الوجه «القاسي» لمحمد علي باشا.. ما قد لا تعرفه عن مؤسس مصر الحديثة

اضيف الخبر في يوم الجمعة ٢١ - سبتمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: ساسه


الوجه «القاسي» لمحمد علي باشا.. ما قد لا تعرفه عن مؤسس مصر الحديثة

التاريخ لسان السلطة. * المؤرخ خالد فهمي

مقالات متعلقة :

يقول المؤرخ خالد فهمي في كتابه «كل رجال الباشا»، أن الوثائق الرسمية التي يكتب منها التاريخ «هي صوت السلطة منذ أن اخترعت الكتابة»، وأنه حتى وإن حاولنا البحث بدقة فلا يوجد تأريخ بلسان الشعب؛ مؤكدًا أن التاريخ على مر العصور يروي قصة السلطة وحدها، وهو ما يجعل حقيقته ناقصة، فهل يسري هذا الأمر أيضًا على تاريخ محمد علي باشا الكبير، والذي عُرف في كتب التاريخ بـ«مؤسس مصر الحديثة»، ونعمة الله على مصر حتى أصبحت جنة الشرق؟

يروي خالد فهمي في كتابه قصة هذا الوالي، لا باعتبارها سيرةً ذاتية بل بوصفها حقبة مهمة في التاريخ المصري، وبنظرة أكثر عمقًا من النمط التقليدي الذي يظهر به محمد علي في الكتابات التاريخية، مُتعرضًا لفكرة القومية، وفلسفتها، وهل كانت فتوحات محمد علي فعلًا من أجل رفعة مصر، أم شابها جشع السلطة وتوريث الحكم؟ كل ذلك من خلال رصد تاريخ جنود جيش محمد علي النظامي -الفلاحين- وقود المعارك وملح الأرض.

30 عامًا من الحروب

أنا الآن أهم رجل في الدولة العثمانية كلها. فقد أعدت المدينتين المقدستين –مكة والمدينة– إلى المؤمنين الحقيقيين؛ وأرسلت جيوشي المنتصرة إلى مناطق لم تعرف من قبل سلطة السيد الأعظم – السلطان العثماني – وإلى مناطق لم تكن قد سمعت بعد عن البارود، وسوف يفتح ابني وذراعي الأيمن – إبراهيم- المورة.  * محمد علي

خاض محمد علي باشا طوال فترة حكمه –التي امتدت من 1805 حتى 1848– حروبًا لا حصر لها، بدءًا من الحرب الوهابية في أرض الحجاز، وفتح السودان والحرب اليونانية، وصولًا إلى الحرب في سورية والأناضول، والتي حارب فيها محمد علي باشا الإمبراطورية العثمانية في عقر دارها؛ إلا أن تلك الحروب لم يخضها الباشا دون جيش قوي؛ إذ كان شاغله الأكبر هو توفير أكبر عدد من الجنود يستطيع أن يؤمنه من أجل حروبه التالية، وإن كانت أغلب هذه الحروب قد تكللت بالانتصارات، إلا أنها لم تخل من الهزائم والخسائر الكبرى في الأرواح والأموال.

عن حرب اليونان، تحديدًا واقعة نافارين، يقول عبد الرحمن الرافعي، وهو المؤرخ المناصر لمحمد علي باشا أنه بعد أن قررت الدول الأوروبية الوقوف إلى جانب الثورة اليونانية ضد الحكم العثماني، و شنوا هجومًا على الأسطولين المصري والتركي، لم يتوقع الترك والمصريون هجومًا أو قتالًا، فلم تطلق مدافع القلاع قنابلها على السفن الأوروبية أثناء اجتيازها البوغاز، ودخلت آمنة سالمة، مُشيرًا إلى أن سفن الحلفاء كانت أشد بأسًا وأقوى سلاحًا وأكثر استعدادًا؛ فحاصرت سفن الترك والمصريين في مكانٍ ضيق وأطلقت بوارج الحلفاء مدافعها على السفن المصرية والتركية، وانقلب المرفأ إلى بركان من الجحيم.

يروي الرافعي كيف فقدت مصر أسطولها كاملًا في تلك الواقعة قائلًا: «فقدت مصر في هذه الواقعة أسطولها الذي قضى محمد علي السنين الطوال يبذل الجهود العظيمة، وينفق الأموال الجسيمة في إنشائه، فكانت معظم الخسارة في هذه الحرب واقعة على مصر والبحرية الخاصة بها»، وهو الأمر الذي أدى بالباشا إلى وقف القتال وسحب الجيوش المصرية.

 

صورة أرشيفية للحرب اليونانية

أما الحروب الأخرى فلم تمر مرور الكرام، بل لاقت الجيوش المصرية فيها أهوالًا كبيرة، وذلك بدايةً من الحرب الوهابية، والتي سنذكر منها ما ذكره عبد الرحمن الرافعي نفسه، إذ  هزم الجيش فيها أكثر من مرة في أكثر من موقعة، ما اضطر محمد علي إلى إرسال حملات متعددة طوال الثماني سنوات حتى تمكن في النهاية من تحقيق الانتصار فيها، ووصف الرافعي هذه الحملات بأنها بذلت فيها العديد من الأموال والأرواح نظرًا لشدة القيظ، وما لاقاه الجنود من أهوال في قطع المناطق البعيدة المترامية بين الفيافي والقفار، مُشيرًا إلى أن مصر قد تحملت في الحرب الوهابية خسائر جسيمة.

كما لاقي الجنود في حرب السودان عدوًا أشد وطأة من الحرب وأهوالها، كما وصفها الرافعي؛ إذ فتكت الأمراض بالجنود وانتشرت بينهم خاصةً في المناطق الحارة حتى اجتاحت عددًا كبيرًا منهم، فيقول: «إن الجيش الذي سار به إسماعيل باشا لفتح البلاد الواقعة على النيل الأزرق مات منه في أكتوبر (تشرين الأول) 1500، ووصل عدد مرضاه إلى الألفين، وكان عدد المرضى يزداد كل يوم، ولما ساءت حالة الجيش من هذه الناحية، أرسل إسماعيل إلى أبيه يشكو إليه سوء الحال، وكانت حالة الجنود من جهة المأكل والملبس وقلة العناية بهم تدعو إلى الإشفاق»، مُضيفًا أنهم كانوا يأكلون نوعًا من الذرة يضر بصحتهم، وبليت ملابسهم فلم يجدوا ما يقيهم من الصقيع، وإذا ناموا افترشوا الأرض فنالت منهم رطوبتها، فكثرت الأمراض وتفشت بهم العدوى، ولم يكن بالجيش أطباء ولا أدوية.

 

(وثائقي الجزيرة عن عصر محمد علي)

لم تخل الحرب السورية هي الأخرى من الأهوال؛ وبالرغم من أن محمد علي قد تمكن في هذه الحرب من الوقوف على مشارف الأناضول ذاتها وهي مركز الدولة العثمانية؛ إلا أن الولايات السورية وفلسطين لم تكف عن الثورات طوال فترة الحكم المصري، مما اضطره إلى الدخول في نزاعٍ آخر مع الحلفاء الذين ناصروا تركيا تلك المرة؛ إذ عادت الجيوش هذه المرة إلى حدود مصر القديمة وذلك بعد معاهدة لندرة، وعلى الرغم من إعلان استقلال مصر عن الدولة العثمانية، إلا أنه كان استقلالًا مُقيدًا تحت السيادة العثمانية، لتصبح مصر دولة مستقلة، غير مكتملة السيادة.

«اختطف الفلاحين» .. هكذا كوّن الباشا جيشه

يرى الرافعي أن تكوين الجيش بالنسبة إلى محمد علي كان هو الأصل في كل شيء، أما المجالات الأخرى من الاهتمام بالتعليم والطب والنسيج وغيرها، فكانت مجرد مكملات لخدمة الجيش؛ فيقول: «تقرير محمد علي باشا إنشاء مدرسة الطب مثلًا يرجع في الأصل إلى تخريج الأطباء الذين يحتاج إليهم الجيش، وكذلك دور الصناعة ومصانع الغزل والنسيج كان غرضه الأول منها هو توفير حاجات الجيش من السلاح والذخيرة والكساء».

رأى الرافعي أن المدارس الملكية كان الغرض منها تثقيف التلاميذ ليصبحوا في النهاية ضباطًا ومهندسين، مُضيفًا أن الجيوش غير النظامية لا يمكن الاعتماد عليها عندما يطمح المرء في استقلاله؛ فقد كانت جيوش محمد علي قبل عام 1820 هي عبارة عن مجموعات مختلفة الأعراض والأجناس من المماليك والألبان والأتراك والسودانيين، حتى أن عملية فتح السودان ذاتها قد تمت لتجميع أكبر عدد منهم وإرسالهم إلى الجهادية، ليكونوا مجندين في الجيوش المصرية.

ولأن الرافعي كان يعتقد أن تلك الجيوش لا يمكن الاعتماد عليها، فقد رأى أن التجنيد الإجباري، واقتياد الرجال من قراهم بالقوة، كان ضرورة لتحقيق الاستقلال، ولولاه لما وصلت مصر لمكانتها حينها؛ ولذلك لام على الفلاحين تمردهم وعصيانهم وعدم انصياعهم للتجنيد، وبرر هروب الكثيرين من الجهادية بعدم اعتياد الجهاد، إلا أنه لم يتعمق في تلك الجزئية، ولم يهتم بجمع أخبار هؤلاء المجندين والفلاحين وهم جموع الشعب المصري، أو سرد ما تعرضوا إليه في تلك الفترة من متاعب، واكتفى بسرد تاريخ السلطة الحاكمة ورجال الطبقات العليا، في حين أشار إلى تذمر البسطاء من الشعب على أنه مجموعة من «الفتن» في أكثر من موضع.

 

الجزء الثاني من وثائقي محمد علي باشا -الجزيرة

«كان ضباط التجنيد يهبطون على أية قرية تُحدد لهم بمجرد أن يتلقوا الأوامر، ويلقون القبض على أكبر عدد يمكن الحصول عليه من الرجال بلا نظام ولا ترتيبات ولا تسجيل ولا اقتراع؛ وحينئذ يربط هؤلاء الرجال بحبال حول أعناقهم في مجموعات من ستة أو ثمانية أفراد، ثم يساقون إلى معسكر التدريب في حراسة «فصيلة التجنيد»، تاركين خلفهم جماعة حزينة محطمة القلب من الزوجات والأمهات والأطفال يولولون ويصرخون محاولين بلا أمل أن يمنعوا الجنود من الرحيل برجالهم».

هكذا وصف خالد فهمي المؤرخ المعاصر الطريقة التي كان يتبعها الضباط في تجنيد الأهالي؛ فعلى الرغم من أن محمد علي باشا قد أراد أن يصنع جيشًا نظاميًا نابليونيًا على غرار الجيش الذي أعجب به إبان الحملة الفرنسية على مصر، إلا أنه لم يتبع نفس المقاييس والمعايير التي اتبعتها الجيوش الفرنسية في اختيار جنودها، فلم يكن هناك نظام طبي يعتمد عليه لفحص المجندين حتى عام 1830، أي بعد مرور 10 سنوات من تكوين الجيش النظامي، كما لم يتقيدوا بالإرشادات الخاصة بظروف السن والحالة الاجتماعية وعدد الإخوة الذكور لمن يتم تجنيدهم.

بذلك يخالف فهمي رأي الرافعي في أن الفلاحين كسالى أو غير معتادين على الجهاد؛ إذ رأى أن الرجال المقتادين إلى التجنيد في ظل هذه الظروف غير الرحيمة، كانوا يرحلون في حالة قلق وهلع على أسرهم، وعلى الأرض التي ستبور بالضرورة، فما كان منهم إلا المقاومة بشتى الطرق إلى الدرجة التي شوه بها البعض وجوههم، بل وتسببوا في عاهاتٍ مستديمة لأنفسهم ليتجنبوا التجنيد؛ إذ عمد البعض إلى سكب سم الفئران في عيونهم فأصابهم عمى مؤقت أو حتى دائم وذلك للهرب من الجهادية.

لم يرَ فهمي في الأهالي أشخاصًا مثيرين للفتن، بل مثيرين للشفقة؛ إذ كانت مقاومتهم الصريحة بالثورة أو العنف البدني تمردًا على ما لاقوه، مما أدى في النهاية إلى نشأة نوع آخر من المقاومة، ينطوي على الفرار، فكانت أخبار التجنيد سرعان ما تصل إلى القرى قبل ضباط الجهادية، حينها يشد الرجال رحالهم تاركين أراضيهم وأموالهم هاجرين قراهم، وتتبعهم أسرهم فيما بعد، وفي أواخر الثلاثينيات من القرن التاسع عشر، عثر على قرى مهجورة بأكملها بسبب مأساوية نظام التجنيد.

أما حياة التجنيد فلم تخلُ من المأساوية هي الأخرى؛ إذ عمد نظام التجنيد إلى وضع أسس تفصل المجند عن بيئته السابقة التي تتضمن نظامًا زراعيًا، حتى أنهم قد تم عزلهم ومراقبتهم بنظام حراسة صارم، كان العربان فيه يقومون بمراقبة المجندين، كما استخدم العقاب البدني باعتباره وسيلة فعالة للانضباط، فيصف فهمي في كتابه كيف أن مجندًا حُكم عليه بخمسين جلدة، لأنه فقد دلوًا من الماء، وكان العقاب البدني يتم بوحشية وبطريقة مشددة على مرأى ومسمع من الجميع في شكلٍ استعراضي، لإثارة الخوف في القلوب.

لا وفاءَ للجنود القتلى

ففي حدود اهتمامات السلطات، لم يكن المتوفى، ضابطًا كان أم جنديًا، أكثر من اسم يجب أن يُشطب من دفاتر الجيش وكشوف الماهيات. * خالد فهمي

في عام 1832، توفي إسلام أغا، يوزباشي آلالاي في مستشفى الجيش بعكا، وأثناء وجوده على فراش الموت طلب من صديقه حين أغا بكباشي آلالاي أن يتولى ترتيب جنازته؛ إذ طلب منه بصفة خاصة أن يبيع ممتلكاته ومتعلقاته ليشتري له كفنًا، وأن يأتي بشيخ يقرأ القرآن على روحه، وبعد وفاته باع حسين أغا ممتلكات صديقه تنفيذًا لوصيته ولكن قبل تنفيذ الجنازة تدخلت أركان الحرب العسكرية في سوريا؛ إذ قامت بمصادرة أموال المتوفى، وإرسالها نقدًا إلى الديوان، نظرًا لأن أمواله – كما برروا- أميرية وبذلك لم يتمكن الصديق من العمل بوصية صديقه.

يرى خالد فهمي أن السلطات في عهد محمد علي لم تدفن المئات والآلاف الذين خدموا في الجيش بطريقة مشرفة؛ إذ لم تكن حالة إسلام أغا حالة فريدة، بل كانت هي النظام المتبع في التعامل مع الموتى، وهو ما أشار إليه من خلال تتبع أخبار المجندين من الفلاحين، مُستخدمًا وثائق دار الوثائق القومية الخاصة بالجيش النظامي إبان فترة حكم محمد علي، مخالفًا في ذلك النمط التقليدي الذي اتبعه الرافعي والذي يتقفى أخبار أصحاب السلطة والطبقات العليا فقط.

 

جيش محمد علي

يقول عن ذلك فهمي: «آلاف الوثائق المُتعلقة بجيش محمد علي وحملاته المختلفة تخلو ولو من وصف وحيد لجنازة، سواء لضابط أو جندي»، مُشيرًا إلى أن اهتمام السلطات الوحيد بالموت كان يتم عن طريق الإبلاغ عن تواريخ حالات الوفاة وبسرعة، وهو اهتمام قاصر من أجل إيقاف الرواتب التي كان يتقاضاها هؤلاء، بل كانت السلطات مهتمة بالاستيلاء على متعلقات المتوفين وممتلكاتهم، مُدعية أنها أموال ميرية يجب أن تعود إلى الحكومة.

لم يكن الموت هو الشيء الوحيد الذي لم توله السلطات اهتمامًا، بل أن الجنود كما يشير فهمي قد تعرضوا لسوء التغذية طوال فترة خدمتهم، ولم يتقاضوا رواتبهم بانتظام، ولم يحصلوا على ملابس مناسبة، وهو عكس ما أشار إليه الرافعي في كتابه «عصر محمد علي»؛ إذ كان بالغ التكرار لأن حياة الجنود بعد التجنيد كانت أفضل من حياتهم السابقة في قراهم، من حيث المأكل والمشرب والملبس إضافةً إلى الرواتب؛ إلا أن الرافعي لم يهتم بالتدقيق في الوثائق الخاصة بأحوال الجنود، وعلى الرغم من أنه كان يؤرخ عن يوميات الجبرتي ويقتبس من كتابه «عجائب الآثار»؛ إلا أنه انتقى من كتابات الجبرتي ما يبيض وجه محمد علي باشا واكتفى بذكر محاسنه، وفي مقابل ذلك قد تجاهل ما ذكره الجبرتي من مساوئ.

أثقل كاهل الشعب بالضرائب

لم تكن الحروب الكثيرة التي خاضها محمد علي منذ بداية حكمه، والثورات التي اندلعت بعد ذلك في ولاياته الجديدة وحملاته للتصدي إليها بعيدة عن الشعب المصري، حتى وإن لم يشارك الجنود المصريون في تلك الحملات إلا بعد عام 1820 وانتهاء فتح السودان؛ إذ كانت حملات الباشا تحتاج إلى النقود من أجل إمدادها بما تحتاج إليه من معدات وأدوات الحرب والزاد، وهو الأمر الذي تبعه فرض ضريبة جديدة كلما احتاج إلى المال.

وعلى الرغم من أن الرافعي كان مناصرًا في كتابته لعصر محمد علي، وساق له عديد التبريرات في فرض تلك الضرائب التي أثقلت كاهل المصريين لسنواتٍ طويلة، إلا أنه قد وصف تلك الفترة بما يلي: «كلما احتاجت الحكومة إلى المال فرضت إتاوة جديدة، أو زادت الإتاوات القديمة»، مُضيفًا أن محمد علي في سنوات حكمه الأولى كان يستشير العلماء والمشايخ كلما أراد فرض ضرائب جديدة إلى أن تخلص من نفوذ السيد عُمر مكرم، وحينها أطلق يديه في فرض ما شاء من إتاوات.

برر الرافعي الضرائب الجديدة التي فُرضت إبان الحرب الوهابية؛ بأن الحملة احتاجت إلى نفقات طائلة، وعندما فشلت الحملة الأولى، احتاج محمد علي إلى المزيد من الأموال من أجل تجهيز حملات جديدة.

فرض محمد علي ضريبة على أراضي الرزق التي كانت معفاة من الضرائب من قبل، وهي الأراضي التي كانت موقوفة على المساجد والمعاهد الدينية والمنشآت الخيرية، كما قام بعملية مسح الأطيان الخاصة بالقطر المصري كله، وفرض ضرائب ثابتة عليها كُل بحسب مساحته وغلته وقيمة المحاصيل، وعدلت هذه الضرائب أكثر من مرة على مدى فترات حكم محمد علي، بوضع تقسيمات جديدة للأراضي ومراتبها، كان الغرض منها في كل مرة زيادة ما يجبى منها؛ وهو ما ذكره الرافعي، مُضيفًا أن محمد علي برر هذه الزيادات بالإصلاحات التي قام بها، والحملات التي باشرها واستنفذت إيرادات الحكومة، واستحدث من بعدها ضرائب جديدة لسد العجز في ميزانيات الحكومة.

وكان من نتائج فرض الضرائب الباهظة وافتقار الأراضي إلى الأيدي العاملة بسبب تجنيد الآلاف من الفلاحين، كما ذكرها الرافعي، أن تأخرت قرى كثيرة عن أداء نصيبها من الضرائب، وهجر الكثير من الفلاحين قراهم بسبب فداحة الضرائب؛ فعمد محمد علي حينها إلى تحميل القرى ميسورة الحال نصيب القرى الفقيرة من الضرائب، مما كان له عظيم الأثر على إفقار القرى الميسورة.

وعندما فشلت الطريقتان في جباية المزيد من الأموال، ابتكر محمد علي نظامًا يسمى العهد؛ وكان قائمًا على أنه عهد إلى بعض الأعيان والمأمورين ورجال الجهادية ببلادٍ بأكملها من أجل جباية الضرائب، وإن تعذرت بلدة في دفع ضرائبها يكونوا مسؤولين عن الدفع من مالهم الخاص.

كان لهذا النظام مساوئ عدة؛ إذ كان الفلاح مدينًا إلى المتعهد دائمًا بما دفعه عنه من أموال، مُسخرًا بين يديه كما تشاء له أطماعه، وكانت الحكومة مسؤولة عن إعادة الفلاحين الهاربين من تلك النظم الجائرة إلى قراهم حتى يستوفوا ما عليهم من أموال.

تاريخ محمد علي وتاريخ الشعب

تقول جوديث تاكر، أستاذة التاريخ في جامعة جورج تاون الأمريكية والمتخصصة في الدراسات العربية، أن مجال البحث التاريخي ظلَّ قاصرًا لفترة طويلة من الزمن على رجال الطبقات العليا، وذلك على حساب الدور الذي لعبته الطبقات الاجتماعية الأخرى –من الفلاحين، والحرفيين، والعمال باليومية– وهي طبقات ظلت مجهولة بالنسبة إلى الباحثين حتى الزمن الحاضر.

وإذا تتبعنا تاريخ مصر الحديث عامةً، وتاريخ محمد علي خاصةً، سنجد مما لا يدع مجالًا للشك أن المؤرخين تجاهلوا الطبقات الدنيا، وحتى مع ذكر الرافعي لها ذكرًا طفيفًا، إلا أنه رأى في محمد علي جزءًا من الحركة القومية التي فكت قيود الاستبداد عن مصر، في سبيل تحريرها من الغزو الأجنبي، مُشيرًا إلى أن هذا العصر كان صفحة مجيدة من صفحات التاريخ تحقق فيه الاستقلال القومي ونشأت الدولة المصرية الحديثة، وكانت كتب الرافعي لها أثرها في ترسيخ الصورة الوطنية لمحمد علي باشا، بل وإدانة الفلاحين –وهم جموع الشعب المصري– وذلك لكرههم لنظام التجنيد الإجباري والضرائب.

 

كما برع المؤرخون في تبرير الحروب الكثيرة التي خاضها الباشا. يقول عن ذلك عبد الرحمن الرافعي في كتابه «عصر محمد علي»، والذي يعتبر شيخ مؤرخي العصر الحديث، والذي ساهم في وضع الإطار العام للصورة الوطنية لمحمد علي باشا في الكتابة التاريخية، أن تلك الحروب كانت لازمة من أجل استقلال مصر المقيد بالسيادة العثمانية، مُشيرًا إلى أن الجهود التي بذلتها والدماء التي جادت بها هي ما صان هذا الاستقلال وحفظه من الضياع.

وقد اتفق معه أغلب مؤرخي العصر الحديث في تبرير هذه الحروب، حتى أن الرافعي قد أشار إلى حرب السودان بكلمة «فتح»، قائلًا إن السودان جزء لا يتجزأ من مصر، والحدود الجغرافية والقومية لمصر تشمل وادي النيل من منبعه إلى مصبه، مُشيرًا أن وجود السودان داخل الحدود المصرية ضرورة لمصر التي لا تطمئن على حياتها إذا تملكت منابع النيل دولة أخرى، ومضيفًا ما ذكره بعض المؤرخين من الرغبة في اكتشاف مناجم الذهب والماس التي تناقل الناس أخبارًا عن وجودها في أصقاع السودان، والرغبة في تجنيد السودانيين بالجيش النظامي لما عرفوا به من الصبر والشجاعة وطاعة الرؤساء.

أما الحرب الوهابية فقد بررها المؤرخون برغبة الباشا في التخلص من قوات المماليك والألبان غير النظامية في جيشه وذلك بإرسالهم إلى هلاكهم في أحراش الجزيرة العربية، وحرب اليونان فسرها البعض برغبة الباشا في زيادة نفوذه بالإمبراطورية العثمانية، كما يرى الرافعي أن هذه الحرب كانت فرصة لإجبار السلطان على معاملته ندًّا وحليفًا. أما حرب سوريا فيرى المؤرخون أن محمد علي أراد أن يصنع منطقةً عازلة بين وادي النيل منطقة نفوذه والإمبراطورية العثمانية.

اجمالي القراءات 2477
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق