أمر الله بالاجتماع في الدين ونهى عن التفرق فيه، فيبين الله هذا بيانًا شافيًا تفهمه العوام، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا فهلكوا،
هل الإختلاف رحمة...؟

محمد صادق في السبت ٠٨ - ديسمبر - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

هل الإختلاف رحمة...؟

 

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ  والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ...

من البداية، أشكر أخى الكريم الأستاذ أحمد شعبان الذى أنار لى الطريق لكتابة هذه المقالة المتواضعة، بعد ما قرات له  آخر مقاله بعنوان " رسالة نور الألفية الثالثة ". جزاك الله كل الخير وزادك علما.

لابد ان نتصفح سويا بعض من أقوال رجال النقل بدون عقل، الذين هم سبب الإختلاف والفرقة بين المسلمين.

قول الشيخ القرضاوى

والاختلاف ـ مع كونه ضرورة ـ هو كذلك رحمة بالأمة، وتوسعة عليها، وقد روي في ذلك حديث اشتهر على الألسنة لا يعرف له سند، وإن كنت أرى أنه صحيح المعنى، وهو ما ذكره السيوطي في الجامع الصغير عنه صلى الله عليه وسلم: "اختلاف أمتي رحمة". ويؤيد معنى هذا الحديث ما رواه الدارقطني وحسنه النووي في الأربعين: "إن الله تعالى حد حدودا فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعونها، وحرم أشياء فلا تنتهكوها وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها.

فما هو رأى العلامة السبكى فى حديث: " اختلاف أصحابي لكم رحمةو أصحابي كالنجوم؛ فبأيهم اقتديتم اهتديتم"

لم أقف له على سند صحيح ، ولا ضعيف ، ولا موضوع. قلت: وإنما روي بلفظ ( اختلاف أصحابي لكم رحمة) و  (أصحابي كالنجوم؛ فبأيهم اقتديتم اهتديتم): يقول العلامة السبكى: وكلاهما لا يصح: الأول واه جدّاً ، والآخر موضوع ، وقد حققت القول في ذلك كله في ( سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة ) ( رقم 58 و 59 و61 ).

الثاني: أن الحديث مع ضعفه مخالف للقرآن الكريم ، فإن الآيات الواردة فيه- في النهي عن الاختلاف في الدين ، والأمر بالاتفاق فيه- أشهر من أن تذكر ، ولكن لا بأس من أن نسوق بعضها على سبيل المثال ، قال تعالى: ?ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم? [ الأنفال 46 ] . وقال: ?ولا تكونوا من المشركين من الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعاً كل حزب بما لديهم فرحون? [ الروم 31- 32 ] . وقال: ?ولا يزالون مختلفين . إلا من رحم ربّك? [ هود 118- 119 ] ، فإذا كان من رحم ربك لا يختلفون ، وإنما يختلف أهل الباطل ، فكيف يعقل أن يكون الاختلاف رحمة ؟

فثبت أن هذا الحديث لا يصح ، لا سنداً ولا متنا.

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب

أمر الله بالاجتماع في الدين ونهى عن التفرق فيه، فيبين الله هذا بيانًا شافيًا تفهمه العوام، ونهانا أن نكون كالذين تفرقوا واختلفوا قبلنا فهلكوا، وذكر أنه أمر المسلمين بالاجتماع في الدين ونهاهم عن التفرق فيه، ويزيده وضوحًا ما وردت به السنة من العجب العجاب في ذلك، ثم صار الأمر إلى أن الافتراق في أصول الدين وفروعه هو العلم والفقه في الدين، وصار الاجتماع في الدين لا يقوله إلا زنديق أو مجنون. إنتهى...

أليس هذا إختلاف بين علماء المسلمين الذين هلكوا أنفسهم وأهلكوا الأمة من ورائهم حتى خرجوا على الناس بالكفر لمن يعارض هذا الحديث وكل الأحاديث مثله، فأين المفر... ففروا إلى الله هو الحق المطلق.... فروا إلى القرآن الكريم تجدوا فيه ما يرضيكم ويرضى رب العباد ويدخلكم جنات النعيم وعد الله حقا وهو العزيز الحكيم. ‏

الاختلاف بين الناس أمر واقع ومشاهد، لا يستطيع أن ينكره عاقل، إنما يأتي التلبيس عندما يزعم البعض أن هذا الاختلاف أمر يرضاه الله عز وجل ويحبه، وأنه الغاية من خلقه بني آدم! ويحملون على هذا المعنى الباطل قوله تعالى " " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ ... "  11:118,119

ويسيئون فهم قول بعض المفسرين عند هذه الآية: "وللاختلاف خلقهم" فيظنونه يشهد لباطلهم.

وينتج عن هذا: أن لا يروا بأساً في تفرق المسلمين واختلافهم على مذاهب وفرق شتى، بل هذا عندهم من باب "التنوع" و"التعددية" اللذين يثريان الحياة الإسلامية ويزيدانها بهاء. فتجد أحدهم يفتخر بوجود الفرق البدعية والمنحرفة في تاريخ المسلمين ، ويعد هذا دليلاً على تسامح المسلمين وقبولهم الرأي الآخر. ولم يكتف بعض غلاتهم بتسويغ الاختلاف بين المسلمين، حتى ذهب يسوغ اختلاف الكافرين، ويعده –أيضاً- من باب "التعددية" التي يحبها الله عز وجل ويرضاها لعباده! فعنده أن اليهودية والنصرانية وغيرها شرائع صحيحة ومتنوعة، جميعها موصلة إلى الله عز وجل، لا فرق بينها عنده.

قال شيخ الإسلام –رحمه الله-: "فمن لم يقر باطناً وظاهراً بأن الله لا يقبل ديناً سوى الإسلام فليس بمسلم، ومن لم يقر بأن بعد مبعث محمد صلى الله عليه وسلم ليس مسلم إلا من آمن به واتبعه باطناً وظاهراً فليس بمسلم، ومن لم يُحَرم التدين بعد مبعثه صلى الله عليه وسلم بدين اليهود والنصارى، بل من لم يكفرهم ويبغضهم فليس بمسلم باتفاق المسلمين"(الفتاوى 27/463-464.  إنتهى قول الشيخ ...

"  " وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ

وبعض الجهال يستدل بهذه الأدلة على وجوب التسليم والإذعان للاختلاف، لأن الله أراده! وهذا يلتبس على من لا يفرق بين ما أراده الله وقضاه كوناً، وما أراده وقضاه شرعاً. فالخلاف مما قضاه الله وأراده كوناً لحكمة بالغة، حتى يتميز المتبع من المبتدع، ويقوم المتبع بمجاهدة المبتدع بالحجة والبيان. فالخلاف كالكفر باعتبار إرادة الله له كونا، فالله لا يحبه، ولكنه سبحانه شاءه وأراده إرادة كونية.

ثم هذه الدعوة الباطلة التي يدعو إليها هؤلاء بتسويغهم الاختلاف بين الأمة تنافي الآيات الآمرة لها بعدم التفرق والاختلاف، والمحذرة لهم من هذا الأمر الذي وقع فيه من قبلهم. فعلى سبيل المثال لا الحصر:

ومن ذلك قوله تعالى : " وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ " 3:105

ويقول سبحانه فى موضع آخر: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ "30:32,31

الإختلاف يؤدى إلى التفرقة والتفرقة تؤدى إلى الجدال والخصام ثم إلى العصبية العمياء وهذا يؤدى إلى السب والشتائم ثم يؤدى إلى الخصومة والإتهام بالكفر وأحيانا يؤدى إلى اقبح من ذلك. فمن أين أتت الفرقة بين المسلمين، ولكى نجيب على هذا السؤال علينا أن نتوجه إلى كتاب الله السميع البصير ونبتهل من بعض آياته الكريمات ونترك الايات الكريمات تتكلم بنفسها ولا تحتاج إلى توضيح أو تحليل لأنها آيات بينات للعاقلين والعالمين. على سبيل المثال لا الحصر:

1- " شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوافِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ " 42:13

2- " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ " 6:159

3- " وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ"3:105

التحاكم إلى غير شريعة الله:

إن الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت - أي إلى غير شريعة الله - لا يقبل منهم زعمهم أنهم آمنوا بما أنزل إلى الرسول وما أنزل من قبله . فهو زعم كاذب . يكذبه أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت:

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا"  59-4:60

فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ:

ردوه إلى النصوص التي تنطبق عليه ضمنا . فإن لم توجد النصوص التي تنطبق على هذا النحو فردوه إلى المبادى ء الكلية العامة في منهج الله وشريعته . . وهذه ليست عائمة ولا فوضى ولا هي من المجهلات التي تتيه فيها العقول كما يحاول بعض المخادعين أن يقول . وهناك - في هذا الدين - مبادى ء أساسية واضحة كل الوضوح تغطي كل جوانب الحياة الأساسية وتضع لها سياجا لا يخفى على الضمير المسلم المضبوط بميزان هذا الدين.

"إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر.........ِتلك شرط الإيمان بالله واليوم الآخر، فلا يوجد الإيمان ابتداء وهذا الشرط مفقود ولا يوجد الإيمان ثم يتخلف عنه أثره الأكيد.وبعد أن يضع النص المسألة في هذا الوضع الشرطي يقدمها مرة أخرى في صورة "العظة " والترغيب: ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا.

أن هذا المنهج معناه:أن يستمتع "الإنسان" بمزايا منهج يضعه له الله . . الله الصانع الحكيم العليم البصير الخبير . . منهج بريء من جهل الإنسان وهوى الإنسان وضعف الإنسان . وشهوة الإنسان . . منهج لا محاباة فيه لفرد ولا لطبقة ولا لشعب  لأن الله رب الجميع .

ومنهج من مزاياه أن صانعه هو صانع هذا الإنسان . . الذي يعلم حقيقة فطرته والحاجات الحقيقية لهذه الفطرة كما يعلم ضعف نفسه ووسائل خطابها وإصلاحها فلا يخبط  في تيه التجارب بحثا عن منهج يوافق . ولا يكلف البشر ثمن هذه التجارب القاسية حين يخبطون هم في التيه بلا دليل ! وحسبهم أن يجربوا في ميدان الإبداع المادي ما يشاءون . فهو مجال فسيح للعقل البشري . وحسبهم كذلك أن يحاول هذا العقل تطبيق ذلك المنهج ويدرك مواضع القياس والاجتهاد فيما تتنازع فيه العقول.

ومنهج من مزاياه أن صانعه هو صانع هذا الكون الذي يعيش فيه الإنسان . فهو يضمن للإنسان منهجا تتلاءم قواعده مع نواميس الكون فلا يروح يعارك هذه النواميس . بل يذهب يتعرف عليها وينتفع بها والمنهج يهديه في هذا كله ويحميه.

ومنهج من مزاياه أنه - في الوقت الذي يهدي فيه الإنسان ويحيميه - يكرمه ويحترمه ويجعل لعقله مكانا للعمل في المنهج . . مكان الاجتهاد في فهم النصوص الواردة . ثم الاجتهاد في رد ما لم يرد فيه نص إلى النصوص أو إلى المبادى ء العامة للدين . . ذلك إلى المجال الأصيل الذي يحكمه العقل البشري ويعلن فيه سيادته الكاملة: ميدان البحث العلمي في الكون والإبداع المادي فيه.

بيان الحكم عند الإختلاف، والقول الفصل الذى لا قول بعده:

" كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ  وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ  وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ " 2:213

" وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ "42:10  ويقول ايضا:

إنه يرد كل اختلاف يقع بين الناس إلى الله: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله). . والله أنزل حكمه القاطع في هذا القرآن وقال قوله الفصل في أمر الدنيا والآخرة وأقام للناس المنهج الذي اختاره لهم في حياتهم الفردية والجماعية  وفي نظام حياتهم ومعاشهم وحكمهم وسياستهم وأخلاقهم وسلوكهم . وبيّن لهم هذا كله بياناً شافيا . وجعل هذا القرآن دستوراً شاملاً لحياة البشر أوسع من دساتير الحكم وأشمل . فإذا اختلفوا في أمر أو اتجاه فحكم الله فيه حاضر في هذا الوحي الذي أوحاه إلى رسوله  لتقوم الحياة على أساسه.

فها هو ذا رسول الله ونبيه يشهد أن الله هو ربه وأنه يتوكل عليه وحده وأنه ينيب إليه دون سواه . فكيف يتحاكم الناس إذن إلى غيره عند اختلافهم في شيء من الأمر. وكيف يتجهون في أمر من أمورهم وجهة أخرى، والنبي يتوكل على الله وحده وينيب إليه وحده بما أنه هو ربه ومتولي أمره وكافله.

واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن ينير له الطريق ويحدد معالمه فلا يتلفت هنا أو هناك. واستقرار هذه الحقيقة في ضمير المؤمن فلا يجد أن هناك منهجاً آخر أو طريقاً يصح أن يتلفت إليه ولا يجد أن هنالك حكماً غير قول الله وحكمه يرجع عند الاختلاف إليه.

وعقب تقرير هذه الحقيقة يحكي قول رسول الله  مسلِّما أمره كله لله منيبا إلى ربه:

" فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ "42:11

فالله منزل ذلك القرآن ليكون حكمه الفصل فيما يختلفون فيه من شيء . . هو (فاطر السماوات والأرض ).

والله الذي يجب أن يرجعوا إلى حكمه فيما يختلفون فيه من شيء هو خالقهم الذي سوى نفوسهم وركبها: (جعل لكم من أنفسكم أزواجا).

وهو الذي أجرى حياتكم وفق قاعدة الخلق التي اختارها للأحياء جميعا: (ومن الأنعام أزواجاً). . فهنالك وحدة في التكوين تشهد بوحدانية الأسلوب والمشيئة وتقديرها المقصود . . إنه هو الذي جعلكم - أنتم والأنعام - تتكاثرون وفق هذا المنهج وهذا الأسلوب.

ومع أنه - سبحانه - (ليس كمثله شيء). . فإن الصلة بينه وبين ما خلق ليست منقطعة لهذا الاختلاف الكامل . فهو يسمع ويبصر: (وهو السميع البصير). . ثم يحكم حكم السميع البصير.

 " لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " 12:42

فهو رازقهم وكافلهم ومطعمهم وساقيهم . فلمن غيره يتجهون إذن ليحكم بينهم فيما يختلفون فيه ? وإنما يتجه الناس إلى الرازق المتصرف في الأرزاق . الذي يدبر هذا كله بعلم وتقدير: (إنه بكل شيء عليم). . والذي يعلم كل شيء هو الذي يحكم وحكمه العدل وحكمه الفصل.

" شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ  أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ " 42:13

لقد جاء في مطلع سورة الشورى والذى نحن بصضدها:(كذلك يوحي إليك وإلى الذين من قبلك الله العزيز الحكيم). . فكانت هذه إشارة إجمالية إلى وحدة المصدر ووحدة المنهج ووحدة الاتجاه . فالآن يفصل هذه الإشارة  ويقرر أن ما شرعه الله للمسلمين هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى.

 إذن فما هى هذه الوصية؟ " أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ".

وإذا كان الذي شرعه الله من الدين للمسلمين المؤمنين بمحمد هو ما وصى به نوحا وإبراهيم وموسى وعيسى . ففيم يتقاتل أتباع موسى وأتباع عيسى ? وفيم يتقاتل أصحاب المذاهب المختلفة من أتباع عيسى ; وفيم يتقاتل أتباع موسى وعيسى مع أتباع محمد ? وفيم يتقاتل من يزعمون أنهم على ملة إبراهيم من المشركين مع المسلمين ? ولم لا يتضام الجميع ليقفوا تحت الراية الواحدة التي يحملها رسولهم الأخير ? والوصية الواحدة الصادرة للجميع: (أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه)? فيقيموا الدين ويقوموا بتكاليفه ولا ينحرفوا عنه ولا يلتووا به ويقفوا تحت رايته صفا وهي راية واحدة رفعها على التوالي نوح وإبراهيم وموسى وعيسى - صلوات الله عليهم - حتى انتهت إلى محمد عليه السلام في العهد الأخير.

أتباع الرسل الذين جاءوا قومهم بدين واحد فتفرق أتباعهم شيعاً وأحزابا:

 " وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَىٰ أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ.." 42:14   

فهم لم يتفرقوا عن جهل ولم يتفرقوا لأنهم لا يعرفون الأصل الواحد الذي يربطهم ويربط رسلهم ومعتقداتهم . إنما تفرقوا بعد ما جاءهم العلم . تفرقوا بغيا بينهم وحسدا وظلما للحقيقة ولأنفسهم سواء . تفرقوا تحت تأثير الأهواء الجائرة والشهوات الباغية . تفرقوا غير مستندين إلى سبب من العقيدة الصحيحة والمنهج القويم . ولو أخلصوا لعقيدتهم واتبعوا منهجهم ما تفرقوا.

" وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ "

فأما الأجيال التي ورثت الكتاب من بعد أولئك الذين تفرقوا وفرقوا من أتباع كل نبي فقد تلقوا عقيدتهم وكتابهم بغير يقين جازم إذ كانت الخلافات السابقة مثارا لعدم الجزم بشيء وللشك والغموض والحيرة بين شتى المذاهب والاختلافات .

أصبح دين الله فريسة العابثين والمتلاعبين ولعبة المحرفين والمنافقين وتجار الدين.وأصبحت الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام وعسف الحكام وشغلت بنفسها لا تحمل للعالم رسالة ولا للأمم دعوة وأفلست في معنوياتها ونضب معين حياتها لا تملك مشرعاً صافياً من الدين السماوي ولا نظاماً ثابتاً من الحكم البشري.

" اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ "42:17 

فالله أنزل الكتاب بالحق وأنزل العدل وجعله حكما فيما يختلف فيه أصحاب العقائد السالفة وفيما تختلف فيه آراء الناس وأهواؤهم وأقام شرائعه على العدل في الحكم . العدل الدقيق كأنه الميزان توزن به القيم وتوزن به الحقوق . وتوزن به الأعمال والتصرفات.

النهي عن الفرقة بين المسلمين:

لقد كان هذا الأمر مما عني به القرآن الكريم أيما عناية وكذلك رسول الله عليه السلام.

الأدلة من القرآن الكريم: ومما جاء في القرآن الكريم، وهي آيات كثيرة نثبت منها قوله تعالى:

1- وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ " 6:153

2-  وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (3:103

3- " إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍإِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ " 6:159

 والآيات واضحة في معناها ودلالتها ولا تحتاج إلا إلى التطبيق بجد وإخلاص، فهي تحذر من التفرق وتدعو إلى الوحدة وجمع كلمة المسلمين، والسير في طريق واحد. فإذا تفرق المسلمون بعد ذلك فهم خارجون عن السير فيه، وحينما تفرق المسلمون أحزاباً كل حزب بما لديهم فرحون، زعمت كل فرقة أنها هي الناجية، وما عداها هالك، حتى التبس الأمر على كثير من المسلمين، ولا ينبغي أن نأبه لتلك المزاعم، بل نعرض كل ما نسمع على كتاب الله ، فما وافقه فهو الحق، وما خالفه عرفنا أنه باطل وهذا هو الميزان الذي ينبغي أن نزن به كل قول ومعتقد مهما كان مصدره .

موعظة من الذكر الحكيم لمن يتعظ...

" وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ *  وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ " 104-3:108

أما من يريد بقاء الأمة على اختلافاتها ، ويسوغ لها ذلك ، فهو مريد لها استمرار الهوان والضعف ، سواء قصد هذا أم لم يقصده ، كما قال تعالى: "  قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً" 103-104: 18.

والحمد لله رب العالمين..

 

اجمالي القراءات 25756