وتظل تونس سندريلا الربيع العربى

سعد الدين ابراهيم في السبت ١٧ - يناير - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً

جامعة بيل، بمدينة نيوهافن، بولاية كونيتيكت الأمريكية، هى أحد أعرق وأقدم ثلاث جامعات أمريكية ـ والأخريان هما جامعة هارفارد بولاية ماساتشوستس، وجامعة برنستون بولاية نيوجرسى. فعُمر كل من هذه الجامعات يربو على ثلاثمائة سنة. وتتنافس الجامعات الثلاث فى كل شىء، سواء فى عدد من حازوا من أساتذتها على جوائز نوبل، أو عدد رؤساء أمريكا الذين تخرجوا فى كل منها.

وقد شاركت فى مؤتمر حافل خلال الأسبوع الثانى من يناير ٢٠١٥ بالمدينة الإيطالية الساحرة فينيسيا، والمعروفة عندنا باسم البندقية، وكان موضوع المؤتمر هو: الاستثنائية التونسية، والذى نظمته كلية الحقوق بجامعة بيل الأمريكية، وشارك فيه مائة نصفهم من أقطار الوطن العربى. أما نصفهم الآخر فقد ضم أمريكيين وأوروبيين وآسيويين. ورغم أننى لست مُحامياً، أو أستاذا للقانون، أو من خريجى تلك الجامعة، إلا أنها دأبت على دعوتى لمؤتمراتها السنوية، طيلة الثمانى عشرة سنة الأخيرة.

وقد تزامنت أيام المؤتمر الثلاث مع الحدث المأساوى، فى باريس، الذى أطلق فيه مُهاجران عربيان جزائريان النيران على مجموعة من اليهود الفرنسيين الذين يعملون فى صحيفة شارلى إبدو، وعلى متجر يهودى مُجاور. وبدا الحادث فى البداية كما لو كان من تلك الجرائم المُعادية للسامية!

ولكن مع التعمق الإعلامى حول خلفيات الحادث، اتضح أن تلك الصحيفة، مثلها مثل صحيفة دنماركية قبل عدة سنوات، دأبت على نشر رسوم كاريكاتورية مُسيئة للإسلام والمسلمين، الذين يعيشون فى أوروبا عموماً، أو الذين استقروا فى فرنسا، خصوصاً.

ورغم القول المأثور، إذا عُرف السبب بطُل العجب، إلا أن الحادث هز المجتمع الفرنسى من أدناه إلى أقصاه. ففرنسا تفخر بأنها بلد الحُرية والإخاء، والمُساواة. وفرنسا الرسمية تفخر بأنها مجتمع تعددى، ينبذ العُنصرية والتعصب، وأنها وطن لكل من يولد فيها، ويعيش على أرضها.

ولأنه قيل إن مُرتكبا الحادث هما من عرب شمال أفريقيا، أى الأقرب إلى تونس موضوع المؤتمر، فقد ضاعف ذلك من اهتمام المشاركين فيه بالتنقيب فى خصوصية الثقافة السياسية التونسية، والتى جعلت من هذا البلد العربى، الصغير مساحة، وسُكاناً، فخراً للعرب والمسلمين.

ومما قيل حول الخصوصية التونسية، إن آباء الحركة الوطنية فيها، وفى مقدمتهم، الحبيب بورقيبة، جعلوا من التعليم وتحرير المرأة أولوية الأولويات منذ الاستقلال عن فرنسا فى منتصف خمسينيات القرن العشرين. فبينما انشغل جيل بورقيبة سواء فى مصر (عبدالناصر)، أو الجزائر (أحمد بن بيلا) بشعارات أكثر صخباً ـ مثل الاشتراكية، والقومية العربية، وعدم الانحياز، ظل بورقيبة يعمل بدأب ودون مَلل أو كلل من أجل القضيتين: التعليم وتحرير المرأة، حيث اعتبرهما مفتاحى النهضة الحقيقية لمجتمعه التونسى، بل ولأى مجتمع آخر فى العالم الثالث.

وقال أحد المشاركين التونسيين إن الحبيب بورقيبة كان تلميذاً وفياً لرعيل الليبراليين المصريين، من أمثال طه حسين، الذى اعتبر التعليم ضرورة حياتية مثل الماء والهواء، وأمير الشُعراء أحمد شوقى الذى قال عن المرأة إن أعددتها، أعددت شعباً طيب الأعراق.

وحتى عندما انتفض الشعب التونسى ضد النظام الاستبدادى للرئيس زين العابدين بن على، ظلت الانتفاضة سلمية، أجبرت الجيش والشُرطة على الانحياز للشعب، ورفض تنفيذ أى أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين. وهو الأمر الذى أجبر زين العابدين، فى النهاية، وبعد عشرة أيام فقط على التنحى عن السُلطة، فى خطاب شهير له، وجّهه إلى الشعب التونسى، قال فيه «الآن فقط فهمتكم، لقد وصلتنى رسالتكم واضحة جلية، وها أنا أتنحى، وأهتف معكم، وللوطن الحبيب... تحيا تونس، تحيا تونس، تحيا تونس».

وقال مشاركون آخرون إن تلك البداية التونسية كانت الإلهام لبقية ثورات عربية أخرى طال انتظارها، ضد أنظمة استبدادية مُماثلة لنظام زين العابدين بن على، أو أسوأ منه ـ وخاصة فى مصر التى انتفضت بعد ثلاثة أسابيع، وليبيا التى انتفضت بعد شهر ونصف، ثم تبعتها البحرين واليمن وسوريا. والتى أخذت مسارات مختلفة، ولكنها فى مجموعها غيّرت صورة العرب والمسلمين فى العالم عموماً، وفى الغرب خصوصاً. فلا يخفى أن كثيراً من المستشرقين، وفى مقدمتهم برنارد لويس، وصامويل هنتنجتون، وفرنسيس فوكوياما، كانوا قد تحدثوا فى الماضى عن الاستثنائية الإسلامية، أى الادعاء بأن الثقافة الإسلامية، هى ثقافة مُعادية للديمقراطية، لأن إحدى قيمها الرئيسية هى السمع والطاعة لأولى الأمر، واحتمال الاستبداد، مخافة الفرقة والفتنة فى دار الإسلام، ومن ذلك القول المأثور: خير لنا أن نتحمل حاكما غشوما خوفاً من فتنة أو فرقة، قد تدوم. ولكن الثورة التونسية كسرت تلك الصورة النمطية إلى غير رجعة.. وعلى الله قصد السبيل.

اجمالي القراءات 7171