( مابين العدل الإلهي والعدل الإنساني من انفصال )
قليل من الفلسفة يصلح العقل ويحفظ الوطن

سيد القمنى في الثلاثاء ٢٥ - ديسمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

سيد القمني

قليل من الفلسفة يصلح العقل ويحفظ الوطن

( مابين العدل الإلهي والعدل الإنساني من انفصال )

ليس بين فرق المسلمين مثل المُعتزلة في اعتبار العدل هو الدين لأنه هو الله ، وأن صفة العدل عندهم تسبق صفة التوحيد في ترتيب الصفات الإلهية ، فيسمون أنفسهم ( أهل العدل والتوحيد ) . ومع فلاسفة من لون المعتزلة يجب التوقير وأخذ مبادئهم وكتاباتهم وطرائقهم بالحسبان ، والتدقيق المتمهل عباراتهم ومفرداتهم تقديماً أو تأخيراً ، لذلك يجب أن نلتفت بشدة إلى تقديمهم صفة العدل على صفة التوحيد في التعريف بأنفسهم ، علما أنهم أكثر من شدد على توحيد الله وتنزيهه عن الشبيه والنظير ، حتى قالوا أن ماجاء بالقرآن من صفات لله هي على سبيل التقريب والتبسيط والمجاز والكناية ، فقوله عن نفسه إنه بصير لا يعني أن له عيون يرى بها ، وأن تكون يده فوق أيدينا لايعني أن له يداً يضعها فوق أيدينا ، وأن يستوي على عرش يحمله ثمانية لا يعني مانفهمه من الجلوس على العروش، إنما هو ضرب مثل لتقريب مفهوم الأُلوهية المتعالي المجرد إلى الأفهام ، وما يتطلبه مفهوم الألوهية من قدرة على التصور التجريدي لفهم معنى الألوهية دون تصورها في شكل صور حسية .

وعدا المعتزلة ، فإن بقية الفرق أخذت بظاهر النص سواء مذاهب أهل السنة والجماعة أو الشيعة الإثنى عشرية ، وبقية الفرق من جهمية ومرجئة وصفاتية وجبرية وظاهرية ... إلخ ، قد دخلت منطقة تأكيد الصفات كما وردت بالنصوص ، فلله أيد يفعل بها وعيون يبصر بها وكيان محسوس يُرى " وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة " ، وآذان يسمع بها ، وعرشا يجلس عليه بأتساع السماوات والأرض ، بل أن أهل السنة والجماعة يجعلون له رجلاً وقدماً يضعها في النار ويقول لها : هل اكتفيت فترد عليه من ثقل الوطأة قائلة : " طأُ طأ " ، لكن كل هذه الصفات الحيوية العضوية ليست كما للبشر !!! .

كان زمن المعتزلة هو الزمن الذهبي للخلافة الإسلامية والذي أنجب سلسلة من عباقرة زمانهم ، وهم اليوم كفرة في نظر التيارات السلفية والإخوانية ، فقط يتم استدعاءهم عند مقارنة أحوالنا بأحوال الأمم المتحضرة كلون من شعر الفخر والعياقة بشعر مستعار ، كان العصر العباسي مع الرشيد والأمين والمأمون بوجه خاص ، هوالذي هيأ المناخ لاستقبال علوم الأمم الأخرى ، وصاحبه نشاط مذهل في الترجمات خاصة عن فلاسفة اليونان  ، عندما إعتنق المأمون المذهب المعتزلي الذي أعلى من شأن العقل البشري ومنتجه، بغض النظر عن دين أصحاب هذه المنجزات المعرفية ، وفي زمنه ظهرت علوم كبرى مثل علم الكلام ، وعلم الأديان المقارن من ملل ونحل شتى إضافة الى مقدمات للعلوم الفيزيائية والحيوية والفنية الموسيقية وعلم المنطق وعلوم الرياضيات ، ولسوء حظ هذه المنطقة العاثر أن هذه النهضة لم تشب أبداً عن طوقها ، بل تم وأدها في مهدها بموت المأمون وبداية زمن المتوكل وأخلافة ، عندما تمكن السنة من السيطرة الفكرية على القصر الخليفي وتم استبعاد المعتزلة وإقصائهم ثم تكفيرهم ، وهو ما استوجب بالضرورة مطاردة منتجهم الثقافي وحرق ماأمكن إحراقه من مؤلفاتهم ، بل وانتصرت الخلافة  لأشد المذاهب السنية جمودا ونصية وحرفية وهو الحنبلي ، وبعدها توالت النكبات وانكمشت دول الخلافة على نفسها ، وعاش الناس أسوأ عصور القهر والعسف والطغيان ، ليتدحرج المسلمون من منحدر إلى منزلق في تسارع هذياني عاد بهم إلى زمن الخرافات والأساطير ، وكان كل أمل المسلم هوالموت السريع حتى يجد العوض في جنة الرحمان . وحتى وصلنا إلى مكاننا الراهن في قاع مزبلة الأمم وخرجنا من أطوار التطور البشري ، وتجمدنا عند إنسان الغاب أو إنسان البوادي ، لافرق ، وبتنا  في هاوية مقلب الشعوب الخرفة ، والأمم الأخرى تحلق في السماء تجوب الكواكب ، ونحن نصنع معجون اسنان المسواك ونتعلم كيف نُخلل ما بين أصابع أقدامنا من خل .

ولايصح هنا تقزيم رب العالمين وعدله فيما يفهمه عوام المسلمين من أهل السنة والجماعة بحسبانه قاصراً على  الحدود وتطبيقاتها المختلفه والمتضاربة بين فرق ومذاهب شتى لاتلتقي ولا تأتلف مهما جهد عليها المحاولون ، العدل الإلهي عندهم هو مدى الالتزام بالفروض النصية الظاهرية وطاعة النواهي دون إعمال الجهد والتفكير بما يتفق وجلال الله وقيمة خليفته على الأرض ، علما أن الفروض كالصلاة والصوم والحج والعمرة وبناء المساجد والتسبيح بالحمد وأداء الطقوس والشعائر والسنن والنوافل ، كلها لاعلاقة لها بعدل الدنيا ، فليس للمخالف عقوبة أو ثواب دنيوي لأنها شؤن تخص الله وحده وهو العارف بعبيده وخفايا ضمائرهم ،  وليست حقا مشاعا لأي كان من بني الإنسان مهما طالت لحيته وأظهر ورعه وتقواه ، فكل تلك مكاسب لنفسه ولمصيره الأبدي ولا تعطيه الحق على غيره من الناس ، ولا أن يسلب الله اختصاصاته ، فالأمر والقرار بشأنها مؤجل إلى يوم الحساب الأخروي حيث ستقف كل اللحى والراقصات وشاربي الخمر ومقيمي الصلاة في طابور واحد حتى صدور الحكم ، الذي لاشك سيفاجئ الجميع لأنه سر الله وحده ، فهي تؤدى لله وهو من يجازي عليها ، فإن كانت أعمالنا لاترضي بعضنا فلا شأن لرضاه من عدمه بالأمر فهو شأن الله وليس شأن السلفي أو الإخواني فالله وحده هو الخبير ، لذلك لم نسمع يوماً أن الحاكم أو الأزهر قد احتفى أو أثاب مؤمناً لأنه أحسن الصلاة ، أو لأنه حج واعتمر مراراً ، وما دامت القاعدة أنه لاوجود لثواب لمن أجاد اتباع الأوامر والنواهي حسب المبدأ السني ( لايدخل ابن آدم الجنة بعمله إنما برحمة من ربه بعد أن تقرر أن جميع أفعال بن آدم قد قررها الله عليه سلفا قبل أن يخلقه )، فإن القاعدة حتى تكون عادلة لابد أن تقول أيضاً أنه لاعقوبة أرضية على من قصر في الأداء أو خالف القواعد ، والعجيب بشأن دعة آخر الزمان أنهم يرون  قيام العقاب على الأرض دليلا على العدل الإلهي ، وأنهم المكلفون بالتنفيذ ، رغم أنه  يلزم عدلا عدم إنفاذ العقوبات فقط ، ليقوموا بدور الجلاد وحده ، مع تغاضيهم عن الإثابه وتركها لله يوم الدين وقد يمنحنا إياها وقد لايفعل ، وذلك سيكون جوهر الظلم ومعدن الجور والعسف والاستبداد باسم الله الرحمان الرحيم ، فيقرروا عقابنا إن تركنا الصلاة ، ولا يثيبوننا إن أتيناها ، أما العدل حسب منطق العقل فهو أن يتركوا الشأن كله لله لأنهم لايستطيعون منحنا الثواب ، فقط يستطيعون توقيع العقاب ، بينما العقاب بدوره شأن إلهي ناتج عن عجز البشر في التحديد الدقيق لفرز المخطئ من المصيب ، وعجز البشر عن معرفة ماقبل الله من العبد وما رفضه ، فهي غيوب ربانية ووظيفة إلهية يسلبونه إياها  ويتألهون بها علينا .

وعليه فإن الأديان التي أقرت بوجود قيامة وحساب أخروي فيه ثواب وعقاب وجنة ونار ، لابد أن تقر لمعتنقيها بحرية أدائهم الأعمال وحرية إختيارهم مابين المعبد والملهى وبين أن أسهر تهجدا أوأسهر منادمة ولهواً، وأن تعطي المؤمنين هذه الحرية كي يكونوا مسؤلين أمام الله عن اختياراتهم في الدنيا ، وتصبح القوانين المكبلة للحريات ولحرية الاعتقاد أو المانعة للملاهي والمسارح والفنون بل وحرية الفجوروالكفر،  مانعة للفرز بين صدق التدين من عدمه ، وخالقة لمؤمنين مجبرين منافقين يبطنون غير ما يظهرون خوف كسر الممنوع والوقوع في العقوبة جلداً أو قطعاً أو رجماً. ويتوقف الفرز للمؤمن الصادق من المنافق ، ويختلط الذئب بقطعان الغنم ، بينما ترك المساحات للحرية وترك الاختيار بين الممنوع والمسموح  يعمل ، يُمكن التقي من الشعور بالتميز وهو يرى أمامه العصاة ويكتشف نفسه كرجل طاهر، فالحرية هي قوام أي دين صحيح لايُجبر ولآيُكرة ولايقمع ولا يمنع ، فحرية أن تعتقد أو لاتعتقد هي شأن شخصي ما دامت لا تلحق ضرراً بالمشترك الاجتماعي العام ، ومن يحاسب الناس فيما يتعلق بالشأن الديني هو صاحب الدين الذي يمتنع معه الوسطاء والنواب .

إن غياب الحريات خاصة الدينية ( في مبدأ أهل السنة والجماعة : إنه لايدخل ابن آدم الجنة بأعماله إنما برحمة من ربه ) هو محاولة مفضوحة لسلب الله أهم وظائفه ( الحساب على الأعمال ) ووضعة بيد كل أفاق أثيم ، عُتُلُ بعد ذلك زنيم ، ليكون إلها في الأرض يعاقب على الأعمال ، أما تعليق دخول الجنة أو النار بإرادة الله ومشيئته وعدم تعلقه بالأعمال ، فهو ما يجعل الإنسان في النهاية غير مسؤول عن أعماله ، ويقتل الضمير الإنساني ويقضي عليه قضاء مبرماً، مادام بإمكانه ستر موبقاته عن أعين الرقابة البشرية القاصرة ، والتي هي مهمة غير ممكنة للبشر لتعلقها بمراقبة الضمير وخائنة الصدور ومايجري سراً ، فقط الغبي المسكين أو صاحب الحظ العاثر هو من يسمح بكشفة لتتم عقوبته  ، وهكذا يجعلون من يوم الحساب مهزلة بلا معنى وعبثا ظالما ومزاجية متقلبة للإله بعد أن أدى نوابه في الأرض مهامه الأساسية ، ويؤدي بالضرورة إلى محاباة الإله لمن يريد يُمتعه ، وظُلمه لمن يريد يعاقبه ، وتبقى اللحية والزبيبة والقُدرة على شحن العوام الغرائزي والقُدرة على إرهاب الآخرين ، هي الباب للتحالف مع الله وأخذ التوكيل منه في الدنيا والحصول على جنته في الآخرة .

إن مثل هذا الاعتقاد يجعل الدين شيئاً لا لزوم له ، ويتيح الفرص الرخيصة للفوضى والبهيمية  دون رادع نتيجة المساواة أمام الله يوم الحساب بين المُخطئ والمُصيب ، ويترتب عليها أن الفعل الحسن أو القبيح مفروض على الإنسان استناداً لمعنى المشيئة الإلهية التى تجعل كل فعل بن آدم يتم بقرار مُسبق من الله جبراً ، وهو مااستندت إليه السنة في قرارها لايدخل بن آدم الجنة بعمله فمارميت إذ رميت لكن الله رمى ، ولا تقولن لشئ إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله .

لهذا كان قرار المعتزلة المتزمتين في توحيدهم ،أن الدنيا في تغير دائب ، لذلك يمكن للنص أن يخالف مصالح العباد وهومايحكم فيه العقل البشري ، فرجحوا حكمه على حكم النقل ، حتى قالوا قولة شديدة البساطة للعقل ، وشديدة النكارة لمن لايستخدم العقل ، وهي أنه كي يتم العدل الإلهي يوم الدين ، لابد من وجود الحرية ، ووجود الخُطاة ، وأصحاب الأديان المختلفة ، لذلك خلقهم مختلفين ، ولولا هذ الاختلاف لفسدت الأرض بحسب الآي القرآني ، والخُلاصة البسيطة في جملة مفيدة واحدة هي قولهم  " إن العدل واجب على الله ، خارج عن معنى المشيئة "

ويقول د. أحمد محمود صبحي وهو أحد العارفين بالمعتزلة عن تخصص : إنه " بين أصل العدل وأصل التوحيد اتصال ، فالتوحيد لدى المُعتزلة أهم الصفات الإلهية ، أما العدل فأهم صفة للعقل الإلهي .. فالعدل بوصفه متعلقا بالعقل فهو صلة الله بالإنسان، تلك الصلة التي يجب أن يسودها من جانب الله العدل ، وذلك مدخل الأخلاق / ص/ 45 " . وهو القول الذي يجعلنا نقف دهشين ويناقض بشدة قرار اختص به المعتزلة دون بقية الفرق ، ألا وهو " إذا تعارض حكم العقل مع حكم النقل – أي النصوص - رجحنا حكم العقل وعملنا به " ، وهو مايعني تنحية الدين جانبا عندما تتعارض نصوصه مع متطلبات وقواعد المنطق البشري . وهو ما يعني أيضا أنهم يعلمون يقيناً أن نصوص الشرع ستخالف حتماً حكم العقل ، وأن أحكام هذه النصوص قابلة للتعطيل بحكم التطور، وبحكم التغير الزمني  ، وتحول المجتمع من أُمي إلى قارئ إلى عارف إلى مكتشف إلى مخترع إلى خالق ، وأنه عندما يكتشف العقل ذلك فعليه أن يحل محل النص ويستوي مكانه ، في التعامل مع مستجدات واقع لايكف عن التغير ، مُنحياً الدين عن المشترك المجتمعي  والعلمي والحياتي إلى داخل دور العبادة ، مع كل التوقير والاحترام بالطبع .

ولمزيد من التبسيط بشأن المعتزلة نحاول تفكيك مفهوم العدل المعتزلي ، ولماذا رفضوا العدل الإلهي إذا تعارض مع العدل الإنساني ، بل وصوابية العدل الإنساني إذا تعارض مع الأحكام الإلهية ، مع طرح رؤيتنا التي ستتباعد عن هذه المفاهيم المعتزلية ، تبعا لاختلاف الزمان بالكلية عن زمن المعتزلة .

ونفهم بداية أنه ليس من الضروري والحتمي أن يتفق مفهوم العدل الإلهي مع مفهوم العدل البشري ، كما نفهم أيضا من تمسكهم بالتوحيد والتنزيه للذات الإلهية ، وحتى يكون المُعتزلة مُتسقين مع هذا المبدأ ، أنه ليس لنا أن نصدر حكم قيمة على الفعل الإلهي ، أو أن نضعه موضع قياس وتصنيف فنقول أنه فعل عدل ، لأنه لو جاز لنا ذلك لجاز لنا قول النقيض مع فعل إلهي آخر ، كذلك صفات الله لايجوز إعتبارها تجسيماً بل هي رموز ، ولا يقول بها إلا الله نفسه لأنه وحده العارف بذاته وصفاته ، وهو المُدرك الأوحد لذلك وليس البشر ، لأن العقل البشري ليس في مُكنته استيعاب تلك الذات وتلك الصفات ، وكي يفهمها يضطر إلى التجسيم والتشبيه ، كذلك لايجوز إقتباس صفات الله للاستعمال البشري ، وإلا كنا شركاء له في صفاته ، كما لايجوز لنا أن نصفه بما نصف به أنفسنا فهذا يجعله شبيها بنا وتنتفي عُلويته الكلية ، وهنا تصبح مفاهيم المُعتزلة مرتبكة ومستشكلة ، فقولهم بمشاركة الله لنا في صفة العدل ، يجعل الله المفترض فيه التوحيد التام حسب مبادئهم ، في مجال مشترك واحد يقف فيه الإنسان والله معا على قدم وساق ، وهو العدل .

ولتفهم العدلين يصح لنا التفريق بينهما بداية حتى لا يضيع التوحيد في مشترك العدل ، هنا يقول لنا القاضي عبد الجبار المُعتزلي في كتابه الأصول الخمسة : " إن عدل الإله مطلق أما عدل الإنسان نسبي " ، وهو بدوره لايحل المشكلة لأنه يصادم التنزيه المطلق الذي يصر عليه عبد الجبار، فهو كأنما يُعطي رتبة للعدل الإلهي بأنه مطلق قياسا على البشري النسبي ، وهومايجيز في مواقف أخرى إعطائه رتبة أنه حسن ، أو جيد ، أو مقبول .؟

لاحل هنا سوى الاعتراف الهادئ أن الصفات الإلهية هي شأن بشري وتصور بشري ، وأن ماورد في النصوص يتفق ومفاهيم بدو بدائيين بلا معرفة ولاعلم ولا ثقافة ولا حتى قدرة على الفهم ، فخاطبهم على قدرهم الجهول ، وكان خطاب النصوص موجها لهؤلاء الجهلاء بشكل خاص ، فهو نص عربي ولم يكن في الدنيا عربا سوى في جوف بوادي شبه الجزيرة ، بل أن تباعُد مضارب القبائل كاد يخص كل قبيلة بلغة تختلف عن لغة القبائل الأخرى ، حتى أنها كانت لاتفهم مفردات بعضها البعض ، ولم تكن لهجات إنما لغات ، حتى أن النبي كلما قال حديثا أو آية استشكل فهمها على بعضهم وفهمها البعض الآخر ، وتمتلئ كتب الحديث بهذه الأسئلة المستفسرة عن معاني كلمات وردت بالحديث ، فما هو القسورة ، وماهو التيس المستعار ، وماهو الرويبضة .. إلخ ، وعند جمع القرآن في لجنة برئاسة زيد ابن ثابت ، قال لهم الخليفة عثمان إذا اختلفتم في شئ فاكتبوه بلغة قريش ، وهكذا صار الخطاب حينذاك موجها لقريش وحدها ، فالوحي بلغتها وهي التي تفهمه ، ومنهم نبيها ، لذلك يكون مفهوما النص على أن تكون الخلافة في قريش إلى يوم الدين ، ما بقى منهم إثنان .

إن عجز العقل عن تصور مفهوم المطلق المتعالي اللانهائي في تلك الأزمان ،وفي أغرق المجتمعات في بدائيتها ، وفي وسط أمي لايعرف القراءة أو الكتابة ، جعله يدخل مفهومه عن الله في مقارنة مع باقي المدركات الحسية التي يمكن للعقل تصورها ، حتى لو كان " ليس كمثله شئ " فهي أيضا مقارنة مع الأشياء المحسوسة للإنسان ، وأي مقارنة إنما تنقص من شأن الفردانية الربوبية الواحدية التي لامجال لمقارنتها بالمحسوسات المجسمة كما يريد المعتزلة . ولأن مانفهمة نحن البشر من معنى ( الواحد ) يشمل مُتعددات ، فالواحد هو نوع لمفردات يتضمنها ، فالأوكسيجين واحد والنيتروجين واحد والذهب واحد ، بينما حقيقتها أن كل منها يحتوي مليارات الذرات النيتروجينية أو الذهبية ، فالواحدية بالنسبة للعقل البشري مستحيلة التصور ، لأن مفاهيم العقل البشري لا تتجاوز معرفة المحسوس ، ولا علاقة لها بعالم الغيب وليس من ممكناتها دخول عالم الربوبية .

والقول المعتزلي بأن عدل الله مطلق وعدل الإنسان نسبي ، يُجانبه الصواب ، لأن العدل في مفهوم العقل البشري دوما وأبداً هو نسبي ، يختلف باختلاف المجتمعات ، فما هو عدل في مجتمع ، هو شر خالص في مجتمع آخر أو زمن آخر ، ويفترض أيضاً أن القول بعقل إلهي كلي مطلق ثابت لايتغير ولا يتبدل بأثر المكان أو الزمان ، وأن الإنسان ذو عقل نسبي تتغير مفاهيمه بتغير الزمكان ، لابد أن يؤدي بالنتيجة إلى أن الحقيقة الصادقة لمعنى العدل تقترب به من الإنسان بل هو لصيق بالإنسان وبعيد عن الإله . وهو ما يفضي إلى التساؤل : كيف يمكن لنا كبشر أن نعاير ونقيس العقل الرباني الثابت المطلق ، بالعقل البشري المتغير المتحول دوماً وأبداً ؟ .

أتصور أنه للخروج بأهل العدل والتوحيد المعتزلة من هذا المأزق الفلسفي يجب أن نعثر عليه عند أهل الاعتزال أنفسهم ، فعندما أقروا باختلاف العقلين والمنطقين والعدلين إلى درجة تناقض الحدين ، إنما كانوا يعنون منطقا واستنتاجا للفاهم المدقق : أن العقل الإلهي وعدله لاعلاقة له بأحكام المعاملات بين الناس في دنيانا الأرضية ، ومن ثم نستنتج بالضرورة أن العدل الإلهي هو عدل كوني غير مقصور على بني البشر وعلاقاتهم المجتمعية وأنظمتهم السياسية ، هو عدل يليق بالكون الهائل الذي يصعب تصور هوله وأبعاده بدوره ، وعدل الكون هو بما نفهمه اليوم قوانين صوارم ثوابت مطلقة لاتتبدل ولاتتغير ، وإن تغيرت إختل نظام الكون فتأتي الشمس من المغرب أو ينشق القمر أو تتصادم الكواكب والشموس وينهار الوجود ، عدل إلهي كوني مهمته تحقيق توازن الكون وانسجامه ، وما ترى في كون الله من تفاوت . وأيضا لابد لنا أن نُسلم بعدما اكتشف عباد الله الصالحون في بلاد الغرب تلك القوانين ، وعلموها للإنسانية كلها دون التفرقة بسبب جنس أو لون أو دين ، أن نستنتج أيضاً أن هذه القوانين العدلية الربانية  لابد قد وضعت يوم تًكون الكون ووجد ، فخُلقت معه في البدء مع أمر التكوين بكلمة الناموس أو اللوجوس ( كُن ) فكانت ، ووجدت دفعة واحدة ومرة واحدة فانسجم الوجود بعدل الله طائعاً أو راغماً لايحيد عنه ، بينما البشر يخرجون على كل القواعد ويكسرون كل القوانين مما يشير إلى أنهم خلق مختلف، له مهمة مختلفة هي الخلافة في الأرض وإعمارها ،  لذلك فازوا بالحرية التي أعطاها لهم الله ممثلة في الأمانة التي رفضت السماوات والجبال والأرض حملها ، واحتمل الإنسان هذه الحرية ليضع قوانين عدله بنفسه فكان الموصوف بين بقية الخلائق بالكريم ( ولقد كرمنا بني آد م ) ، وهو في ذلك يتميز بالفرادة التامة عن بقية الموجودات الخاضعة لقوانين العدل الإلهي ،التي ندركها اليوم بعقولنا الحرة بعد مرورها على حواسنا فنكتشف عدله الإلهي ، الذي ماكان ليُعرف دون وجود الإنسان الذي تم خلقه ليعرفه ( ويقول الله إنه كان وحيدا في الأزل فأحب أن يُعرف فخلق بني آدم ليعرفوه ) ، فقوانين الكون هي السبيل إلى معرفته مثل قوانين الحركة في الفيزياء وقوانين التكوين النووي للخلايا في الكيمياء وقوانين التطور في البيولوجي ، هي منتج العدل الإلهي والعقل الرباني الصارم القهري ، الذي يتم فيه تنفيذ الأوامر الإلهية آليا دون عصيان ، فشروق الشمس ومغربها وحركة الرياح والأفلاك ليس فيها خيار حر ، لأنها تخضع لنظام عدلي صارم محكم . ومنح البشر الأمانه / أو حرية الفهم والكشف والإرادة العصية على التطويع ، حتى ينظر بها في عدل الرب الكوني ليعرف نواميسه ، ويُطوعها لإعمار الأرض ويحقق القرار الإلهي بالخلافة للإنسان عن الله في الأرض ، وصنف الله تلك القوانين بما يتناسب مع كل مرحلة تطورية في عمر البشرية ، وكلما ارتقى الإنسان إلى طور حضاري جديد إكتشف المزيد ، وكلما إستخدم حريته كلما تعرف على قوانين الوجود أكثر وأعمق وأفضل ، بيما توقف بعض البشر عند البدايات الخلقية الأولى ثابتين خاضعين للنواميس الكونية فكانوا كالأحجار أو الحيوانات المحكومة بقوانين البقاء الغرائزية القردية ، طعاماً للبقاء أحياء ، وجنساً لبقاء النوع ، مفضلين الخضوع للعدل الكوني عن العدل النسبي ، أو العدل الإلهي عن العدل الإنساني ، بينما ارتقى الإنسان في مناطق أُخرى ليجد بانتظاره عند كل مرحلة إرتقائية قوانين عدلية كونية جديدة كان يجهلها ، أوجدها الرب عند بدء الخلق لتدير له هذه المرحلة .

وعليه نلاحظ أن أهم القوانين العدلية الإلهية المتعلقة بالإنسان ، هي الغرائز، وهي قوانين الله الصادقة والصالحة لبدء التكوين البشري ، فوقفت إلى جانب الإنسان في محنة هبوطه إلى الأرض ، لتحميه وتمكنه من البقاء في بيئة وحشية لاترحم ، وبها تمكن من التفاعل مع بيئته القاسية ، ومجتمعه الصراعي من أجل البقاء ، وبعدها إكتشف الأمانة / الحرية ، فقام ينظم غرائزه ويتحكم فيها ليبدأ خطوه التطوري نحو الحضارة حتى بلغ طور المشترك المعبدي ثم المجتمع المدينة ( الممالك الأولى كانت لاتعدوا كونها مدنا مُسورة ) ، ثم المجتمع الدولة بعد عدة نقلات تطورية ، إنتهت به إلى عقد إجتماعي أوقف الصراع البشري مع بعضه البعض ، ليحوله إلى صراع مع الكون لتطويعه لمزيد من الرفاهة والأمان والسلام ، وهكذا أنهى العدل الإلهي مُهمته مبكراً ولم يعد مرتبطا به سوى الجماعات البدائية شديدة التخلف ، والتي ما زالت تعتمد العنف والخُبث الوحشي والاغتصاب والسلب والنهب والقتل كأدوات غرائزية للبقاء والاستمرار .

وإعمالا لذلك نفهم أن الله قد ترك لنا مهمة كشف قوانين عدله في الكون وقدرة الكشف عنها ، ومن ثم لايعود للعدل الإلهي مكانا في العصر الحاضر الأرضي البشري ، ولا علاقة له بالشأن المعاملاتي الإنساني ، فهو ليس للفصل في الخصومات وهي الشؤن الهينة التي يضعها الإنسان لنفسه وتتعالى عليها الذات الإلهية ، ولا علاقة له بقوانين المرور أو الجمارك أو الوثائق الدستورية أو النظم الدولية ، ولن يتم عقاب الإنسان إن فشل في إختراع ولن يثاب إن نجح في اكتشاف ، أو في وضع دساتير تنظم معاشه وتوفر لمجتمعه الوئام والسلام ، فهذ عقل ، وذاك عقل ، وهذ عدل وذاك عدل ، وبينهما أمانة / حرية / تترتب عليها المسؤلية ، فهي بينهما برزخ حتى لا يبغيان ، لأن العدل الإلهي لاتتبعه مُساءلة الله عن النتائج ، أما العدل البشري فتتبعه مساءلة ومحاسبة للإنسان ، لكشف شره من خيره ونفعه من ضره وصدقه من زيفه وكذبه ، وفق القوانين التي يضعها المجتمع لنفسه ويتوافق عليها كل ألوان طيفه .

وهكذا يكون العدل الإلهي قد أدى مهمته مبكراً وانتهى منها عند بدء الوجود على الأرض ، أو عند بدء الخليقة حسب النظرية الدينية في التكوين ، وهو العدل الغير موجود اليوم في عالم البشرية الراقية التي تباعدت بعدلها البشري عن طور الحيوانية ، وهو العدل الغير ممكن تفعيله ، لكنه باق واضح في الكون وقوانينة من الجاذبية إلى الطاردة المركزية .. إلخ ، وبالأمانة / الحرية نجد العدل الإلهي ممثلا في توفير مستلزمات الحياة من غلاف غازي فيه الأوكسيجين وفيه الهيدروجين وفيه الأوزون ليحمينا من الإشعاعات الشمسية ، ومنحنا أيضا القدرة على الاستمتاع باكتشاف قوانينه العدلية الكونية ، ليكمل العقل البشري مهمة العدل الإلهي فيشق الترع ويحول الأنهار ويقيم السدود ويكتشف الطاقة ويزرع الأرض ، ويخلق زرعا لم يكن له على الأرض من قبل وجودا ، بل ويذهب بحريته إلى أبعد مدى ليطبق حريته على الكون والوجود في النظرية النسبية .

ولو قبلنا هذه الفكرة التي أسسناها على تكئة المعتزلة ، وأسندناها إلى أصول اعتقادية لاتصادم الإيمان ( قدر الممكن بالطبع لأن الأديان بطبعها عصية على التوظيف الحضاري البشري ) ، فستكون كفيلة بطرد كل الأساطير والخرافات وإبعاد الدهاقنة والمسترزقين بالدين على حساب إنسانيتنا وحقنا في الحرية المؤسسة للعدل البشري ، وتدفع المسلم شديد التخلف رغم ما أفاءه الله على منطقته الجغرافية من عدله الكوني ، ليقيم لنفسه مكاناً ولايظل عبئاً ثقيلا على البشرية ، وأن يعتمد على نفسه وعلى عقله ليستخدم الأمانة / الحرية ، ويلحق بمن خلفوا الله في الأرض ، ويبتعد عن الهمجية والعدوانية البدائية التي لاتليق بالبشرية .

اجمالي القراءات 14354