مجتمع أرباب الوظائف القائمين بتطبيق الشريعة السّنية فى عصر قايتباى

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٢٠ - أغسطس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

كتاب ( المجتمع المصرى فى ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى):دراسة فى كتاب ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) للمؤرخ القاضى ابن الصيرفى .

الباب الأول :طوائف المجتمع المصري في ظل تطبيق الشريعة السنية فى عصر السلطان قايتباى

الفصل السادس :   مجتمع أرباب الوظائف القائمين بتطبيق الشريعة السّنية فى عصر قايتباى    

أنواع الوظائف:

1 ـ المماليك كطبقة عسكرية أجنبية احتاجت إلى جهاز إداري ودينى يساعدهم في الحكم.. والعلم هو المؤهل الذى ينبغى توافره في أرباب هذا الجهاز، ولأن العلم في ذلك العصر والعصور الوسطي بشكل عام كان علماً دينياً، لذا كان علماء الدين أو رجال الدين هم أرباب الوظائف الإدارية والكتابية والتعليمية والقضائية في العصر المملوكي.

2 ـ ويمكن تقسيم الوظائف التى كان يليها رجال القلم إلى قسمين: دينية وديوانية، فالأولى مثل القضاء والإفتاء ووكالة بيت المال ونقابة الإشراف والحسبة ومشيخة الشيوخ ونظر الأوقاف أوالأحباس والخطابة والتدريس، أما الوظائف الديوانية فهي الوزارة ونظر الدولة ونظر الخاص ونظر الجيش.. إلخ.

3 ـ وفي عصر قايتباى ازداد حجم الطبقة المملوكية وأصبحت أسرات متشعبة يطلق عليهم ( أولاد الناس ) وقد ازداد اختلاطهم بالحياة المصرية مما أدى بالتالى إلى تغلغلهم في الوظائف غير العسكرية فتقلدوا وظيفة الحسبة التى كان يليها أشهر الشيوخ والفقهاء مثل المقريزي والعيني.

اغتصاب المماليك لبعض الوظائف المدنية:

1 ـ بل إن النظام المملوكي اغتصب بعض سلطات القضاء، وقد حدث هذا في عصر المقريزي شيخ المؤرخين في القرن التاسع الهجري، وتمثل ذلك في وظيفة (حاجب الحجاب) المملوكي الذى كان يمثل القضاء العسكري والذى يختص بالنظر في قضايا ومحاكمات العسكر المملوكي، فإذا به يغتصب سلطات من القاضي الشرعي غير العسكري. يقول المقريزي:( إن حاجب الحجاب كان يختص بالفصل في النزاعات الخاصة بالأمراء والجند ولم يكن يتدخل في الأحكام الشرعية التى كانت ترجع لقضاة الشرع، بل كان بعضهم يفر من باب الحاجب إلى باب القضاة الشرعيين يستجير بحكم الشرع فلا يطمع أحد في أخذه من باب القاضى، وكان القاضى يحمي بعضهم من أيدي الحجاب). ويقول المقريزي: ( ثم تغير ما هنالك وصار الحاجب اليوم اسماً لعدة جماعة من الأمراء ينتصبون للحكم بين الناس لا لغرض إلا لتضمين أبوابهم بما مقرر في كل يوم.. ويرتزقون من مظالم العباد.) .أى يتصدّون للسلب والنهب .

ولكن القضاء العسكرى لجنرالات مبارك و( المجلس العسكرى ) كان أكثر ظلما للمصريين من حاجب الحجّاب المملوكى ، ففى عصر سيطرة جنرالات مبارك تغول القضاء العسكرى وسجن الثوار المدنيين المسالمين الذين أتاحوا لهم فرصة السلطة ، ولم يكتف عسكر مبارك بذلك بل إرتكبوا فظائع سحل الثوار والمتظاهرين بالدبابات فى الشوارع . ونرجع للمقريزى وهو يقول عن حاجب الحجاب فى عصره : ( وصار الحاجب اليوم يحكم في كل جليل وحقير من الناس سواء كان الحكم شرعياً أو سياسياً بزعمهم ، وإن تعرض قاضى من قضاة الشرع لأخذ غريم من باب الحاجب لم يمكّن من ذلك. ) . ويقول المقريزي عن نقيب الحاجب- أو سكرتيره ومدير مكتبه بتعبير عصرنا " ( ونقيب الحاجب اليوم ومع رزالة الحاجب وسفالته وتظاهره بالمنكر بما لم يكن يعهد مثله- فإنه يأخذ الغريم من باب القاضى ويتحكم فيه من الضرب وأخذ المال بما يختار فلا ينكر ذلك أحد البته. ). وفارق هائل بين جرأة المقريزى وجهره بالحق كما يظهر فى قوله هذا وبين حقارة ابن الصيرفى ونفاقه لأسياده المماليك .

2 ـ وازداد الأمر سوءاً بعد ذلك بثلاثين عاماً تقريباً أى في عصر قايتباى ومؤرخنا الصيرفي ، بحيث أصبح  قضاة الشرع السّنى أسوأ من قضاة العسكر، وبحيث كان الناس يفرون من حكم قضاة الشرع السّنى إلى حكم السياسة عند السلطان . وسنعرض لذلك في أوانه لنرى كيف أصبح ظلم المماليك أهون من ظلم قضاة الشرع فى عصر السلطان المتدين قايتباى . فهل يا ترى سيكون حال القضاء فى عصر حكم الاخوان المسلمين مثل عصر قايتياى ، أى أسوأ من حكم عسكر مبارك وعهد مبارك ؟ ..

وظيفته القضاء في العصر المملوكي:

1 ـ وما دمنا قد تعرضنا لسلطة القضاء في العصر المملوكي فلنعط عنها فكرة سريعة.

كان القضاء في العصر المملوكي نوعين: قضاء شرعى وقضاء سياسي. والقضاء الشرعى يرأسه القاضى الشافعي الذى يعين نوابا عنه في الأقاليم المصرية يقوم كل منهم بوظيفة القاضى في بلد، ويقوم القضاة الأحناف والمالكية والحنابلة بتعيين نواب عنهم أيضاً ولكن يقف القاضى الشافعي في المقدمة على رأس الهيئة القضائية الشرعية، ويختص إلى جانب ذلك بالنظر في أمر الأيتام والأوقاف وبيت المال، ثم هو خطيب الجامع الأعظم بالقلعة.وعدد نواب القضاة في الأقاليم أكثر من مائتى نائب أو قاض للحكم فى منطقته المحلية، وكل قاض منهم لقبه نائب أى ينوب عن قاضى القضاء في المنطقة التى بها المحكمة الشرعية.

2 ـ وإلى جانب قضاة الشرع هناك قضاء العسكر، وهم أربعة ، ويسافرون مع السلطان للنظر فيما يحدث في أمور بين الجند كما أنهم يجلسون بدار بدار العدل ، أو مقر القضاء الرسمى الأعلى .

3 ـ ثم هناك القضاء السياسي الذى لا علاقة له بالأحوال الشخصية، ويختص القضاء بالجنايات مثل الاعتداء أوالظلم والضرب والقتل وشئون الدواوين، ويتولى السلطان والأمراء مباشرة القضاء السياسي يعاونهم بعض القضاة، وكانوا يجلسون بالإسطبل السلطانى بالقلعة في أيام السبت والثلاثاء أول النهار ويوم الجمعة بعد الصلاة، وسار قايتباى على هذا الترتيب ، وكان يذهب إليه في موكب يعرف بموكب الإسطبل.

وكان السلطان يجلس وحوله رجال الدولة والحرس وعن يمينه القضاة وعلى يساره كاتب السر ، وذلك للنظر في المظالم، ويفصل فيها بمشورة الأمراء والقضاة بعد أن يقرأ كاتب السر القضية.

4 ـ وللأمراء المماليك سلطة قضائية في ولايتهم واقطاعاتهم، ولأتابك العسكر- أو القائد العام للجيش- سلطة قضائية بحكم منصبه. ورسوم القضايا يحصّلها القضاء من الخصوم، أى الشاكي والمشكو في حقه، وللقاضى ومن يتبعه من الموظفين نصيب من هذه الرسوم، كما أن للسلطان نصيباً منها . ويحدد السلطان المبالغ المطلوبة من القضاة.

5 ـ وفي القضايا الشرعية هناك وكلاء دار القاضى الذين يقومون بمهمة المحامى في عصرنا. ثم للقاضى كاتب وأمين ونقيب وحاجب، ويتبعهم طائفة الشهود أو العدول. والكاتب: يفحص الحجج والوثائف والوصايا ويفسر مدلولاتها.والأمين: يستحفظ على أموال اليتامي والغائبين من المستحقين.والحاجب: يستأذن لذوى الحاجات ويرفع الأمر للقاضى. والشهود أو العدول: هم الذين يشهدون في أمور التعامل بين الناس ولدى القاضى . وشهادتهم تكون رسمية معتمدة، ويمثلهم اليوم "ختم السر" أو الختم الرسمى للدولة.

الوزارة:

1 ـ والوزارة أهم وظيفة ديوانية، ولكن المماليك جعلوا نائب السلطان أهم من الوزير، ثم بتكاثر الطائفة المملوكية وتشعب سلطانها كان بعض المماليك يتولون الوزارة.

2 ـ وكانت سلطة الوزير واسعة ثم تقلص نفوذ الوزير في الدولة المملوكية البرجية حين أنشأ برقوق أول سلطان في الدولة المملوكية البرجية الديوان المفرد ليدير شئون اقطاعاته السلطانية، وكان من قبل يتبع شئون الوزير. وفي عصر المقريزي أصبح الوزير مجرد كاتب يتردد ليلاً ونهاراً إلى باب الاستادار ويسمع توجيهاته، والسلطات القديمة التى كانت للوزير أصبحت موزعة بين أربعة: كاتب السر والاستادار وناظر الخاص والوزير.  فأخذ كاتب السر من الوزارة التوقيع على القصص ( أى الشكاوى ) والبت فيها ، والقضايا بالعزل والتولية .  وأخذ الاستادار من الوزارة التصرف في نواحى مصر والتحدث في الدواوين السلطانية وفي كشف الأقاليم أو التفتيش على الكشّاف أو ما يعرف اليوم بالمحافظين فى الأقاليم المصريةأو ولاة النواحى، وفي كثير من أمور أرباب الوظائف. وأخذ الناظر الخاص جانباً كبيراً من الأموال الديوانية السلطانية ليصرفها في متعلقات الخزانة السلطانية . وبقي للوزير المكوس ( أى الجمارك ) ، والضرائب وبعض الدواوين ومصارف المطبخ السلطانى.

بقية الوظائف الديوانية

1 ـ (ناظر الخاص ) : يختصّ أو بتعبير العصر المملوكى :  ( يتحدث بما هو خاص)  بمال السلطان وإليه التحدث في الخزانة السلطانية.  ومعه (كاتب الخزانة السلطانية بالقلعة ) حيث كانت مستودع أموال المملكة، وكان منصب نظر الخزانة منصباً جليلاً إلى أن استحدث ناظر الخاص فضعف منصب ناظر الخزانة وصارت تسمى الخزانة الكبري ، وهو اسم أكبر من مسماه، وصار نظر الخزانة مضافاً إلى نظر الخاص.

2 ـ ( ناظر الدولة ) كانت رتبته تلى رتبة الوزارة، فإذا غاب الوزير أو تعطلت الوزارة قام ناظر الدولة بتدبير الأمور . ويعهد إلى ( شاد الدواوين ) بتحصيل الأموال وصرفها في النفقات وفي التكليفات.

ويعاون ناظر الدولة موظفون يرأسهم ( مستوفي الصحبة ) الذى يكتب المراسيم التى يوقعها السلطان . وتحت إدارة مستوفي الصحبة موظفون كل منهم مقيد بعمل واسمه ( مستوفي ). ويتفرع من ديوان نظر الدولة دواوين المال ، وكل منها يرفع الحساب إلى ديوان نظر الدولة .

3 ـ ( الوالى ) كان في البداية يطلق على نائب السلطان، ثم صار في عصر قايتباى يطلق على من إليه نظر الكشف عن الجرائم والقبض على المجرمين، أى صار مثل مدير الأمن العام في القاهرة.

4 ـ كاتب السر: وتصل إلى منصب كاتب السر، أهم الوظائف الديوانية في عصر قايتباى، والذى تولاه ابن مزهر الأنصاري صديق مؤرخنا ابن الصيرفي. وكاتب السر يجلس في ديوان الإنشاء ، يقرأ الكتب والرسائل الواردة الى السلطان ويكتب الأجوبة عليها ثم يرسلها بعد أن يضع عليها ختم السلطنة.  وهو يجلس بين يدى السلطان في دار العدل حين يقضى في المظالم، يقرأ له الشكاوى ويكتب الحكم السلطانى عليها. ثم صار إليه التحدث في مجلس السلطان عند المشورة وعند اجتماع الحكام، وله التوسط بين الأمراء والسلطان عند الاختلاف ، وإليه ترفع أمور القضاة ومشايخ العلم وكل ذلك برأى السلطان وإشارته. وكان من قبل دون مرتبة الوزير فأصبح يجلس أعلى من الوزير، ويحتاج إليه أرباب الوظائف كلهم، بل وأحياناً بعض أرباب السيوف من المماليك.  ولذلك كانت ألقاب ابن مزهر الأنصاري ملفته للنظر في تاريخ الهصر، وتقريباً فإن ألقابه تلى ألقاب الداودار الكبير يشبك بن مهدي الشخصية الثانية في عصر قايتباى، يقول عنه "المقر الأشرف الكريم العالى الزينى رئيس الدنيا ابن مزهر الأنصاري كاتب السر الشريف حفظه الله".

أرباب الوظائف والتقلبات السياسية:

1 ـ ومن الطبيعى أن يشهد أرباب المناصب التقلبات السياسية ما بين صعود وعز إلى حبس وعزل، ومن الطبيعي أن يشاركوا في التآمر، وأن يعرفوا العزّ والذلّ ، طبقا للشريعة السنية فى العصر المملوكى.

2 ـ والأمير يحيي بن عبد الرازق بن أبى الفرج (مقتول عام 874) أبرز بل أشهر أرباب الوظائف في القرن التاسع الهجري وقد مات تحت التعذيب والمصادرة في عصر قايتباى. وقد كان صاحب الحلّ والعقد في سلطنة الظاهر جقمق، حيث وصل إلى أوج سلطانه، وكان الأمير قايتباى يخضع له ، ثم صار إلى نكبات عديدة، وكلما نكبوه صادروا أوقافه وعقاراته، ثم إذا أعادوه أعادوها إليه. وكان في بدايته كاتباً ثم تقرب في خدمة الزينى عبد الباسط فلما تولى عبد الرحمن بن الكويز الاستادارية عينه ناظر الديوان المفرد، ثم تولى هو بنفسه الاستادارية للظاهر جقمق فعلا نفوذه وً سلطانه، وأنشأ كثيراً من المدارس والجوامع والبيوت ، بل وإقتدى بالأمراء المماليك فاشترى المماليك حتى بلغ عددهم 250 مملوكاً، وفرق الصدقات على المحتاجين، وهو الذى أنشأ أسرات من أرباب الوظائف مثل أولاد البقرى وأولاد غريب وابن جلود وغيرهم، ومع ذلك كالفئوه بالتى هى أسوأ ، إذ أسهموا في إذلاله في نهاية عمره. حيث هبط إلى الحضيض بعد سلطنه الظاهر جقمق فصودر وأهين، وأخيرا مات تحت التعذيب على يد قايتباى.

مرتبات أرباب الوظائف:

1 ـ كانت مرتباتهم شهرية تشمل المال والطعام، وكان لكبار الموظفين رواتب جارية من اللحم والتوابل وغيرها والخبز والعليق لدوابهم، والسكر والشمع والزيت والكسوة في كل سنة والأضحية في المراسم، والسكر والحلوى في شهر رمضان.

2 ـ وفي عصر المقريزي كان الوزير أكثرهم نصيباً من المرتبات والجراية العينية، وكان مرتبه في الشهر مائتين وخمسين ديناراً بالإضافة إلى مستحقاته من (الدعم) العينى، وكان مرتب القضاة والعلماء أكثر من خمسين ديناراً في كل شهر مضافاً لما بيدهم من مرتبات من المدارس والأوقاف القائمة عليها.

3 ـ ونأخذ مثالاً لإيراد أحد الأشياخ في عصر قايتباى، وهو الشيخ سراج الدين العبادي ت 877 فقد بدأ الشيخ سراج الدين فقيهاً يعلم أبناء السلطان الأشرف برسباى فعظم شأنه وترقي وأثرى وحسنت حاله، ورتب له الجامكية (المرتب) واللحم والعليق، أى الطعام له ولدابته، ثم تنقل في الوظائف وحاز الكثير منها من إمامة المدرسة الباسطية إلى مشيخة خانقاه سعيد السعداء إلى تدريس الفقه بالخانقاه الظاهرية برقوق، إلى نظر الأوقاف. وكان له في كل سنة ( خلعة ) : كامليتان بسمور إحداهما عند ختم البخارى في رمضان والأخري يوم العيد لوظيفة الأحباس. والخلعة هى زى التشريف التى يمنحها السلطان تكريما لأحدهم.

و( السمور ) هو الفراء الفاخر المستورد ، والكاملية هى الزى المملوكى الذى يشبه القفطان فوق الثياب .

4 ـ لذا كان بعضهم ينافس المماليك في الترف والأبهة والاستكثار من الجوارى والغلمان وشراء المماليك.

وفي يوم الخميس 25 شوال 875 سافر القاضى عبد البر إبن قاضى القاضاه محب الدين بن الشحنة إلى حلب لرعاية بعض مصالح والده هناك، وسافر في صحبته كثير من مماليكه وغلمانه وخدمه على أحسن هيئة ونظام، يقول ابن الصيرفي "كهيئة سفر قاضى قضاة الشام أو مباشر عظيم بمصر".

5 ـ ولنأخذ مثالاً أخرى على بعض الفقهاء الذين تشبهوا بالمماليك، وهو قاضى القضاة حسام الدين ابن حريز المالكى ت873. كان صاحب صلة بمؤرخنا ابن الصيرفي وصاحب فضل عليه، يقول عنه :( وأجرى على فضلاً جزيلاً من الضحايا ( أى الأضحيات ) في كل سنة ومن الإنعام أيضاً في شهر رمضان ومن القمح والعسل وغير ذلك رحمه الله".) . ونفهم مما قاله عنه أنه بدأ حياته الوظيفية نائبا للقضاء فى منفلوط ، أى قاضيا فيها تابعا لقاضى القضاء المالكى . ثم إستغل نفوذه هناك فى الزراعة وإستئجار الأراضى التابعة للدولة في ديوان الدولة و الديوان المفرد ، وصار له بالسرقة والاختلاس الشىء الكثير في كل سنة من متحصل الغلال والعسل والقصب ، وإستغل هذا الدخل فى تحقيق طموحه فى القاهرة ، يقول إبن الصيرفى :  ( فكان يخدم السلطان والأمراء والوزراء بالأموال والخيول العظيمة) أى يرشوهم ، فتولى قضاء القضاة المالكية، ولكن وصوله للقاهرة قاضيا للقضاء المالكى لم يمنعه من إستبقاء نفوذه فى الصعيد ، بل إستغل منصبه الرفيع فى القضاء لكى يستمر فى نهب الصعيد بإعتباره أعرف به ، فكان يلتزم للسلطان بتحصيل الضرائب في الوجه القبلي، أى يقوم عن السلطان بجباية الضرائب ، ولا حساب عليه فيما ينهب من الناس طالما يرضى السلطان ويؤدى المقدار المفروض للخزانة .  ثم سيطر على الوزارة في عهد الأشرف اينال. وحين تولى قايتباى السلطنة اشتكى إليه أهل الصعيد أنه وضع يده على عدة بلاد وجزر نيلية واستولى عليها، فوقعت ( وحشة ) أى جفوة بينه وبين الداودار الكبير يشبك من مهدي صاحب السلطة على الصعيد. وكان ذلك القاضى (ابن حريز) يتشبه بالمماليك في لباسه، وكان يركب أفخم الجياد ويجعل عليها الكنبوش، أو القماش الفاخر كالمماليك، ( واشترى الجوارى الحسان البيض والجوارى الأحباش الملاح )، على حد رأى ابن الصيرفي ، وكانوا عند بكثرة، وكان يبتاع العبد الواحد منهم بمائة دينار ويكسوه بمثلها ، وعندما يكثرون عنده يعتقهم وينشرهم في البلاد ليصيروا له عدة وأنصارا بولائهم له حسب المعتاد فى العرف المملوكى ، وتشبها بما كان يفعله أمراء المماليك.

أزمة اقتصادية لأرباب الوظائف سنة 873هـ:

1 ـ وشهد عام 873 أزمة اقتصادية لأرباب الوظائف. فقد أنقضى شهر صفر ولم ينفق السلطان الرواتب النقدية والعينية على المستحقين من أولاد الناس (أولاد الأسرات المملوكية التى تخدم في الجيش) والفقهاء وسائر الموظفين، ولم يأخذ مرتبه سوى المماليك السلطانية . وخاطبه أعيان الموظفين فوعد بأن يعطيهم المرتبات في شهر ربيع الأول ، وأخذ يتألم من الغلاء ونقصان النيل وما تكلفه ثورة شاه سوار من تجهيزات حربية ونفقات عسكرية حتى استنفذت أموال الخزانة السلطانية.

2 ـ وفي يوم الخميس 11 ربيع الأول أعطى مرتبات لأولاد الناس لمن ينجح في اختبار اللياقة العسكرية ويخرج مع الجيش الذى يعده لحرب شاه سوار، وأدى ذلك إلى تنازل معظمهم عن مرتبه. وفي 13 ربيع الأول يوم الأحد انتهى السلطان من موضوع أولاد الناس ومرتباتهم.

3 ـ وفي يوم الاثنين 15 ربيع الأول عيّن السلطان قايتباى للوزارة قاسم جغيته لأنه تعهد بتوفير الكثير من مرتبات أولاد الناس والمتعممين والأيتام وغيرهم. وبعدها شمّر قاسم جغيته الوزير عن ساعديه في قطع أرازق الناس ، بل ومطالبتهم بما أخذوه سابقاً بأثر رجعى ، مما أدى إلى هروب الكثيرين خوف القبض عليهم ومطالبتهم بالزيادات التى أخذوها من قبل. وعاش أرباب الوظائف أسوأ الظروف في هذه الأيام وكان منهم مؤرخنا ابن الصيرفي الذى سجل أحوالهم وحالته النفسية يقول حانقا :( على أن الناس في ألم ووصب وجهد وتعب ونصب ، فمنهم من هو مجتهد في تحصيل ما طلب منه حتى تبقي جامكيته،( أى مرتبه) ويريد وزن ( أى دفع) ذلك لأجل النفقة،ـ( أى تجهيز الحملة العسكرية لشاه سوار) ومنهم من هو مهموم لسبب قطع رواتبه من اللحم السلطانى، ومنهم وهو الأهم والأعظم، من هو خائف مما يطلب منه مما تناول في الماضى . وأما أكابر الدولة وأعاينها ومباشروها فكل منهم خائف من المصادرة ووزن المال، ومنهم من احتشم ووزن فحملوه ما يرضى به بل ما يسد به عن المسلمين ) . ثم يقول مؤرخنا حانقاً على الفقراء ممن لا مرتب لهم  : ( على أن جماعة ما طرق قلبهم الهمّ والغمّ ، وهم العوام والفقراء ، فإنهم يتنزهون ويتفرجون ، فلا بارك الله فيهم، وما أقبح فعالهم".) . إى إن مؤرخنا ينقم على الفقراء عدم قطع مرتباتهم لأنه لا مرتبات لهم أصلا ..!! ويستكثر عليهم سعادتهم بالفقر.!!

4 ـ ثم ترفق السلطان بالأيتام الذين لهم مرتبات فأعلن النداء يوم السبت 20 ربيع الأول 873 أن من باسمه من الأيتام في الدولة مرتب لحم يكتب قصة، أى شكوى ، ويحضر بها إلى منزل الداودار الكبير فيصرف له مرتبه".

5 ـ وفي يوم الخميس 16 ربيع الثانى 873 عقد السلطان اجتماعاً مع القضاة والعلماء ، وحضره مؤرخنا ابن الصيرفي في قلعة الجبل لبحث موضوع المرتبات، وتحدث السلطان في الاجتماع عن ازدياد اعتمادات المرتبات من 11 ألف دينار شهرياً في عهد المؤيد شيخ إلى 18 ألفاً في عهد الأشرف برسباى ثم إلى 28 ألفاً في عهد الظاهر جقمق ثم صارت في عهده (46ألف دينار وخمسة دنانير) فصار ديوان السلطان لا يفي بالجاميكية أى المرتبات ولا بثلثها.ويقول ابن الصيرفي أن السلطان ( صار يدعو على نفسه ويتبرّم من السلطنة ويصرّح بأن يخلع نفسه منها ، وقال :عجزت عن دفع هذا المال لأربابه كل شهر ).

6 ـ ويذكر ابن الصيرفي موقفاً عظيماً لأحد القضاة في ذلك المجلس جرؤ على مواجهة السلطان بالحق، ولكن ابن الصيرفي لم يتحفنا باسم ذلك القاضى الشجاع، مما يعطى مثلا لتدخل العواطف الشخصية والعلاقات الشخصية فى تسجيل المؤرخ المعاصر لأحداث عصره ، حين يتجاهل من يكره بل وقد يتحامل عليه ظلما وعدوانا ، فى نفس الوقت الذى يرفع فيه ويمدح من لا يستحق لأنه يحبه . يقول إبن الصيرفى عن هذا المجلس السلطانى والفقيه الشجاع الذى تجاهل إسمه : ( فتكلم بعض القضاة بأن الظلم لا يجوز في ملة من الملل ، لأنه قصد بذلك السلطان، لأنه بلغه عنه أنه يريد أن يأخذ فائض أموال الأوقاف وأموال التجار، ثم أن القاضى المذكور أخذ يقول أن السلطان له النظر العام ، ينظر فيمن يستحق يبقيه في الديوان ومن لم يستحق يمحوه من الديوان".) . ثم بعد هذا الموقف الجرئ تشجع الشيخ أمين الدين الأقصرائى وتكلم واحتفل ابن الصيرفي بكلامه فقال : ( وتكلم شيخنا أمين الدين الأقصرائي بكلام ساعد فيه القاضى المذكور وعضّده" ).

7 ـ ثم يقول عن نهاية المجلس: ( وانفضّ المجلس المذكور ، وقام السلطان وجلس على الدكة بالحوش المذكور ، وجلس معه الداودار الكبير وكاتب السر وبقية المباشرين لضبط ما يقع من الجامكية واللحم والعليق والكسوة والأضحية ( أى ما يتوفر بعض الاقتطاعات والتخفيضات ) .. وقطع مرتبات جماعة كثيرة من أولاد الناس وغيرهم. والذى ظهر من الأمر في هذا اليوم أن السلطان أبقي لكل واحد من المماليك السلطانية ألفى درهم في كل شهر وقطع من له الزيادة على ذلك. ) . ( ولما فرغ السلطان من قطع مرتبات غالب أولاد الناس شقّ ذلك على كل من له مرتب وقطع ) . وفي يوم الاثنين 20 ربيع الثاني فرق السلطان الجامكية بنفس التعديل الجديد. وأكثر من تأثر بانقطاع المرتب كانوا من الفقهاء والشيوخ فى عصر قايتباى.  

اجمالي القراءات 10544