حركة ابن تيمية الحنبلى ضد أتباع ابن عربى فى القرن الثامن
ج1 ب1 ف 3 :محاكمة ابن تيمية فى الشام ومصر

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٢ - ديسمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )

 الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف .

الباب الأول :  مراحل العقيدة الصوفية وتطورها في مصر المملوكية  من خلال الصراع السنى الصوفى                  

 الفصل الثالث: (وحدة الوجود وصراع الفقهاء مع الصوفية من أتباع ابن عربي في القرنين السابع والثامن الهجريين)

محاكمة ابن تيمية فى الشام ومصر/ حركة ابن تيمية الحنبلى ضد أتباع ابن عربى فى القرن الثامن / وحدة الوجود وصراع الفقهاء مع الصوفية من أتباع ابن عربي في القرن الثامن

مدخل : ابن تيمية ونصر المنبجي :

فتح هذا القرن عينيه ليشهد ثورة الفقهاء الحنابلة بزعامة ابن تيمية على نفوذ أتباع ابن عربي في أواخر القرن السابع وأوائل القرن الثامن ، ممثلا في نصر المنبجي الذي سيطر على السلطان المملوكي بيبرس الجاشنكير الذى إغتصب العرش من الناصر محمد بن قلاوون .و نصر المنبجى كان شيخ بيبرس الجاشنكير قبل توليه السلطنة وبعدها . ونصر المنبجى هو الذى كان يُدبر الدسائس ضد ابن تيمية الذى كان وقتها أبرز الفقهاء السنيين فى الشام موطنه وفى مصر مركز السلطنة المملوكية . وبلغ الصراع بين ابن تيمية ونصر المنبجى أوجه ، وانهزم فيه ابن تيمية لأن العصر كان عصر التصوف . وابن تيمية فى الواقع كان أول ضحية لدين التصوف السنى ، آمن به وانهزم به . وإثمرت حركته فى النهاية مزيدا من الانتصار لمتطرفى الصوفية ، ودفعا متزايدا لعقيدتهم فى وحدة الوجود ( أقبح أنواع الكفر ) والتى ثار عليها ابن تيمية مُنكرا لها مُتصورا أن رُوّاد التصوف الأوائل ـ الذين يقدسهم ابن تيمية ـ لم يقولوا بها . وبهذا انتهت ثورة ابن تيمية الى صفر كبير ، بل الى ما تحت الصفر ، بحيث إستلزم الأمر ثورة ثانية فى القرن التالى ( التاسع ) فى ( كائنة البقاعى ) الذى حاكى ابن تيمية ، وكان مثله فى الاعتقاد والتسليم بالتصوف السنى وحصر الانكار على الصُرحاء  كابن عربى وابن الفارض ، مع تقديس الرواد الأوائل . وانتهى البقاعى أيضا الى نفس الصفر ، بل وتحت الصفر.

وننقل وقائع ما حدث لابن تيمية من خلال مؤرخ شاهد على العصر هو الأمير بيرس الداودار فى تاريخه المخطوط ( سيرة الناصر ) أى الناصر محمد بن قلاوون .

محاكمة ابن تيمية الأولي في الشام ..

كان الشام تابعا للسلطة المملوكية . وفيها كانت بداية الثورة الحنبلية التيمية على أتباع ابن عربى .

ونتابع المؤرخ الأمير بيبرس الداوداري وهو معاصر لهذه  الفترة ، ويقول أن مجلسا ًعقد لمحاكمة ابن تيمية فى الشام في رجب 705 برعاية القضاة المناصرين للصوفية ومن أعداء ابن تيمية : ( وسألوه في مواضع خارجاً عن العقيدة ( أى خارج عقائد التصوف من الحلول والاتحاد ووحدة الوجود خشية إثارة الجدل حولها ) ، ثم رجعوا واتفقوا أن يحاققه ( القاضى )ابن الزملكاني ( عدو لابن تيمية ) من غير مسامحة ( اى بالشدة )، وانفصل الأمر بينهم ( إنتهى الأمر ) على أنه ( ابن تيمية ) أشهد  على نفسه الحاضرين أنه شافعي المذهب ( أى تنكّر ابن تيميه لمذهبه الحنبلى المتعصب ليتقرب الى قاضى القضاة الشافعى بالشام . وكانت العادة فى العصر المملوكى أن يكون قاضى القضاة الشافعى  هو الأعلى مكانة بين أقرانه . ووقتها كان قاضى القضاة الشافعى فى الشام هو نجم الدين بن صصرى ، فنجح ابن تيمية فى إجتذابه الى صفه ضد خصومه من القضاة التابعين للصوفية وشيخهم ابن نصر المنبجى المتحالف مع الأمير المملوكى المسيطر فى القاهرة وقتها وهو بيبرس الجاشنكير )  ، وابتهج أصحاب الشيخ ( ابن تيمية ) وقالوا : ظهر الحق مع شيخنا ، فعزّروا أحدهم ( أى عاقبوه بالضرب )، ثم حُبس أحد أصحاب ابن تيمية لأنه قرأ فصلاً في الرد على الجهمية من تصنيف البخاري،فظنوا ( اى خصوم ابن تيمية من شيوخ  الصوفية ) أنهم المقصودون بالتكفير ، فأخرجه ابن تيمية من الحبس ( أى قام ابن تيمية بأعوانه وأخرج هذا الفقيه التابع له من السجن تحديا للسلطة ) ، وتنازعوا ( تنازع ابن تيمية مع خصومه )، وكان نائب السلطان ( أى الوالى المملوكى حاكم الشام نائبا عن السلطان المملوكى فى القاهرة ) غائباً في الصيد ، فلما جاء أعتقل من أكثر من الكلام من الطائفتين (الفقهاء والصوفية )، وهدد من تكلم في العقائد ليخمد الفتنة "..

محاكمته الثانية في مصر :

ونتابع المؤرخ الأمير بيبرس الداوداري المعاصر لهذه  الفترة ، وهو يقول عما حدث فى الشام وقتها : (  وقد اجتمع القضاة للبحث في العقيدة وانتهى الاجتماع بين ابن الوكيل وابن الزملكاني بأن جعل القاضي نجم الدين بن صيصري قاضي القضاة يعزل نفسه رغم إلحاح الأمراء عليه ، ثم ورد من مصر بعودته للحكم ، ومضمون أحد الكتابين يقول : قد فرحنا بإجماع رأي العلماء على عقيدة الشيخ تقي الدين ( ابن تيمية ) ، فباشر القاضي نجم الدين مستهل شهر رمضان وسكنت الفتنة . )، أى عاد قاضى القضاة الشافعى لمنصبه فى الشام و إنتصر الفقهاء فى مصر لرأى ابن تيمية وإنكاره على ( إبن عربى ) لأن قاضى القضاة الشافعى الأعلى منصبا هدّد بالاستقالة واستقال برغم إلحاح الأمراء عليه . ورفضوا إستقالته ، ووافق القضاة على رأى ابن تيمية بعد هذا الضغط الذى قام به قاضى القضاء الشافعى ابن صيصرى .

ولم يرض كبار الصوفية وزعيمهم  نصر المنبجى بالهزيمة ، وبنفوذهم أرسل بيبرس الجاشنكير صاحب السلطة من القاهرة أمرا باعتقال ابن تيمية ، يقول مؤرخنا بيبرس الدادوار : ( ثم ورد مرسوم آخر في (5) رمضان بطلب نجم الدين بن صيصري وابن تيمية وابن الزملكاني ، وفيه إنكار على ابن تيمية ، ثم وصل مملوك ملك الأمراء ( يقصد بيبرس الجاشنكير المتغلب على السلطان الناصر محمد بن قلاوون ، ولم يكن الجاشنكير قد تولى السلطنة رسمياً بعد ُ ) على البريد ، وأخبر إن الطلب على ابن تيمية حثيث ( يعنى الأمر بإعتقاله ) ، وإن القاضي المالكي ابن مخلوف قد قام في الأمر قياماً عظيماً، وإن بيبرس الجاشنكير معه في الأمر ، وأخبر بأشياء كثيرة وقعت في مصر في حق الحنابلة ( أتباع ابن تيمية ) وإن بعضهم أهين ، وإن القاضي المالكي ( المنحاز للصوفية ) والحنبلي ( المؤيد للفقهاء) جرى بينهما كلام كثير ( أى نزاع ) ، فأمر ملك الأمراء ( بيبرس الجاشنكير ) بتجهيزهم ( اى بتجهيز وفد لإعتقال ابن تيمية وإحضاره الى القاهرة ) فوصلوا في رمضان ، وعقد مجلس لابن تيمية في دار النيابة ( بمصر)  بحضور الأمير سلار ( المشارك لبيبرس الجاشنكير فى السلطة ) ، والعلماء والأئمة والقضاة الأربعة وبيبرس ، فادعى ابن عدلان القاضي الشافعي على ابن تيمية دعوى شرعية في عقيدته ، فأراد ابن تيمية أن يذكر عقيدته في فصل طويل ، فقالوا له : يا شيخ الذي بتقوله معلوم ولا حاجة للإطالة ، وأنت قد ادعى عليك هذا القاضي بدعوى شرعية أجب عليها ، فأعاد القول في التحميد فلم يمكنوه في تتمة تحاميده ، فقال عند من هي هذه الدعوى ؟ فقالوا : عند القاضي زين الدين المالكي ، فقال : عدوي وعدو مذهبي..وطال الأمر فحكم القاضي المالكي باعتقاله ، فاعتقل ، وسجن أخوته في برج من أبراج القلعة .. وبلغ القاضي أن جماعة من الأمراء يترددون إليه وينفذون إليه المآكل ، فطلع القاضي للأمير ركن الدين بيبرس في قضيته ، وقال : هذا يجب عليه التضييق إذا لم يقتل وإلا فقد ثبت كفره ، فنقلوه هو وإخوته ليلة عيد الفطر إلى الجب بالقلعة .. ثم كتب إلى دمشق كتاباً يتضمن حل دم ومال من اعتقد عقيدة ابن تيمية، وقرئ الكتاب بجامع دمشق وألزم به الحنابلة خصوصاً ) [1] .

 



[1]
ابن أيبك الداوداري : سيرة الناصر 133: 138 .

اجمالي القراءات 11377