إذا أردت أن تفهم السياسة الأميركية اليوم، فلا تبدأ من واشنطن، بل من الضواحي؛ من الولايات التي تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن مركز القرار، لكنها في الحقيقة تمثل قلب الصراع القادم.
ففي 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2026، اختار الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن يشن هجوما لاذعا على الجالية الصومالية في ولاية مينيسوتا، مستخدما لغة إقصائية وتشهيرية اعتبرها كثيرون خطابا غير مسؤول لا يليق برئيس دولة، ويحمل مخاطر مباشرة على سلامة الجالية المسلمة في الولايات المتحدة.
وقد تضمن هذا الخطاب اتهامات جماعية دون أدلة بإرسال أموال إلى "جهات متطرفة"، ونزعا للإنسانية عبر استخدام أوصاف مهينة مثل "الحثالة"، إضافة إلى التشكيك في أحقيتهم بالانتماء الكامل إلى المجتمع الأميركي. ولم يكن ذلك مجرد خطاب عابر، بل حلقة في حملة سياسية محسوبة بدقة.
هذا الهجوم لم يأتِ من فراغ. فالعالم اليوم يمر بمرحلة مضطربة تذكر، في كثير من وجوهها، بما سبق الحرب العالمية الثانية: بؤر صراع متعددة تمتد من الحرب الروسية-الأوكرانية، مرورا بالتوتر المتصاعد بين الصين وتايوان، وصولا إلى الاحتقان المزمن بين باكستان والهند، وهما قوتان نوويتان، فضلا عن الحروب المفتوحة في الشرق الأوسط.
ويضاف إلى ذلك التوتر المتصاعد في أميركا اللاتينية، بما في ذلك أزمة فنزويلا، والعقوبات والضغوط الاقتصادية التي تفرضها واشنطن على دولة تمتلك واحدا من أكبر مخزونات النفط والغاز والمعادن النادرة في العالم، ضمن فضاء جيوسياسي لطالما اعتبرته الولايات المتحدة مجال نفوذٍ حيويا لها.
هذه التحولات تعكس تصدعات عميقة في النظام الدولي، واستقطابا حادا داخل الديمقراطيات الكبرى نفسها، إلى جانب تصاعد الحرب الاقتصادية والتعريفات الجمركية. وعندما يهتز الخارج، يكشف الداخل عن هشاشته. والولايات المتحدة ليست استثناء من هذه القاعدة.
تمتلك الجالية الصومالية ثقلا واضحا وملموسا؛ إذ يشغل نحو 29 مسؤولا منتخبا من أصول صومالية مناصب مختلفة على مستوى المجالس البلدية والتعليمية والتشريعية في ولاية مينيسوتا، إضافة إلى عمدتين لمدينتين، وعضوة في الكونغرس الفدرالي هي النائبة إلهان عمر
في الداخل الأميركي، هناك أربع أزمات كبرى تضغط بثقلها على البيت الأبيض.
الأولى هي ملف إبستين، بما يحمله من فضيحة أخلاقية تمس قطاعات من النخبة السياسية والاقتصادية والإعلامية، وتقوض خطاب "النقاء الأخلاقي" الذي تحاول بعض التيارات السياسية تسويقه.
الثانية هي حرب غزة، التي لم تعد مجرد ملف خارجي، بل تحولت إلى جدل داخلي عميق داخل الجامعات ووسائل الإعلام وفضاءات التواصل الاجتماعي، حيث بات المواطن الأميركي العادي يتساءل، وللمرة الأولى بهذا الوضوح: لماذا ندفع أموالنا بلا شروط؟ ولمصلحة من؟
الثالثة تتمثل في الاقتصاد؛ مع استمرار التضخم، وتصاعد التعريفات الجمركية، واتساع الفجوة بين الوعود الانتخابية، والواقع المعيشي الذي يلامسه المواطن الأميركي يوميا.
أما الرابعة فهي الانتخابات النصفية للكونغرس، حيث يعاد رسم ميزان القوى السياسية، وتختبر قدرة أي رئيس على حماية حزبه من خسائر انتخابية محتملة. وتشير غالبية التقارير والاستطلاعات إلى احتمال سيطرة الحزب الديمقراطي على مجلسي الكونغرس: الشيوخ والنواب، وهو ما قد يضع الرئيس في موقع «مقصوص الجناحين»، بعد فقدانه الذراع التشريعية للسلطة.
وفي هذه الحالة، يصبح تمرير الأجندة السياسية لما تبقى من ولايته الرئاسية الثانية أمرا بالغ الصعوبة، بل وقد تتجه الأمور إلى ما هو أبعد من التعطيل التشريعي، وصولا إلى فتح مسار سياسي-قانوني لسحب الثقة عبر طرح مشروع عزله، وإدخاله في دوامة من المواجهات القضائية التي تقيد فعليا قدرته على الحكم.
ويضاف إلى ذلك انخفاض ملحوظ في شعبية الرئيس الأميركي، إلى جانب انقسامات حادة داخل معسكره السياسي، تؤكدها أحدث استطلاعات الرأي. وتتقاطع هذه التراجعات مع تصدعات متزايدة داخل الحزب الجمهوري نفسه، ولا سيما بين التيار التقليدي والجناح اليميني المتشدد المرتبط بتيار "ماغا"، الذي يعد القاعدة الأكثر ولاء للرئيس، لكنه في الوقت نفسه الأكثر اندفاعا وتصعيدا.
كما أسهم الإخفاق في الإفراج الكامل والشفاف عن ملفات إبستين في تعميق الشكوك العامة، وأعطى دفعة قوية لسرديات التستر، ما زاد من مناخ فقدان الثقة، ليس فقط في الإدارة، بل في المنظومة السياسية والمؤسساتية الأوسع.
في هذا السياق، يصبح تغيير الموضوع، وإعادة توجيه الرأي العام، خاصة داخل معسكر الرئيس وقاعدته الانتخابية، أداة سياسية مألوفة. وهي محاولة تقوم على اللعب بورقة الهوية العِرقية البيضاء، وافتعال المخاوف، وخلق حالة من الهلع المصطنع، واستهداف الأقليات، مع توظيف مناخ الإسلاموفوبيا بوصفه وقودا تعبويا في موسم سياسي شديد الاستقطاب.
هنا، تصبح سياسة "البحث عن عدو داخلي" أداة تقليدية، لكنها لا تزال فعالة في لحظات الارتباك السياسي. فالهجوم على الجالية الصومالية يخدم هدفين واضحين:
أولا، الهروب من ضغط الأزمات الحقيقية، وتحويل بوصلة الرأي العام من الأسئلة الصعبة حول الاقتصاد، وحرب غزة، وازدواجية الخطاب الأخلاقي لدى النخب، إلى خطاب عاطفي قائم على الخوف والاتهام.
ثانيا، التأثير المباشر في الحسابات الانتخابية، ولا سيما في ولاية مثل مينيسوتا ذات الأغلبية الديمقراطية، حيث تمتلك الجالية الصومالية قاعدة انتخابية نشطة ومؤثرة تميل في معظمها إلى الحزب الديمقراطي. وتزداد أهمية هذا العامل في ظل حساسية السباقات الانتخابية المحلية والفدرالية، إذ يمكن لكتلة انتخابية منظمة وواعية أن تحدث فارقا حاسما في النتائج.
إعلان
ويضاف إلى ذلك أثر ترشيح حاكم الولاية، تيم والز، لمنصب نائب الرئيس إلى جانب المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس في انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 2024، وما أعقب تلك الاستحقاقات من تداعيات سياسية.
فقد انعكس هذا المسار، ولا سيما في ظل الخسارة الرئاسية، على طبيعة العلاقة بين الولاية والحكومة الفدرالية، وعلى مستوى الدعم السياسي والعملي الموجه إلى مينيسوتا، بما حوله إلى عبء إضافي على الولاية عموما، وعلى الجالية الصومالية على وجه الخصوص، في مناخ سياسي أكثر استقطابا وحساسية.
ويأتي ذلك ضمن سياق سياسي أوسع يتسم بانحسار مساحة الوسط، وتصاعد حاد في المواجهة بين التيار اليميني الشعبوي داخل الحزب الجمهوري من جهة، والتيارات الليبرالية واليسارية التقدمية داخل الحزب الديمقراطي من جهة أخرى، على نحو تعكسه تحولات انتخابية لافتة في مدن أميركية كبرى، من بينها انتخاب مرشح ذي طابع تقدمي "زهران ممداني" لمنصب عمدة مدينة نيويورك.
وفي خضم هذا الاستقطاب الحاد، تجد تيارات الوسط البراغماتية التقليدية، أو ما يعرف بأجنحة "الصقور" و"الحمائم" داخل الحزبين نفسيهما، أقرب إلى موقع المتفرج أو المهمَش، بعدما تراجعت قدرتها على التأثير وصناعة القرار لصالح خطاب أكثر حدة وأقل مرونة.
من المهم هنا أن نفهم من هي هذه الجالية، بعيدا عن الخطاب الشعبوي والتوصيفات الاختزالية. فالجالية الصومالية في ولاية مينيسوتا يقدَر عددها بنحو 105 آلاف نسمة، بينما تشير التقديرات إلى وجود ما يقارب 300 ألف شخص من أصول صومالية في عموم الولايات المتحدة، ما يجعلها واحدة من أكثر الجاليات تنظيما وحضورا سياسيا في البلاد.
تنتمي هذه الجالية إلى بلد يتمتع بتجربة سياسية خاصة تقوم على نظام فدرالي وتعدد مؤسساتي، وهو ما انعكس بوضوح على وعيها السياسي وسلوكها الانتخابي في المهجر. وخلافا للصورة النمطية السائدة، يتميز الصوماليون بثقافة قوية في ريادة الأعمال والتجارة والسعي إلى الاستقلال المالي، إلى جانب حضورهم المتنامي في المهن الطبية والتعليمية والخدمية.
سياسيا، تمتلك الجالية الصومالية ثقلا واضحا وملموسا؛ إذ يشغل نحو 29 مسؤولا منتخبا من أصول صومالية مناصب مختلفة على مستوى المجالس البلدية والتعليمية والتشريعية في ولاية مينيسوتا، إضافة إلى عمدتين لمدينتين، وعضوة في الكونغرس الفدرالي هي النائبة إلهان عمر. وإلى جانب ذلك، يخدم آلاف الصوماليين الأميركيين في أجهزة الشرطة والدفاع المدني، والأحزاب السياسية، والمؤسسات الصحية والتعليمية.
هذه ليست جالية تقف على هامش الدولة أو خارج سياقها العام، بل هي مكون فاعل من النسيج الاجتماعي والوظيفي الأميركي، يتمتع بحضور مهني واقتصادي وسياسي متنامٍ، وأسهم خلال العقود الماضية في ترسيخ نموذج ناجح للاندماج مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية.
وهنا تكمن المفارقة العميقة: جالية ناجحة وصاعدة، تنتمي إلى أمة عريقة ذات عزة وأنفة، مندمجة سياسيا واقتصاديا، تحول نجاحها واندماجها -بدل أن يكونا مصدر حماية- إلى سبب مباشر لاستهدافها. فنجاحها يربك، وتنظيمها يقلق، وثقلها الانتخابي يجعلها خصما مغريا في مواسم الحملات السياسية.
لذلك، لم يكن غريبا أن تتحول، لمدة أسبوعين متتاليين، إلى "ترند" عالمي، وأن تحظى باهتمام رئيس أقوى دولة في العالم؛ لا لأنها تمثل خطرا أمنيا حقيقيا، بل لأنها ورقة سياسية سهلة التداول في مناخ استقطاب حاد، تستثمر فيه الهويات والرموز أكثر مما تناقش فيه البرامج والوقائع.
في النهاية، هذه القصة لا تتعلق بالجالية الصومالية وحدها، بل تمس جوهر النظام السياسي والقانوني الأميركي نفسه. إنها اختبار جديد للديمقراطية الأميركية: هل تستطيع الحفاظ على سيادة القانون ومنظومة الحقوق والحريات المدنية التي ميزت الولايات المتحدة لعقود؟ هل تملك القدرة على التمييز بين متطلبات الأمن الحقيقي ومغريات السياسة الشعبوية؟ وهل تحمي مواطنيها من التعميم والإقصاء، أم تسمح بتحويل الأقليات إلى شماعة تعلَق عليها إخفاقات الحكم؟
ما يجري في مينيسوتا اليوم، في مفارقة لافتة، لم يضعِف الجالية الصومالية، بل جعلها أكثر تنظيما وتأثيرا وتماسكا؛ ﴿وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم﴾. وقد يكون ذلك مؤشرا لما يمكن أن يتكرر في أماكن أخرى غدا. فالتاريخ، كما يعلمنا، لا يرحم من يكرر أخطاءه وهو يظن أنه محصن ضد دروسه، إذ كثيرا ما تتحول لحظات الاستهداف القصير إلى مصادر قوة طويلة الأمد.