كتاب الحج ب 4 ف 3: صحابة الفتوحات هم الذين لم يتوبوا

آحمد صبحي منصور في الأحد ٣١ - مارس - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

كتاب الحج بين الاسلام والمسلمين

الباب الرابع : إنتهاك المسلمين للبيت الحرام والشهر الحرام

الفصل الثالث :  صحابة الفتوحاتهم الذين لم يتوبوا    

مقدمة : صحابة الفتوحات  هم عصاة لم يتوبوا . منهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ثم لم يتوبوا ، ومنهم الذين ارجأ الله جل وعلا الحكم عليهم وماتوا بلا توبة ، ومنهم الذين نزل القرآن يوبّخهم بسبب تحالفهم مع قريش ولم يتوبوا ، وعُصاة آخرون ماتوا بلا توبة ، ثم أولئك  الذين مردوا على النفاق .  

أولا : الصحابة المهاجرون القرشيون المتمسكون بالولاء لقريش

1 ـ  نشير الى الفصل السابع من الباب الثانى ، وعنوانه ( لماذا إنتصر التواتر القرشى فى الحج ؟)، وفيه تفصيل عن وقوع معظم المهاجرين القرشين فى جريمة الولاء لأهاليهم القرشيين فى مكة والذين كانوا يهاجمون المدينة كراهية فى الاسلام والمسلمين . وقد تكرّر تحذير رب العزّة لأولئك الصحابة بلا جدوى ، بداية من سورة الممتحنة وهى من أوائل ما نزل فى المدينة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)، وتوالى التحذير فى سورة المجادلة (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (22)، وفى سورةالمائدة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)،  بل يصف رب العزة أولئك الصحابة بالمنافقين فى سورة النساء (بَشِّرْ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمْ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145). واستمر التحذير الى آخر ما نزل فى سورة التوبة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنْ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) . أى استمر عصيان أولئك الصحابة وموالاتهم الاعداء القرشيين المعتدين من بداية الهجرة الى آخر ما نزل من القرآن.

2 ـ ثم كانت النهاية قبيل موت النبى عليه السلام وفى ظروف غاية فى الدقة والحرج حين قام متطرفو قريش بعد فتح مكة سلميا بحركة حربية نقضت فيها العهد وقت أن كان النبى فى مكة ، وهمّوا بإخراج الرسول من مكة والحرم ، ولم يتمكنوا، ولولا أن الله جل وعلا سجّل هذا فى كتابه المحفوظ ما عرفنا هذه الحقيقة التاريخية المنسية ، يقول جل وعلا فى سياق التحريض على قتالهم:( أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) التوبة ). فهم الذين بدءوا بالحرب على حين غفلة بنقض العهد ورفع السلاح فى بيت الله الحرام ، وكان النبى وقتها فى الحرم ، فعصمه الله جل وعلا منهم.  

3 ـ كان موت النبى فرصة لهؤلاء الصحابة الذين يدينون بالولاء لقومهم قريش على حساب الاسلام والنبى عليه السلام . إذ بعد موته عليه السلام تمّ ( لمّ الشمل ) القرشى كله من المهاجرين القدماء الى من كان يطلق عليهم ( الطلقاء ) الداخلين فى الاسلام عند فتح مكة ، وأهمهم زعماء مكة من بنى أمية بالذات . وكانت الفتوحات فرصتهم الكبرى لقيادة العرب والمسلمين تحت زعامة  قريش ، وكان هذا توطئة لعودة السيادة القرشية القديمة التى كانت تُعادى الاسلام ( بنو أمية ) فأصبحوا بعد نصف قرن يحكمون المسلمين ومعظم العالم باسم الاسم بدءا بمعاوية بن أبى سفيان .

ثانيا : عُصاة الصحابة من المهاجرين القرشيين الذين لم يتوبوا :

أنزل رب العزة فى سورة الأنفال نقدا قاسيا للمهاجرين العُصاة بعد موقعة ( بدر ) يحذّرهم ويعظهم ، يقول جل وعلا : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) ، أى كانوا لا يطيعون الله ورسوله ، وكانوا يعرضون عن الطاعة . لذا يصف رب العزة من يقع فى ذلك بأنهم شر الدواب :( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) . ويأمرهم رب العزة بالاستجابة والطاعة حتى لا يتعرضوا للعقاب الالهى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25). ثم يذكّرهم رب العزة بأنهم كانوا من قبل فى مكة مستضعفين يخافون أن تتخطفهم قريش فآواهم الله جل وعلا فى المدينة وأنعم عليهم بالرزق لعلهم يشكرون : ( وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26). ولكنهم لم يشكروا بل وقعوا فى خيانة الله ورسوله ، لذا قال جل وعلا لهم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) الأنفال ). كان هذا مبكرا بعد موقعة بدر . ومن لم يتب فالمفهوم أنه أصبح من صحابة الفتوحات .

ثالثا : صحابة عُصاة متنوعون لم يتوبوا

1 ـ منهم الذين كانوا يؤذون الرسول عليه السلام ، ونزل فيهم قوله جل وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) الأحزاب ) (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) ( الأحزاب ).

واستمر هذا الأذى فقال جل وعلا فى سورة التوبة : (وَمِنْهُمْ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) ( التوبة ).

2 ـ ومنم أطياف من المؤمنين ضعاف الايمان ، تعاونوا مع المنافقين بإطلاق الإشاعات وقت محنة حصار المدينة فى معركة ( الأحزاب ) ، فتوعّدهم رب العزة بالعقاب فقال : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61)  ) ( الأحزاب ) .

3 ـ ومنهم أجلاف كانوا يزايدون على رسول الله وشرع الله ـ كما فعل الخوارج فيما بعد ، فقال جل وعلا يحذّر ويُنذر فى سورة الحجرات :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) الحجرات ). ومنهم أجلاف كانوا لا يحترمون النبى فيرفعون أصواتهم عليه :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) الحجرات ).

4 ـ ومنهم فاسقون كاذبون : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) الحجرات ).

5 ـ ومنهم من كان يتكاسل عن صلاة الجمعة منشغلا بالهو والتجارة : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ اللَّهْوِ وَمِنْ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)( الجمعة ).

6 ـ ومنهم من يقول ولا يفعل ، ويعد ولا يفى ، فنزل قوله جلّ وعلا يستنكر ذلك : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (3)  ) ( الصف ).

7 ـ هؤلاء الصحابة جميعا ـ وأمثالهم ـ جميعا دعاهم رب العزّة للتوبة وحذّرهم من أن يكونوا وقودا لنار جهنم : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ )(6) التحريم ) فإن لم يتوبوا فسيحشرون كفّارا ولن يغنى عنهم يومئذ إعتذلرهم أو توبتهم:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (7)التحريم )  لذا جاء نصح المؤمنين ـ وفى مقدمتهم  أولئك الصحابة العُصاة بالتوبة :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً )(8)( التحريم ). ومن لم يتب منهم وعاش بعد موت النبى فالمرجّح أنه كان من صحابة الفتوحات .

رابعا : التوبة هى الفيصل وصحابة الفتوحات لم يتوبوا :

1 ـ ولأن التوبة هى الفيصل هنا فإن هناك من الصحابة من أرجأ الله جل وعلا الحكم فيه إمّا أن يعذّبه وإمّا أن يتوب عليه طبقا لتوبته ؛ موعد التوبة ، ومدى إخلاصه فيها . والحكم لله جل وعلا فى هذا الأمر ، يقول جل وعلا : (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) التوبة)، فهو أن تاب سريعا وقام بحق التوبة تاب الله جل وعلا عليه وكان من أصحاب اليمين، وإلّا فمصيره العذاب ، وأصبح من أصحاب الشمال، تبشره ملائكة الموت بالحميم والجحيم : ( وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94)(الواقعة )، ويؤتى به يوم القيامة ضمن أصحاب الشمال : ( وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) ) ( الواقعة )

2 ـ إن للتوبة ملمحين : إرجاع الحقوق لأصحابها وإسترضائهم وطلب عفوهم علنا ، ثم تجديد الايمان وتكثيف العمل الصالح . أى هى تعامل ظاهرى مع الناس ، وتعامل قلبى عقيدى مع رب الناس .

فى التعامل الظاهرى مع الناس يقول جل وعلا فيمن خلط عملا صالحا وآخر سيئا ظالما :( وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) التوبة ) أى إعلان التوبة أمام المجتمع ظاهريا ، ثم يكون الحساب على مدى الاخلاص فيها مؤجّل الى يوم لقاء عالم الغيب والشهادة . ونفس الوضع فى توبة المنافقين الذين جاءوا يعتذرون للنبى والمؤمنين كذبا وخداعا ، فقال جلّ وعلا : (يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) ( التوبة ). (لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ ) يعنى لن نثق فيكم ، وستأتى الثقة بعمل صالح معلن يراه الله ورسوله ، وفى النهاية يكون الحكم على مدى الاخلاص أو الخداع لرب العزّة يوم القيامة .

أما التوبة القلبية فهى تعامل خاص بين التائب وربه جل وعلا يستلزم الاستغفار الدائم المخلص وتصحيح الايمان وبدء حياة نقية يتركّز ويتكثّف فيها العمل الصالح فيما تبقى من عُمر تعويضا على العمل السىء ، أملا فى أن يبدّل الله جل وعلا سيئاته حسنات ، يقول جل وعلا عمّن يرتكب القتل بغير الحق ويقع فى الشرك والزنا ثم يتوب توبة مقبولة من ربّ العزّة : (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) ( الفرقان )، وعن إرتباط التوبة القلبية بتصحيح الايمان وتكثيف العمل الصالح يقول جل وعلا : (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً (61)  مريم )( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى (82)( طه ).

إن الله جل وعلا لا يقبل التوبة من الكافر الذى يظل على كفره حتى لحظة الاحتضار ، ولا يقبل التوبة ممّن أدمن العصيان حتى أحاطت به خطيئته ، أى تراكمت ولوثت قلبه وظل أسيرا لها حتى وقت الاحتضار : ( وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (18) النساء )، ( بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) ( البقرة ).

3 ـ صحابة الفتوحات لم يتوبوا توبة ظاهرية علنية بإرجاع الحقوق لأصحابها . لو كان هدفهم تحرير الشعوب من قهر حكامها كان عليهم أن يرجعوا لصحرائهم بعد تحرير هذه الشعوب وهزيمة الحكام الطغاة ، ولكن الذى حدث أن أولئك الصحابة بعد أن قتلوا مئات الآلاف من نفس الشعوب المسالمة واسترقوا ابناءهم وبناتهم وسلبوا أموالهم حكموا تلك الشعوب بنفس النظم السائدة ، وأخذوا منهم الجزية بل وجعلوهم رقيقا ومسخرين فى الارض . ثم أختلفوا على الغنائم والمال السُحت فاقتتلوا فى الفتنة الكبرى . وبالتالى لم يتوبوا أيضا توبة قلبية طبقا لما جاء فى سيرتهم فى التراث السّنى نفسه .

خامسا : قادة الفتوحات أنبأ الله جل وعلا مقدما بعدم توبتهم

1 ـ الكافرون بسلوكهم المعتدى الظاهرى يظل هناك امل فى توبتهم ، ولو تابوا وجنحوا للسلم باخلاص فإنّ وعد الله قائم لهم بالغفران : ( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ (38)( الانفال ). بل  توجد فرصة التوبة للمنافقين الذين فضحهم سلوكهم ، فإن تابوا وأصلحوا وأخلصوا دينهم لله فسينجون من الدرك الأسفل من النار ، يقول جلّ وعلا :( إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) النساء ).

2 ـ الصنف الوحيد من المنافقين الذين لا توبة لديهم لأنهم لا يتوبون هم من قال عنهم جل وعلا لرسوله الكريم : ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنْ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) التوبة ). هم لم يعترفوا للنبى بذنوبهم كما فعل صحابة آخرون ، قال عنهم جل وعلا فى الآية التالية : ( وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) التوبة )

3 ـ بعض قادة صحابة الفتوحات فى رأينا ينتمون الى هذه الفئة من المنافقين الذين مردوا على النفاق . يقول جل وعلا عنهم ( وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101 ). (مَرَدُوا ) أى تعودوا وأدمنوا وأتقنوا النفاق ، أى ظلوا الى جانب النبى وحوله يصاحبونه مدة سنين ، حتى (مَرَدُوا ) وتخصصوا وأتقنوا وتعودوا النفاق بحيث صاروا يتنفسون  النفاق  بطول الخبرة . وهذا ينطبق على منافقى المهاجرين بالذات ، خصوصا وأن ربّ العزة لم يقل هنا ( المهاجرون والأنصار ) وإنّما قال (  وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ )، أى الذين طال بهم العيش فى المدينة حتى أصبحوا من أهلها، ومع طول صحبتهم للنبى ووجودهم حوله ومعرفته بهم كاشخاص ومعاونين فلم يكن يعرف سريرتهم (لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ )، لأنه عليه السلام لم يكن يعلم الغيب ولا يعلم السرائر ، ولأن هؤلاء (مَرَدُوا ) على النفاق بحيث لم يصدر منهم لفظ أو قول أو حركة أو تصرف ينبىء بحقدهم على الاسلام والرسول عليه السلام . لم يكن فيهم ضرر على الاطلاق يستدعى أن ينزل القرآن الكريم يحكى أقوالهم وأفعالهم وتآمرهم ، فلم تكن لهم أقوال وأفعال ضارة كما كان يحدث من بقية المنافقين الصرحاء . ولذلك إكتفى رب العزّة بذكرهم ، مع إشارة الى أنهم سيموتون على كفرهم ، وأنهم سيلقون العذاب مرتين فى الدنيا قبل العذاب العظيم فى الآخرة . لماذا هذا العذاب المضاعف فى الدنيا ؟ لأنهم سيرتكبون جرائم فى حق الاسلام بعد موت النبى عليه السلام . بعد موته سيتصدرون الساحة بحكم موقعهم القريب من النبى ، وستكون فرصتهم لارتكاب ما يريدون دون أن يفضحهم الوحى . أى إنهم لن يتوبوا ، بل سيرتكبون الفظائع باسم الاسلام ، وهم فى موقع القيادة للمسلمين .

اجمالي القراءات 13627