إمبراطوريات النوبة.. قصة حضارة قديمة غيَّبتها الرمال والعنصرية

اضيف الخبر في يوم الجمعة ٢٠ - يوليو - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: عربى بوست


إمبراطوريات النوبة.. قصة حضارة قديمة غيَّبتها الرمال والعنصرية

ينفي بعض علماء الآثار إمكانية قيام الأفارقة السود ببناء المدن الكبيرة وصناعة الفن والتكنولوجيا مثل تلك التي في روما القديمة

لكن اكتشافات العقود الأخيرة كشفت بالفعل عن مئات من القطع الأثرية والمقابر المزينة والمعابد والبلدات في مناطق النوبة التاريخية.

ويقول العلماء إن كل المكتشفات كانت ثمينة للغاية، بما في ذلك 30 هرماً شُيِّدت لتكون مقابر لملكات مملكة كوش في الفترة، ما بين العامين 750 قبل الميلاد و300 بعد الميلاد.
وقدَّمت الآثار المكتشفة أدلةً حول من هم النوبيون القدماء، والفن الذي صنعوه، واللغة التي تكلموا بها، وكيف كانوا يتعبَّدون، وكيف عاشوا وماتوا.. وهو تراث عظيم لم ينل حقه حتى الآن.

ومع ذلك، فإن التغيرات الحديثة من السدود الكهرمائية إلى التصحر في شمالي السودان تهدد بفناء بقايا الحضارة النوبية، وفي بعض المواقع اختفت بالفعل هذه الآثار العظيمة.

ولاتزال النوبة القديمة تُعامل كمجرد ملحق لمصر: بضع فقرات حول الفراعنة السود، لا أكثر! وهذا غير صحيح على الإطلاق.

تحت الرمال.. واحدة من أقدم الحضارات في العالم

في عام 1905، وصل علماء آثار بريطانيون إلى منطقة النوبة، بهدف كشف واستخراج القطع الأثرية من المعابد التي تعود إلى 3000 عام.
لكنهم غادروا في الغالب بصور فوتوغرافية فقط، محبطين من الكثبان الرملية المتغيرة باستمرار التي غطَّت الأرض، وكتب أحدهم حينها واسمه واليس بودج

«لقد قمنا بإجراء العديد من الحفريات في أجزاء مختلفة من الموقع، ولكننا لم نعثر على شيء يستحق حمله!»

لكن طوال القرن التالي، وحتى الآن، عَرَفنا أن المنطقة المعروفة باسم النوبة، كانت موطناً لحضارات من عمر الفراعنة المصريين أو أقدم.
واستوطنت هذه الحضارات ضفافَ نهرِ النيل، في المنطقة المعروفة الآن بشمالي السودان، وأقصى جنوبي مصر، لكنها لم تلق سوى القليل من الاهتمام.
يقول نيل سبنسر، عالم الآثار في المتحف البريطاني:

«هذه واحدة من أقدم الحضارات المعروفة في العالم».

عمارة غرب.. شاهد على حضارة النوبة العظيمة

على مدى السنوات العشر الماضية، سافر سبنسر إلى موقع صوَّره أسلافه الأكاديميون قبل قرن من الزمان، يُدعى «عمارة غرب»، على بُعد 100 ميل جنوب الحدود المصرية في السودان. مع جهاز قياس مغناطيسي، يقيس أنماط المغناطيسية في المعالم المخفية تحت الأرض، حسب حسب تقرير آمي ماكسمانمراسلة مجلة الطبيعة.

يمكنك استكشاف نموذج تفاعلي لحي في غرب عمارة السودان، يضم الأزقَّة القديمة، وبقايا المنازل التاريخية في الشكل ثلاثي الأبعاد الذي أعده المتحف البريطاني.

واكتشف الجهاز الآلاف من القراءات، وأظهر أحياء بأكملها تحت الرمال، وقواعد الأهرام النوبية، وتلال الدفن المستديرة، وفوق المدافن وُجدت هياكل عظمية، متمدِّدة على أسِرَّة جنائزية -فريدة من نوعها في النوبة- ويرجع تاريخها إلى 1300 إلى 800 قبل الميلاد.

اكتشف علماء الآثار مئات القطع الأثرية والمقابر المزيَّنة والمعابد والبلدات. ووجدت مؤخراً أدلة حول مَن هم النوبيون القدماء، وفنونهم، وعلومهم، ولغتهم ودينهم، وعاداتهم، وثقافتهم.

الأهرام النوبية في السودان

الفراعنة النوبيين حكموا مصر قديماً وغَرِقوا فيها حديثاً

بين 5000 و3000 قبل الميلاد، كان البشرُ من أنحاء إفريقيا يهاجرون إلى ضفاف النيل الخصبة، مع تحسُّن الأرض، وتحويل الغابات الاستوائية إلى الصحاري التي لا تزال حتى الآن.

«لا يمكنك الذهاب 50 كيلومتراً على طول وادي نهر النيل، دون أن تجد موقعاً مهماً، لأن البشر قضوا آلاف السنين هنا في المكان نفسه، من عصور ما قبل التاريخ إلى الأزمنة الحديثة». يقول فينسنت فرانكيني، مدير وحدة الآثار الفرنسية في الخرطوم.

وبالقرب من مكتبه، يتَّحد النيل الأبيض من أوغندا والنيل الأزرق من إثيوبيا في نهر واحدٍ، يتدفق عبر النوبة، يدخل مصر، ويصبُّ في النهاية في البحر الأبيض المتوسط.
وحوالي عام 2000 قبل الميلاد، وجد علماءُ الآثار أولَ آثارٍ لمملكة نوبية تُسمَّى كوش. احتلَّ المصريون أجزاءً من المملكة الكوشية لبضع مئات من السنين، وحوالي 1000 ق.م.، يبدو أن المصريين قد ماتوا أو غادروا أو اختلطوا بشكل كامل مع السكان المحليين.
وفي عام 800 قبل الميلاد، استولى ملوك كوش، المعروفون أيضاً باسم الفراعنة السود، على مصر لمدة قرن، ووَضْع اثنين من الكوبرا كزينة على تيجان الفراعنة يدلان على توحيد الممالك. لكن في حوالي 300م بدأت إمبراطورية كوش تتلاشى.

التسلسل التاريخى لمصر القديمة والنوبة، المصدر: المتحف البريطاني

وحالياً يتداول النوبيين حكايات عن النوبة القديمة، توارثوها عبر الأجيال عن قصص الكوشيين، والتماثيل والمعابد والأهرام غير المكتملة التي يعيشون بينها.

 

وفي بداية القرن العشرين غَرِقت العشرات من القرى النوبية، بعد تعلية سد أسوان، ولاحقاً في ستينات القرن الماضي تم بناء السد العالي، حيث غمرت مياه بحيرة ناصر قرى في جنوبي مصر وشمالي السودان، وتم ترحيلهم خلف السد، وغرقت أيضاً العديد من الآثار النوبية في المنطقة.

تعود الآثار لزمن غزو المصريين القدماء للمنطقة، إذ حدَّدوا جبل البركل كمكان للإله آمون، الذي ارتبط بفيضان النيل وتجدد الحياة.
وبعد استعادة النوبيين مناطقهم، قاموا بتحويل الجبل «المقدس» لمكان تتويج الملوك النوبيين، وقاموا ببناء الأهرامات الملكية بجانبه.

سدود ومياه فيضان وعواصف رملية.. بقايا الآثار النوبية في خطر

وتخطط الحكومة السودانية لبناء ثلاثة سدود جديدة للطاقة الكهرومائية على طول النيل، وقد تؤدي لإغراق المزيد من الآثار النوبية. بينها 500 موقع أثري بالقرب من مدينة كجبار، وبما في ذلك 1600 قطعة من الصخور والرسومات التي تعود إلى العصر الحجري الحديث، إضافة لذلك يمكن أن يتم تشريد المزيد من الناس بسبب السدود.

إضافة لذلك أدَّت العواصف الرملية إلى تقويض الجدران المنحوتة بشكل متشابك من 43 أهراماً كوشية، وزخارف، من أحد مواقع التراث العالمي التابعة لليونسكو، والمعروفة باسم مروي. وبتمويل من قطر، حاول علماء الآثار إزالة تراكم الرمال في المقبرة، لكن تقرير عام 2016 حول الجهد يقول «حجم الكثبان الرملية يتجاوز بكثير كل قدرات الإزالة».

ويهدف مشروع «البعثة القطرية لأهرامات السودان»، الذي يتم بإشراف ألماني وتمويل قطري، إلى بعث روح السياحة في السودان. ما أثار المخاوفَ والجدل بين رواد شبكات التواصل الاجتماعي المصريين، من انتقال السياحة الأثرية إلى السودان.
وتعمل بعثة قطر لترميم أهرامات السودان منذ عام 2014، بالتعاون مع منظمة التنمية الأثرية النوبية، والمؤسسة الوطنية للآثار والمتاحف في السودان، والمعهد الألماني للآثار (DAI) مع متحف قطر، على توفير خدمات سياحية وترميم وصيانة الأهرامات بمنطقة مروي بشمالي السودان، بحسب ما ذكر موقع دويتش فيله الألماني.

يصل عدد الأهرامات في تلك المنطقة إلى 30 هرماً، شُيّدت لتكون مقابر لملكات مملكة كوش، في الفترة ما بين العامين 750 قبل الميلاد و300 بعد الميلاد. و»مروي» هي العاصمة الثالثة لمملكة كوش، بعد «كرمة» و»ناباتا». وامتدت جغرافياً حتى أصبحت أكبر الممالك الإفريقية، ووصلت لشواطئ البحر المتوسط، وتعد واحدة من أقدم ممالك إفريقيا.

Image result for ancient nubian civilization

عنصرية العلماء أخَّرت الاعتراف بالحضارة النوبية

رغم العشرات من الأهرام والمعابد في السودان، وسجلات أسماء الملوك، والقطع الأثرية المذهلة، عزا بعض علماء الآثار هذا التطور الفني والتقني لسكان أو غزاة ذوي بشرة فاتحة!
لكن الأدلة والآثار المكتشفة في المنطقة التاريخية التي كانت تقع بين مدينة أسوان إلى جنوب الخرطوم، صارت تُعرف حالياً بكونها واحدةً من أقدم الحضارات القديمة، التي تركت أهرامات وآثاراً ومعابد عظيمة.

كانت الرمال الصحراوية أراضي غير ملائمة للبحث، وتعامل بعض علماء العصر بعنصرية تجاه «حضارة إفريقية سوداء»، متقدمة في العلوم والفنون وعمارة المدن.
لكن الآن فقط، ندرك كم كان علماء الآثار خاطئين، وكم كانوا بخلاء بالوقت الكافي لاكتشاف أهمية النوبة التاريخية الهائلة، والآثار المدفونة تحت الرمال!

مقبرة تومبوس شاهد على الحضارة النوبية

حتى الآن، يبدو أن المسؤولين المصريين عاشوا وماتوا جنباً إلى جنب مع النوبيين في تومبوس، بين 1450 و1100 قبل الميلاد.
فرضت مصر ضريبة على المنطقة، التي كانت مركزاً للتجارة، حيث تم نقل جلود العاج والذهب والحيوان إلى النيل من الجنوب.
ولكن بحلول عام 900 قبل الميلاد، نادراً ما توجد مؤشرات على وجود جذور مصرية مدفونة في مينا الأسنان. تكشف النظائر المشعة عن أن الناس قد ولدوا وترعرعوا في النوبة، على الرغم من أن التأثير المصري ظلَّ جزءاً لا يتجزأ من الثقافة، من نواحٍ عديدة، بما في ذلك الاستحواذ الفني.

ستيوارت تايسون سميث، عالم الآثار في جامعة كاليفورنيا، اكتشف وفريقه المقابر النوبية خلال السنوات الماضية.

تحتضن غرف الدفن تحت الأرض هياكلَ عظمية، يتم البحث فيها عن تفاصيل حول العمر، والصحة، والبلد الأصلي، بالإضافة إلى أدلة ثقافية، حيث تم دفن الموتى بممتلكاتهم.

وقام سميث وفريقه بالتنقيب عن مقبرة ضخمة تقع جنوب منطقة سبنسر، تسمى تومبوس، التي كانت تستخدم منذ مئات السنين قبل القرن السابع قبل الميلاد، حسب تقرير آمي ماكسمان مراسلة مجلة الطبيعة.
في توبوس دُفن إلى جانب الموتى أدوات الكحل، والمزهريات للزهور، وصناديق مستحضرات التجميل المطلية بشكل معقد.
وفي عام 2005، قام سميث وفريقه بحفر حجرة دفن مع هيكل عظمي ذكر، مليء برؤوس سهام نوبية، وأشياء مستوردة من الشرق الأوسط، وكأس نحاسية، مع ثيران منقولة داخل- الماشية شائعة في التصاميم النوبية.

يقول سميث: «لقد تأثرت هذه الفترة بالتفسيرات العنصرية الاستعمارية، على افتراض أن النوبيين كانوا راكدين ومستقيمين، والآن يمكننا أن نحكي قصة هذه الحضارة الرائعة».
مع القليل جداً من المعلومات عن الحياة في النوبة القديمة، يمكن أن يثبت كل كائن غير مكشوف أنه لا يقدر بثمن. يقول سميث: «إننا نعيد كتابة التاريخ هنا، وليس مجرد أن نعثر على مومياء أخرى».


واقرأ أيضاً..

 

 

اجمالي القراءات 1589
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق