راشد الغنوشي'مجذوب' ضل طريق الفلسفة إلى الإسلام السياسي

اضيف الخبر في يوم السبت ١٧ - فبراير - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: العرب


راشد الغنوشي'مجذوب' ضل طريق الفلسفة إلى الإسلام السياسي

راشد الغنوشي'مجذوب' ضل طريق الفلسفة إلى الإسلام السياسي

لا أحد يستطيع أن يرسم للغنوشي، الذي يترأس حركة النهضة مدى الحياة، وجها واحدا، فله وجوه بلا حصر، إذ يمكنك في أي لحظة أن تكتشف له وجها جديدا.

وجوه متعددة لبراغماتي يستهدف اختراق السلطة

تونس - بات فشل خطة حركة النهضة في التمويه والاعتراف بها كحزب مدني يدفعها إلى ردات فعل عنيفة جدا، عبرت عنها تصريحات الغنوشي يوم 11 فبراير الجاري في اجتماع حزبي بمحافظة باجة، حين لوح بـ”الحرب الأهلية” لمواجهة مواقف حزبية شككت في أن تكون الحركة قد تحولت إلى حزب سياسي حقيقي، وأنها لم تغادر دائرة الجماعة.

كلام الغنوشي الأخير أطاح بكل حساباته منذ عودته في 2011 حين عمل على أن يبدو شخصا مغايرا لأفكاره القديمة التي تتسم بالتشدد في التعاطي مع مجتمع مدني عقلاني دأب دائما على وسمه بكونه نتاجا للتغريب والغزو الفكري.

ولا أحد يستطيع أن يرسم للغنوشي، الذي يترأس حركة النهضة مدى الحياة، وجها واحدا، فله وجوه بلا حصر، إذ يمكنك في أي لحظة أن تكتشف له وجها جديدا أو تستعيد مع أي موقف يطلقه وجها قديما منذ كان قوميا ناصريا ثم شبه ناصري شبه إسلامي، فمريدا في حركة التبليغ، ثم إخوانيا محليا ودوليا تتطرف مواقفه وبياناته بحسب اللحظة التي يعشيها والمكان الذي هو فيه.

ويمكن نحت صورة تقريبية لهذا التعدد المتناقض بوصف المجذوب الذي أطلقه الغنوشي على نفسه، وهو يتحدث عن استغراب أهله في حامة قابس، من تنقلاته الفكرية المثيرة للدهشة؛ من دارس للفلسفة إلى مريد بسيط في جماعة الدعوة والتبليغ بأحد الأحياء الفقيرة بالعاصمة الفرنسية باريس.

 

التعالي عن الإسلام الزيتوني

 

درس الغنوشي بجامع الزيتونة، لكنه دأب في مواقف متعددة على التبرّؤ من الثقافة الزيتونية، لكون جامع الزيتونة، الذي تخرجت فيه شخصيات تونسية وجزائرية بارزة، لا يروق له بزعم أنه يكتفي بتدريس الفقه البارد الذي لا روح له. ويقصد الغنوشي بذلك أن هذا التعليم لا يضخم الاهتمام بالقضايا السياسية التي كانت تشغله وتسيطر على ذهنه حين كان قوميا مواليا لجمال عبدالناصر سواء حين انتقل للدراسة بمصر قبل أن يهجّره الناصريون استجابة لتهدئة طارئة مع الزعيم التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، أو بعد ذلك حين هرب إلى سوريا أشهرا قبل هزيمة 1967.

يقول الغنوشي في سرد سيرة تحولاته المتقلبة إنه “تخرج من جامع الزيتونة بزاد ديني ضئيل لا يزيد عمّا كان قد تلقاه من والده المؤدّب في صباه”، بمعنى أنه لم يخرج بأيّ شيء مما درس. وهكذا دأب في السر والعلن على استثناء أي تأثير للإسلام التونسي ضمن سلسلة الروافد التي ساعدت على تشكل الجماعة الإسلامية (قبل أن يتغير اسمها إلى الاتجاه الإسلامي، ثم حركة النهضة)، وهو ما يعطي تأكيدا على أنها حركة وافدة ومرتبطة أشدّ الارتباط بالإسلام الإخواني الذي كان في أوج صعوده بمصر وسوريا قبل أن ينتقل إلى دول الخليج.

توحي رواية الغنوشي عن الشروط التي ساعدت على ظهور الجماعة الإسلامية أنه كان يساوي بين الهوية التونسية، التي يغلب عليها التديّن المالكي الهادئ، وبين عدائه لبورقيبة و”ثقافة التغريب” التي يسوّق لها، وأنه كان لا بدّ من صناعة بيئة جديدة على أنقاض تلك الهوية التقليدية والمنفتحة في آن.

جامع الزيتونة خرّج شخصيّات مغاربية وازنة، منها رئيس جمعية العلماء المسلمين في الجزائر الشيخ عبدالحميد بن باديس، والرئيس الجزائري الأسبق هواري بومدين، فضلا عن الشيخ التونسي عبدالعزيز الثعالبي الذي لم يغنم الغنوشي منه سوى عنوان كتابه “تونس الشهيدة”، هذا العنوان الذي ظل يوظفه في هجومه المستمر على تونس في فترة حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي.

براغماتية الغنوشي وفريق من القيادات الثانوية الداعمة له، تنتج اليوم خطابا يبحث عن "مسوغات شرعية" للمثلية والتساوي في الميراث بين المرأة والرجل، للمزيد من طمأنة المنظمات المدنية الحقوقية ذات النفوذ القوي بالبلاد

غير أن العارفين بشؤون الجماعة يذكرون جيدا أسماء زيتونية لامعة ساعدت في تأطير الشباب الإسلامي الصاعد، ومنهم الشيخ عبدالقادر سلامة صاحب مجلة المعرفة التي مثلت لسنوات المجلة الرسمية للغنوشي ورفاقه، فضلا عن الشيخ محمد صالح النيفر الذي عرف بعدائه لبورقيبة.

زعيم النهضة يعدد قائمة الذين استفاد منهم شرقا وغربا من سيّد قطب وأبوالأعلى المودودي، إلى جماعة الدعوة والتبليغ، إلى الجزائري مالك بن نبي. ويعزو متابعون لتاريخ الجماعة نكران جميل البيئة المحلية إلى حالة اغتراب مرتبطة بفصائل الإسلام السياسي، التي تنظر إلى ذاتها دائما كتنظيم عابر للدول، وتخاف إن اعترفت بالمحلية أن تبتلعها، وهو ما يحصل الآن مع النهضة التي تسعى للتأقلم مع بيئة تونسية تهدد بتذويب ملامحها الوافدة.

ويقول الغنوشي إن مجموعته كانت “تذهب في كل سنة خلال الأعوام 1970، 1971 ، 1972 من تونس إلى الجزائر؛ حيث نلتقي بمالك بن نبي، الذي كان يخصنا باللقاء والمحاضرة والحوار والتوجيه”.

من جانب آخر فإن حركة النهضة، ومنذ كانت جماعة إسلامية وإلى وقت قريب، لم تكن تولي أهمية تذكر لتفسير الشيخ التونسي الطاهر بن عاشور “التحرير والتنوير”، أو كتابه عن “أصول النظام الاجتماعي في الإسلام” في حين أن قياداتها كانوا يبالغون في الاحتفاء بتفسير “في ظلال القرآن” لسيّد قطب وكتابه عن “العدالة الاجتماعية في الإسلام”.

وبالنتيجة، فإن النهضة في مراحلها المختلفة قفزت على الإسلام الوسطي التونسي إلى إسلام وافد يجمع خليطا من أفكار قومية ويسارية وإخوانية.

 

الهوية الضائعة وماعون الصنعة

 

ورغم أن الحركة الإسلامية في تونس بدأت إخوانية التكوين الفكري والروحي، إلا أنها سرعان ما وجدت نفسها في خضم معارك سياسية عنيفة استوجبت أن تفصل بين التربية الروحية والدعوة عن الخطاب السياسي لتحرر الغنوشي وجماعته من التأصيل الفكري لمواقفهم في قضايا وافدة.

يعترف الغنوشي في كتاباته بأن المواجهة التي تمت بين السلطات التونسية والعمال في 26 يناير 1978 أخرجت الحركة من سباتها وجعلتها تفيق على عالم جديد، لكنها وجدت نفسها تسير في ركب اليسار الذي كانت تعتبره كافرا، وصارت تبحث في النصوص الدينية والتاريخية عمّا يساعدها في أن تنافسه بملعبه الاقتصادي والاجتماعي بعيدا عن تصنيف العقيدة.

وبعد عام واحد، من صدمة اليسار أفاقت الحركة الإخوانية الأصولية المنغلقة على النصوص على صدمة جديدة مع ثورة الخميني بإيران، في مثل هذه الأيام من العام 1979، لتجد نفسها لاهثة لاستيعاب مقولات مثل الاستكبار والاستضعاف، وغيرها من المفردات التي أرساها علي شريعتي، وغادرت من ثمة دائرة الطائفة السنية الناجية للهرولة وراء الشعارات الجديدة عسى أن تقدر على مقارعة اليسار بأفكار من جنس خطابه.

وإذا كانت الجماعة قد طوّحت فكريا وسياسيا وفق تقلبات الزعيم، فإنها ظلت إخوانية منغلقة على ذاتها في المجال الدعوي تردد ما جاء في كتيبات صغيرة لحسن البنا من أذكار ونصائح، أو تصبح وتمسي على ما كتبه السوري سعيد حوى عن التربية الروحية.

ومن هنا بدأت تتسع ظاهرة الازدواجية التي لم يكن الغنوشي ليمنعها في التنظيم الصغير، إلى لحظة تأسيس الاتجاه الإسلامي في 6 يونيو 1981، قبل أن تصبح الازدواجية “ماعون صنعة”، أي ضرورة ملحة للمضي في البراغماتية وفي نفس الوقت الحفاظ على وحدة الحركة.

لم يكن التيار المحافظ، الذي يمثله خريجو كلية الشريعة والهندسة والطب، يهتم لأفكار الغنوشي وانفتاحه يمينا ويسارا طالما أن الرجل لم يعكّر صفو جماعة الدعوة في الجماعة، الذين سيطروا على أغلب المساجد في البلاد، ودأبوا على تدريس أفكار سيد قطب ومحمد قطب والمدوّنة الإخوانية الآتية من الشرق مصرية أو سورية.

كبر الجسم الدعوي في التنظيم بشكل كبير، ما اضطرّ الغنوشي إلى أن يراهن على استثمار شعبية بعض قياداته للاستقواء على قيادات أخرى تدفع إلى التداول على القيادة، أو تريد تخفيف غلواء السياسي على خطاب الجماعة/ الحزب والاهتمام بملفات أخرى خاصة القضايا الفكرية التأصيلية.

وقد استقوى الغنوشي بالجسم الدعوي في التنظيم لينقلب على الدعوة ذاتها، خاصة بعد ثورة 2011 حين تخلى نهائيا، ظاهريا على الأقل، عن فكرة المطالبة بتطبيق الشريعة لفائدة التجربة السياسية، في سياق مسعى “انفتاحي” لإقناع الغرب بأن إسلاميي تونس لا يبحثون عن تطبيق الشريعة، وفي رسالة إلى قوى مدنية داخلية قوية مفادها أن الإسلاميين لا يفكرون في المساس بأي مكتسبات حققها التونسيون في مراحل سابقة.

وللمزيد من طمأنة المنظمات المدنية الحقوقية ذات النفوذ القوي بالبلاد، أنتجت براغماتية الغنوشي، وفريق من القيادات الثانوية الداعمة له، خطابا يبحث عن “مسوّغات شرعية” للمثلية والتساوي في الميراث بين المرأة والرجل، فضلا عن اعتبار مجلة الأحوال الشخصية عصارة الفقه المالكي الوسطي الذي تمثله الزيتونة بعد أن ظل لسنوات طويلة يتعالى على دورها.

النهضة في مراحلها المختلفة تقفز على الإسلام الوسطي التونسي إلى إسلام وافد يجمع خليطا من أفكار قومية ويسارية وإخوانية

 

 

الزعيم أو لا أحد

 

يقول مقربون من الغنوشي إنه نجح في أن يتخلص من قيادات تاريخية وازنة كان لها تأثير قوي في تأسيس التيار الإسلامي ذي الخلفية الإخوانية، وأن ذلك كان يتم بأسلوب ذكي ودون ضجّة ودون قرارات بالعزل أو التجميد إلا نادرا، وذلك بأن يوكل أمرهم إلى قيادات تنفيذية صعدت إلى مواقع متقدّمة فقط لأنها موالية له، ولا تسمع إلا كلمته.

يشير هؤلاء إلى أن الغنوشي أفلح خلال أقل من 40 عاما من تكوين الاتجاه الإسلامي في أن يتحوّل إلى محور وحيد في التنظيم، ولذلك غادرت وجوه بارزة كانت تختلف معه في التقييم وضبط الخطط المستقبلية، ومن بقي رضي أن يكون على الهامش مثل عبدالفتاح مورو وحبيب اللوز والصادق شورو.

ولعل أبرز الذين صمدوا بوجه تحويل الاتجاه الإسلامي إلى حزب بقائد واحد هو الراحل صالح كركر، أحد القيادات التاريخية والمسؤول عن الجهاز السري، الأمني والعسكري للتنظيم، الذي عزله مجلس شورى موال للغنوشي خلال وجوده بفرنسا تحت الإقامة الجبرية. وكان قد حوكم غيابيا في تونس مع عدد كبير من قيادات النهضة عام 1991 بتهمة محاولة قلب نظام الحكم وصدر ضدّه حكم بالسجن المؤبد.

أما فاضل البلدي، القيادي الذي استقال بعد حادثة باب سويقة التي أودت في 1991 بحياة حارس للحزب الحاكم هاجمته عناصر من النهضة، فقد حث الغنوشي على الاستقالة حتى لا تظل الحركة مرتهنة ومحصورة في شخصه.

بالمقابل، يعتقد القيادي السابق، الذي لا يتوقف عن انتقاد استدارة النهضة، أن “الغنّوشي بقي الرّجل المهيمن على النّهضة لأنّه المتصرّف في ماليتها”. ويقول مقربون من الحركة إن الغنوشي يستعمل ورقة الأموال لإخافة الغاضبين من سياساته، خاصة أن هناك المئات من قيادات مختلفة، عليا ووسطى ومحلية، متفرغين بشكل كامل للعمل التنظيمي.

محمد الحبيب الأسود القيادي السابق يقول إن استبداد الغنوشي بالحركة و”تمكنه من تمثيل هوية الحركة بمفرده، وفي كونه الشخصية الوحيدة من كل أبناء الحركة، الذي له حضور دولي وصيت عالمي، يعود إلى أسباب أغلبها خارجية وفيها تناغم مع أجندات أجنبية”.

الأسود كتب على حسابه بفيسبوك منتقدا الوضع داخلها، إن واقع الحركة هذا “أفرز أتباعا للرأي الواحد والقيادة الواحدة، يشبهون القطيع في تعاملهم مع الخصوم، وحتى مع من يخالف رأي القيادة من الداخل، فسرعان ما يناله الاتهام بالخروج عن الصف، وربما خوّنوه إن لم يتهموه في ولائه. ولذلك تجدهم يرفعون حركة ‘النهضة’ و’شيخهم’ فوق المساءلة والنقد”.

 

ثقتي في الله أولا وبن علي ثانيا

 

لا يجد الغنوشي أي حرج في أن ينقلب من موقع العدو إلى موقع الصديق سواء للسلطة الحاكمة أو للمعارضين، والعكس أيضا. وفيما كانت النهضة تهاجم بن علي في 1986 حين كان وزيرا للداخلية ثم رئيسا للحكومة، لكونه مهندس المواجهة التي جرت معها في نهاية حكم بورقيبة، قامت بتغيير رأيها بشكل كامل بعد 7 نوفمبر 1987 حين تسلم بن علي ذاته رئاسة البلاد.

قال الغنوشي بعد أن أطلق بن علي سراحه في مايو 1988 قولة شهيرة صارت تستخدم ضده على نطاق واسع هي “ثقتي في الله أولا وبن علي ثانيا”، كناية على التلون والرغبة في التهدئة مع السلطة بأي ثمن. ووصف تلك الفترة في كتابه “من تجربة الحركة الإسلامية في تونس″ أنها بمثابة حفلة الزفاف وإن كانت فترة قصيرة جدا.

الغنوشي لا يجد أي حرج في أن ينقلب من موقع العدو إلى موقع الصديق سواء للسلطة الحاكمة أو للمعارضين، والعكس أيضا. ففيما كانت النهضة تهاجم بن علي حين كان وزيرا للداخلية ثم رئيسا للحكومة، لكونه مهندس المواجهة التي جرت معها في نهاية حكم بورقيبة، قامت بتغيير رأيها بشكل كامل حين تسلم بن علي ذاته رئاسة البلاد

انتهت تلك الحفلة سريعا بمواجهة دامية مع بن علي في 1990 /1991، لكن الغنوشي لم يكن معنيا بتلك المواجهة لأنه غادر بشكل قانوني البلاد وترك الآلاف من أنصاره لمصير مجهول، حتى أن الصحبي العمري، أحد عناصر المجموعة الأمنية التي ترفض النهضة الاعتراف بها كذراع سرية، قال إن الغنوشي غادر في سيارة مراسم رئاسية تابعة لبن علي.

لم يخف الغنوشي أن التهدئة مع بن علي وما تبعها من “غزل” من جانب واحد كانت محاولة لتجنب المواجهة مع الدولة لفترة أخرى، والبحث عن مداخل لاختراقها بشكل هادئ. ووصف ما جاء في تلك الفترة من مراجعات وتغيير الاسم من اتجاه إسلامي إلى حركة النهضة، والتوقيع على الميثاق الوطني بأنه “ما حملنا عليه أنفسنا من ضروب المرونة والاعتدال”.

ويمكن أن نستعيد هنا توصيف الغنوشي لحفلة الزفاف وما تبعها من “اعتدال” تحت الإكراه لقراءة تجربة النهضة ما بعد الثورة، وهي التي عاشت فيها مرحلتين رئيسيتين؛ الأولى مرحلة “التمكين” في فترة حكم الترويكا، وهي الفترة التي هرعت فيها لإبراز قناعاتها، كما هي دون مكياج، من رغبة جارفة لابتلاع الدولة والتحكم بمختلف مفاصلها عبر إغراقها بالكادر النهضاوي والتسلل إلى أجهزتها الحيوية مثل الجيش والشرطة.

ولتحقيق رغبة الحركة في إنجاح “التمكين” خلال فترة الترويكا، لم يمانع الغنوشي في الارتباط بشخصيات كرتونية مثل المنصف المرزوقي وأحزاب صغيرة مثل المؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل، مستغلا رغبة قياداتها في أن تظهر إلى الأضواء، وأن تتباهى بالوصول إلى السلطة.

 

التضحية بالقيادات

 

وبمقابل الانفتاح على أي شخصية يمكن أن تمثل قشة نجاة للبقاء في الحكم، لم يمانع الغنوشي بالتضحية برئيسي وزراء على مذبح السلطة، طالما شخصه كمرشد عام لا يتأثر مباشرة. فحمادي الجبالي الذي بادر إلى إعلان استقالة حكومته لمنع سقوط البلاد في الفوضى عقب اغتيال شكري بلعيد، غادر النهضة، وتتم مقاطعته على نطاق واسع، خاصة حين يلوّح بالترشح للانتخابات الرئاسية كمستقل.

في تلك المرحلة سعى الغنوشي لبناء جبهة إسلامية محلية، وأخرى إسلامية إقليمية للاستفادة القصوى من “الربيع العربي”، وهذا ما يفسر ما نشر عن لقاءات له مع السلفيين ومحاولة استقطابهم لشدّ أزر الحركة بمواجهة “التحدي العلماني”. فضلا عن زياراته ولقاءاته المتعددة مع إسلاميين ليبيين ومسؤولين جزائريين، بالتوازي مع فوز إخوان المغرب بأغلبية برلمانية، وصعود إخوان مصر إلى السلطة لمدة تقارب العام.

لم يكن الغنوشي يتحرك منفردا لاستثمار تلك المرحلة، بل كانت تحركاته تصبّ في خانة أخرى أوسع تقف وراءها قطر وتركيا لتحقيق استثمار أوسع لموجة الصعود الإسلامي، إلى أن جاءت صدمة اغتيال القيادي اليساري البارز شكري بلعيد والقيادي الناصري محمد البراهمي، وهي الصدمة التي دفعت لبناء جبهة مدنية واسعة أدّت إلى إخراج النهضة من الحكم بالتزامن مع سقوط الإخوان المدوّي في مصر.

بدأ الغنوشي بهذا مرحلة جديدة ترفع شعار ضمان البقاء في المشهد مع تقديم التنازلات التي تطلب منه، ولكن على دفعات، بدءا بلقاء باريس في صيف 2013 مع الرئيس التونسي الحالي الباجي قائد السبسي، حين كان رئيسا لنداء تونس ومتزعما لجبهة واسعة ضمّت أغلب فصائل اليسارية والليبرالية والمنظمات المدنية والحقوقية، وصولا إلى تحالف حكومي يضمّ عناصر محدودة من قيادات النهضة على أن يسهّل نوابها بالبرلمان تمرير قوانين تقطع مع العزل السياسي وتؤسس لمصالحة وطنية دون استثناءات، فضلا عن قوانين مدنية متنافية تماما مع الهوية الإخوانية للحركة.

وبالتوازي، قطع الغنوشي ارتباطاته الخارجية بشكل سريع، خاصة مع الاتحاد العام لعلماء المسلمين، الذي يعدّ واجهة من واجهات التنظيم الدولي للإخوان المسلمين. وتكاد تتوقف زياراته لقطر بمقابل حرص على أداء زيارات لأوروبا وإطلاق تصريحات عن “الإسلام الديمقراطي” في ترضية لافتة لدول أوروبية لم تخف معارضتها حكم حزب إسلامي لتونس. 

اجمالي القراءات 1472
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق