إن الإلحاد لظلمُ عظيم

سامح عسكر في السبت ٢٦ - أكتوبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

ماذا لو أصبح أهل القرية لا يعرفون شيئاً عن الزراعة؟..هل ستكون قرية أم مجتمع آخر؟...وماذا لو كان العمال لا يُنتجون ..هل يستحقون وصف العامل؟..إننا بإزاء تغيير كامل في الهوية إلى هوية أخرى قد تكون على النقيض، والسبب كان في نزوع الإنسان إلى معالجة القضايا معالجة سطحية تخلو من روح الإبداع، فأهل القرية أبدعوا في زراعتهم كونهم عالجوا مسائل الزراعة بأسلوب دقيق، ولو عالجوها بسطحية لانهارت القرية بفساد الزراعة، حينها سيُصبحون عُمالاً أو صيادين أو حِرفيين أو فئات علمية ومجتمعية أخرى، وسيكون بينهم وبين الزراعة ما بين الظواهري والأديان، يزعمون معرفتهم بالأشياء ولكن يعالجونها معالجة سطحية فينفر منهم الناس ابتداء ..ويكتسبون هوية أخرى انتهاء.

إن معالجة الظواهري السطحية للأديان ونفور العامة من تلك المعالجة.. لهي علامة على أن الدين عند البشر خلاف ما يراه الرجل، فهو وإن قرأ في الدين إلا أنه لم يقف على أهم أفكاره ومبادئه، بل انتقل وبسرعة إلى أعلى الأشجار كي يرى غيره فيسقط صريعا لغبائه، ولو انتقل من الجذور مهتدياً إلى الفروع لنجح في تعيين الأفرع القوية فيثب عليها حتى يرى الناس.

كذلك الإلحاد فهو يعالج الأديان والناس بطريقة الظواهري، لا يقف على أفكار الدين ومبادئه ويحصره في الإلهيات كما يحصر الظواهري دينه في الجهاد، ولم يسأل كيف للإنسان منذ نشأته أن يعرف الأديان، وهل المعرفة الدينية ممكنه أم لا؟..وماذا لو كانت ممكنة فما سر نشأتها عند الإنسان؟...هل الحاجة للإله والقوى الخفية الماورائية؟..فلو كان كذلك.. فحقاً أن نصم الإنسان بالجهل حتى يرى الإلحاد، ولم لا وهو إنسان فاقع العقل عديم التجربة عن الملحدين!..لا يرى العالم إلا بمنظور خرافي ويزعم أن متعة الأديان في لاعقلانيتها، فلو كان للعقل دور في رصد وتفسير الميتافيزيقا لفسدت أهم ميزات الدين وهي الإيمان بالغيب!

وأنا هنا أتساءل..هل يُمكننا نفي وجود الله بالعقل؟....في تقديري أنه لا يمكن ذلك ، لأن برهان النظم أقوى وأدلّ على الله من ادعاء "عاقل" بأن الله غير موجود..ليس هذا البرهان فحسب ولكن أشياء أخرى سنتعرض لها إجمالاً على سبيل الإشارة وفي سياق التساؤل لا في سياق الرد والتفصيل..

أيضاً لو فرضنا أن العقل كان مصدراً للإلحاد فهل هناك مصادر أخرى تؤدي نفس الغرض؟....هل نعتبر أن ثنائية الزمان والوجود مصدراً معتبرا؟.. هذه أيضاً عقلية ولكن سنمر عليها، كثير ممن يقولون بأزلية العالم أن حدوثه يعني حدوث للوجود، فلو كان الله موجوداً فهو حادث، وهو بذلك يرى أن الزمان والوجود هما مقادير للحركة وليس أحدهم مقداراً للآخر، بدليل أنه رأى حدوث الله مع حدوث الوجود رغم أنه لا يلزم، هنا العقل يتدخل..فالزمان والوجود يلزم أحدهم الآخر، فلا زمان دون وجود والعكس، فكيف يكونا مقداراً للحركة وهم يرتفعان معاً؟..هذا يعني أنه لا حركة دون وجود وزمان فكيف كانا إذاً ؟!!..هنا الذهن يتصور الزمان محدوداً وإن لم يكن زمانا...وعليه -وبوصف الوجود قرين الزمان- فالعقل يحيل على الوجود إلا أن يكون محدودا...وأن هناك قوة أوجدت هذا الوجود والزمان معاً، قوة قادرة عليا حدت الحدود للزمان وجعلته مقداراً لحركة الوجود.

فكيف تكون ثنائية الزمان والوجود مصدرا للإلحاد وفي ذات الوقت تكون علامة على الإيمان؟..فالزمان له قبل وله بعد وهو ما نسميه خارج الزمان وفي عقائد المسلمين أن الله خارج الزمان ، وأن القيامة قامت بعلمه ولكن لم تقم بعلمنا لأننا محجوزين داخل صندوق الزمان، فهو حجز مُصاحب للوجود لأن الزمان يلزمه، ووقتما يفنى العالَم سيفنى الوجود.. وهو في الأديان ما يسمونه بالعالَم الآخر، أي عالَم تختلف قوانينه عن عالمنا المشهود وقد بشرت به الأديان كافة..

أسئلة أخرى في اتجاه آخر..

صديقي العزيز الملحد..كيف تعتقد في وجود الأشياء بما فيها هذه الطبيعة ؟..هل خلقت نفسها؟..وهل الطبيعة عاقلة لديها إرادة كي تخلق؟!..وماذا لو لم تكن عاقلة ولكنها أزلية..وهل تصح الأزلية لجاهل وضعيف؟!...الطبيعة جاهلة لأنها لا تعلم وضعيفة لأنها عديمة القدرة بدليل أنها لم تخلق، وإذا خلقت فقد جمعت بين متناقضين ،إذ جعلت الشئ خالق ومخلوق فإذا كان فلتؤمن بعدم وجود الطبيعة كونها غير مخلوقة أصلاً، كذلك ونظام الطبيعة قانوني يمكن أن يختل في لحظة، ويمكن أن ينعدم تأثير القانون في أحيان كثيرة وقد حدث...كذلك في استحالة وجود الأشياء بالصدفة فلا وجود للشئ بدون فاعل، ولا ترجح دون مرجح، ولا معلول إلا بعلة..أما بقي على أن وجود الأشياء هو الدال على من أوجدها عقلاً؟

أعلم أن هناك انتقادات لبُرهان النظم، وقد ترجح لدي أن النقد ليس للمضمون ولكن للاستعمال، فيجوز أن يكون البرهان لإثبات وجود الله بالعقل وأخرى بالوجدان دون العقل...وفي النهاية البرهان هو دليل على وجود الله..لكن ليس هنا الإشكال، فالرغبة تقف حائلاً دون عمل العقل، ففطرة الإنسان تحمله على النظر في من أوجد الأشياء تلقائياً دون عمل العقل، وكأن هناك قوة داخلية تحمل الإنسان على الإيمان، أي أن العقل وحده ليس دليلاً للإيمان بالله، فالإنسان كائن مُركّب من أجزاء كل جزء له وظيفتة في التعرف على الله ، كما أن أجزاء الماكينة دليلاً على وجود الصانع بداهةً دون أي عملية عقلية أو حسابية، حينها نُسلّم لرأي كانط-مؤقتاً-بأنه لا يمكن الاستدلال بالعقل النظري على وجود الله أو حتى نفي وجوده.

في وقفة سابقة مع الإلحاد أشرت إلى أن الإلحاد هو رد فعل من جراء الموقفين الأخلاقي والعقلي للمتدينين، أو أنه إفراط في العقل حتى إهمال الجوانب الأخرى في الإنسان الغير مادية، وأضيف أنه بحث عن الحقائق في ظل انشغال كامل بالحِسّيات..ومن أشهر هؤلاء هم ملاحدة المنطق الوضعي ولسنا في سياق الرد على الوضعيين بل الساحة زاخرة ببراهين وأدلة قوية ترد عليهم، ولكن ما أشغلني هو كيف اعتمادهم على الحس في نفي القوة العليا العاقلة، وكأن هؤلاء أرادوا من خالقهم أن يعيش معهم في الأرض.. يُشاركونه المباهج والأحزان، وهل حينها يكون إلهاً؟!...وما معنى الرب لديهم ؟ وما درجة امتثالهم للأوامر في حياتهم الشخصية؟..هل لو قال المدير افعل كذا بدليل عقلي سيرد ويقول أنت خاطئ بدليل حسي؟...وهل للإحساس وظيفة في كشف الغيب والمستقبل؟..فإذا لم يكن فكيف يُحكّمون فلسفتهم في الإلهيات؟..هذا والله لظلمُ عظيم!

لن أحكي تجربتي مع الإيمان لأنني لست في سياق إثبات أيهم الأحق والأصدق، ولكني في سياق التساؤلات المشروعة دون المناظرات الممنوعة، فليس أشر على الإنسان أقوى من التناظرات في زمن ردود الأفعال، وسأقبل بالتناظر لو كان الخلاف بين الأفكار وليس بين الأشخاص والأعمال، فكلما تحدثت مع ملحد حتى لو كان صديقا ..ثم مسّ حديثنا جانب الإلهيات -والقدرة -رأيته يستشكل علىّ بأفعال الإخوان المجرمين والسلفيين المتنطعين..أو يذهب ليأتي بحديث أو بتفسير آية دون أن يُجهد نفسه في إطلاق مشاعره حولها، وكأنه إنسان معطل فاقد الذاتية وأعماله يشتري منها المواقف لا القلوب والعقول، لذلك رأيت مناظرات ومنعت نفسي عنها، لعلِمي أن المسألة حتى لو كانت عقلية فسلطان العواطف والأخلاق أقوى بكثير.

مثال من يرى بأن المفاهيم الفلسفية المتقابلة نشأت نتيجة لانعكاس الخارج في الذهن، وعليه فلا وجود ذاتي لها، كمفاهيم.."العلة والمعلول"..فهو لا يرى أنها مفاهيم تصلح للاستدلال على وجود الله لعدم ذاتيتها، أو أنها أعراض لمفاهيم أخرى... وهذا خبط وخبص عقلي..!..فكيف به وهو ذاهب إلى الطبيب ليُعالج أمراضه من الفيروسات؟..هل يصلح حينها أن نزعم وجود المرض فقط في الذهن وليس في العضو المُصاب؟!..ولماذا شعر بالألَم؟..وما دور الذهن في الجسد أصلاً؟..وما وظيفة العالم الخارجي إذا كان انعكاسه في الذهن لا يُحقق الذاتية؟...وهل لو جاء مخلوق من كوكب آخر سيرى هذا العالَم بنفس ما نراه أم سيراه بمفاهيم سببية أخرى ذاتية؟..فلماذا لا يكون المتكلم هو نفسه المخلوق العجيب الذي يتحدث على كوكب الأرض ويخضع لقوانينها ثم يستدل بقوانين أخرى مجهولة على كواكب مجهولة لم يستطع حتى الآن إثبات وجود الحياة عليها. 

كذلك فمن يرفض دليل نظام الكون -كدليل على الخالق- كونه يرى عشوائية الطبيعة، وهو بذلك ينفي نُظُم الطبيعة المختلفة بدليل متهافت ومقدمة مصادِرة..وهي أن الكون عشوائي وعليه.. فلا وجود للخالق..!...وفي نفس السياق أتساءل، أليس كل جسم مركب من أجزاء أو ما نسميها ذرات؟..أليست هذه الأجزاء منسجمة مع بعضها بحيث تتحرك نحو غاية محددة سلفاً؟..ومن أين أتى الإنسان بالقانون؟..أليس وجود القانون دليلاً على النظام؟..فكيف فطن الإنسان للقانون والكون عشوائي؟..بل ما هي وظيفة الفلسفة أصلاً إذا كان النظام- لو وُجد- فهو نتيجة للعشوائية؟!!!..وإذا طال سؤالنا الفلسفة فسيطال العقل بالضرورة، ما هي وظيفة العقل في رحاب عالَم من العشوائية واللانظام؟

في تقديري أن مسألة الإيمان والإلحاد تخطت حاجز الأفكار، وهذه نقطة مكررة والتكرار في مواضع يؤكد القيمة، هي أن الفكرة لا تبحث في نطاقات من السرمد والأثير، بل لها من الأجواء ما يعبر عنها ويُعطيها صفة الفكرة، لذلك فكل قانون ونظام هو في ذاته أجواء تصنع الفكرة، ومن يبحث في القانون والنظام هو من يبحث عن الحقائق، إذ لا حقائق في عالَم عشوائي، وإلا ستُصبح حياتنا كومة من الأوهام والأساطير، وأن ما نراه هو ما يراه أصحاب المثالية الزائفة، وسيصدق –حينها- من قال أن الإيمان هو مصدر الأخلاق، ولولا وجود الأديان ما عَرِف الإنسان كذباً ولا صدقا، إذ المجتمع باعتباره يعجز عن تفسير القيمة فيما لو كان الأقوى هو المتنفذ، كمثال عالم الحيوان، فذاك هو عالَم القوي والضعيف، ومع ذلك فهو مجتمع عاجز عن صناعة القيمة ، بل لم يحفظ الحيوان حقوق الغير .

اجمالي القراءات 9092