التقوى المقصد الأسمى لتشريع الميراث فى القرآن الكريم

آحمد صبحي منصور في الأحد ١٢ - يناير - ٢٠١٤ ١٢:٠٠ صباحاً

التقوى المقصد الأسمى لتشريع الميراث فى القرآن الكريم

من الحياة :

1 ـ أعرف شيخا أزهريا سلفيا ، كان الأخ الوحيد لأخواته البنات ، ورثن معه قطعة أرض ومنزلا واسعا . بذل كل وسعه حتى حرم اخواته البنات من معظم إرثهنّ . إشترى حقوقهن فى الأرض بثمن بخس . هذا مع إنه هو الذى كان محل الرعاية من والديه وأخواته . ثم بعدها مات فجأة ورحل  يحمل ظلمه لأرحامه .

2 ـ أعرف شيخا معلما فى التعليم الأزهرى أكل حقوق أخيه الأصغر وميراثه من أبيهما فى حياة هذا الأخ الأصغر الذى لم يكن يجرؤ على مناقشة أخيه . تزوج هذا الأخ الأصغر ثلاث مرات وفشل فى زواجه بسبب تحكم أخيه الأكبر فى حياته . وأنجب من كل زوجة بنتا ، ثم مات  تاركا ثلاث بنات يتامى . وإستحوذ الأخ الأكبر على التركة كلها . وكانت حياته فى حب أولاده ، وقرر أن يوزع عليهم أمواله فى حياته بما فيها الأرض الزراعية ليضمن عدم تنازعهم مع بعضهم ، وحتى يقطع الطريق على أى أمل لبنات أخيه اليتامى فى حق أبيهن الضائع . أتذكر أننى نصحته ووعظته فرفض النصيحة . ثم حدث أن تمرد عليه إبنه الأصغر وتطاول عليه ، وامتدت يد الابن على أبيه بالضرب . أفاق هذا الشيخ المعلم الأزهرى ، وهو يقارن بين أخيه الشقيق الذى كان لا يجرؤ على مناقشته وينكّس رأسه فى حضرته توقيرا له و بين إبنه الأصغر الذى ( ضربه وأهانه ) فى شيخوخته . قرر أن يتوب ، وفعلا قام بكتابة عقود بيع لبنات أخيه اليتامى أعطى بها لهن حقوقهن فى الأرض وفى البيت طبقا للشرع الالهى فى الميراث ، وسلّم كل بنت حقها فى حياته . ومات راضيا سعيدا .

3 ـ شيخ آخر سلفى كان واعظا مرموقا ، وإشتهر بالبكاء وهو يقرأ القرآن  إماما فى الصلاة . بسبب شهرته بالصلاح والتدين الظاهرى تم إختياره وصيا على طفل يتيم ثرى . قبل ان يبلغ اليتيم ويتجهّز ليتسلم ثروته كان الشيخ الواعظ  قد اضاع معظمها ، وباسلوب نصّاب محترف حوّل ميراث اليتيم الى رصيده البنكى . وظل هذا الشيخ يعظ ويبكى، وقد كتبت عنه مقالا فى التسعينيات بعنوان(الشيطان يعظ ).

4 ـ دعنا نتخيل تاريخ جوهرة ثمينة . منذ العثور عليها ويتنازع الناس حولها ويتقاتلون ، والذى يستحوذ عليها يظل فى دفاع عنها ليرثها أبناؤه من بعده ، وتظل الجوهرة بحالها تنتقل من شخص الى شخص ، يرثها هذا عن ذاك ، وتتنقل من هذا الى ذاك ، ويموت هذا تاركا إياها لذاك ، ويظل التصارع حولها ، ويظل توارثها ، وهى بحالها .. لم يفكر أحدهم فى جدوى هذا الصراع ..ولم يفكر أحدهم أنه سيموت تاركا تلك الجوهرة . بالضبط كما لم يفكر الحريصون على وراثة قطعة الأرض الزراعية أن تلك الأرض الزراعية هى هى من آلاف السنين ، يتنازع على وراثتها اشخاص من كل جيل ، ثم يموت الوارث ، بعد الوارث ، ويتحول الى تراب مدفون داخل تلك الأرض  ، يأتى أحدهم لا يتعظ بمن سبقه ، ويموت، وهكذا ، تبقى الأرض يتصارعون حولها ثم يموتون داخلها ، ويستمر التنازع مع الظلم واكل الميراث بالباطل .

5 ـ نفس الحال فى المناصب ووراثة الحكم . الذى يصل الى الكرسى يتمسك به فى لوثة عقلية غير مفهومة . تتعلق مؤخرته بالكرسى ويناضل لكى يحتفظ به حتى الموت . لا يدرك أن هذا الكرسى  ( لو دام لغيره ما وصل اليه ). وهكذا العمارات والبيوت والأراضى الزراعية .. كل هذه ( الأعراض ) الدنيوية لا تدوم لأحد . ومن الحُمق أن يدخل الفرد منا الجحيم خالدا مخلدا بسبب هذا المتاع الزائل . هذا المتاع الزائل سيترك الانسان بالخسارة ، وسيتركه الانسان بالموت . فى كل الأحوال هو متاع زائل . فهل يساوى أن ندفع من أجله خلودا فى الجحيم ؟.هنا نتذكر قوله جل وعلا :( وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)  آل عمران ).

بين صلة ارحم وأكل أموال الورثة .

1 ـ الظلم فظيع ،ولكن أفظع أنواع الظلم هو الذى يأتى من أقرب الناس ؛ من الأخ الأكبر حين يأكل ميراث إخوته الصغار ، والأخ القوى حين يأكل حق أخته الضعيفة . وهذا الظلم الفظيع هو الشائع بين المسلمين ، وقد أسميته فى مقال سبق بثقافة العبيد . ومن ملامحها أنه قلّما تأخذ البنت حقها فى الميراث ، وقلما يعدل الأخ الأكبر ويرضى بالتساوى مع أخوته الذكور الأصغر منه ، وان يعطى أخواته البنات حقوقهن .

2 ـ و فى الوقت الذى يُفترض فيه إسلاميا الإحسان الى ذوى القربى فإن الأقرب من مستحقى الميراث يتعرضون لسلب الحقوق فى الميراث . إنّ الاحسان الى ذوى القربى يعنى أن تعطيهم حقا لهم من ثروتك الشخصية ودخلك الشهرى والسنوى . إن الله جل وعلا يأمر بالاحسان للوالدين وذوى القربى : ( وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ )(36) النساء ) ، ويأمر بأن يأخذوا حقوقهم من مالك ورزقك ودخلك ونتاج عرقك وتعبك : ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) النحل ) ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) الاسراء )( فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (38) الروم )، ويقول جل وعلا عن حقوقهم فى الصدقة الفردية : ( يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) البقرة ) . هذه ( حقوق ) لهم فى مالك وواجب أن تعطيهم حقوقهم من مالك، فكيف بك تأكل أموالهم المستحقة لهم فى الميراث ؟. إنّ السائد لدى المسلمين فى ( أكل ) حقوق ذوى القربى فى الميراث يتناقض كليا مع الأمر الالهى بالاحسان اليهم وإعطائهم حقوقهم فى دخل المؤمن وثروته التى يكتسبها .

كفى بالموت واعظا

الميراث يعنى أن تأخذ مالا من ثروة شخص مات تربطك به قرابة وثيقة ، أى كنت تعايشه وتعرفه ، وترى سعيه وحرصه على جمع المال ، ثم تراه وقد مات أمام عينيك وغاب ولم يعد فى الدنيا ، تاركا لك ولأقاربه المال الذى أرهق نفسه فى جمعه ورعايته . العاقل يعتبر بالموت ، ويراه فيه واعظا ، ويتحقق  نفسه ميتا إن آجلا أو عاجلا . وهو حين يرث الميت يتيقن أنه نفسه سيموت تاركا ثروته للآخرين ، أى إنه ( وارث ) اليوم و ( موروث ) غدا ، وسيخرج من الدنيا بكفن بلا جيوب . أى عليه أن يتعظ بالموت الآتى حتما والذى لا مفرّ منه ، وأن يعمل لما بعد الموت ، حيث يوم الحساب والخلود فى الجنة أو الخلود فى النار . وكل عذاب الدنيا لا يساوى دقيقة فى عذاب الجحيم ، وكل متاع الدنيا لا يُقارن بلحظة نعيم فى الجنة . فكيف بالخلود هنا أو هناك .. عند عذاب الآخرة سيتمنى الظالم أن يفتدى نفسه بكل ما فى الأرض لو كان يملك هذا ، ولن يكون للظالم وقتها سوى الندم : (وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )(47) الزمر).

آيات التقوى فى تشريع الميراث

بهذا نتعرف على أهمية التقوى ، فهى المقصد الأعظم فى العقيدة والايمان القلبى والعبادات ( أى حق الله جل وعلا علينا ) . والتقوى ايضا هى المقصد الأساس فى حقوق الناس ، ومنها الميراث . وبغياب التقوى لا يمكن تطبيق شريعة الميراث بالعدل والاحسان كما أمر رب العزة . ومن أجل هذا يأتى تشريع الميراث محمّلا بالوعظ بالتقوى والترهيب من النار . ونأخذ أمثلة :

1 ـ نرجع للشيخ الواعظ البكّاء الوصى الذى أكل ميراث اليتيم ، ونقرأ قوله جل وعلا : ( وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) النساء ). هنا الله جل وعلا هو الحسيب ، وكفى به جل وعلا حسيبا . ولو نجح الشيخ الواعظ فى خداع ( المجلس الحسبى ) فلن ينجو من الله جل وعلا الحسيب على كل شىء والرقيب على كل شىء. 

2 ـ والذى يقترب منه الموت وله ذرية من الصغار يخاف عليهم ، فعليه أن يتقى الله جل وعلا ليحفظ الله جل وعلا  ذريته بعد موته :( وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) النساء ). وقد حفظ الله جل وعلا  كنزا لرجل صالح ليكون الكنز للغلامين ورثة ذلك الرجل الصالح عند بلوغهما : ( وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي )(82) الكهف )

3 ـ وفى تحذير شديد لمن يأكل أموات اليتامى ظلما ، جاء ضمن تشريع الميراث قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) النساء ) من منكم يرضى أن يظل يأكل فى بطنه نارا ويصلى سعيرا ؟

4 ـ وسيكون فى هذا السعير يأكل النار فى بطنه خالدا مخلدا . ففى نهاية تشريع الميراث يقول جل وعلا: ( تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14) النساء ). هنا الخلود فى النار سيكون لبلايين ( المسلمين ) الذين تعدُّوا حدود الله جل وعلا وأكلوا حقوق الورثة . أى إن أكل حقوق الورثة يساوى الكُفر بالله جل وعلا ، لأن مصير الكافر الخلود فى النار أيضا . أى إن كل صلاتك وصيامك ونسكك وحجّك وصدقاتك ستضيع هباءا وستدخل النار خالدا مخلدا فيها لو أكلت حق الورثة . 

5 ـ بقى أن نعلم أن حقوق الورثة تشمل كل قرش وكل درهم وكل ذرة حق . يقول جل وعلا : (لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) النساء ) . يعنى الحق فى التركة يشمل كل صغيرة وكبيرة ، مما قلّ منه أو كثر، نصيبا مفروضا ..يعنى لو كانت التركة خمسين جنيها فلا بد من أن تأخذ فيها النساء مستحقات حقوقهن ولو بضع جنيهات . لا فارق بين خمسين جنيها وخمسين مليار جنيه . نحن لا نتحدث هنا عن مقدار التركة ، ولكن عن ( حدود الله ) أو تشريعات الله جل وعلا ، ومن يتعدّاها فهو خالد فى النار ، مهما صغُر مقدار التركة ومهما طالت اللحية وتعاظمت الزبيبة .!.

6 ـ وقبل أن نتعمّق فى تشريعات الميراث يجب القول بأن تطبيقها فى واقع المسلمين ضئيل جدا .. لأن التقوى غائبة فى قلوب المسلمين ، فقد أضاعتها وحلّ محلها الايمان باساطير الشفاعة ، وطالما يعتقدون فى شفاعة النبى ويضمنون بها الجنة مقدما فإن الظلم هو السائد . واقرب الناس اليك هم أكثرهم تعرضا لظلمك ..وبدلا من أن تجد الأخت الحماية والشهامة من أخيها تراه يأكل حقها فى الميراث بلا خجل ، بل ويرى المجتمع الفاسد يؤيده ويرى ذلك حقا له .

من هنا فالتقوى هى المقصد من تشريعات الميراث ، وبدونها لا يرث المسلمون إلا ظلما متداولا ، جيلا بعد جيل ، يأكل القوى الضعيف داخل الأسرة الواحدة ، حتى لو كان الضعيف طفلة يتيمة مكسورة الجناح . لقد ( ورثوا الكتاب ) ولكن إتّخذوه مهجورا ، ومنها تشريعاته فى الميراث . فبرغم المكتوب عن الميراث فى عشرات الألوف من الصفحات فى الفقه السّنى فلا تجد إشارة الى التقوى ، المقصد الأسمى للتشريع فى الميراث وغيره .

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلىّ العظيم .

اجمالي القراءات 12866