المقال الثالث
البهائيون وأديان المسلمين الأرضية

آحمد صبحي منصور في الأحد ٠٦ - أغسطس - ٢٠٠٦ ١٢:٠٠ صباحاً


1 ـ يؤسفنى ان بعض الناس يخلطون دائما بين الاسلام والمسلمين ، مع ان كل كتاباتنا تتخصص فى توضيح الفجوة أو التناقض بين الاسلام والمسلمين.
الاسلام منهج ، أو مبادىء أو أوامر ونواهى أو قواعد نظرية تتطلب التطبيق. المسلمون هم الذين يقومون بالتطبيق. ولأنهم بشر فتطبيقهم بشرى يقبل الخطأ والصواب. وقد يتطور الخطأ الى درجة تتسع بها الفجوة لتتحول الى تناقض بين الاسلام ومن يقع فى ذلك التناقض. ولكن يظل الخطأ ـ مهما تعاظم ـ منسوبا الى صاحبه واجتهاده الشخصى طالما ينسب الشخص المجتهد رأيه الى نفسه فقط.
تتعقد المشكلة ويتعاظم الخطأ ليصبح خطيئة عظمى اذا نسب الشخص رأيه كذبا الى الله تعالى أو الى رسوله محمد أو زعم أن ما يقوله هو وحى الاهى، ثم يأتى آخرون فيعتبرون كلامه وحيا الاهيا ، أو يصدقون زعمه بأن الله تعالى قال هذا الكلام ،أو أن النبى محمدا عليه السلام قال هذا الكلام.
هنا يتحول الكلام المنسوب كذبا لله تعالى ورسوله الى دين أرضى يناقض الدين السماوى الواحد الذى جاءت به كل الرسالات السماوية.
ذلك الذى افترى على الله تعالى كذبا يدخل ضمن مجموعة البشر الذين اخترعوا ويخترعون أديانا أرضية بعد نزول الرسالات السماوية، وأصبحوا ويصبحون بذلك أكبر أعداء لله تعالى ورسله.
ان الدين قد يكون سماويا من لدن الله تعالى نزل به وحى الاهى على نبى حقيقى أرسله الله تعالى ليبشر بالعدل والحق والخير، وقد يكون الدين أرضيا يزعم فيه أحدهم أن الله تعالى أوحى اليه أو الى فلان من الناس. وبالتالى فهناك أنبياء حقيقيون وهناك مدعو النبوة ومدعو الوحى الالهى. معظم الأديان الأرضية تتأسس على أنقاض الدين السماوى ، تتمسح به وترفع اسمه ، وتزور مبادئه العليا فى العدل والقسط والرحمة والعفو والمغفرة والحب والتسامح وحرية الفكر والمعتقد، وتحولها الى ظلم وسفك للدماء وتصارع على الدنيا ومغانمها ، وفى معمعة الظلم هذه يتم استغلال الدين السماوى بالتحريف والتزييف والكذب على الله تعالى ورسله. وفى النهاية يتحول "أشرف " ما لدى البشر ـ وهو دين الله تعالى ـ الى مسوغ للظلم ، ظلم الله تعالى وظلم بلايين البشر.
تبدأ القصة بسيطة. محاولة تحويل الدين الى تجارة واسترزاق. ومنها يبدأ الابتعاد عن جوهر الدين الالهى الذى لا مجال فيه للتكسب ولا مجال فيه للكهنوت وخلط الدين بالمصالح السياسية والأطماع الدنيوية. ثم يتحول الابتعاد عن جوهر الدين السماوى الى تناقض تام حين تنمو التجارة بالدين وتصبح سياسة ودولة ، وتقيم تشريعا مزورا تنسبه للدين السماوى زورا وبهتانا. عنده يتكون ويتأسس الدين الأرضى ، ويتصارع مع أديان أرضية أخرى.
وهذا هو موجز تاريخ الأديان لبنى الانسان.
2 ـ اذا التفتنا الى الاسلام والمسلمين فلا بد من التأكيد على حقيقة أساسية هى اكتمال الاسلام باكتمال القرآن. وانقطاع الوحى الالهى بعد موت خاتم الأنبياء ورسل الله محمد عليه وعليهم جميعا السلام. وبالتالى فلا مجال لأى اضافة للاسلام بعد اكتماله بقوله تعالى ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتى ورضيت لكم الاسلام دينا ) المائدة 3 ) وبالتالى أيضا فان ما يفعله المسلمون من حضارة أو مدنية أو تدوين أو تراث أو تاريخ كله يرجع اليهم ان خيرا وان شرا. ولا شأن للاسلام به.
الا ان الخطورة ان بعض المسلمين مثل بقية البشر والأمم نسبوا أعمالهم وتراثهم الى الله تعالى ورسوله افتراء على الله تعالى ورسوله. وبذلك الافك أقام أولئك المسلمون لهم أديانا أرضية. بدأ بذلك أهل السّنة ، ونافسهم الشيعة ُثم دخل الصوفية الى الميدان. وتوالى اختراع الأديان الأرضية فى تاريخ المسيلمين باستمرار مزاعم الوحى الالهى ى ، الى أن ظهرت فى عصرنا البهائية تكرر ما قاله السابقون من وحى و تأليه للبشر والحجر .
3 ـ يهدف الدين الأرضى لتحقيق اهداف بشرية من الجاه والثروة ، مما يؤدى الى التنافس والتصارع بين أصحاب الأديان الأرضية حول الأتباع والأموال والجاه و النفوذ. والأقوى منها يقوم باضطهاد الضعيف ونفيه حتى تخلو له الساحة.
ومن هنا نفهم لماذا يقوم دين أرضى عريق هو السنة باضطهاد دين حديث العهد هو البهائية. ونفهم أيضا قيام التشيع ـ وهى الدين الأرضى الحقيقى لايران الحالية ـ باضطهاد السنيين الايرانيين، ولماذا تقوم دول الدين السنى باضطهاد الشيعة.. كلها أديان أرضية تتصارع طلبا للنفوذ السياسى ، أملا فى الاحتفاظ به أو الوصول اليه . وكل دين من هذه الأديان الأرضية له مؤسسته الرسمية ومؤسساته الشعبية. والجماهير المخدوعة عليها أن تصفق وتدفع ، ثم أصبح عليها حاليا أن تنتحر ـ بزعم الشهادة ـ لتحقيق هدف سياسى بحت لزعماء جدد للدين السّنى ، اكبر أديان المسلمين انتشارا. اذ يرى الزعماء الشعبيون الجدد للدين السنىأن النظم السياسية المعبرة عن دين السنة الآن لم يعودوا مؤهلين للحكم ولا بد من اسقاط عروشهم باستغلال دين السنة نفسه. وكما أسقط الايرانيون الشيعة نظام الشاه لأنهم لم يكن صادقا فى تعبيره عن دين التشيع فان الزعماء الجدد فى البلاد التى يسيطر عليها دين السّنة يريدون فعل نفس الشىء فى بلادهم.
كل ذلك يتناقض مع الاسلام بجوهره العلمانى الذى لا مجال فيه للتكسب بالدين أو استغلال الدين فى السياسة، بل يتناقض مع الدولة الدينية أو أى دولة استبدادية أو أى مؤسسة دينية أو كهنوتية . هذا مع أن تاريخ المسلمين امتلأ بوجود دول كهنوتية واستبدادية، وفى ظلالها ترعرع ظهور الأديان الأرضية ، ولن تكون البهائية الأخيرة منها.
ونعطى مزيدا من التوضيح التاريخى.

4 ـ بعد القرآن الكريم وفى ظل الاستبداد الشرقى فى العصر العباسى تم تدوين التراث ليعبر عن الواقع العقيدى والفكرى للمسلمين ، ولينهض دليلا على وجود تللك الفجوة المؤكدة بين منهج الاسلام فى القرآن الكريم و الواقع العملى للمسلمين دينيا وفكريا وعقيديا وسياسيا.
بعض آراء المسلمين لم تخالف الاسلام فحسب بل تناقضت معه. الا انها كانت أمينة مع نفسها اذ نسبت نلك الآراء الى أصحابها ولم ترتكب خطيئة الزعم بأن تلك الآراء وحى من السماء أو تنسبها كذبا لله تعالى ورسوله. بذلك تبقى تابعة للدين السماوى حتى مع عصيانها له، طالما لم تخرج عنه باختراع الوحى والكذب على الله تعالى ورسوله.
بعضها قال كلاما اختلط فيه الصحيح والباطل شأن كل كلام بشرى، ولا عيب فى هذا ، ولكن الخطأ الأعظم هو أنهم نسبوا ذلك الكلام للوحى الالهى أو لله تعالى ـ فيما يعرف بالحديث القدسى ـ أولرسوله فيما يعرف بالحديث النبوى. هنا يكونون قد خرجوا عن الدين السماوى وأنشأوا لأنفسهم دينا أرضيا.
5 ـ حقيقة الأمر هناك نوعان من التراث البشرى فى تاريخ المسلمين تم تدوينهما فى العصر العباسى وما تلاه.
* هناك التراث العقلى للمعتزلة وغيرهم من الفلاسفة والحكماء ، وهو تراث يستحق الاحترام حتى ولو اختلفنا معه. ولم يكن محتاجا لمزاعم الوحى أوالاسناد للنبى محمد حتى يكتسب قدسية. ولذلك ظل تراث المعتزلة والمفكرين منسوبا الى اعلام تلك الطوائف العقلية . لم يحاول الجاحظ ـ مثلا ـ ان ينسب اراءه للنبى محمد عليه السلام بل نسبها لنفسه والى من قالها من زملائه واصدقائه ،واذا قرأت الجاحظ فى" البخلاء " و"البيان والتبيين "وباقى رسائله وجدت رائحة الثقافة الجاحظية وعصره وبيئته وازددت له احتراما لانه كان صادقا مع نفسه ،وقد مات الجاحظ سنة 255 هـ .وعاش معه فى نفس العصر البخارى (ت256 هـ).الذى نسب ثقافة العصر العباسى للنبى (صلى الله عليه وسلم)عبر عنعنة واسناد لرواة موتى ليس لهم علم بما افتراه عليهم البخارى وغيره.
ومع الاسف فان الغلبة لم تكن للجاحظ والمعتزلة وأصحاب المنهج العقلى ،وانما كانت ـ بسبب الظروف السياسة ـ لمن كان يسميهم العصر العباسى الاول بالحشوية ، أى الذين يحشون آراءهم باسانيد كاذبة منسوبة للنبى محمد عليه السلام ،وينشرونها بهذه الطريقة ليتجنبوا النقد والنقاش والاستدلال العقلى.
ظل العقليون المفكرون من المعتزلة وغيرهم مجرد طريقة فى التفكير ومنهج فى البحث تنسب آراءها لأصحابها. وعلى طريق المعتزلة جاء القرآنيون فى العصر الراهن ، يجتهدون ويخطئون ويصيبون ، دون ادعاء للعصمة أو تمسح بالوحى الالهى أو كذب على الله تعالى ورسوله الكريم.
* وهناك تراث ينسب نفسه للوحى الالهى زورا وبهتانا فيتحول الى دين أرضى مستقل بذاته له آلهته من الأئمة وله أسفاره المقدسة و طقوسه وجماهيره ومعابده ومزاراته.
ينطبق هذا على التراث السنى الذى اسنده رواة السنة للنبى محمد عليه السلام فأصبح ذلك التراث السنى بالاسناد للنبى محمد دينا مقدسا .
كما ينطبق على الشيعة ، فلهم ايضا تراثهم المقدس الذى اسندوه للنبى محمد والى علىّ وذريته واصحاب القداسة عندهم من الائمة .واصبح ذلك التراث الشيعى ايضا دينا مقدسا لدى أتباعه ، ولكن يقف فى موقع الخصومة للتراث السنى المقدس ـ لدى السنيين ـ بسبب الخلاف السياسى العقدى والحركى .
ثم جاء التصوف ابنا للتشيع متخففا من الطعن فى كبار الصحابة ، فأعرض عن السند ،ولم يهتم باختراع سلسلة الرواة .اذ يقوم التصوف فى عقيدته على الاتحاد بالله وحلول الذات الالهية فى نفس الشيخ الصوفى ،وحين تشرق انوار المعرفة الالهية فى داخله ـ بزعمهم ـ ينطق الولى الصوفى بالعلم اللدنى ،وحينئذ فليست هناك حاجة للرواة لانه جلس ـ بزعمهم ـ فى الحضرة الالهية .
ثم فى العصر الحديث ظهرت ملل ونحل أخرى مثل الأحمدية والقاديانية والبابية والبهائية تسير على نهج السنة و التشيع والتصوف من حيث تقديس الأئمة وكتبهم وأسفارهم واعتبار كلامهم وحيا من السماء.
وفى العصر الراهن ظهر ويظهر مدعون كثيرون للنبوة والوحى الالهى خصوصا بين الصوفية . وكان من بينهم فى القرن الماضى رشاد خليفة الذى زعم أن الله تعالى يوحى اليه. وسيظل هذا الاتجاه ساريا لأن ابليس لم ولن يقدم استقالته ولن يكف عن اغواء الناس.
* بهذا الوحى الكاذب من عهد مسيلمة الكذاب الى البخارى والغزالى وأئمة الشيعة المعصومين الى الباب والبهاء والى رشاد خليفة وما بينهما من رواة الأحاديث والمنامات ـ تتحول كل تلك الفرق الى أديان أرضية اذ تنسب تراثها البشرى لوحى الله تعالى أو لرسوله كذبا وافتراءا على الله تعالى ورسوله. وطالما نسبت كلاما لله تعالى فقد جعلته دينا. ولأنك كاذب فى زعمك فماتقوله ليس دينا سماويا وانما هو دين أرضى مرجعيته لبشر أرضى اخترعه وزعمه ولا شأن له بوحى السماء الذى انقطع باكتمال القرآن الكريم .
ولأن هذه الأديان الأرضية نبتت فى تاريخ الاسلام فانها تجعل تراثها جزءا من الاسلام أو حكما على القرآن الكريم تنسخه ( بمعنى تبطل أحكامه ) .
فى هذه الأديان الأرضية تجد كتاب البخارى مقدسا عند أهل السنة كما تجد احياء علوم الدين مقدسا عند محققى الصوفية ، كما تجد كتب الأئمة الشيعة منزهة عن الخطأ عند جماهير الشيعة ، وأيضا تجد كتاب البديع للبهاء منشىء البهائية مقدسا لدى أتباعه البهائيين.
وللحديث بقية.
الموضوع القادم : البهائيون وصراع الأديان الأرضية للمسلمين .




اجمالي القراءات 620380