مقارنة بسيطة
فقيه قرآني ، وراو حنبلي

لطفية سعيد في الإثنين ٠١ - سبتمبر - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 

حتى لا يتهمنا البعض أننا لا نأتي إلا بالنماذج المخجلة  فقط من التراث ،  فقد آثرنا أن نأتي بنموذج لفقيه  قرآني ، (كان ولم يزل)  مثالا للتقوى والورع والعلم في نفس الوقت ، له آراء ينفرد بها دون بقية الفقهاء وخاصة فيما يتعلق بإعلاء القرآن عما عداه .... هذا الفقيه هو أبو حنيفة النعمان  ، سنعقد مقارنة بينه وبين ابن الجوزي الذي كان يتبع المدرسة الحنبلية المتشددة ، والتي أثرت في إرساء قواعد العنف والتطرف حتى يومنا هذا ، وستكون مقارنة بسيطة في موضوع واحد هو:( رفض المناصب والتقرب من الحكام)   وأحب أن أشير إلى أن كل ما احتجت إليه من مصادرتاريخية في هذا المقال  قد كان المرجع فيه إلى مقالات الدكتور أحمد صبحي المنشورة على موقع اهل.القرآن ...وسأبدأ بأبي حنيفة 

مكانته  : يعد الامام ...ابي حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي ، من أهم الشخصيات في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية ، والتي كان لها دور كبير وفعال في النهضة العربية الإسلامية فهو صاحب مدرسة فقهية كبيرة مازالت قائمة .

نشأته : نشأ أبو حنيفة بالكوفة وتربى بها، وعاش أكثر حياته فيها، متعلماً ومجادلاً ومعلماً، ولم تُبين المصادر حياة أبيه وحاله وما كان يتولاه من الأعمال، ولكن قد يُستنبط منها شيء من أحواله، فقد يستفاد منها أنه كان من أهل اليسار والغنى، وأنه كان من التجار، وأنه كان مسلماً حسن الإسلام

ما يميزه  : القرآن الكريم عند الإمام أبي حنيفة هو المصدر الأول والأعلى في مسائل الفقه، لأنه الكتاب القطعي الثبوت، لا يُشك في حرف منه، وأنه ليس يوازيه ولا يصل إلى رتبته في الثبوت  أي شيء آخر ...  لذلك لا يرى نسخ القرآن الكريم من السنة  طبعا .

رفضه منصب القضاء  :

عاش ابو حنيفة فى العصرين الأموى و العباسى ، وكان فيھما إماما عالى الشأن والصيت ، ولذا أراد الوالى الأموى على العراق وھو ابن ھبيرة أن يولى أبا حنيفة القضاء على الكوفة ، فرفض أبو حنيفة ، وصمم على موقفه ، فضربه ابن ھبيرة مائة سوط وعشرة أسواط كل يوم عشرةفلما رآه لا يفعل تركھ. لم يكتف ابو حنيفة برفض العمل مع الدولة الأموية بل شارك فى الثورة ضدھا ، ولكى ينجو منھم فقد ھرب الى مكة وغيرھا حيث عاش متنكرا ، ثم قامت الدولة العباسية لتحقق أمل العدل الذى كان يحلم به  الفقھاء والمثقفون أمثال أبى حنيفة ، وأحاط العباسيون أباحنيفة بالتكريم ، ولكن ما لبث أن أدرك أبو حنيفة أن الحكام الجدد على سنة الأمويين يسيرون ، فكانت محنة أبى حنيفة الثانية وھو فى شيخوخته  ، والتى انتھت بموته  مسموما فى السبعين من عمره . وكان من أسباب محنته  أنه رفض تولى القضاء . يقول ابن الجوزى فى تاريخه ( ثم إن المنصور أراده على القضاء فأبى ، فحلف ( الخليفة )ليفعلن فحلف أبو حنيفة أن لا يفعل . ) ( المنتظم 8 / ـ 144 وفيات 150.

ماذا فعل ابن الجوزي  حتى لايكون أبو حنيفة وحده  من رفض منصب القضاء  ؟ 

وحتى لا يكون وحده  من رفض منصب القضاء،    فقد عمد  ابن الجوزي الحنبلي  في كتابه (المنتظم ) إلى ذكر أمثلة لفقهاءعلى غير الحقيقة ، وزعم أنهم   رفضوا منصب  القضاء .. مثلهم مثل  أبي حنيفة حتى لا يختص بتلك المنقبة  دون غيره!!!!

وابن الجوزي هو أبرز من مزج التأريخ للحكام بالتأريخ للعلماء خصوصا علماء الحديث

ولقد تحامل ابن الجوزي فى تأريخه لأبى حنيفة ، وقام بالرد على أراء ابى حنيفة الفقھية بردود غير مقنعة تحمل الكثير من الاتھامات ، أى إن ابن الجوزى خلع رداء المؤرخ المحايد حين قام بالتأريخ لأبى حنيفة و ارتدى لباس الخصم الفقھى فاخذ يرد فقھيا فى كتابه  الذى ھو فى التاريخ وليس فى الفقه أو الحديث .

وفى نفس الوقت تجاھل كفاح  أبى حنيفة ضد الظلم ، وأوجزه  فى سطور قليلة  ، فمعاناة أبي حنيفة التي عاشها  بسبب مواقفه الشجاعة.  تستلزم مجلدات ، لأنها  على مدار عصرين الأموي  والعباسي  ....  وفى نفس الوقت نرى إسھاب  ابن الجوزى فى معاناة ابن حنبل فى قضية ( خلق القرآن،والتى لا شأن لھا بالجھاد ضد الظلم أو الوقوف دفاعا عن العدل والقسط ..

 

أما عن ابن الجوزي  فقد كان تأريخه لنفسه هو الدليل على حبه للتقرب من  الخلفاء ،  .. ولا يتجنى عليه احد  بل هو من كتب ذلك عن نفسه  يقول الدكتور أحمد صبحي منصور في  مقال : ( إبن الجوزى الحنبلى شيخ القصاصين ب5 ف 6) عما أرخه ابن الجوزي هو عن  نفسه  :

 ..

(فى السنوات الأخيرة التى سجلها ابن الجوزى فى المنتظم حرص على الـتأريخ لنفسه، ونعرض لفقرات مما قاله عن نقسه واعظا :

1 ـ فى خلافة المقتفى.  فى عام  552 ( وفـي شعبـان‏:‏ استـأذن الخليفـة ابـن جعفـر صاحـب مخـزن الإمام المقتفي أن أجلس في داره ، فأذن له ، فكنت أعظ فيها كل جمعة. )، أى كان يعظ رسميا منذ هذا العام فى ديوان الخلافة العباسية ( المخزن ).

2 ـ  فى خلافة  المستضىء ، وفى عام 570 : ( وتقدم إلي بالجلوس تحت المنظرة بباب بدر فتكلمت يوم الخميس بعد العصر خامس رجب ، وحضـر أميـر المؤمنيـن . واخذ الناس أماكنهم من بعد صلاة الفجر . ) يقول عن كثرة العوام الحاضرين : (  وكـان النـاس يقفـون يـوم مجلسي من باب بدر الى باب العيد ، كأنه العيد .‏) . هنا يحضر الخليفة بنفسه ويحتشد العوام فى الشوارع . ثم تنهال عليه الأعطيات والوظائف من السلطة الحاكمة التى وصفها من قبل فى ( تلبيس ابليس ) بالظالمين :

3 ـ وفـي 20 شعبان من نفس العام 570 تسلم ابن الجوزى الاشراف على مدرسة كانت دارًا لنظام الدين أبي نصـر بـن جهيـر . بعد وقفها على الحنابلة ، وألقى فيها ابن الجوزى درسا حضره الأعيان ،يقول عنه ( فحضر قاضي القضاة وحاجب الباب وفقهاء بغداد ، وخُلعت عليّ خلعـة ، وخرج الدعـاة بيـن يـديّ والخـدم ، ووقـف اهـل بغـداد مـن بـاب النوبـي الـى بـاب المدرسـة كمـا يكـون فـي العيد ، واكثر وكان على باب المدرسة الوف ، والزحام على الباب . فلما جلست لإلقاء الدرس عـرض كتـاب الوقـف علـى قاضـي القضـاة وهـو حاضر مع الجماعة فقرىء عليهم وحكم به وانفذه ، وذكرت بعد ذلك الدرس،  فألقيت يومئذ دروس كثيرة من الاصول والفروع . وكان يومًا مشهودًا. ) .

وجاء التطبيق ليكون نصرا للحنابلة فى وقت بدأ فيه نفوذهم ينحسر لصالح التصوف السنى . خصوصا مع بناء مكتب لهم أو ( دكـة ) يقول : ( فانزعج لهذا جماعة من الاكابر ، وقالوا ما جرت عادة للحنابلة بدك .! فبنيت ، وجلست فيها يوم الجمعة ثالث رمضان. ) ( ..وازدحم العوام حتى امتلأ صحن الجامع ، ولم يمكـن للأكثريـن وصـول الينـا ، وحفظ الناس بالرجالة خوفًا من فتنة .وما زال الزحام على حلقتنا كل جمعـة وكانـت ختمتنـا فـي المدرسـة ليلـة سبـع وعشريـن فعلـق فيهـا مـن الاضـواء ما لا يحصى واجتمع من الناس ألوف كثيرة فكانت ليلة مشهودة.)..(  ثم عقدت المجلس يوم الاربعاء سابع شوال تحت المدرسة فاجتمع الناس من الليل ، وباتوا وحزر الجمع يومئذ بخمسين ألفًا ، وكان يومًا مشهودًا‏.) 

‏4 ـ فى عام 571 فى 3 محرم : ( انه تقدم إلي بالجلوس تحت المنظرة الشريفة بباب بدر ، فتكلمت بكـرة الخميـس ثالـث المحـرم ، والخليفـة حاضر .وكان يومًا مشهودًا . ثم تقدم الي بالجلوس هنالك يوم عاشوراء، فأقبل الناس الى المجلـس مـن نصـف الليـل ، وكـان الزحـام شديدًا زائدًا على الحد ، ووقف من الناس على الطرقات ما لا يحصى . وحضر أمير المؤمنين وفقه الله‏. ) ( ‏وتقدم إلي بالجلوس ليلة رجب تحت المنظرة ، فاجتمع الناس ، فجاء مطر فمنع الحضور . فتقدم بالجلوس في اليوم الثاني ، فتكلمت ، وأمير المؤمنين حاضر . وامرنا بالبكور الى دعوة أمير المؤمنين ، فحضرنا بكرة السبت ، وحضر الوزير ابن رئيس الرؤساء وأرباب الدولـة والعلمـاء والمتصوفـة،  فأكلـوا . وانشـد ابـن شبيـب قصيـدة يمـدح فيهـا أميـر المؤمنيـن . وخـرج قاضـي القضـاة وأربـاب الدولـة بعد الأكل وخرجت معهم . وبات‏ ‏الباقون مع المتصوفة على سماع الانشاد .وفُرّق على الجماعة مال وخلع . وكان هذا رسمهم في كل رجب . ). يلاحظ وجود الصوفية الرسمى فى احتفالات الخلافة دليلا على أن الحنابلة فقدوا الانفراد بالساحة فى أواخر القرن السادس بعد قرون ثلاثة . ولكن صار للحنابلة حضور أقوى بزعامة ابن الجوزى ، فقد أصبحت له ندوة يقصّ فيها اسبوعيا بالتناوب مع القزوينى ، وقال أمير عباسى لابن الجوزى : (  والله ما احضر أنا ولا أمير المؤمنين غير مجلسك وانما تلمحنا مجلس غيرك يومًا وبعض يوم آخر‏.‏) .وأهدى له الخليفة هدية طريفة .

ويقول : ( وفي يوم الأربعاء سادس ذي الحجة صنع الوزير ابن رئيس الرؤساء دعوة وجمع فيها أرباب المناصب ، وحضر الخليفة،  فاستدعيت ، فخلعت علي خلعة . ونصب لي منبر في الدار، فتكلمت بعـد أن أكلـوا الطعـام ، والخليفـة حاضـر والوزيـر وجميـع أربـاب المناصـب وجميـع علمـاء بغـداد والفقهـاء والوعـاظ إلا النـادر . وخلـع علي خلعة . ثم تكلمت يوم عرفة ، وكان مجلسًا عظيمًا ، تاب فيه خلق كثير وقطعت شعورًا كثيرة وكان الخليفة حاضرًا‏. ) فهل تاب التائبون فعلا أم هو رياء وتظاهر ؟

5 ـ فى عام  572 : ( تقدم الي بالكلام تحت منظرة الخليفة بباب بدر فتكلمت يوم الاحد ثاني المحرم ، وحضر أمير المؤمنيـن . ثـم تكلمـت هنـاك يـوم عاشـرراء ، فامتـلأ المكـان من وقت السحر ، فطلع الفجر وليس لأحد طريـق ، فرجـع النـاس ، وامتلأت الطـرق بالنـاس أقيامـًا يتأسفون على فوت الحضور . وقام من يتظلم في المجلس فبعث أمير المؤمنين في الحال من كشف ظلامته‏.).

وفى نفس العام  ‏572 ( وفـي يـوم السبت غرة جمادى الاخرة‏:‏ عبرت الى جامع المنصور فوعظت فيه بعد العصر وعبر الناس من نهر معلى واجتمع اهل المحال فحزر الجمع مائة الف ورجعنا الى نهر معلى والناس ممتدون من باب البصرة كالشراك الى الجسر وكان يومًا مشهودًا‏.‏) (  ثـم تقـدم الـي بالجلـوس ببـاب بمـر تحـت المنظـرة يـوم الاثنين سلخ جمادى الاخرة ، فتكلمت فيه بعد العصر ، وأمير المؤمنين حاضر . وجرى مجلس مستحسن ، تاب فيه جماعة ، وقصت فيه شعور.) أى أيضا تظاهر الناس بالتوبة وقصّت شعورهم .!!.

بل ونافق ابن الجوزي الخليفة بقصيدة ركيكة ملأها نفاقا وتأليها.وألقاها بنفسه  (قارن وتذكر أيها القارئ أبا حنيفة ورفضه الانصياع لأمر الخليفة)  يقول ابن الجوزي راوي الحديث فيها :

:(  وذكرت خروجه الى الكشك في قصيدة انشأتها وهي‏:‏

يـا سيـد الخلـق وعيـن الاكوان ** خليفـة الله العظيم السلطان

ظهـرت للخلـق ظهـور البرهـان ** عاشت به ارواح اهل الايقـان

زيـن بـك البـر وزينـت اوطـان ** صدت القلوب حين صاعوا الغزلان

بحلمك الوافر بل بالاحسان ** والكشك قـد حقـر قمرالايـوان

هذا على التوحيد وضع البنيان ** وذاك مبنـي لأجـل النيران

حب بني العباس اصل الايمـان ** بنى الاله ولمحم في الجثمـان

الحجـر والبيـت لهـم والأركان ** أصبحت كالروح ونحـن ابـدان

الشـرع كالعين وانت اجفان ** الجود غصـن واحـد يـا بستـان

هذا مديحي وهو قدر الامكان ** وفي ضميري ضعف هذا الاعلان

عبيدكـه لا يشترى بأثمان ** وقد ملكتم رقه بالاحسان

سميت نفسي مذ خدمت سلمان ** لكن لساني في المديـح حسـان)

 

 

.. بين إمام رفض منصب القضاء وتعرض للتعذيب ولم يكتف برفض العمل مع الدولة الأموية  ، بل شارك فى الثورة ضد الدولة الأموية ، وأحاطه العباسيون

بالتكريم ، ولكن ما لبث أن أدرك  أن الحكام الجدد على سنة الأمويين يسيرون ، فكانت محنته

الثانية وھو فى شيخوخته والتى انتھت بموته  مسموما فى السبعين من عمره . وكان من أسباب محنته أنه

رفض تولى القضاء. (. وهو الإمام أبو حنيفة  وهو في غني عن التعريف )

. أما ابن الجوزي فقد أرخ لنفسه  تقربه للخلفاء وهو واعظ ...  بل  وإلقاء الشعر في تأليه الخليفة  ،  و.. وتفاخر بتقربه من الخلفاء وأخذه الأعطيات ...

وبعد ...هذه لفتة بسيطة عن  فقيه ،قرآني     ، وراو  حنبلي  ...

اجمالي القراءات 13961