوية(والأخدع : عرق بجانب الرقبة ) كسرت أنيابه من قوتها وقال له يا لكع ،(أي لئيم ) فرد الثاني على الأول بمضمومة هتكت حجابه (أي شرفه) واستمر العراك حتى تعبا من كثرة الضرب .

المحسنات البديعية في السجع( فَخَرَجَ مَلِيّاً وَعَادَ بَطِيّاً)

 ونكمل معا المقامة:

( وَتَحَاكَمَا لِما بَقِيا، فَأَتَيا صَاحِبَ الحَمَّامِ، فَقَالَ الأَوَّلُ: أَنَا صَاحِبُ هَذا الرَّأْسِ؛ لأَنِّي لَطَّخْتُ جَبِينَهُ، وَوَضَعْتُ عَلَيْهِ طِيَنهُ، وَقَالَ الثَّاني: بَلْ أَنَا مَالِكُهُ؛ لأَني دَلَكْتُ حَامِلَهُ، وَغَمَزْتُ مَفَاصِلَهُ، فَقَالَ الحَمَّامِيُّ: ائْتُونِي بِصَاحِبِ الرَّأْسِ أَسْأَلهُ، أَلَكَ هذَا الرَّأْسُ أَمْ لَهُ، فَأَتَيَانِي وَقَالا: لَنَا عِنْدَكَ شَهَادَةٌ فَتَجَشَّمْ، فَقُمْتُ وَأَتَيْتُ، شِئْتُ أَمْ أَبَيْتُ، فَقَالَ الحَمَّامِي: يَا رَجُلُ لاَ تَقُل غَيْرَ الصِّدْقِ، وَلا تَشْهَدْ بِغَيْرِ الحَقِّ، وَقُلْ لِي: هذَا الرَّأْسُ لأيِّهِمَا، فَقُلْتُ: يَا عَافَاكَ اللهُ هذَا رأْسِي، قَدْ صَحِبَنِي فِي الطَّرِيقِ، وَطَافَ مَعِي بِالْبَيْتِ العَتِيقِ، وَمَا شَككْتُ أَنَّهُ لِي، فَقالَ لِي: اسْكُتْ يِا فُضُولِيُّ، ثُمَّ مالَ إِلى أَحَدِ الخَصْمَيَنِ فَقَالَ: يَا هَذَا إِلَى كَمْ هَذِهِ المُنافَسَةُ مَعَ النَّاسِ، بِهذَا الرَّأْسِ؟ تَسَلَّ عَنْ قَلِيلِ خَطَرِهِ، إِلى لَعْنَةِ اللهِ وَحَرِّ سَقَرِهِ، وَهَبْ أَنَّ هَذا الرَّأْسَ لَيْسَ، وَأَنَا لَمْ نَرَ هذَا التَّيْسَ.

قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَقُمْتَ مِنْ ذَلِكَ المَكَانِ خَجِلاً، وَلَبِسْتُ الثِّيابَ وَجِلاً، وَانْسَلَلْتُ مِنْ الحَمَّامِ عَجِلاً)

وقد طلبا الحكم  من صاحب الحمام ، فقال الأول: بملكيته للرأس ، فهو أول من وضع عليها الطين ، وقال الثاني:  بأنه هو من يملكه لأنه من دلك حامله وغمز مفاصله ..فاحتار صاحب الحمام ... وقرر أن يسأل صاحب الرأس ، فقال ابن هشام أنهم اقتادوه دون إرادة منه .. وطلب صاحب الحمام منه الشهادة بالحق والصدق رأسه لأيهما ..؟ فرد عليه عيسى بن هشام بذكاء وفكاهة قائلا :يا عافاك الله ،إنه ملكي قد صحبني في الطريق وطاف بي في البيت العتيق ، وما شككت يوما أنه لي ..فقال له صاحب الحمام يافضولي .. وانحنى على أحد العاملين وقال إلى متى ستظل هذه المنافسة ، وطلب منه ان يتسل (أي يتسامح ) وأن يقدر أنها (أي الرأس ) ليست موجودة من الأساس ، وإننا لم نر هذا التيس ، يقصد ابن هشام .. مما أشعرابن هشام  بالخجل، وارتدى ثيابه ،وترك الحمام على عجل لأنه قد أهين بأكثر من طريقة بالطين الذي وضع على رأسه وجبهته ،وبالدلك الذي أتعب عظامه  وهد مفاصله ، وأهين من صاحب الحمام إهانة بالغة .. ..

من الصور البلاغية هنا : (هذا التيس ) استعارة تصريحية حيث صور ابن هشام بالتيس حذف المشبه (ابن هشام ) وصرح بالمشبه به التيس

بعض خصائص بديع الزمان الهمزاني :

كثرة المحسنات البديعية ، والتنوع بين الاسلوب الخبري والإنشائي ، وجود بعض الكلمات الغريبة ، الرقة والغرابة والعذوبة ، مع غلبة جانب الوعظ .

وبعد ..  المقامة مقبولة كفن أدبي نثري يهدف إلى نقد قضية اجتماعية ، فهل تعد المقامة نواة للقصة العربية ؟

 نعم تعد المقامات نواة للقصة العربية لكنها غير مكتملة . إذ تشتمل على  عناصر القصة: ( مكان،  وزمان ، وشخصيات،وأحداث) ، ولكنها غير مكتملة . إذ تنقصها العقدة والحل ..   لذا تعد المقامة ، قصة  لكن غير ناضجة

بين المقامة والرواية البخارية: إذا قبلنا بالمقامة كفن أدبي ينقلنا في عالم الخيال بعيدا ، يضحكنا تارة ويبكينا تارة يحكي لنا عجائب وغرائب وطرائف .. فهل نقبل أن نأخذ ديننا من مصدر له نفس أوصاف المقامة..؟  فالروايات البخارية التي تبدأ بحدثني وأحيانا أخبرني ،تعمد إلى نفس الراوي والبطل الأسطوري الخيالي اللذان ليس لهما وجود إلا في خيال الكاتب ... وما حاجتنا إلى روايات قليل صدقها ، إذا كان لدينا كتاب سماوي إلاهي ، وهو قرآننا العظيم ، الذي تكفل رب العزة بحفظه وبيانه وقرآنه فأمرالله سبحانه رسوله ألا يتعجل، لأنه محفوظ بكل الطرق من الخالق :إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)الحجر

ودائما صدق الله العظيم

 

                                                  

اجمالي القراءات 16497