الأخلاق والتربية
الجوانب الدينية ( الكنيسة ) في أوربا (400-1400)م

عبدالوهاب سنان النواري في الخميس ٠٦ - نوفمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

* أثر الدين في نفوس الناس:

     ليس في التاريخ ما هو أعظم أثرا في النفس من الدين, ولاسيما في تاريخ العصور الوسطى, فإنك تراه في كل مكان, ويكاد يكون أعظم القوى في تلك العصور, وليس من السهل أن ندرك حق الإدراك ما كان في تلك العصور من فوضى وعوز هما اللذان شكلا عقائد الناس. وقد بدا أن من البداهة أن لا سبيل إلى السيطرة على الدوافع البشرية الوحشية إلا بقانون أخلاقي تؤيده قوة تعلو على القوى البشرية. وكان أكبر ما يحتاجه العالم وقتئذ هو عقيدة توازن المحن بالآمال, وتزيل ملل الكدح بخيال العقيدة, وتمحو قصر الأجل بعقيدة الخلود. وقد سعت المسيحية إلى الوفاء بهذه الحاجات بفكرة حماسية عن الخلق والخطيئة الآدمية, والأم العذراء, والإله المعذب, والنفس الخالدة التي قدر عليها أن تواجه يوم الحساب فيقضى عليها بالتردي في الجحيم إلى أبد الآبدين, أو تنجوا وتنال النعيم السرمدي على يد كنيسة توفر لها بأسرارها المقدسة البركة الإلهية التي حلت على العالم بموت منقذه.(1)

     لقد ارتكزت العصور الوسطى على دعامتين أساسيتين هما: الدين والحرب. أما الدين فقد أوحت به منذ البداية المسيحية التي اعتبرت الدين الرسمي للدولة في أوربا والأساس الأول للحياة والفكر, وغير خاف أن هذا العصر يعتبر في الغرب عصر تسلط الكنيسة الرومانية اللاتينية على الشعب ومقدراته وعلى إرادته وتفكيره وعلى حياته الخاصة والعامة. وقد ارتبطت العصور الوسطى بفكرة أخرى وهي أن العالم المسيحي الغربي عبارة عن وحدة كبرى في مجموعه يحكمه الإمبراطور من الناحية الزمنية والبابا من الناحية الروحية. وهذه الوحدة لها كنيسة واحدة متغلغلة في كيان الأمم والشعوب والطبقات هي كنيسة روما الكاثوليكية, ولها لغة رسمية واحدة هي اللغة اللاتينية, ولها عاصمة روحية واحدة هي روما, ولها حضارة واحدة هي تلك التي ترتبط باللغة اللاتينية.(2)

     كانت الديانة المسيحية من أهم مميزات العصور الوسطى, والتي جاءت كرد فعل للتاريخ القديم وديانته الوثنية التي كانت تدعو إلى الحرية والانطلاق بحكم تعدد الإلهة. إذ كانت تدعو إلى التمتع بالحياة في شتى صورها ومظاهرها. وجاءت المسيحية لتقول أن هذه الحياة الدنيا عبارة عن مطية زائلة إلى الدار الثانية, دار الخلد والنعيم المقيم, وأنه يجب على الفرد أن يعيش على: الصلاة والتبتل والتقشف وأن يبتعد عن مباهج الحياة وملذتها. وعلى هذا نرى أن المسيحية قد صبغت الحياة والفكر بصبغة خاصة تركت أثرها في مختلف نواحي النظام والحضارة. ذلك أن النظرة المحدودة والضيقة للأمور في نطاق هذا الدين وفلسفته والكنيسة وتعاليمها, والتي كان الفرد أسيرها مئات السنين, جعلت الناس يغطون في نوم عميق وجعلتهم لا يفكرون في استنباط قوانين الطبيعة وأماتت فيهم الأصالة وروح الخلق والإبداع. فلم يحاولوا نتيجة لذلك التقدم في الآداب والعلوم والفنون واللغة التي أصابها التدهور هي الأخرى, واستعوزتهم القدرة على استخلاص ما في الطبيعة من ثروات معدنية وزراعية. وحرمت عليهم الاتجار وما يترتب عليها من مكاسب وأرباح تعتبر في نظرها إثماً وخطيئة مميتة.(3)

     لقد وجدت نتيجة لذلك موجة عارمة من الجمود والخمول والاستكانة, ولكن هذا الوضع أوجد مع مرور الزمن شعوراً متزايداً بالسخط والتذمر والملل, وحالة واضحة من الضغط والكبت والحرمان. وهذا أدى بدوره إلى الغليان والانفجار. وكان كل هذا إيذانا بزوال العصور الوسطى بمثلها وأفكارها, وظهور عصر جديد يقوم على أسس ومبادئ جديدة مغايرة.(4)

 

*  الخدمات الكنيسية والأسرار المقدسة:

     الكنيسة هي مكان العبادة عند المسيحيين وتطلق أيضاً على جماعة المؤمنين بالدين المسيحي الذي أنزله الله على المسيح عيسى بن مريم. ومنه أتت (المسيحية) أي دين المسيح. والكنيسة بالاصطلاح جسد المسيح الصوفي. إنها شيء إلهي ولا يمكن فهمها بالعقل البشري. وهذه هي الكنيسة غير المرئية. أما الكنيسة المرئية  فهي هذه الجماعة المسيحية التي تحيا في عالمنا وأعضاؤها أناس مثلنا يخضعون للتغيرات والتطورات التاريخية.(5)

     عندما تداعى المجتمع الروماني, في القرن الخامس والسادس, كانت الكنيسة الكاثوليكية القوة المعنوية الوحيدة التي ظلت متماسكة أمام عوامل الاضطراب والفوضى والتخريب, لقد زالت الوطنية الرومانية, وضعفت عاطفة المصلحة العامة. وأصبح الغد مظلماً أكثر من أي وقت مضى. وما كان من الشعب إلا أن تجمع بغريزته حول الكنيسة فأصبحت له موئلاً ووطنا, وغدت هذه الكنيسة والقومية الرومانية شيئاً واحداً.(6)

     كانت الكنيسة أكبر من أية دولة في الغرب, ولذلك نراها تحمي بنيها من السلطات المدنية وتمنع أية قوة خارج الكنيسة من التدخل في شؤونهم فلا هم يدفعون الضرائب للدولة ولا هم يخضعون لقوانينها, بل كونوا لأنفسهم قوانين ومحاكم كنسية تحل مشكلاتهم, ثم زيادة على استقلالهم عن السلطة المدنية مدوا نفوذهم إليها فكانوا يجبون بعض الضرائب كالعشر, وإليهم يناط حل قضايا الزواج والطلاق ومشاكلهم, كما أنهم كانوا القابضين على زمام التعليم يوم ذلك.(7)

     وكانت القوة الثانية من قوى الكنيسة التي تلي تحديد الدين هي: عملها في أداء الأسرار المقدسة, أي  الشعائر التي ترمز إلى منح البركة الإلهية. وقد حددت الأسرار المقدسة في القرن الثاني بسبعه أسرار هي: (التعميد, تثبيت العماد, الكفارة, القربان المقدس, الزواج, رتبة الكهنوت, والمسح بالزيت قبيل الوفاة). وكان الهدف من التعميد هو محو الخطيئة الأولى بحيث يولد الشخص مولداً جديداً يستقبل على أثرة في حظيرة الدين المسيحي. وكانت مراسم تثبيت العماد والقربان المقدس تقام في السنة السابعة من حياة الطفل. أما الكفارة - وقد ورد في الإنجيل أن المسيح غفر الخطايا - وأنه منح الرسل هذه القدرة وقد انحدرت بالتوارث إلى المطارنة الأولين.( حسب ما تدعي الكنيسة ) وقد نشرت قوائم تحدد الكفارة القانونية لكل مذنب كـ:( الصلوات, والصيام, والحج, وإخراج الصدقات ) وكان صك الغفران! إعفاء جزئي أو كلي من بعض العقاب. وقد رفعت الكنيسة من شأن عقدة الزواج إلى أكبر حد, وجعلتها عقدة دائمة. وفي آخر هذه الأسرار وهو المسح الأخير, يستمع القس إلى اعترافات المسيحي وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة, ويمنحه المغفرة التي تنجيه من النار, ويمسح أعضاءه حتى تتطهر من الخطيئة .(8)

     وفضلاً عن الخدمات الكنيسة والأسرار المقدسة, كان ثمة تلاوة العزائم لصرف الأرواح الشريرة وأعمال السحر. وكانت أجراس الكنيسة تدق للحيلولة دون اقتراب العواصف التي كانت الساحرات تثيرها. وكان الكاهن أحيانا ينزل اللعنة رسميا برش الماء المقدس على آفات الديدان أو الجراد.(9) والشعائر الدينية في كل دين عظيمة لازمة لزوم العقيدة نفسها, فهي تعلم الإيمان, وتغذيه, وتوجه في كثير من الأحيان. وأقدم الصلوات المسيحية هي الصلاة التي مطلعها ( أبانا الذي في السماوات ) والأخرى مطلعها ( نؤمن بإله واحده ). وقبيل أن ينتهي القرن الثاني عشر. بدأت الصلاة الرقيقة المحببة - التي مطلعها ( السلام لك يا مريم ) - تتخذ صيغتها المعروفة. وكثيراً ما كانت الصلوات الرسمية التي تتلى في الكنائس توجه إلى الله (الأب), وكان عدد قليل منها يوجه إلى الروح القدس. ولكن صلوات الشعب كانت توجه في الأغلب الأعم إلى عيسى ومريم والقديسين. والحق أن الكنيسة لم تشجع عبادة مريم, ولكن الشعب جعل مريم أقرب الأشخاص إلى القلوب بما خلعوه على أم المسيح من صفات الرحمة والحنان, وكانوا يرون أن في وسعهم أن يقتربوا من عيسى, عن طريق أمه التي لا ترد سائلا. والتي لا يستطيع ابنها أن يرد لها شفاعة, واستحالت المسيحية الغربية بفضل عبادة مريم, من دين رهبة إلى دين رحمة وحب, وكانت أن أفسحت الكنيسة في فنها, وترانيمها, وصلواتها, مكاناً لعبادة العذراء مريم.(10)

 

* حكومة الكنيسة ورجال الدين:

     إلى جانب الطقوس الدينية, نمت طائفة من الشرائع الكهنوتية, الغرض منها تنظيم أعمال الكنيسة وقراراتها. وقد نشأ قانون كنسي شيئاً فشيئاً من العادات الدينية القديمة, ومن فقرات من الكتاب المقدس, وآراء آباء الكنيسة, وقوانين روما أو القبائل المتبربرة, وقرارات مجالس الكنيسة, وقرارات الباباوات وآرائهم. والحق أن الميدان الذي يشغله القانون الكنسي كان أوسع من الميدان الذي يشغله أي قانون مدني معاصر له, فهو لا يقتصر على البحث في تكوين الكنيسة, وعقائدها, وأعمالها, بل يبحث فوق ذلك في القواعد التي يعامل بمقتضاها غير المسيحيين المقيمين في البلاد المسيحية.(11)

     ومع الزمن تشكل نظام التسلسل في السلطات الكنسية وأسس حسب التقسيمات الإدارية في الإمبراطورية الرومانية. إن ما كان للكنيسة من: مساكن ومكاتب ومزارع وثروة على جميع أنواعها, يبين لنا أن أعمالها الدنيوية لم تكن قليلة أو بسيطة إذ كانت الحاجة عظيمة لإدارة هذه الثروة وللقيام بالشؤون الدينية المختلفة فتكونت لأجل ذلك حكومة كنسية شملت رجالا من مختلف الطبقات وكانت الوحدة الأساسية في إدارة هذه الحكومة, الأبرشية يحكمها القسيس, وباتحاد الأبرشيات تتكون الأسقفية تحت رقابة الأسقف, ومن اتحاد هذه تتكون المقاطعة ويحكمها رئيس الأساقفة. وهكذا إلى أن تصل مركز الباباوية في عاصمتها روما, التي كانت تضج بجيش من الموظفين الذين كانوا يشتغلون في الفروع المختلفة, من إدارة مينة الله (الكنيسة). فمن رجال المحاكم, إلى رجال الخزينة, إلى رجال الإدارة, إلى مجلس الكرادلة الذين كان البابا يعينهم, والذين كانوا بدورهم يعينون البابا الجديد, بعد أن يغادرهم سلفه إلى العالم الآخر.(12)

     وكان القساوسة والأساقفة, يؤلفون فيما بينهم طبقة رجال الكهنوت, وكان كبار الأساقفة يجتمعون في مجلس تتألف منه من حين إلى حين حكومة نيابية للكنيسة.(13) لقد احتفظت الكنيسة ببناء من النوع الفدرالي: إنها جماعة الكنائس المتنوعة المشتركة في إيمان واحد, تعتبر أسقف روما خاتم وحدتها وقطبها الجاذب لان له بنوع أخص يعود تحديد العقيدة.(14)

     تتألف طبقة رجال الدين من هرم تتسع درجاته كلما أتجهنا إلى أسفل, فعلى قمته البابا ثم يتلوه الكرادلة فرؤساء الأساقفة فالأساقفة ورؤساء الأديرة فرجال الدين عموما, من كبار الكهنة وصغارهم والرهبان وغيرهم. وقد كونوا مع الزمن طبقة مستقلة قائمة بذاتها لا تنتمي لدولة معينة أو جنس بذاته, وإنما استمدت حقوقها من بين جميع الأمم المسيحية الكاثوليكية في الغرب الأوربي, يتبعون الكنيسة باعتبارها هيئة معنوية عالمية على رأسها البابوية. وكان رجال الدين في جملتهم, ورغم اختلاف مولدهم وبيئتهم يتبعون هذه الكنيسة.(15)

     وقد كانت الطبقات العليا أو الدرجات المقدسة والقساوسة فالشمامسة فمعاونوهم مع من يعلوهم من كبار الأحبار والمطارنة أو الأساقفة, محرومون من الزواج حيث كان محظور عليهم قانونا, أما من هم أدنى منهم كالكتبة والطبقات الصغرى من رجال الدين فلم يكونوا محرومين منه, وكان افراد أو أعداد رجال الدين بكافة درجاتهم يمثلون 1/30 من جملة الأشخاص البالغين في الشعب, ويقدر البعض عددهم بأكثر من ذلك. وكان الرهبان بصفة عامة, هم افضل رجال الدين, وأكثرهم في الحقيقة شعبية. وكان رجال الدين كهيئة, حتى في اضعف مستوى لهم, ارقى خلقا وعلما من غيرهم, كما كانت اشخاصهم موضع احترام يفوق ما يلقاه عامة شعوب أوربا.(16)

 

* كيف دب الفساد في الكنيسة !؟

     من العجيب أن نرى رجال الدين الذين بدأوا حياة بسيطة متواضعة قوامها الصلاة والطهارة ونقاء النفس والضمير والبعد عن الحياة الدنيا وملذاتها – بدأوا ينغمسون شيئا فشيئا في الشئون الدنيوية بعد أن تكاثرت عليهم الأوقاف والمنح والهبات حتى أصبحوا إلى جانب مهمتهم الدينية يمتلكون الإقطاعيات الواسعة المترامية الأطراف؛ وأصبح لا هم لرجال الدين إلا العمل على زيادة الأراضي الموقوفة, وبعد أن كان اهتمامهم بأمور الحرث والغرس ورعاية الماشية على أساس أنكار الذات, وبعد أن رأى الرهبان أن الفائض منها يغنيهم عن العمل, اخذوا في التكاسل الذي اعقبه الفساد والتدهور, وتركوا امور الحرث والغرس لعامة الناس يقومون بها تحت اشرافهم.(17)

     وقد بلغت العشور وغيرها من الواجبات المفروض أداؤها للكنيسة, قدرا يفوق ما يحتاج إليه القس الاعزب كأجر للمعيشة, وفيما عدا العشور, كانت كل الهبات والصدقات في الأصل اختيارية, ثم تحولت بحكم العادة إلى هبات اجبارية, وقد كانت العشور تشكل ضريبة ثقيلة للغاية, وكانت تمتد إلى الطبقات الدنيا حتى تصل إلى خدم المنازل, طالما كانت هذه الضريبة جديرة بقيام المحصل لجبايتها, وكانت تحسب على جملة الايراد دون أي خصم مقابل ما كانوا يتكبدونه من النفقات المتصلة بالعمل - والواقع انه كان من الممكن ان يذهب جانب من العشور إلى الفقراء والمتسولين, إلا ان الكنيسة استولت على ثلثي ما كان يدفعه المسيحيون.(18)

     وقد كانت الكنيسة تعاني من ثلاثة أمراض خطيرة, هي السيمونية وزواج رجال الدين والتقليد العلماني. أما السيمونية فالمقصود بها شراء الوظائف الدينية بالمال, وهو داء فشا فشوا خطيرا بين رجال الدين حتى وصل كثير من المجرحين وغير الصالحين الى المناصب الدينية الكبرى عن طريق المال, مما اضعف الكنيسة وشوه سمعتها. أما عن زواج رجال الدين فالمعروف ان معظم الأساقفة ضلوا عزابا, في حين اقبل على الزواج معظم القساوسة وصغار رجال الدين, وقد كانت التشريعات تؤيد مبدأ العزوبة. وهي تشريعات لم يكن تنفيذها بالأمر السهل, وهكذا ضلت الكنيسة ترى ضرورة الزام رجال الدين بحياة العزوبة أسوة برهبان الأديرة, لأنها رأت أن هذه الحياة من شأنها أن تطهر النفس, وزيادة في دعم النظام الكنسي نفسه. فقد قام رجال الدين المتزوجين بتوريث وظائفهم الدينية لأبنائهم, الأمر الذي جعل منهم طبقة وراثية وانزل ابلغ الضرر بالنظام الكنسي.(19)

     على انه إذا كانت المسائل المتعلقة بالسيمونية وزواج رجال الدين, تعتبر من المشاكل الداخلية فإن مسألة التقليد العلماني اختلفت عنها في كونها تتصل مباشرة بسلطة الحكام العلمانيين. والمقصود بالتقليد العلماني هو أن يقوم الحكام العلمانيون - من أباطرة وملوك وأمراء – بتقليد رجال الدين مهام مناصبهم الدينية. والمعروف ان القانون الكنسي نص منذ القدم على ان يكون تعيين القساوسة بواسطة أساقفتهم, وان يقوم القساوسة وغيرهم من رعايا الأسقفية بانتخاب الأسقف, وأخيرا يعتمد البابا هذا الاختيار. ولكن هذه الوضاع تغيرت على مر الأيام, فأصبح أصحاب الأراضي من الإقطاعيين يقومون بتعيين القساوسة, في حين تولى الأباطرة والملوك والدوقات تعيين الأساقفة. مما أدى الى تفكك الكنيسة وعدم ارتباطها تحت زعامة البابوية التي خسرت خسرانا مبينا من جراء هذا الوضع الشاذ, بعد ان غدا الأساقفة أذناب للملوك والأباطرة, يعينون لخدمتهم ولتحقيق أغراضهم, لا لخدمة الكنيسة وتحقيق أغراضها.(20)

* الهرطقات والكنيسة:

     ان الثروة التي حشدها رجال الدين في خزائنهم دفعتهم الى البحث عن لذائذ هذه الدنيا والسير وراء ميول النفس المغرية, ومن أهم الجرائم التي كثر ارتكابها: بيع أملاك الكنيسة والرشوة وأخذ الكثيرون يذهبون الى الصيد والحرب ويشيدون القصور الفخمة وأرهقوا الفلاحين بالضرائب الثقيلة. ولما كثرت هذه السيئات بمرور الزمن ظهر المصلحون من الأفراد والجماعات, فكانت الكنيسة تصفهم بالإلحاد عندما تراهم يهاجمون قواعدها الأساسية وأنظمتها.(21) والحقيقة ان الآراء الهرطقية ليست بالأشياء الجديدة على المسيحية, فقد شهدت الكنيسة منذ ضحى تاريخها كثيرا من الآراء المنافية لتعاليمها, مما جعل الباباوات والحكام يكافحونها في شدة وعنف. وقد بدأ كثير من اصحاب هذه الآراء بمهاجمة رجال الكنيسة, وحياتهم المترفة, وثرائهم الفاحش, وبعدهم عن مثل المسيحية وبساطتها. ثم لم يلبث ان تطور هذا الهجوم الى انتحال آراء جديدة لا تخلو من التطرف والخطورة.(22)

     ولقد كان يسع الكنيسة ان تترك هذه الجماعات الجديدة, لولا ان هذه الجماعات أخذت توجه سهام النقد الى الكنيسة, حيث نعتت الباباوات بأنهم خلفاء الأباطرة لا خلفاء الرسل, فالمسيح لم يجد له مكان يضع فيه رأسه, أما البابا فيسكن قصرا منيفا. ونعتت رجال الدين بأنهم زمرة الشيطان, وان البابا يمثل المسيح الدجال. وكانوا ينددون بالداعين الى الحروب الصليبية ويصفونهم بأنهم قتلة.(23) لقد ظهرت حركات عديدة كا: الفودية والمانوية والباتاريا... الخ. وهي جماعات تفاوتت تنظيميا وتغلغلت في صفوف الشعب الفقير في الأرياف والمدن تحدوها رغبة عميقة صادقة في العيش بحسب تعاليم الدين, واتخاذ موقف قوي ضد رجال الدين. لقد أثارت هذه الجماعات العواطف والأهواء, ولم تنشر عقيدة واضحة, غير انها كانت تجد أحيانا مفكرين يحملون اليها فكرة التماسك التي كانت تفتقر اليها.(24)

     هدفت هذه الجماعات الى الاتحاد العاطفي المباشر بالمسيح, باحتقار وساطة رجال الدين الغاطسين في الزمنيات والمشغولين بالشؤون الادارية. وقد افضى هذا التوق الى قيام نخبة مختارة من الصالحين المنحدرين من المجتمع العلماني مباشرة - الأنقياء حقا - أي فقراء واطهار, والمكلفين بإيصال الروح القدس, بطقوس غاية في البساطة, الى جمهور الشعب واقتياد هذا الجمهور نحو الخلاص بقراءة العهد الجديد على هذا الجمهور بلغته الخاصة. وقد اصطدمت هذه الحركات - الانجيلية المصدر - بمعارضة الرؤساء الروحيين حين اراد اتباع هذه الحركات (العلمانيين) في حوالي السنة 1180م, الاستغناء عن الكهنة, وادعوا حق تفسير نص العهد الجديد بعد ان أمنوا ترجمته, وطالبوا كذلك بحق الوعظ.(25)

     واضطربت الكنيسة أمام تنامي الجماعات والفرق التي ترفض سلطاتها وتحتج على تعاليمها العقائدية حتى في محتوى الإيمان. وكان للسلطات المدنية أيضا ردأت فعل أعنف. وكان هدفها في المرحلة الأولى, إدانة الأفكار وملاحقة الدعاة والمتمردين - الذين ظلوا صامدين - والتركيز أكثر على استعادة الذين ابتعدوا عن دين الكنيسة والبابا, واستطلاع المخاطر الحقيقية, وهكذا فقد أدانت مجامع لاتران الثلاثة ( 1123, 1139, 1179 ) تعاليم الهراطقة ( المصلحين ) على اختلافها واعتبرتها ضالة, وحرمت الذين يروجون لها, وفي المرحلة ذاتها ارسلت البابوية على عجل, سفراء يتمتعون عند الحاجة, بالسلطة التي تخولهم توجيه التهم الى الذين ظلوا على هرطقتهم رغم التوبيخ والاقتصاص منهم. فكانت تحاكمهم وتصادر أملاكهم وتفرض عليهم الغرامات. وكردة فعل ازداد المصلحون ( الهراطقة ) تصلبا في معارضتهم للاكليروس, والقسم القليل منهم عاد على ما يبدو الى أحضان الكنيسة.(26)

     وأمام هذا الفشل النصفي وانطلاقا من سنة 1180م, قررت الكنيسة استبعاد الهراطقة - أي قررت قطع علاقاتها معهم نهائيا, وتقرر في سنة 1184م, ان تتعاون أعلى سلطتين في المسيحية تعاونا وثيقا من أجل الدفاع عن الإيمان الرسمي, وصدرت فتوى باباوية ودستور إمبراطوري, ينصان على أنه يعود للسلطة الكنسية ان تطبق العقوبات الزمنية المقررة ( سجن, وحجز أملاك ) وكانت هاتان السلطتان تفرضان على المؤمنين بسلطة الكنيسة, ان يشوا بمن اسمتهم أنصار البدع. وزيادة في حسن التنسيق بين التحقيقات والعقوبات, أنشأ البابا غريغوريوس التاسع مصلحة تخول الكرسي الرسولي السلطة النافذة ووسيلة العمل الفعالة في هذا الخصوص الا وهي محكمة التفتيش. وتسهيلا للمهمة, تقرر إنشاء لجنة في كل أبرشية مؤلفة من كاهن وعلمانيين مهمتها الوشاية بالهراطقة والمتآمرين منهم, وقد تقرر: أن الموت بالنار هو موت طبيعي لكل من تأكدت الكنيسة من هرطقته واصراره عليها.(27)

     والجدير بالذكر انه ورد في كتاب العهد القديم قانون - بسيط جدا - لمعاملة من يوصفون بالمارقين من الدين, يقضي بأن يفحص عنهم فحصا دقيقا, فإذا شهد ثلاثة شهود عدول بأنهم: ( ذهبوا وراء آلهة أخرى ) أخرج المارقون من المدينة و( رجموا بالحجارة حتى يموتوا )...(تثنية التشريع 10:13). وكانت قوانين اليونان ترى المروق من الدين - أي الامتناع عن عبادة الآلهة اليونانية - جريمة كبرى يعاقب عليها بالإعدام, وهذا هو القانون الذي حكم به على سقراط. وفي رومة القديمة, حيث كانت الآلهة حليفة للدولة وأصدقائها الأوفياء, كان الخروج عليهم أو التجديف في حقهم من جرائم الخيانة العظمى التي يعاقب عليها بالإعدام. وطبق أباطرة الروم القوانين الرومانية في العالم البيزنطي فحكموا بالإعدام على من اسموهم المارقين عن الدين أو الضالين. واشتركت الدولة في هذا الاضطهاد ؛ لأنها كانت تخشى ألا تستطيع الحكم بغير مساعدة الكنيسة التي تغرس في قلوب الناس عقيدة دينية موحدة. يضاف الى هذا خوفها من أن يكون الضلال الديني ( تغيير الآراء الدينية ) ستارا يخفي وراءه التطرف السياسي, ولم تكن في ظنها هذا مخطئة على الدوام.(28)

 

* حركات الإصلاح:

     لم يكن من المنتظر أن تنتهي الآراء الخارجة على الكنيسة مادامت الكنيسة نفسها منصرفة عن إصلاح اوضاعها. وهنا وجدت الرغبة في الإصلاح والعودة الى حياة البساطة, فظهرت عدة منظمات استهدفت حياة البساطة, وحماية الكنيسة من الآراء الهرطقية, ودعم الباباوية عن طريق امدادها بأتباع مخلصين متفانين في خدمة الدين, وعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر:(29)

1- الديرية البندكتية: لقد كان قانون القديس (بندكت) أكثر القوانين أثرا وأكثرها فاعلية في الغرب, والذي يحتمل أنه وضعه سنة 529م, ويقوم قانون بندكت على أربعه قواعد رئيسية هي: التبتل, الطهارة, نكران الذات, والطاعة العمياء. وأساسه إنساني وروحي في آن واحد, على خلاف الفكرة القديمة التي كانت سائدة قبلئذ.(30) إذ كانت الفكرة القديمة روحية بحتة لا تهتم براحة الجسد ومطالبه, بل كان كل ما يهم المتوحدين الأقدمين هو تعذيب أبدانهم وتعريض حياتهم الدنيوية للأخطار, لقد نظر بندكت الى الراهب كمخلوق بشري, فأوصى بالاعتدال في التقشف, وجعل حياة أتباعه في أديرته حياة جماعية, بعد أن أدرك ما كان يعانيه الرهبان المتوحدين من صعاب. كما أدخل على حياتهم نظام العمل اليدوي والذهني في نشاطهم اليومي. فخصص بعض الرهبان لفلاحة الأرض, والبعض لرعاية الماشية, والبعض لإعداد الملبس والمأكل والمشرب, بحيث يصبح الدير البندكتي وحدة مستقلة لا تحتاج للعالم الخارجي في شيء. وفضلا عن ذلك فقد اوجد في كل دير نواة لمكتبة, ومكان لنسخ الكتب. وفي هذه المكاتب واصل النساخ والمؤلفون تحرير الكتب التاريخية والأدبية واللاهوتية والقانونية, والغريب أن هذه النزعة الأدبية العلمية أخذت تنمو وتتسع في الديرة البندكتية في وقت كان الناس يغطون في جهل عميق. وبمرور الزمن تأسست بعض المدارس في تلك الأديرة. وعلى هذا كانت أديرة بندكت منبعا للعلم والعرفان, كما أنها أدت أكبر خدمة للحضارة الفكرية في غرب أوربا في العصور الوسطى. وعندما ظهر للناس فضائل هذا النظام الجديد, أخذ الكثيرون منهم يلتحقون بالأديرة البندكتية, وانتقلت هذه الحركة الجديدة من ايطاليا الى غرب أوربا, وحلت نهائيا محل التوحد والعزلة والتقشف.(31)

2- حركة الإصلاح في اللورين: لم يلبث الفساد الذي عم الكنيسة في القرنين التاسع والعاشر, أن أدى الى أيقاظ بعض الضمائر التي افزعها ما آل اليه أمر الكنيسة ورجال الدين في الغرب الأوربي. وكان أن انبعثت الدعوة الى الإصلاح في النصف الأول من القرن العاشر في منطقة اللورين, حيث كانت الحياة الديرية قوية وسليمة. وهناك بدأ أحد المصلحين - واسمه جيرارد - تلك الحركة بتأسيس كنيسة قرب نامور سنة 914م, ثم الحق بها ديرا بعد قليل. وسرعان ما سارت تلك الحركة سيرا طيبا, فنادى المصلحون بالعودة الى تعاليم السلف الصالح وتطبيق نظم القديس بندكت على الحياة الديرية. ولكن هذه الحركة ظلت محلية الطابع, فقد قاومها كثير من رجال الدين حيث كانوا قد ألفوا حياة الترف والانحلال , وبذلك حالوا دون انتشارها والافادة مها, وبهذا استمر أنصار الفساد خارج المنطقة أقوى نفوذا.(32)

3- حركة الإصلاح الكلوني: لم تكن حركة الإصلاح التي ظهرت في أقليم اللورين الوحيدة من نوعها, إذ عاصرتها دعوة أخرى للإصلاح انبعثت في حوض الرون الأعلى, حيث أسس وليم التقي - دوق اكوتين - ديرا جديدا في كلوني سنة 910م, وقد روعي في هذا الدير تجنب الأخطاء والمفاسد التي تردت فيها بقية الأديرة المعاصرة, ليصبح رأسا لحركة إصلاحية ديرية شاملة. وقد جاء في اتفاقية تأسيس هذا الدير: أن لا أحد حتى ولا البابا ولا الملك يحق له الاعتراض على ادارة هذا الدير, والتي تميل الى جعل الدير الجديد ديرا نموذجيا. وكان التوسع الكلوني الحقيقي قد انطلق في عهد (أودون) الذي تسلم رئاسة الدير من سنة 926م الى سنة 942م, وقد عمل على نشر الإصلاح في أديرة أخرى بمبادرة منه أو بدعوة من تلك الأديرة. وذلك بشيء من الصعوبة غالبا. وبعد ذلك كان السعي حثيث لإنشاء جمعية منظمة ذات قوانين وتسلسل مستوحاة الأعراف, والتي تهم الحياة الرهبانية خاصة والاتحاد الودي والروحي الذي يجب أن يجمع الأديرة بعضها الى بعض. وفي بداية القرن الثاني عشر كانت الجمعية الكلونية تعد حوالي: 1100- مؤسسة.(33)

     وقد قام نظام الديرة الكلونية على أساس الطاعة المطلقة والتفاني في خدمة المجموع, فالفرد لا شيء والجماعة هي كل شيء. كذلك أدرك زعماء الحركة الكلونية أن الأمراض الخطيرة التي تعرضت لها الكنيسة حينئذ, إنما كانت وليدة ارتباط الكنيسة بالدولة, ولذلك وجدوا في الفصل بين السلطتين العلاج الوحيد الشافي من تلك الأمراض. ولعل هذا هو السبب في حرصهم على أن يكون نظامهم الديري تابعا للباباوية مباشرة, دون أن يكون للحكام أو الأساقفة المحليين اشراف على الأديرة الكلونية, التي تقع في مناطق نفوذهم. والذي يهمنا من أمر هذه الحركة هو أنها لم تلبث أن تطورت واتسع أفقها, فبعد أن كانت تستهدف في أول أمرها, إصلاح الحياة الديرية وحدها, إذا بها في القرن الحادي عشر تسعى نحو إصلاح الكنيسة إصلاحا شاملا, معتمدة في ذلك على ما أصبح للأديرة الكلونية ورجالها من قوة وعظمة ونفوذ واسع.(34)

4- الجماعات الرهبانية في القرنين الحادي عشر والثاني عشر:من النتائج التي ترتبت على الإصلاح الكلوني, أن أصبح للديرية مكانة بارزة في المجتمع الغربي الوسيط, فأقبل الناس على اعتناق مبادئها في اعداد كبيرة. ولما كانت أديرة كلوني لا تتسع لهذا السيل الجارف من الناس - الذين اعتنقوا الرهبانية - فقد فكر الكثيرون في إنشاء جماعات جديدة لتحتضن الفائض من الناس, ولتعمل في ذات الوقت على استكمال مشروعات كلوني, والقيام بإصلاحات جديدة. ومن أهم الجماعات الجديدة ما يلي:

1-             جماعة الإخوان: ( الكارثوذيان, السترشيان,  الفرنسيسكان, الدومنيكان).

2-             إخوان جراند مونت.

3-             جماعة الرهبان المحاربين.

4-             جماعة الاسبتارية.

5-             جماعة الفرسان الداوية.(35)

     ونخلص من دراسة هذه الجماعات ان نشأة الرهبنة ثم تطورها الى الديرية, وما استتبع ذلك من حركات الإصلاح العديدة, وقيام جماعات الإخوان في أوربا, وجماعة الفرسان المحاربين في بيت المقدس - كل هذا يبين ما كان لتلك الحركات من أهمية في العصور الوسطى وفي تاريخ الحضارة الأوربية. إذ كانت تلك الاديرة مراكز للعلم ومعاهد للتعليم ونسخ الكتب في تلك القرون التي انتابها الظلام الحالك. كما انتجت الكثير من المصلحين والعلماء وكبار رجال الدين الذين ملئوا العصور الوسطى صخبا وضجيجا في شتى نواحي الحضارة.(36)

* النزاع بين الباباوية والإمبراطورية ( ق11- ق13 ):

     بإحياء الإمبراطورية الرومانية المقدسة وتتويج شارلمان إمبراطورا لها, في مستهل القرن التاسع, كانت الباباوية قد ثبتت دعائمها, ولم يبق أمام الباباوات إلا مواصلة الجهود الجبارة التي كان قد بدأها جريجوري العظيم (الأول). وكان هذا ايذانا ببداية الدور الثاني في تاريخ البابوية الذي يتمثل في الصراع العنيف بينها وبين الإمبراطورية على الأمور العلمانية. وقد شغل هذا الصراع أكثر من ثلاثة قرون, وهو أبرز ما يميز القسم الثاني من تاريخ العصور الوسطى.(37)

     في سنة 1059م, دعا البابا نيقولا الثاني مجمعا دينيا في روما؛ لينظم اختيار البابا وانقاذ الباباوية من الهوة التي غرقت فيها - مسألة التقليد العلماني - وكان أن قرر هذا المجمع أن يتولى الكرادلة وحدهم - وهم اساقفة روما وضواحيها السبع - انتخاب البابا, على أن يستدعى الناس ورجال الاكليروس بعد ذلك لمجرد الموافقة على هذا الاختيار. هذا فضلا عن انه تقرر ضرورة اختيار البابا من بين رجال الاكليروس في روما نفسها, إلا في حالة عدم توفر المؤهلات والشروط اللازمة للمنصب البابوي في أحدهم. وبذلك استطاعت الباباوية أن تتحرر من نفوذ نبلاء روما وسيطرة الأباطرة جميعا, فضلا عن أن اختيار البابا أصبح انتخابيا في هيئة مختارة من صفوة رجال الكنيسة. لذلك ليس من المبالغة أن نقرر أن هذا الاجراء كان الخطوة الأولى في سبيل اقامة حكومة مركزية في الكنيسة تستطيع أن تباشر الإصلاح الكنسي بوجه عام.(38)

     ومن الشخصيات البارزة التي ظهرت في ذلك المجمع الديني, الكاردينال هلدبراند, الذي رأى بثاقب بصره اقناع أعضاء المجمع بعدم المساس بحقوق الإمبراطور القائم وهو هنري الرابع, على أن يحرم خلفاؤه من أي حق في اختيار الباباوات. ولم تلبث شهرة هلدبراند ومكانته أن أدت الى المناداة به بالإجماع لتولي منصب الباباوية سنة 1073م, تحت اسم جريجوري السابع, والواقع أن البابا جريجوري السابع لم يكن مجددا أو مبتكرا, ولم يسهم إلا بقسط ضئيل في نظرية السمو البابوي, لأن هذه النظرية قديمة جدا, ولكنه كان أول من طبق هذه النظرية في اصرار وعناد. ذلك أنه كان يقدر ضخامة مهمة البابوية وعظم رسالتها حتى قال: (انني لا أقبل البقاء في روما يوما واحدا إذا أدركت انني عديم الجدوى للكنيسة). وتتضح لنا نظرة جريجوري السابع الى الحكام الزمنيين ومكانتهم من رجال الدين في عبارته الشهيرة: (إن قوة الملوك مستمدة من كبرياء البشر, وقوة رجال الدين مستمدة من رحمة الله, إن البابا سيد الأباطرة لأنه يستمد قداسته من تراث سلفه القديس بطرس). أما خير ما يلخص آراءه الخاصة بعظمة الوظيفة البابوية, وسموها وسلطانها الروحي العالمي, فهي المجموعة التي تنسب اليه, والتي جمعت بعد وفاته بقليل (حوالي سنة 1087م). وتعرف هذه المجموعة باسم الادارة البابوية أو الأوامر البابوية, وأهم موادها ما يلي:

1-             البابا وحده هو الذي يتمتع بسلطة عالمية.

2-             البابا وحده يمتلك سلطة تعيين الأساقفة أو عزلهم.

3-             جميع الأمراء يجب أن يُقبّلوا قدم البابا وحده.

4-             للبابا الحق في عزل الأباطرة.

5-             لا يجوز عقد أي مجمع ديني عام إلا بأمر البابا.

6-             ليس لأي فرد أن يلغي قرارا بابوياً, في حين أنه من حق البابا أن يلغي قرارات بقية الناس.

7-             لا يسأل البابا عما يفعل ولا يحاكم على تصرفاته.

8-             للبابا أن يجيز لرعايا أي حاكم علماني التحلل من العهود وأيمان الولاء التي اقسموها لحاكمهم.(39)

   وهكذا يبدو من الآراء السابقة أن البابا جريجوري السابع آمن ايمانا قويا بأن البابا له السلطة العليا في حكم المجتمع المسيحي, حيث يرى أن الطريق الوحيد لإصلاح العالم وتخليصه من الفوضى والشرور, هو إخضاعه للكنيسة وإخضاع الكنيسة للبابوية, لذلك وجه جريجوري السابع مجمع روما سنة 1075م, نحو اتخاذ قرار حاسم بشأن التقليد العلماني, نصه:( ان أي فرد من الآن فصاعدا يتقلد مهام وظيفته الدينية من أحد الحكام العلمانيين, يعتبر مطرودا من هذه الوظيفة ومحروما من الكنيسة ومن رعاية القديس بطرس. وإذا جرؤ إمبراطور أو ملك أو دوق أو كنت, أو أي شخص علماني على تقليد أحد رجال الدين مهام وظيفته الدينية فأنه يحرم من الكنيسة فورا). وهكذا أخذت سياسته تنذر بصدام عنيف مع الحكام العلمانيين, فرفض وليم الفاتح ملك انجلترا الاعتراف بسيادة البابوية والتبعية لها. في حين لم يعبأ فيليب الأول ملك فرنسا بآراء البابا وطلباته واستمر في سياسته نحو الكنيسة. أما أباطرة ألمانيا فكان من الطبيعي ألا يقبلوا قرار جريجوري السابع العنيف الذي يمس سيادتهم واشرافهم على رجال الدين في بلادهم, ولا سيما أن نحو نصف أراضي ألمانيا وثرواتها كانت بأيدي رجال الدين, فكان معنى تنفيذ قرار البابا: خروج هذه الأراضي من قبضة الإمبراطور, الأمر الذي يجعل الحكومة الإمبراطورية ضربا من الشكليات أو المستحيلات.(40)

   وهنا نشير إلى أن جريجوري السابع عندما شرع في تنفيذ سياسته الإصلاحية العنيفة لم يعتمد على سلاح التشريع والأوامر البابوية التي أصدروها فحسب, وإنما اعتمد أيضا على سلاح قوي, وهو رجال الأديرة الكلونية, وهؤلاء كانوا قوة عظمى ساندت البابا في سياسته واعتمد عليهم في تنفيذها, كما اختار منهم مندوبيه ورسله إلى الزعماء العلمانيين والدينيين. وقد انتهت قصة النزاع هذه بانتصار البابوية بعد أن عجز الأباطرة عن اخضاع البابوية وادخالهم تحت سيطرتهم. ومن السهل الوقوف على أسباب انتصار البابوية, إذ ظل الأباطرة يستندون إلى أحلام الماضي ومجد أسلافهم القدامى, دون أن يحسبوا حسابا لروح العصور الوسطى - عصور الايمان والدين. أما الباباوات فكانوا يستندون إلى دعائم أقوى وأكثر تغلغلا في نفوس الناس, لأنهم استمدوا قوتهم من نفوذهم الروحي وما للدين من سلطان كبير على قلوب الأفراد.(41)

 

 

 

هذا ومن الله التوفيق

 

 

 

 

 

 

 

 

* المراجع:

1- ول ديورانت, ملخص قصة الحضارة, إعداد: سهيل ديب, ج/2, مؤسسة الرسالة, بيروت, 2002. ص: 416

2- جوزيف نسيم يوسف, تاريخ العصور الوسطى الأوربية وحضارتها, ط/2, دار النهضة العربية, بيروت, 1987. ص: 48

3- نفس المرجع, ص: 50

4- نفس المرجع, ص: 50

5- نور الدين حاطوم, تاريخ العصر الوسيط في أوربة, ج/1, دار الفكر, دمشق, 1982. ص: 60

6- نفس المرجع, ص: 131

7- محمود شاكر, موسوعة الحضارات وتاريخ الأمم القديمة والحديثة, ج/2, دار أسامة, عمان, 2002. ص: 495

8- ول ديورانت, مرجع سابق, ص: 417

9- كولتون, عالم العصور الوسطى في النظم والحضارة, ترجمة: جوزيف نسيم, دار المعارف, الاسكندرية, 1964. ص: 71

10- ول ديورانت, مرجع سابق, ص: 119

11- نفس المرجع, ص: 419

12- محمود شاكر, مرجع سابق, ص: 495

13- ول ديورانت, مرجع سابق, ص: 420

14- بيار غريمال وآخرون, أوروبا من العصور القديمة وحتى بداية القرن الرابع عشر, ج/1, ترجمة: أنطوان أ. الهاشم, موسوعة تاريخ أوربا العام, اشراف: جورج ليفه ورولان موسنييه, منشورات عويدات, بيروت – باريس, 1995. ص: 307

15- جوزيف نسيم يوسف, مرجع سابق, ص: 91

16- كولتون, مرجع سابق, ص: 69

17- جوزيف نسيم يوسف, مرجع سابق, ص: 92،156

18- كولتون, مرجع سابق, ص: 68‘79،84

19- سعيد عبد الفتاح عاشور, أوربا العصور الوسطى - الجزء الأول – التاريخ السياسي, ط/8, مكتبة الانجلو المصرية, القاهرة, 1997. ص: 342

20- نفس المرجع, ص: 343

21- محمود شاكر, مرجع سابق, ص: 496

22- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 521

23- ول ديورانت, مرجع سابق, ص: 424

24- بيار غريمال وآخرون, مرجع سابق, ص: 537

25- إدوار بروى وآخرون, تاريخ الحضارات العام - القرون الوسطى - ج/3, ترجمة: يوسف أسعد داغر وفريد م. داغر, ط/3, منشورات عويدات, بيروت - باريس, 1994. ص: 419

26- بيار غريمال وآخرون, مرجع سابق, ص: 543

27- نفس المرجع, ص: 545

28- ول ديورانت, مرجع سابق, ص: 425

29- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 521

30- كولتن, مرجع سابق, ص: 128

31- جوزيف نسيم يوسف, مرجع سابق, ص: 155

32- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 239

33- بيار غريمال وآخرون, مرجع سابق, ص: 395

34- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 340

35- جوزيف نسيم يوسف, مرجع سابق, ص: 157

36- نفس المرجع, ص: 157

37- نفس المرجع, ص: 166

38- سعيد عبد الفتاح عاشور, مرجع سابق, ص: 345

39- نفس المرجع, ص: 345

40- نفس المرجع, ص: 347

41- نفس المرجع, ص: 405

                     

اجمالي القراءات 25072