فرانكفورت حيث ينعي الكتابُ العربَ!
الكتاب هو عنوان أي حضارة، والأمة التي تهجر الكتاب أو تزدريه أو لا تكترث لأهميته أمة منهزمة حتى لو توّهمت أنها أمة "اقرأ"، ولو حاول كل أبنائها اقناع أنفسهم بأنهم ملتزمون بأول أمر سماوي باسم ربك الذي خلق .. خلق الإنسان من علق!
معرض فرانكفورت الدولي للكتاب احتفالية كونية بالحرف، ومهرجان تتبارى فيه دول العالم في عرض عبقرية تروس مطابعها، وإبداع مثقفيها، وجمال فنونها، واثبات أن خير جليس في الزمان لا يترهل، ولا يبهت، ولا يتراجع دوره تحت أي ظرف.
هذه المرة بالنسبة لي كانت مختلفة، فأنا هناك لأبحث عن ناشر لكتابي الثالث عشر، أو بالأحرى الأول باللغة الانجليزية الذي قضى خمسة مترجمين بريطانيين محترفين ستة أشهر لترجمة مواده من العربية، وشغلني عن كتابي الرابع عشر وهو أول رواية لي متمنيا أن تخرج إلى النور في أوائل العام القادم بإذن الله.
قضيت حوالي أربعين ساعة خلال أربعة أيام أتجول، وأشاهد، وأناقش، وأحاور، وأمتّع النظر بكنوز الدنيا حتى لو وقفت نصف ساعة أتأمل اختصار كوريا الجنوبية تطورها كله في جناحها فقد ظننت بعدها أن الكوري الجنوبي يرضع حليب الكتاب في البيت والمدرسة والإعلام، وخشيت أن تتساقط دمعتان على وجهي لأنني لا أفهم حرفاً كوريا واحدا من إشراقات الثقافة التي تخطف البصر، ثم تعيده إلى صاحبه كأنه استبدل به عيني صقر.
طبعت في أوسلوعدة نسخ طباعة أنيقة، غلافا وحروفاً وورقاً، لأتمكن من عرض كتابي على الناشرين بطريقة لا تخلّ باحترامي للكتاب.
الكتاب عن الطغاة والمتطرفين وحقوق الإنسان في عالمنا العربي، وعن الربيع العربي وسرقة الثورات وصناعة الديكتاتوريين وازدواجية المعايير الأخلاقية في التعامل الغربي مع هموم العالم الثالث، وعرضتُه على ناشرين بريطانيين وأمريكيين وأستراليين ونيوزيلانديين.
كالعادة مررت على أجنحة عالمنا العربي فرأيت أن اتفاقية سايكس بيكو كانت أيضا ثقافية، فغاب ثلاثمئة مليون عربي إلا قلة منهم تحاول جاهدة التمسك بأهداب أمة "اقرأ"، لكنها تسبح في عالم مليء بالنفور من الكتاب.
هذا العام كان الخوف من الربيع العربي دافعاً لاختباء العرب أو اختفائهم أو اعتذارهم أو عرض كتب يقرأها أي قاريء نهم في أقل من شهر.
ليبيا وتونس والجزائر والمغرب ضربت بعُرض الحائط صناعة الكتاب، فغابت تماما، عن الوعي وعن المعرض، فالثقافة صداع في الرأس، والربيع العربي يزدهر مع الوعي، والتطرف الديني ويونيفورم العسكر وسيد القصر خصوم للكتاب الذي تتحدث صفحاته عن حقوق المواطن والمساواة والحرية والمرأة وكرباج الحاكم وظهر الرعية العاري.
ثلاثة أجنحة متواضعة تمثل أم الدنيا، ولو اشترك سور الأزبكية لكان أشرف لمصر من المشاركة الخجولة.
المملكة العربية السعودية اشتركت بجناح فاخر قدمت فيه الطعام والحلويات والمصاحف، وبعض المطبوعات التي لا تتطرق إلى هموم الوطن والمواطن ولا تحث على التفكر والتدبر. عدد العاملين كانوا أكثر من الزوار، وهدايا الكتب الدينية يسيل لها لعاب من يريدون تزيين بيوتهم بها، وليس تنشيط عقولهم، وظن القائمون على الجناح أن طبق طعام شهي يعادل كتابا علميا أو تاريخيا أو سياسياً!
لا تسأل عن السودان وموريتانيا والصومال واليمن وسوريا والعراق فالكتاب لا يمثل أهمية في أي درجة من الدرجات.
مجلة ( الدوحة ) القطرية التي كان لها مع عقل القاريء العربي دور فعال عندما تزاوجت مع مجلة ( الأمة) فكانت الأولى من مختارات رجاء النقاش، وكانت الثانية تعرض الفكر الاسلامي المعتدل، وللحق فلا تزال ( الدوحة) تلعب دورها مع كتاب مستنير هدية مرفقة بكل عدد جديد.
المفاجأة أن وزارة الثقافة والشؤون الإسلامية بدولة الكويت اشتركت للمرة الأولى، وكان الاقبال عليها شديداً، خاصة في المطبوعات الجيدة والانيقة والمترجمة إلى الانجليزية، وتم عرض كتب ضد التطرف فحققت نجاحا لا بأس به.
الوجه المشرق للثقافة العربية كان، للحق، في دولة الإمارات العربية المتحدة، فأبو ظبي تحتل المكانة الأولى في التنظيم والعرض سواء في جناحها الكبير أو في ( مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتجية)، ولو كان الأخير هو الممثل الشرعي والوحيد للثقافة العربية لحقق العرب للكتاب اسما مشرفا في عالم المنافسة.
مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية الذي تم إنشاؤه في مارس 1994 كان نقطة الاضاءة العربية الوحيدة وسط عمالقة صناعة الكتاب، فتركيا لم تعد الرجل المريض ووجودها في المعرض كان استعراضيا، وثقافيا، وتاريخياً وإداريا وتنظيمياً فجعلت العالم العربي يبدو صغيراً. إيران أيضا كانت متفوقة على العالم العربي رغم أن كثيرا من الكتب المعروضة بدت كأنها إعادة تصدير الثورة في صورة دولة، والمرشد الروحي في رداء مودرن فضحته مظاهرات المعارضة الايرانية خارج المعرض.
آسيا تحولت كلها إلى نمور، والهند ثاني أكبر منتج للفيلم بعد الولايات المتحدة، ورابع أكثف مصدر لخبراء الكمبيوتر احتلت واحدا من مراكز الصدارة، فالكتاب لا يصوّر فقط فقراء كلكتا، ومتسولي نيودلهي، لكنه يعبر عن يقظة عملاق لا تستهين به الصين أو باكستان، ولا يمزح أي جيش في العالم مع الجيش الهندي.
أعود إلى نقطة الاضاءة المشرقة والجميلة في المعرض فأقف باحترام بالغ أمام ( مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية) الذي أكد أن غياب العرب لم يكن موتاً ففهرس اصدارات المركز حالة حضارية ثقافية ففيه أقسام التحليل الاقتصادي، ودراسات الطاقة، الدراسات السكانية وسوق العمل، والدراسات الاجتماعية.
وقد نظت إدارة المؤتمرات منذ إنشاء المركز 46 مؤتمراً، و90 ورشة عمل، و30 ندوة، 270 محاضرة.
ما قامت به إدارة المركز من أنشطة ثقافية وفكرية وتخطيطية ومحاضرات وندوات وإصدارات يعادل ما تقوم به ثلة مجتمعة من الدول العربية التي تملك المال والعتاد والقلم والمطابع والمثقفين.
إذا أردت أن تبكي على الكتاب العربي فقم بزيارة أجنحة العرب وستتولى دموعك الباقي، وإذا أردت أن تبتسم في العالم العربي الهاجر للكتاب، فقم بزيارة ( مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية) وسيملأ صدرَك بعضُ الأمل.
سيقول قائل: لو كنا نملك المال والنفط في سوريا والعراق ومصر والجزائر وتونس والأردن والمغرب والصومال وموريتانيا والسودان لجعلنا الشرق والغرب يركع أمام صناعة الكتاب في أجنحة فاخرة مليئة بكنوز المعرفة!
وهذا كذب بواح، فدول كثيرة تعاني من أزمات مالية لم تتأخر عن تقديم الكتاب في عيد الكتاب، وعن التعريف بحضارتها بين دفتيه، وعن جعله عروس يتغزل فيها كل من يتصفح صفحات صانع وخادم وأمين وذاكرة حضارات الأمم.
في معرض فرانكفورت الدولي لهذا العام، 2012، خسر العرب، كالعادة، وكسبت أبو ظبي. خسر الربيع العربي لأن الطاغية لو غادر القصر فإن روحه تنتقل إلى الرقابة الذاتية فترتعش أيدي المثقفين إلا في مناطق آمنة مثل نقل نصوص دينية من الماضي أو انتقاد مسرحية أو تحليل سياسي لوضع دولة يختلف مع حاكمِها زعيمُ صاحبِ القلم.
هل صحيح، رغم الانترنيت والفيسبوك والتويتر، أن المواطن العربي يشعر أمام السلطة والحاكم وأجهزة الأمن أنه يملك أدلة البراءة في تهمة ستلتصق به عاجلا أو آجلا، لذا يغلق أبواب بيته وعقله دون الكتاب؟
خصوم العرب لا يحتاجون إلى محللين استراتيجيين لمعرفة مساحة اقتراب العالم العربي من القوة والتحضر والتمدن والاستقلالية والحرية والمساواة والديمقراطية، ويكفي زيارة واحدة لمعرض الكتاب العربي في فرانكفورت لتعرف موقف العرب من الكتاب، إنه موقف القصر والسلطة والأمن والاستخبارات وأحفاد المتعاونين مع الاستعمار.
محمد عبد المجيد
طائر الشمال
أوسلو في 16 أكتوبر 2012