الحنابلة وإفتراء الأحاديث : فى الدفاع عن المتوكل : ب3 ف 5 / 10

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٤ - نوفمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

النبى لا يشفع يوم الدين :( كتاب الشفاعة بين الاسلام والمسلمين )

الباب الثالث :  تتبع موضوع الشفاعة فى تاريخ المسلمين الدينى

الفصل الخامس: الأرضية التاريخية التى نبتت فيها أساطير الشفاعة :

الحنابلة وإفتراء الأحاديث  : فى الدفاع عن المتوكل   : ب3 ف 5 / 10

أولا : أهمية إفتراء الحديث للحنابلة

1 ـ إحتاجت الحنبلية الى نشر دعوتها بإفتراء الأحاديث بكل أنواعها ، أحاديث نبوية منسوبة للنبى، و أحاديث قدسية منسوبة لله جل وعلا ، وأحاديث منامات يزعمون فيها رؤية النبى أو رؤية الله جل وعلا والحديث معه. واستخدوا هذا الأفك الدينى فى مدح الخليفة المتوكل والدفاع عنه ، وفى مدح قادتهم ، وفى الهجوم على خصومهم المعتزلة الذين تعرضوا للقضاء عليهم بفعل المتوكل . وبهذا أسس المتوكل والحنابلة دينا سُنيّا متطرفا متشددا متزمتا منحل الأخلاق متعديا ظالما. ولهذا فإن ما ارتكبه المتوكل من إضطهاد أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) والمعتزلة والشيعة لا يزال ساريا حتى الآن ، إذ قامت السعودية بوهابيتها بإحياء الدين الحنبلى ونشره بين المسلمين على انه الاسلام ، وحيثما يسيطرالوهابيون الحنابلة تجد معاناة الأقليات الدينية والمذهبية .

2 ـ نشر الحنابلة لدينهم الأرضى معززا بسلطة الخليفة المتوكل أدى الى دخول المزيد والمزيد من أهل الكتاب الى ( السُّنة الحنبلية ) لينجو بأنفسهم من الاضطهاد ، ومثلا ، فى سنة 204 ألزموا ( أهل الذمة بتعليم أولادهم السريانية والعبرانية ومنعوا من العربية ونادى المنادي بذلك ، فأسلم منهم خلق كثير ‏.‏). ومتى دخل أحدهم الاسلام فلا مجال للرجوع لأنّ ( حد ّ الردّة ) يقف له كالكلب العقور . وبالتالى يموت على الدين الجديد الذى إعتنقه ، ويرث أولاده وأحفاده الدين الجديد . ومن هنا تعاظم دخول السكان فى ( الاسلام ) بزعمهم ، وأدى هذا الى المزيد من التهميش والاضطهاد لأهل الكتاب . لأن هذا الاضطهاد أصبح بالأحاديث المفتراة شريعة دينية . وكان سهلا إستخدم  قادة الحنابلة الحديث فى نشر دينهم بين العوام  الذين لا يستعملون عقولهم ، فإذا قيل ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ..) أسرعوا بالتصديق والإذعان . ولا يزال هذا ساريا حتى الآن .

3 ـ وباستخدام صناعة الحديث تم الانتصار للحنابلة على المعتزلة ، ليس فقط لأن العوام إنحازوا لأهل الحديث لأنهم وجدوا فى الحديث إستجابة لأهوائهم ولأنه يتيح لهم ان يكونوا ( علماء وفقهاء ) بمجرد السماع والحفظ وإصطناع الكذب ، ولكن أيضا لأن المعتزلة بمنهجهم العقلى الجدلى كانوا ينسبون آراءهم الى أنفسهم ـ إن خطأ وإن صوابا ـ ويعتمدون على قوة الحجة والاستدلال النظرى الذى يستوجب أن يكون الخصم على نفس الدرجة من الذكاء والمعرفة والثقافة ومتبعا نفس المنهج العقلى الاستدلالى . وبعلوّ نفوذ العوام الجهلة كان الأبغض لهم هذا المنهج ، وكان الأسهل لهم هو إتباع أئمتهم الذين كانوا يصيغون الرأى فى صورة حديث ، فإذا قال المعتزلة رأيهم بالاستدلال بالقرآن واجههم الحنبلى بحديث يقول ( قال صلى الله عليه وسلم كذا ) جاعلا رأيه دينا  لابد من الانصياع اليه بلا مناقشة ، فإمّا أن تنصاع وتؤمن ، وإمّا أن تناقش وتعارض فتكون كافرا حلال الدم .

4 ـ ولقد كان الجاحظ المتوفى عام  255 من أعلام المعتزلة ومن نجوم عصره بذكائه وتصنيفاته ، والتى لا تزال مبهرة للمثقفين حتى الآن . عاصر الجاحظ أحد جامعى القمامة وأحد منتجيها ، ولم يكن معروفا فى وقته ، ولكن سيطرة العوام وجهل العوام ما لبث أن رفع جامع القمامة هذا بعد موته الى درجة التأليه ، وجعل القمامة التى جمعها وأنتجها فوق مستوى القرآن الكريم . جامع القمامة هذا هو ( إبن برزويه ) المجوسى الأصل المشهور بالبخارى والمتوفى بعد عام واحد من وفاة الجاحظ ، عام 256 . والسبب أن البخارى كان أكثر من سجّل أساطير الشفاعة ونسبها للنبى فأصبحت دينا ، وهذه الأساطير تسوّغ العصيان وتبشّر العُصاة بالجنة مهما إرتكبوا من آثام بشفاعة ( محمد ) طالما كانوا من ( أمة محمد ) . هذا يتواءم مع أهواء العوام ومع جهل العوام ، ومع عقليتهم التى تتركّز فى نصفهم الأسفل تاركة النصف الأعلى خاويا خاليا . ومن هنا مات الفكر المعتزلى وظل الكذب الحنبلى لأنه أصبح دينا ( أرضيا ) انتشر بين العوام وهم الأغلبية الساحقة من الناس . كانوا عدة ملايين فى عصر المتوكل ، وهم الان مئات الملايين فى عصرنا ، يعيدون إنتاج الماضى العقيم فى عصر الثورة العلمية وحقوق الانسان والديمقراطية . وخلال أربعين عاما من سيطرة الوهابية الحنبلية على مصر أنتجت لنا عشرات الملايين من المهاويس المتاعيس . ودائما ، وعندما يسيطر الدين الأرضى على مجتمع بشرى فإنه يتقدم به الى الخلف .

ثانيا : السّنة دين أرضى يملكه أصحابه ويصنعه أصحابه

1 ـ وإستخدام الحنابلة صناعة الحديث جعلهم مالكى هذا الدين ومالكى التوسّع فيه حيث شاءوا ، فإذا كان الاسلام قد إكتمل بالقرآن ، فإن دينهم الأرضى لم ولن يكتمل لأن أبواب الكذب والاختلاق مفتوحة الأبواب لكل من يستطيع أن يؤلف إسنادا يزعم فيه أن سمع فلانا عن فلان فلان أن رسول الله قال ( كذا )..ويفترى ما يشاء من ( كذا ). وبهذا إستمرّ توسع الدين السّنى وتضخّمت أحاديثه ، عبر صناعة الاسناد .

2 ـ قلنا إن أهل الحديث فريقان ، إئمة تخصصوا فى إفتراء الحديث ، يصنعون له الإسناد والعنعنة ويصنعون متن الحديث ، يقولون ما يشاءون وينسبونه للرسول أو لله جل وعلا . ثم عوام أهل الحديث الذين يسمعون الحديث من أولئك الأئمة ويكتبونه وينشرونه بمتنه وإسناده . وقلنا إن احمد بن حنبل فى حقيقته كان من ( عوام أهل الحديث ) ولكن الظروف إرتفعت به لتجعله ـ رغم أنفه ـ من قادة الحديث بل وصاحب مذهب فقهى . وإنتسبت اليه الحنبلية أو الحنابلة المتشددون فنسبوا له ما لم يقله فى الحديث والفقه والمنامات والكرامات .

3 ـ والشىء المثير للإنتباه أن قادة أهل الحديث فى العصر العباسى الثانى كانوا كلهم ـ إن لم تكن الأغلبية الساحقة منهم ـ من أهل فارس . دخلوا فى السّنة باسم الاسلام مع كفرهم بحقيقة الاسلام ، إذ دخلوه بأديانهم الأرضية ، وبعثوا هذه الأديان الأرضية من مرقدها فى صورة أحاديث ومنامات ، يقفزون بها الى درجة التخاطب مع الله جل وعلا والوحى . أى دخلوا فى الاسلام وخرجوا منه فى نفس الوقت، ينطبق عليهم قوله جل وعلا: ( وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) (61)( المائدة ).

والشىء المثير للعجب هو ذلك الفارق الشاسع بين أولئك الفرس فى العصر العباسى الثانى وعصر النبى فى المدينة . فجوة زمنية وثقافية وحضارية وجغرافية مكانية . ومع ذلك أمكن تجاوز هذه الفجوة وعبورها بأصطناع ( الاسناد ) الذى صدّقه العوام ـ ولا يزالون .

ويزول العجب عندما نعلم أن السبب هو المال والنفوذ ، أو السلطة والثروة . فأبناء الفرس الذين دخلوا فى دين السّنة أفواجا كانوا يحتاجون للثروة والسلطة والجاه بقدر ما كانت الدولة العباسية تحتاجهم كهنوتا دينيا لها فى دولتها الدينية . ففتحت لهم أبواب الرزق والمناصب ، وكانوا الأصلح لها ليس فقط لأنهم الأحوج لذلك بعد إضطهاد أجدادهم فى الدولة الأموية ، ولكن أيضا لأنهم بثقافتهم الحضارية أكثر تأهيلا ، لذا نبغ ابناء الحرفيين الفرس وابناء المدن الفارسية ، وقادوا العلم الحقيقى فى الطب والهندسة والفلسفة كما قادوا (العلم الكاذب ) فى الأحاديث بإصطناع الاسناد ونسبة أقوالهم للنبى عليه السلام .

4 ـ ولقد كان إبن المدينى الفارسى الأصل ( 161 : 234 ) اشهر شيوخ أحمد بن حنبل ، وقد جاءت ترجمته الكاملة فى ( المنتظم ) لابن الجوزى ( ج 11 / 214 : 219  ) . ومنها نعرف أن ابن المدينى هو شيخ أهل الحديث فى عصره ، سمع منه وروى عنه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ، والبخارى ، وكانا ( ابن حنبل والبخارى ) يقدسان شيخهما ابن المدينى . وكان أحمد بن حنبل ( لا يسميه وإنما يكنيه تبجيلًا له ) أى لم يكن ينطق إسمه تبجيلا له . وقال البخاري‏:‏ ( ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني )‏.‏ ويقول :" رأيت علي بن المديني مستلقيًا وأحمد بن حنبل عن يمينه ويحيى بن معين عن يساره وهو يملي عليهما ‏.‏ ".وقالوا ( كان الناس يكتبون قيامه وقعوده ولباسه وكل شيء يقول ويفعل أو نحو هذا ‏.‏ ) . وكان ابن المدينى عميلا للدولة العباسية يفترى لها الأحاديث بأجر . ولذلك وافقهم فى موضوع خلق القرآن بينما عارضهم تلميذه ابن حنبل ، فارتفع ابن حنبل وهوى ابن المدينى الى قاع النسيان . يقول ابن الجوزى عنه : (  والذي منع ابن المديني من التمام ( اى تمام المكانة بين أهل الحديث ) إجابته في خلق القرآن ،  وميله إلى ابن أبي دؤاد لأجل حطام الدنيا ، فلم يكفه أن أجاب ، فكان يعتذر للتقية ، وصار يتردد إلى ابن أبي دؤاد ، ويظهر له الموافقة ‏.‏ ). أى أجاب الدولة العباسية فى رأيها ، وظل يتردد على القاضى المعتزلى ابن أبى داود حرصا على عطاياه المالية ( أو حُطام الدنيا ) مبررا موقفه لأهل الحديث بأنها التّقية .

5 ـ وفى محنة ابن حنبل والتحقيق معه فى موضوع خلق القرآن أمام الخليفة المعتصم برز على السطح موضوع رؤية الله جل وعلا . وأهل الحديث يجيزونها بل وتمتلىء مناماتهم برؤية الله جل وعلا إفكا وظلما وعُدوانا ، بينما ينفى ذلك المعتزلة ، ولهم أدلتهم من القرآن الكريم . وردا على المعتزلة فى إنكار رؤية الله جل وعلا صنع أهل الحديث أحاديث تجيز الرؤية . ويروى ابن الجوزى فى المنتظم ، أنه فى محاكمة ابن حنبل  إتهم القاضى ابن أبى داود ( ابن حنبل ) فقال للمعتصم : (‏" يا أمير المؤمنين هذا يزعم - يعني أحمد ابن حنبل - أن الله تعالى يرى في الآخرة ،والعين لا تقع إلا على محدود والله لا يُحدّ "‏.‏ فقال المعتصم‏ لابن حنبل :‏ ما عندك في هذا؟ فقال‏ ابن حنبل :‏ يا أمير المؤمنين عندي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ قال‏:‏ وما قال عليه السلام ؟ قال‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر غندر حدثنا شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي قال‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أربع عشرة من الشهر فنظر إلى البدر فقال‏:‏ ‏"‏ أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا البدر لا تضامون في رؤيته ‏"‏ ‏). ولم يكن المعتصم مثقفا كأخيه المأمون من قبله ، لذا إرتبك حين سمع الحديث، ( فقال لأحمد بن أبي دؤاد‏:‏ ما عندك في هذا .؟ قال‏:‏ أنظر في إسناد هذا الحديث ‏.‏ ) يعنى أن ينظر ابن أبى داود فى إسناد الحديث بمنهج (الجرح والتعديل ) . وبعث ابن أبى داود فاستدعى ابن المدينى ورشاه بعشرة آلاف درهم وغيرها حتى إستجاب له ابن المدينى وقدح فى إسناد الحديث . وتمضى الرواية فتقول : ( وكان هذا في أول يوم. ثم انصرف . فوجه ابن أبي دؤاد إلى علي بن المديني ، وهو مملق لا يقدر على درهم ، فأحضره ، فما كلمه بشيء حتى وصله بعشرة آلاف درهم .وقال له‏:‏ "هذه وصلك بها أمير المؤمنين ". وأمر أن يدفع إليه جميع ما استحق من أرزاقه . وكان له رزق سنتين . ) نتوقف هنا لنشير الى أن قادة أهل الحديث ـ ومنهم ابن المدينى ـ كان لهم عطاء أو مرتب من الدولة باعتبارهم كهنوتها الذين يؤلفون لها الأحاديث . ولكن عندما خالف بعضهم رأى المامون والمعتصم فى خلق القرآن حرمتهم الدولة من هذا المرتب أو العطاء ، فانقطع عطاء ابن المدينى مدة عامين فصار فقيرا مملقا . وانتهز الفرصة القاضى ابن أبى داود وساوم ابن المدينى على أن يرد اليه عطاءه ومرتباته بأثر رجعى ويعطيه الكثير من الأموال مقابل أن ينفى حديث الذى إستشهد به ابن حنبل . وقبل أن يتكلم معه أعطاه عشرة آلاف درهم ، ودفع مستحقاته الموقوفة مدة سنتين ، مقابل كلمة من ابن المدينى يسقط بها هذا الحديث لأن ابن المدينى أحد ( صُنّاع الحديث أو أحد صُنّاع الدين السّنى ) . نعود لرواية ابن الجوزى وهو يحكى ما دار بين ابن أبى داود وابن المدينى ( فوجه ابن أبي دؤاد إلى علي بن المديني ، وهو مملق لا يقدر على درهم ، فأحضره ، فما كلمه بشيء حتى وصله بعشرة آلاف درهم .وقال له‏:‏ "هذه وصلك بها أمير المؤمنين ". وأمر أن يدفع إليه جميع ما استحق من أرزاقه . وكان له رزق سنتين . ثم قال‏:‏ " يا أبا الحسن حديث جرير بن عبد الله في الرؤية ما هو؟ "  قال‏:‏ صحيح . قال‏:‏ " فهل عندك فيه شيء" قال‏:‏ " يعفيني القاضي من هذا " ‏.‏ فقال‏:‏ " يا أبا الحسن هو حاجة الدهر".  ثم أمر له بثياب وطيب ومركب بسرجه ولجامه ، ولم يزل به حتى قال له‏:‏ " في هذا الإسناد من لا يعتمد عليه ولا على ما يرويه ، وهو قيس بن أبي حازم . إنما كان أعرابيًا بوالًا على قدميه ‏.‏" فقام ابن أبي دؤاد إلى ابن المديني فاعتنقه . فلما كان من الغد وحضروا ، قال ابن أبي دؤاد‏:‏ "يا أمير المؤمنين هذا يحتج في الرؤية بحديث جرير، وإنما رواه عنه قيس بن أبي حازم ، وهو أعرابي بوّال على عقبيه ‏.‏ ). وبهذا أسقط ابن أبى داود الحديث بشهادة ابن المدينى الذى يزعم أن قيس بن حازم كان إعرابيا يبول على قدميه ، فكيف عرف هذا وقد مات قيس هذا فى العصر الأموى عام 84 ، بينما ولد ابن المدينى عام 161 . ولم يرد فى ترجمة قيس هذا أنه كان يبول على قدميه ، فهل رآه ابن المدينى يبول على قدميه ؟ وما هى الصلة بين بوله على قدميه وصدقه أو كذبه ؟ . الطريف أن ابن الجوزى حاول الدفاع عن ابن المدينى فروى رواية بلا إسناد : (  وقد روى جماعة عن علي بن المديني أنه قال‏:‏ إنما أجبت تقية ،وخفت السيف ، وقد حبست في بيت مظلم ثمانية أشهر، وفي رجلي قيد فيه ثمانية أمنان، حتى خفت على بصري‏.‏ ). لو حدث هذا فعلا لكان قد إنتشر وتم تسجيله .

6 ـ المستفاد من هذا أننا أمام دين يملكه أصحابه ، يختلفون فيه ، ويرتزقونه به ، يصنعون له الإسناد كذبا وزورا ، ويختلقون له الموضوعات . حسب أغراضهم ، ومنها تزكية أنفسهم وقادتهم ، وتشويه وتكفير خصومهم ، بإختراع المنامات .  

ثالثا :  صناعة منامات فى الدفاع عن المتوكل

1 ـ كان المتوكل أسوا خلفاء بنى العباس ـ وربما يكون الأسوأ فيهم ، ومع ذلك فقد رفعته الدعاية السّنية الحنبلية الى منزلة أبى بكر وعمر بن عبد العزيز . فقال بعضهم : ( الخلفاء ثلاثة أبو بكر الصديق ، قاتل أهل الردة حتى استجابوا . وعمر بن عبد العزيز رد مظالم بني أمية . والمتوكل محا البدع وأظهر السنة‏.‏ ). ( محا البدعة ) يعنى قضى على المعتزلة وإستأصلهم كما فعل أبو بكر مع حركة الردة .!!

2 ـ وروى علي الجهم قال‏:‏( وجه إلي أمير المؤمنين المتوكل ، فأتيته فقال لي‏:‏ " يا علي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقمت إليه فقال لي‏:‏ تقوم إلي وأنت خليفة. " فقلت له‏:‏ أبشر يا أمير المؤمنين أما قيامك إليه فقيامك بالسنة، وقد عدك من الخلفاء ، فسُرّ بذلك ‏.‏ ). الكذب واضح فى صياغة هذه الرواية ، ولكن المُراد منها إعتراف النبى فى المنام بالمتوكل خليفة .

3 ـ وكان المتوكل ( يقوم الليل ) شاربا للخمر متهتكا مع جوارية ( ثلاثة آلاف جارية ) وقد قتلوه وهو يمارس معصية الشراب. ومع هذا تجرّد الحنابلة للدفاع عنه بأكاذيب من نوعية أن ماء زمزم قد غارت حزنا على قتل المتوكل ليلة قتل المتوكل : ( .. أخبرني بعض الزمازمة الذين يحفظون زمزم قال‏:‏ غارت زمزم ليلة من الليالي .فأرخناها ، فجاءنا الخبر أنها الليلة التي قتل فيها المتوكل ‏.‏ ). يعنى أن زمزم جاءها الخبر بمقتل المتوكل فعرفته قبل أن يعرفه أهل مكة ، فحزنت ورفضت نبع الماء ، فتحيّر الشخص المجهول القائم على حراستها ، وكتب تاريخ الليلة التى غار فيها ماء زمزم ، ثم إتضح ـ يا عينى ـ أنها الليلة التى قتلوا فيها المتوكل وهو قائم يشرب فى المحراب .!

4 ـ وتأتى هذه الرواية الطريفة بعد مقتل المتوكل ، فأحدهم رآه فى المنام جالسا فى النور فتساءل مندهشا : اانت المتوكل ؟ قال: نعم أنا المتوكل. نقرأ الرواية بسندها : ( أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب الحافظ قال‏:‏ أخبرنا الأزهري قال‏:‏ أخبرنا عبيد الله بن محمد العكبري حدثنا أبو الفضل محمد بن أحمد النيسابوري قال‏:‏ حدثنا سعيد بن عثمان الحناط قال‏:‏ حدثنا علي بن إسماعيل قال‏:‏ رأيت جعفر المتوكل في النوم وهو في النور جالس، قلت‏:‏ المتوكل ؟ فقال‏:‏ المتوكل .! قلت‏:‏ ما فعل الله بك ؟ قال‏:‏ غفر لي ‏.‏ قلت‏:‏ بماذا ؟ قال‏:‏ بقليل من السنة أحييتها ‏.‏ ). أى غفر الله جل وعلا للمتوكل كل الكبائر التى ارتكبها من قتل وسلب للأموال وتعذيب لأنه ( أحيا قليلا من السّنة ) وبالتالى فهى دعوة موجهة الى الخلفاء الآخرين لإحياء المتبقى من السّنة ليحصلوا على الغفران مهما إرتكبوا من جرائم وآثام . وبين السطور نفهم نفسية واضعى هذا المنام ، وهى أن السّنة ماتت ثم أحيا المتوكل ( بعضها ) ولا تزال تنتظر المزيد من الإحياء والإنعاش على أيدى الخلفاء اللاحقين ، وهذا يعنى ان السّنة دين قابل للتوسع والامتداد وسيظل دائما بلا إكتمال وبلا تمام لأنه ( دين ملّاكى ) يملكه أصحابه . والمطلوب من الخلفاء تأييد قادة هذا الدين الملّاكى كى يستمر ويتوغّل وينتشر فى الفضاء .. شأن أى وباء .!

5 ـ وعلى نفس النمط تأتى هذه الرؤيا الدرامية الحزينة : ( قال أبو عبد الله‏:‏ ثم رأيت المتوكل بعدها بأشهر كأنه بين يدي الله تعالى فقلت له‏:‏ ما فعل بك ربك ؟ قال‏:‏ غفر لي ‏.‏ قلت‏:‏ بماذا ؟ قال‏:‏ بقليل من السنة تمسكت بها ‏.‏ قلت‏:‏ فما تصنع ها هنا ؟ قال‏:‏ أنتظر ابني محمدًا أخاصمه إلى الله الحليم العظيم الكريم ‏.‏) . يعنى ينتظر قتل ابنه الذى قتله ، وهو محمد الذى تلقب بالمنتصر . وواضح أن وضع هذا الحديث تم بعد قتل المنتصر ، الذى مات بالسّم سريعا بعد قتله لأبيه . أى إن المتوكل لم ينتظر طويلا ( بين يدى الله تعالى ) بزعمهم .!

6 ـ ولأن الشعر كان فائق التأثير فإن بعض المنامات صيغ فيها شعر يرثى المتوكل ومقتله الذى ( ضجّ له أهل السماوات وبكاه جميع الانس والجان) حسب زعمهم . تقول الرواية : (‏ أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال‏:‏ أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قال‏:‏ أخبرنا محمد بن يوسف بن حمدان الهمذاني قال‏:‏ حدثنا أبو علي الحسن بن يزيد الدقاق قال‏:‏ حدثنا عبد العزيز بن محمد الحارثي حدثنا عمر بن عبد الله الأسدي قال‏:‏ سمعت أبا عبد الله أحمد بن العلاء قال‏:‏ قال لي عمرو بن شيبان الحلبي‏:‏ رأيت في الليلة التي قتل فيها المتوكل في النوم حين أخذت مضجعي ، كأن آتيًا أتاني ، فقال لي‏:‏

يا نائم الليل في أقطار جثماني    أفض دموعك يا عمرو بن شيبان

أما ترى الفتية الأرجاس ما فعلت       بالهاشمي وبالفتح بن خاقان

وافى إلى الله مظلومًا فضج له       أهل السموات من مثنى ووحدان

وسوف تأتيكم أخرى مسومة              توقعوها لها شأن من الشان

فابكوا على جعفر وابكوا خليفتكم         فقد بكاه جميع الإنس والجان

قال‏:‏ فأصبحت وإذا الناس يقولون إن جعفرًا قد قتل في هذه الليلة ‏.‏ )

( المنتظم 11 / 358 : 359 )النبى لا يشفع يوم الدين :( كتاب الشفاعة بين الاسلام والمسلمين )
الباب الثالث : تتبع موضوع الشفاعة فى تاريخ المسلمين الدينى
الفصل الخامس: الأرضية التاريخية التى نبتت فيها أساطير الشفاعة :
الحنابلة وإفتراء الأحاديث : فى الدفاع عن المتوكل : ب3 ف 5 / 10
أولا : أهمية إفتراء الحديث للحنابلة
1 ـ إحتاجت الحنبلية الى نشر دعوتها بإفتراء الأحاديث بكل أنواعها ، أحاديث نبوية منسوبة للنبى، و أحاديث قدسية منسوبة لله جل وعلا ، وأحاديث منامات يزعمون فيها رؤية النبى أو رؤية الله جل وعلا والحديث معه. واستخدوا هذا الأفك الدينى فى مدح الخليفة المتوكل والدفاع عنه ، وفى مدح قادتهم ، وفى الهجوم على خصومهم المعتزلة الذين تعرضوا للقضاء عليهم بفعل المتوكل . وبهذا أسس المتوكل والحنابلة دينا سُنيّا متطرفا متشددا متزمتا منحل الأخلاق متعديا ظالما. ولهذا فإن ما ارتكبه المتوكل من إضطهاد أهل الكتاب ( اليهود والنصارى ) والمعتزلة والشيعة لا يزال ساريا حتى الآن ، إذ قامت السعودية بوهابيتها بإحياء الدين الحنبلى ونشره بين المسلمين على انه الاسلام ، وحيثما يسيطرالوهابيون الحنابلة تجد معاناة الأقليات الدينية والمذهبية .
2 ـ نشر الحنابلة لدينهم الأرضى معززا بسلطة الخليفة المتوكل أدى الى دخول المزيد والمزيد من أهل الكتاب الى ( السُّنة الحنبلية ) لينجو بأنفسهم من الاضطهاد ، ومثلا ، فى سنة 204 ألزموا ( أهل الذمة بتعليم أولادهم السريانية والعبرانية ومنعوا من العربية ونادى المنادي بذلك ، فأسلم منهم خلق كثير ‏.‏). ومتى دخل أحدهم الاسلام فلا مجال للرجوع لأنّ ( حد ّ الردّة ) يقف له كالكلب العقور . وبالتالى يموت على الدين الجديد الذى إعتنقه ، ويرث أولاده وأحفاده الدين الجديد . ومن هنا تعاظم دخول السكان فى ( الاسلام ) بزعمهم ، وأدى هذا الى المزيد من التهميش والاضطهاد لأهل الكتاب . لأن هذا الاضطهاد أصبح بالأحاديث المفتراة شريعة دينية . وكان سهلا إستخدم قادة الحنابلة الحديث فى نشر دينهم بين العوام الذين لا يستعملون عقولهم ، فإذا قيل ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ..) أسرعوا بالتصديق والإذعان . ولا يزال هذا ساريا حتى الآن .
3 ـ وباستخدام صناعة الحديث تم الانتصار للحنابلة على المعتزلة ، ليس فقط لأن العوام إنحازوا لأهل الحديث لأنهم وجدوا فى الحديث إستجابة لأهوائهم ولأنه يتيح لهم ان يكونوا ( علماء وفقهاء ) بمجرد السماع والحفظ وإصطناع الكذب ، ولكن أيضا لأن المعتزلة بمنهجهم العقلى الجدلى كانوا ينسبون آراءهم الى أنفسهم ـ إن خطأ وإن صوابا ـ ويعتمدون على قوة الحجة والاستدلال النظرى الذى يستوجب أن يكون الخصم على نفس الدرجة من الذكاء والمعرفة والثقافة ومتبعا نفس المنهج العقلى الاستدلالى . وبعلوّ نفوذ العوام الجهلة كان الأبغض لهم هذا المنهج ، وكان الأسهل لهم هو إتباع أئمتهم الذين كانوا يصيغون الرأى فى صورة حديث ، فإذا قال المعتزلة رأيهم بالاستدلال بالقرآن واجههم الحنبلى بحديث يقول ( قال صلى الله عليه وسلم كذا ) جاعلا رأيه دينا لابد من الانصياع اليه بلا مناقشة ، فإمّا أن تنصاع وتؤمن ، وإمّا أن تناقش وتعارض فتكون كافرا حلال الدم .
4 ـ ولقد كان الجاحظ المتوفى عام 255 من أعلام المعتزلة ومن نجوم عصره بذكائه وتصنيفاته ، والتى لا تزال مبهرة للمثقفين حتى الآن . عاصر الجاحظ أحد جامعى القمامة وأحد منتجيها ، ولم يكن معروفا فى وقته ، ولكن سيطرة العوام وجهل العوام ما لبث أن رفع جامع القمامة هذا بعد موته الى درجة التأليه ، وجعل القمامة التى جمعها وأنتجها فوق مستوى القرآن الكريم . جامع القمامة هذا هو ( إبن برزويه ) المجوسى الأصل المشهور بالبخارى والمتوفى بعد عام واحد من وفاة الجاحظ ، عام 256 . والسبب أن البخارى كان أكثر من سجّل أساطير الشفاعة ونسبها للنبى فأصبحت دينا ، وهذه الأساطير تسوّغ العصيان وتبشّر العُصاة بالجنة مهما إرتكبوا من آثام بشفاعة ( محمد ) طالما كانوا من ( أمة محمد ) . هذا يتواءم مع أهواء العوام ومع جهل العوام ، ومع عقليتهم التى تتركّز فى نصفهم الأسفل تاركة النصف الأعلى خاويا خاليا . ومن هنا مات الفكر المعتزلى وظل الكذب الحنبلى لأنه أصبح دينا ( أرضيا ) انتشر بين العوام وهم الأغلبية الساحقة من الناس . كانوا عدة ملايين فى عصر المتوكل ، وهم الان مئات الملايين فى عصرنا ، يعيدون إنتاج الماضى العقيم فى عصر الثورة العلمية وحقوق الانسان والديمقراطية . وخلال أربعين عاما من سيطرة الوهابية الحنبلية على مصر أنتجت لنا عشرات الملايين من المهاويس المتاعيس . ودائما ، وعندما يسيطر الدين الأرضى على مجتمع بشرى فإنه يتقدم به الى الخلف .
ثانيا : السّنة دين أرضى يملكه أصحابه ويصنعه أصحابه
1 ـ وإستخدام الحنابلة صناعة الحديث جعلهم مالكى هذا الدين ومالكى التوسّع فيه حيث شاءوا ، فإذا كان الاسلام قد إكتمل بالقرآن ، فإن دينهم الأرضى لم ولن يكتمل لأن أبواب الكذب والاختلاق مفتوحة الأبواب لكل من يستطيع أن يؤلف إسنادا يزعم فيه أن سمع فلانا عن فلان فلان أن رسول الله قال ( كذا )..ويفترى ما يشاء من ( كذا ). وبهذا إستمرّ توسع الدين السّنى وتضخّمت أحاديثه ، عبر صناعة الاسناد .
2 ـ قلنا إن أهل الحديث فريقان ، إئمة تخصصوا فى إفتراء الحديث ، يصنعون له الإسناد والعنعنة ويصنعون متن الحديث ، يقولون ما يشاءون وينسبونه للرسول أو لله جل وعلا . ثم عوام أهل الحديث الذين يسمعون الحديث من أولئك الأئمة ويكتبونه وينشرونه بمتنه وإسناده . وقلنا إن احمد بن حنبل فى حقيقته كان من ( عوام أهل الحديث ) ولكن الظروف إرتفعت به لتجعله ـ رغم أنفه ـ من قادة الحديث بل وصاحب مذهب فقهى . وإنتسبت اليه الحنبلية أو الحنابلة المتشددون فنسبوا له ما لم يقله فى الحديث والفقه والمنامات والكرامات .
3 ـ والشىء المثير للإنتباه أن قادة أهل الحديث فى العصر العباسى الثانى كانوا كلهم ـ إن لم تكن الأغلبية الساحقة منهم ـ من أهل فارس . دخلوا فى السّنة باسم الاسلام مع كفرهم بحقيقة الاسلام ، إذ دخلوه بأديانهم الأرضية ، وبعثوا هذه الأديان الأرضية من مرقدها فى صورة أحاديث ومنامات ، يقفزون بها الى درجة التخاطب مع الله جل وعلا والوحى . أى دخلوا فى الاسلام وخرجوا منه فى نفس الوقت، ينطبق عليهم قوله جل وعلا: ( وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ ) (61)( المائدة ).
والشىء المثير للعجب هو ذلك الفارق الشاسع بين أولئك الفرس فى العصر العباسى الثانى وعصر النبى فى المدينة . فجوة زمنية وثقافية وحضارية وجغرافية مكانية . ومع ذلك أمكن تجاوز هذه الفجوة وعبورها بأصطناع ( الاسناد ) الذى صدّقه العوام ـ ولا يزالون .
ويزول العجب عندما نعلم أن السبب هو المال والنفوذ ، أو السلطة والثروة . فأبناء الفرس الذين دخلوا فى دين السّنة أفواجا كانوا يحتاجون للثروة والسلطة والجاه بقدر ما كانت الدولة العباسية تحتاجهم كهنوتا دينيا لها فى دولتها الدينية . ففتحت لهم أبواب الرزق والمناصب ، وكانوا الأصلح لها ليس فقط لأنهم الأحوج لذلك بعد إضطهاد أجدادهم فى الدولة الأموية ، ولكن أيضا لأنهم بثقافتهم الحضارية أكثر تأهيلا ، لذا نبغ ابناء الحرفيين الفرس وابناء المدن الفارسية ، وقادوا العلم الحقيقى فى الطب والهندسة والفلسفة كما قادوا (العلم الكاذب ) فى الأحاديث بإصطناع الاسناد ونسبة أقوالهم للنبى عليه السلام .
4 ـ ولقد كان إبن المدينى الفارسى الأصل ( 161 : 234 ) اشهر شيوخ أحمد بن حنبل ، وقد جاءت ترجمته الكاملة فى ( المنتظم ) لابن الجوزى ( ج 11 / 214 : 219 ) . ومنها نعرف أن ابن المدينى هو شيخ أهل الحديث فى عصره ، سمع منه وروى عنه يحيى بن معين وأحمد بن حنبل ، والبخارى ، وكانا ( ابن حنبل والبخارى ) يقدسان شيخهما ابن المدينى . وكان أحمد بن حنبل ( لا يسميه وإنما يكنيه تبجيلًا له ) أى لم يكن ينطق إسمه تبجيلا له . وقال البخاري‏:‏ ( ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني )‏.‏ ويقول :" رأيت علي بن المديني مستلقيًا وأحمد بن حنبل عن يمينه ويحيى بن معين عن يساره وهو يملي عليهما ‏.‏ ".وقالوا ( كان الناس يكتبون قيامه وقعوده ولباسه وكل شيء يقول ويفعل أو نحو هذا ‏.‏ ) . وكان ابن المدينى عميلا للدولة العباسية يفترى لها الأحاديث بأجر . ولذلك وافقهم فى موضوع خلق القرآن بينما عارضهم تلميذه ابن حنبل ، فارتفع ابن حنبل وهوى ابن المدينى الى قاع النسيان . يقول ابن الجوزى عنه : ( والذي منع ابن المديني من التمام ( اى تمام المكانة بين أهل الحديث ) إجابته في خلق القرآن ، وميله إلى ابن أبي دؤاد لأجل حطام الدنيا ، فلم يكفه أن أجاب ، فكان يعتذر للتقية ، وصار يتردد إلى ابن أبي دؤاد ، ويظهر له الموافقة ‏.‏ ). أى أجاب الدولة العباسية فى رأيها ، وظل يتردد على القاضى المعتزلى ابن أبى داود حرصا على عطاياه المالية ( أو حُطام الدنيا ) مبررا موقفه لأهل الحديث بأنها التّقية .
5 ـ وفى محنة ابن حنبل والتحقيق معه فى موضوع خلق القرآن أمام الخليفة المعتصم برز على السطح موضوع رؤية الله جل وعلا . وأهل الحديث يجيزونها بل وتمتلىء مناماتهم برؤية الله جل وعلا إفكا وظلما وعُدوانا ، بينما ينفى ذلك المعتزلة ، ولهم أدلتهم من القرآن الكريم . وردا على المعتزلة فى إنكار رؤية الله جل وعلا صنع أهل الحديث أحاديث تجيز الرؤية . ويروى ابن الجوزى فى المنتظم ، أنه فى محاكمة ابن حنبل إتهم القاضى ابن أبى داود ( ابن حنبل ) فقال للمعتصم : (‏" يا أمير المؤمنين هذا يزعم - يعني أحمد ابن حنبل - أن الله تعالى يرى في الآخرة ،والعين لا تقع إلا على محدود والله لا يُحدّ "‏.‏ فقال المعتصم‏ لابن حنبل :‏ ما عندك في هذا؟ فقال‏ ابن حنبل :‏ يا أمير المؤمنين عندي ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏ قال‏:‏ وما قال عليه السلام ؟ قال‏:‏ حدثنا محمد بن جعفر غندر حدثنا شعبة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي قال‏:‏ كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة أربع عشرة من الشهر فنظر إلى البدر فقال‏:‏ ‏"‏ أما إنكم سترون ربكم كما ترون هذا البدر لا تضامون في رؤيته ‏"‏ ‏). ولم يكن المعتصم مثقفا كأخيه المأمون من قبله ، لذا إرتبك حين سمع الحديث، ( فقال لأحمد بن أبي دؤاد‏:‏ ما عندك في هذا .؟ قال‏:‏ أنظر في إسناد هذا الحديث ‏.‏ ) يعنى أن ينظر ابن أبى داود فى إسناد الحديث بمنهج (الجرح والتعديل ) . وبعث ابن أبى داود فاستدعى ابن المدينى ورشاه بعشرة آلاف درهم وغيرها حتى إستجاب له ابن المدينى وقدح فى إسناد الحديث . وتمضى الرواية فتقول : ( وكان هذا في أول يوم. ثم انصرف . فوجه ابن أبي دؤاد إلى علي بن المديني ، وهو مملق لا يقدر على درهم ، فأحضره ، فما كلمه بشيء حتى وصله بعشرة آلاف درهم .وقال له‏:‏ "هذه وصلك بها أمير المؤمنين ". وأمر أن يدفع إليه جميع ما استحق من أرزاقه . وكان له رزق سنتين . ) نتوقف هنا لنشير الى أن قادة أهل الحديث ـ ومنهم ابن المدينى ـ كان لهم عطاء أو مرتب من الدولة باعتبارهم كهنوتها الذين يؤلفون لها الأحاديث . ولكن عندما خالف بعضهم رأى المامون والمعتصم فى خلق القرآن حرمتهم الدولة من هذا المرتب أو العطاء ، فانقطع عطاء ابن المدينى مدة عامين فصار فقيرا مملقا . وانتهز الفرصة القاضى ابن أبى داود وساوم ابن المدينى على أن يرد اليه عطاءه ومرتباته بأثر رجعى ويعطيه الكثير من الأموال مقابل أن ينفى حديث الذى إستشهد به ابن حنبل . وقبل أن يتكلم معه أعطاه عشرة آلاف درهم ، ودفع مستحقاته الموقوفة مدة سنتين ، مقابل كلمة من ابن المدينى يسقط بها هذا الحديث لأن ابن المدينى أحد ( صُنّاع الحديث أو أحد صُنّاع الدين السّنى ) . نعود لرواية ابن الجوزى وهو يحكى ما دار بين ابن أبى داود وابن المدينى ( فوجه ابن أبي دؤاد إلى علي بن المديني ، وهو مملق لا يقدر على درهم ، فأحضره ، فما كلمه بشيء حتى وصله بعشرة آلاف درهم .وقال له‏:‏ "هذه وصلك بها أمير المؤمنين ". وأمر أن يدفع إليه جميع ما استحق من أرزاقه . وكان له رزق سنتين . ثم قال‏:‏ " يا أبا الحسن حديث جرير بن عبد الله في الرؤية ما هو؟ " قال‏:‏ صحيح . قال‏:‏ " فهل عندك فيه شيء" قال‏:‏ " يعفيني القاضي من هذا " ‏.‏ فقال‏:‏ " يا أبا الحسن هو حاجة الدهر". ثم أمر له بثياب وطيب ومركب بسرجه ولجامه ، ولم يزل به حتى قال له‏:‏ " في هذا الإسناد من لا يعتمد عليه ولا على ما يرويه ، وهو قيس بن أبي حازم . إنما كان أعرابيًا بوالًا على قدميه ‏.‏" فقام ابن أبي دؤاد إلى ابن المديني فاعتنقه . فلما كان من الغد وحضروا ، قال ابن أبي دؤاد‏:‏ "يا أمير المؤمنين هذا يحتج في الرؤية بحديث جرير، وإنما رواه عنه قيس بن أبي حازم ، وهو أعرابي بوّال على عقبيه ‏.‏ ). وبهذا أسقط ابن أبى داود الحديث بشهادة ابن المدينى الذى يزعم أن قيس بن حازم كان إعرابيا يبول على قدميه ، فكيف عرف هذا وقد مات قيس هذا فى العصر الأموى عام 84 ، بينما ولد ابن المدينى عام 161 . ولم يرد فى ترجمة قيس هذا أنه كان يبول على قدميه ، فهل رآه ابن المدينى يبول على قدميه ؟ وما هى الصلة بين بوله على قدميه وصدقه أو كذبه ؟ . الطريف أن ابن الجوزى حاول الدفاع عن ابن المدينى فروى رواية بلا إسناد : ( وقد روى جماعة عن علي بن المديني أنه قال‏:‏ إنما أجبت تقية ،وخفت السيف ، وقد حبست في بيت مظلم ثمانية أشهر، وفي رجلي قيد فيه ثمانية أمنان، حتى خفت على بصري‏.‏ ). لو حدث هذا فعلا لكان قد إنتشر وتم تسجيله .
6 ـ المستفاد من هذا أننا أمام دين يملكه أصحابه ، يختلفون فيه ، ويرتزقونه به ، يصنعون له الإسناد كذبا وزورا ، ويختلقون له الموضوعات . حسب أغراضهم ، ومنها تزكية أنفسهم وقادتهم ، وتشويه وتكفير خصومهم ، بإختراع المنامات .
ثالثا : صناعة منامات فى الدفاع عن المتوكل
1 ـ كان المتوكل أسوا خلفاء بنى العباس ـ وربما يكون الأسوأ فيهم ، ومع ذلك فقد رفعته الدعاية السّنية الحنبلية الى منزلة أبى بكر وعمر بن عبد العزيز . فقال بعضهم : ( الخلفاء ثلاثة أبو بكر الصديق ، قاتل أهل الردة حتى استجابوا . وعمر بن عبد العزيز رد مظالم بني أمية . والمتوكل محا البدع وأظهر السنة‏.‏ ). ( محا البدعة ) يعنى قضى على المعتزلة وإستأصلهم كما فعل أبو بكر مع حركة الردة .!!
2 ـ وروى علي الجهم قال‏:‏( وجه إلي أمير المؤمنين المتوكل ، فأتيته فقال لي‏:‏ " يا علي رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقمت إليه فقال لي‏:‏ تقوم إلي وأنت خليفة. " فقلت له‏:‏ أبشر يا أمير المؤمنين أما قيامك إليه فقيامك بالسنة، وقد عدك من الخلفاء ، فسُرّ بذلك ‏.‏ ). الكذب واضح فى صياغة هذه الرواية ، ولكن المُراد منها إعتراف النبى فى المنام بالمتوكل خليفة .
3 ـ وكان المتوكل ( يقوم الليل ) شاربا للخمر متهتكا مع جوارية ( ثلاثة آلاف جارية ) وقد قتلوه وهو يمارس معصية الشراب. ومع هذا تجرّد الحنابلة للدفاع عنه بأكاذيب من نوعية أن ماء زمزم قد غارت حزنا على قتل المتوكل ليلة قتل المتوكل : ( .. أخبرني بعض الزمازمة الذين يحفظون زمزم قال‏:‏ غارت زمزم ليلة من الليالي .فأرخناها ، فجاءنا الخبر أنها الليلة التي قتل فيها المتوكل ‏.‏ ). يعنى أن زمزم جاءها الخبر بمقتل المتوكل فعرفته قبل أن يعرفه أهل مكة ، فحزنت ورفضت نبع الماء ، فتحيّر الشخص المجهول القائم على حراستها ، وكتب تاريخ الليلة التى غار فيها ماء زمزم ، ثم إتضح ـ يا عينى ـ أنها الليلة التى قتلوا فيها المتوكل وهو قائم يشرب فى المحراب .!
4 ـ وتأتى هذه الرواية الطريفة بعد مقتل المتوكل ، فأحدهم رآه فى المنام جالسا فى النور فتساءل مندهشا : اانت المتوكل ؟ قال: نعم أنا المتوكل. نقرأ الرواية بسندها : ( أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت الخطيب الحافظ قال‏:‏ أخبرنا الأزهري قال‏:‏ أخبرنا عبيد الله بن محمد العكبري حدثنا أبو الفضل محمد بن أحمد النيسابوري قال‏:‏ حدثنا سعيد بن عثمان الحناط قال‏:‏ حدثنا علي بن إسماعيل قال‏:‏ رأيت جعفر المتوكل في النوم وهو في النور جالس، قلت‏:‏ المتوكل ؟ فقال‏:‏ المتوكل .! قلت‏:‏ ما فعل الله بك ؟ قال‏:‏ غفر لي ‏.‏ قلت‏:‏ بماذا ؟ قال‏:‏ بقليل من السنة أحييتها ‏.‏ ). أى غفر الله جل وعلا للمتوكل كل الكبائر التى ارتكبها من قتل وسلب للأموال وتعذيب لأنه ( أحيا قليلا من السّنة ) وبالتالى فهى دعوة موجهة الى الخلفاء الآخرين لإحياء المتبقى من السّنة ليحصلوا على الغفران مهما إرتكبوا من جرائم وآثام . وبين السطور نفهم نفسية واضعى هذا المنام ، وهى أن السّنة ماتت ثم أحيا المتوكل ( بعضها ) ولا تزال تنتظر المزيد من الإحياء والإنعاش على أيدى الخلفاء اللاحقين ، وهذا يعنى ان السّنة دين قابل للتوسع والامتداد وسيظل دائما بلا إكتمال وبلا تمام لأنه ( دين ملّاكى ) يملكه أصحابه . والمطلوب من الخلفاء تأييد قادة هذا الدين الملّاكى كى يستمر ويتوغّل وينتشر فى الفضاء .. شأن أى وباء .!
5 ـ وعلى نفس النمط تأتى هذه الرؤيا الدرامية الحزينة : ( قال أبو عبد الله‏:‏ ثم رأيت المتوكل بعدها بأشهر كأنه بين يدي الله تعالى فقلت له‏:‏ ما فعل بك ربك ؟ قال‏:‏ غفر لي ‏.‏ قلت‏:‏ بماذا ؟ قال‏:‏ بقليل من السنة تمسكت بها ‏.‏ قلت‏:‏ فما تصنع ها هنا ؟ قال‏:‏ أنتظر ابني محمدًا أخاصمه إلى الله الحليم العظيم الكريم ‏.‏) . يعنى ينتظر قتل ابنه الذى قتله ، وهو محمد الذى تلقب بالمنتصر . وواضح أن وضع هذا الحديث تم بعد قتل المنتصر ، الذى مات بالسّم سريعا بعد قتله لأبيه . أى إن المتوكل لم ينتظر طويلا ( بين يدى الله تعالى ) بزعمهم .!
6 ـ ولأن الشعر كان فائق التأثير فإن بعض المنامات صيغ فيها شعر يرثى المتوكل ومقتله الذى ( ضجّ له أهل السماوات وبكاه جميع الانس والجان) حسب زعمهم . تقول الرواية : (‏ أخبرنا أحمد بن علي الخطيب قال‏:‏ أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق قال‏:‏ أخبرنا محمد بن يوسف بن حمدان الهمذاني قال‏:‏ حدثنا أبو علي الحسن بن يزيد الدقاق قال‏:‏ حدثنا عبد العزيز بن محمد الحارثي حدثنا عمر بن عبد الله الأسدي قال‏:‏ سمعت أبا عبد الله أحمد بن العلاء قال‏:‏ قال لي عمرو بن شيبان الحلبي‏:‏ رأيت في الليلة التي قتل فيها المتوكل في النوم حين أخذت مضجعي ، كأن آتيًا أتاني ، فقال لي‏:‏
يا نائم الليل في أقطار جثماني أفض دموعك يا عمرو بن شيبان
أما ترى الفتية الأرجاس ما فعلت بالهاشمي وبالفتح بن خاقان
وافى إلى الله مظلومًا فضج له أهل السموات من مثنى ووحدان
وسوف تأتيكم أخرى مسومة توقعوها لها شأن من الشان
فابكوا على جعفر وابكوا خليفتكم فقد بكاه جميع الإنس والجان
قال‏:‏ فأصبحت وإذا الناس يقولون إن جعفرًا قد قتل في هذه الليلة ‏.‏ )
( المنتظم 11 / 358 : 359 ). 

اجمالي القراءات 10441