الجنوبيّ».. 5 وجوه يحملها قطار الصعيد إلى القاهرة

اضيف الخبر في يوم الجمعة ٢٣ - يونيو - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: ساسه


الجنوبيّ».. 5 وجوه يحملها قطار الصعيد إلى القاهرة

جالوا (قالوا) علينا ديابه (ذيابة)

واحنا يا ناس غلابة

يا مغنّواتي غنٍّي

حكايتنا ع الرّبابة

*عبدالرحمن الأبنودي

يتهادى القطار بكثيرٍ من الأوجاع التي يحرّكها في صدور راكبيه، أولئك الذين قرروا أن تضمهم عرباته، 12 ساعة هي المدة التي سينقلهم خلالها من محافظة أسوان جنوب مصر إلى القاهرة في الشمال، من أقصى الجنوب إلى أضواء العاصمة وقدرتها علي الإبهار، البعض يحمل مرضه آملًا أن يجد في العاصمة الدواء، والبعض الآخر يحمل حلمه طامعًا أن يجد في العاصمة ما يروي ظمأ قلبه في التحقق والنجاح، والبعض الثالث لا يبغي أكثر من أن يسري عن عينيه بأنوار العاصمة وألوانها وضجيجها الذي لا ينقطع.

اصطحبت «ساسة بوست» ركّاب قطار الصعيد في رحلتهم الليلية من محافظتهم النائية، والتي تبعد عن قلب الأحداث بما يقترب من 1000 كم، وهو ما يجعلها أيضًا خدميًا وصحيًا وترفيهيًا تبتعد عن العاصمة بألف عام.

يجعل هذا «حياة العاصمة» في صدور كثير من شباب الصعيد حلمًا يبقى حيًا، بالرغم من السنين. وإن لم يجدوا سبيلًا للوصول إليه، ويبقى التمكن من التواجد في العاصمة ولو لمدة يومين لأداء مهمة أو إنجاز مصلحة سلوى لا بأس بها. أمَّا من يعيش في العاصمة منهم منذ سنواتٍ طويلة فيصفُ رتم الحياة بها بأنه: قادر على مصّ الدماء وطحن العظام وكسر الرقاب، فلا يقيمون ظهورهم بسبب المتطلبات الكثيرة للحياة بها، ولا يرفعون رؤوسهم من كثرة الانشغال إذا قرروا العمل بها، فقط يشتاقون كلما أتاهم الحظ وسنحت لهم الفرصة بقليلٍ من التفرغ  لنسائم الهدوء في بلادهم البعيدة.. البعيدة جدًا.

«الجنوب»

وفقًا للصفحة الرسمية لمشروع «حماية الهوية المصرية» علي موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، فبلاد الصعيد 10 محافظات، بدءًا من شمال مصر – أسفل القاهرة – وصولًا إلى جنوب مصر – أعلى السودان – هذا تبعًا للحدود السياسية، أما في الأصل فكلما تتجه للجنوب فإن كل ما يقابلك هو من الصعيد. «بلاد الصعيد» هي بالترتيب بدءًا من الشمال إلى الجنوب: حلوان، والجيزة، والمنيا، وبني سويف، والفيوم، ثم ندخل للصعيد «الجواني» أو الجنوبي فنكون في: أسيوط، وقنا، وسوهاج، والأقصر، وأسوان أخيرًا ومن ضمنها «بلاد النوبة».

نظرًا لقرب الصعيد الشماليّ من القاهرة فستكون لهجتهم «صعيدية» قريبة من لهجة القاهرة بعض الشيء، هذا خلاف البدو الذين يسكنون المنيا وبني سويف والفيوم، وهم كثيرون، وجميعهم من قبائل «أولاد علي»، وبعضهم من عرب المشارقة، فلهجتهم قريبة جدًا من لهجة مرسى مطروح وليبيا، كما يوجد بجنوب حلوان مركز كامل يسمى مركز الصفّ، وكله بالكامل من العربان والبدو من عائلات وقبائل مختلفة.

وجه 1: «من بلاد الجنوب أتى».. الهروب من الفقر إلى الفقر

«صبحي» – أحد ركَّاب القطار- رجلٌ أربعيني كان يقطُن وأسرته مدينة «كوم إمبو» التابعة لمحافظة أسوان، لا زال صبحي محتفظًا بعادته في ارتداء جلبابه الصعيدي، ولهجته التي تربَّى عليها تمامًا، بالرغم من حياته في العاصمة ما يزيد عن 10 سنوات، يعمل صبحي عاملَ بناء في القاهرة، يعتمد اعتمادًا كليًّا علي قوَّته البدنية، والتي لو خذلته يومًا؛ فلن يجد يوميته التي يعتمد عليها في توفير الطعام للصغار.

لا تتجاوز يومية صبحي 50 جنيهًا، مقابل العمل من السابعة صباحًا إلى الخامسة مساءًا بشكلٍ يوميّ، يقوم صبحي بحمل الرمال، ونقل مواد البناء على كتفه يوميُا، ويبيتُ في أحيانٍ كثيرة في مقر المشروع الذي يعمل بها توفيرًا لنفقات الانتقالات.

بالرغم من الشقاء، إلا أنّ صُبحي يعتقد أن هذا أفضل حالًا كثيرًا من استمراره في البلد؛ حيث يقطن وسبعة إخوة في منزل والدهم، ويتشاركون المنزل وقيراطين من الأرض الزراعية تركها أبوهم ميراثًا لهم، وهو ما يجعلهم يتشاجرون أكثر مما يتقاسمون، ويجعل الأقوى فيهم يفرض سطوته علي الأضعف؛ تحقيقًا لأقلِّ القليل من السيادة على البيت والأرض، كل هذا جعل الفرار حلمًا بالنسبة لصبحي، الذي تزوج من بلدته، وذهب للعاصمة؛ باحثًا عن فرصة حياة «محتملة». تخبَّط كثيرًا، وعانَى أكثر، لكن يبقى هذا أفضل  – في وجهة نظره – لديه على الإطلاق من «الذل» الذي كان يتعرض له من إخوته، وعدم تمكنه من توفير لقمة عيش لنفسه بعيدًا عن سطوة العائلة.

بالكاد يستطيع صبحي توفير إيجار المسكن الذي استطاع توفيره لزوجته وأولاده، إلى أن قامت سيارة مسرعة بصدمِهِ في أحد شوارع القاهرة، ليصبح من حينها لا شيء في مكانه، ولتصعب الحياة أكثر دون سندٍ يستطيعُ أن يؤمل فيه المساعدة «الواحد أصبح غريبًا عن كل شيء، لم تصبح العاصمة مكاننا، ومن وقت لآخر نزور الإخوة وولاد العم في البلد لأجد نفسي غريبًا عنهم أيضًا بسبب سنوات البعد».

كان صبحي عائدًا في القطار المتوجِّه للقاهرة بعد أداء واجب العزاء في أحد أولاد عمومته، ليلحق بعمله، فقط ليسدَّ دينه.. ثمن التذكرتين اللتين اشتراهما للذهاب والعودة!

الفقر الذي يتعرض له صبحي هو ما أعلن عنه اللواء أبو بكر الجندي رئيس الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، عام 2016 أن مستويات الفقر في مصر وصلت إلى 27.8 % على مستوى الجمهورية في حين إن محافظات الصعيد وصلت إلى أكثر من 50% وفي أسيوط تحديدًا وصلت إلى 66% وأن معدلات الأمية في انخفاض دائم، وتصل حاليًا إلى 20.2%.

وجهٌ

من أقاصي الجنوب أتى

عاملًا للبناء

كان يصعدُ «سقالةً» ويغني لهذا الفضاء

كنت أجلس خارج مقهىً قريبٍ

وبالأعين الشاردة

كنتُ أقرأ نصف الصحيفة

والنصف أخفي به وسخ المائدة

*أمل دنقل، قصيدة الجنوبي

وجه 2: الفقر وكلفة العلاج

من شقاء البحث عن «لقمة العيش» إلى شقاء البحث عن العلاج، كان هذا هو الفارق بين صبحي و«عم سليم» الراكب الذي يليه بنحو ثلاث كراسي. تعرَّض سليم لنحو ثلاث جلطات مفاجئة أتت علي قدرته علي الحركة كاملة، وأصبح لا يتحرَّك إلا بمساعدة من حوله. سليم موظَّف حكومي في الخمسينات من عمره، قضي حياته علي السلم الوظيفي للحكومة المصرية يترقي بين الدرجات الوظيفية.

كان سليم منغمسًا في أداء مهامه الوظيفية بكل حواسه ومشاعره، لم يفكر أبدًا أن يخرج من مدينته الصغيرة «بالعوضلاب» التابعة لمحافظة أسوان، كان راضيًا تمام الرضي أن يقضي حياته بين وظيفته وبيته وتربية أبنائه إلى أن يحين أجله. إلى أن أصيب بجلطاتٍ متتالية تعذَّرت معها حركته واستحالَ معها اعتماده على نفسه، ولم يجد علاجًا مناسبًا له في مدينته الصغيرة، ولا محافظته الأكبر، ولا ما يقرب منها من محافظات الصعيد المختلفة.

يقول جمال أحد أبناء «عم سليم» المرافقين له في رحلة السفر للقاهرة للعلاج: «إحنا في الصعيد عندنا أزمة مُعتبرة في الطب والعلاج، يعني ماشيين بستر الله، لأن اللي بيُقع مننا، ولا بيجيله مرض؛ بيتبهدل في السفر؛ لأن مفيش خدمة صحيَّة كويسة في مدننا الصغيرة في الوجه القبلي، ولا في محافظاتنا بشكل عام».

يشكو معظم أبناء الصعيد من عدم توافر خدمة طبية جيدة، فكثيرٌ من الأطبَّاء لديهم خلل في توصيف العلاج، ولا يوجد لديهم إمكانياتٌ طبية تؤهلهم للتشخيص ووصف العلاج، وكثير من الحالات التي توفت بسبب علاجٍ خاطئ وصفه طبيب، فالكثير من الأطباء جنوبًا يطلبون من الحالات العويصة من مرضاهم أن يذهبوا للمستشفي الجامعي لأسيوط، أو لو كانت الحالة أكثر صعوبة يطلبون منهم السفر إلي القاهرة، وهو ما يعني أن المريض وأهله سيتكبدون مصاريف وسفر لمدة 6 ساعات بمريضهم من أسوان لأسيوط أو مدة 12 ساعة من أسوان للقاهرة.

«إحنا دفعنا أكتر من 500 جنيه تذاكر القطار المميز عشان ننزل بمريضنا ومعاه 3 مرافقين للتبادل علي خدمته ورعايته، وهندفع 500 جنيه زيهم للرجوع، كدة 1000 جنيه من غير مصاريف العيادات هناك ولا الأدوية ولا الانتقالات ولا السكن ولا أي شيء». هكذا يعبِّر جمال عن المصروفات التي سيتكبدونها في رحلة العلاج، مضيفًا أنهم كانوا يتمنَّوا أن يحجزوا لمريضهم «كابينة» في قطار النوم، لكنّ الكابينة أصبحت تتكلف 750 جنيهًا للذهاب فقط، ومثلها للعودة، وهم لن يتمكنوا أبدًا من دفع ما يقرب من 3 آلاف جنيه مصروفات للسفر فقط.

ولتقترب صورة ضخامة الكلفة التي يحكي عنها جمال بالنسبة لأبناء الصعيد، يمكننا أن نتعرض لتقرير صادر عن المنظمة المصرية لحقوق الإنسان عام 2011 يكشف حالة الفقر في مصر، ويوضح أن غالبية الفقراء فى مصر متمركزون بمحافظات الوجه القبلى، حيث تصل نسبتهم إلى 35.2% من إجمالي سكَّان الوجه القبلي، بينما تنخفض نسبة الفقراء فى محافظات الوجه البحرى إلى 13.1%، وأوضح التقرير أن نسبة السكان الذين يعيشون تحت خط الفقر، عند مستوى إنفاق دولار واحد فى اليوم، تبلغ 3.1%.

وفقًا للتقرير الحقوقي فإن أسيوط هي أفقر محافظات مصر بنسبة 58.1 % من إجمالي السكان، بينما تحتل محافظة بنى سويف المركز الثاني بـ 53.2% منهم 20.2% لا يجدون قوت يومهم، وتأتى محافظة سوهاج فى المركز الثالث بنسبة 45.5% منهم 17.2% لا يجدون قوت يومهم.

عاشَ منتصبًا، بينما

ينحني القلبُ يبحثُ عمَّا فقد

*أمل دنقل

وجه 3: العاصمة طريق البطولات الرياضية

فتاة في الرابعة عشر من عمرها تجلس بجوار شبَّاك عربة القطار، تضع سماعات هاتفها النقال في أذنها، وتشرد إلي أبعد مكان يمكنها الوصول إليها، اسمها «منال»، ولم تتجاوز السنة النهائية من التعليم الأساسي بعد، سبب نزولها للقاهرة هو بطولة رياضية للعبة الكاراتية التي تشاهدها، ثم أصبحت تمارسها منذ أن كانت في السادسة  من عمرها.

حينما أصرَّت أمها أن تجعلها تشارك في إحدى الألعاب الرياضية، كانت تود أن تصرف طاقتها وانفعالاتها بطريقةٍ تفيدها، كما كانت تودُّ أن تعلِّمها كيف تدافع عن نفسها في ظلّ «دنيا لم تعد تعرف الأمان» حسب وصفها، لكنَّ منال فعلتها، انغمست في لعبتها الرياضية بكامل قلبها وفكرها ومشاعرها، وأصبحت تحصد البطولات على مستوى المدينة، ثم على مستوى المحافظة، ثم صُعدت على مستوى الجمهورية، وكان عليها السفر.

مجاريح .. لنجول (لنقول) ونعيد ع المجاريح

يابا دمع وتفاريح وغلابة.. المجاريح

والله وغلابة اللي راحوا واترموا في الهوا..

لا بإديهم طبّ ولا دوا يابا ع المجاريح

*أحد أغنيات الجنوب

لم تمنعها الأمُّ أبدًا – التي تعمل موظفة بإحدى الهيئات الحكومية – من السفر لمتابعة سيرها الرياضي، بل في أحيانٍ كثيرة كانت تسافر معها إذا لم تكن وسط مجموعة مدرستها لتتابعها وتشجعها في المباريات التي تخوضها، وجدت منال نفسها تخرج في سنٍ صغيرة جدًا من حدود مدينتها الصغيرة ومحافظتها البعيدة، لترى حياةً أوسع كثيرًا، ولتسمع صوت تصفيقٍ أعلى، من ذلك الذي اعتادت عليه في مدينتها، تشجيعًا لها في ختام مبارياتها، ولتعود بكثيرٍ من القصص لزملائها عما شاهدته في العاصمة، أو في «مصر» كما يطلق أهل مدينتها على العاصمة.

«نحن نتكبد مصروفات السفر وقلقه ومخاوفه، في سبيل أن ترى منال الدنيا وتحقق ما تبغيه، لا نود أن تُحرم من شيء، ولا نودُّ أن يكون بيدنا شيء كان يمكنه جعل حياتها أفضل وتكاسلنا عن فعله». هكذا تتحدث والدة منال التي كانت مصاحبةً لها في رحلتها الأخيرة للقاهرة.

وجه 4: «مدن الأنوار»

أنا كل ما أجول (أقول) التوبة

يا بوي ترميني المقادير..

وعد ومكتوب عليا يا بوي

ومسطَّر ع الجبين

*إحدى أغنيات الصعيد

«القاهرة والإسكندرية تعنيان بالنسبة لي النور والحياة». هكذا عبّرت «مها» طالبة كلية الطب بجامعة الإسكندرية، عائلة مها تسكن في مدينة «إدفو» بمحافظة أسوان، وعندما حصلت ابنتهم من مجموع عال بالثانوية العامة يُمكنها من الالتحاق بكلية الطب لم يفكروا طويلًا في أن يرسلوا ابنتهم للتعلُّم لتعود إليهم بعد سنوات دراستها طبيبة، وإن كان الخوف والقلق علي الفتاة الصغيرة قد نهشهم كثيرًا أمام الطريق الطويل الذي ستقطعه الفتاة من أسوان للإسكندرية لإكمال دراستها؛ مما دفعهم أن يُحادثوا كل أقاربهم ومعارفهم ومعارف أقاربهم في القاهرة والأسكندرية لكي يعتنوا بالفتاة التي ستأتي إليهم وحيدة لإكمال دراستها.

كانت هذه هي نظرة الأهل ومخاوفهم، أمّا مها فقد بهرتها القاهرة ووقعت في عشق الإسكندرية من أول نظرة، تشبِّه مها القاهرة بامرأةٍ ناضجة، تحمل من التجارب والخبرات ما تضفيه على أرواح من يلتحقون بها، أما الإسكندرية – من وجهة نظر مها – فهي فتاةٌ نضرة شقيَّة، تحمل من الأجواء الكرنفالية دومًّا ما تدفع كل من هم في شوارعها للبهجة ولمزيدٍ من البهجة.

وقعت مها في أسر «الأنوار»، تلك التي تكون خافتةً هادئةً في مدينتها الصغيرة، وجدتها هنا صاخبةً تملأ العين وتُبهج الروح، بلا حساب وقعت في عشق المولات التجارية بالأنوار التي تُزيِّنُ أدوارها المختلفة، وقعت في عشق ظلام صالة السينما وشاشة العرض المضيئة، التي لم ترها في محافظتها أبدًّا من قبل، وأحبت تواجد الناس في الشوارع حتى ساعاتٍ متأخرة من الليل، بينما في بلدتها ينامون حرفيًّا من العِشاء، على حدِّ قولها.

وجهٌ هامشيّ

يأتي مفتش القطار ليفتش عن تذاكر الركاب، وسط هدوء العربة الذي خلد الكثير من ركابها لنومٍ خاطف؛ يُمكنهم من مواصلة الطريق، ويقصّره عليهم، يرتفع صوت المفتش بأنه مؤتمن على المال العام، ولا يسمح بالتهاون فيه، ولا يفرط في عهدته أبدًا، مهما كلّفه الأمر.

يستيقظ الركاب، وينتبهون ليجدوا أنَّ المفتش يتشاجر مع امرأةٍ ليس معها تذكرة تُمكِّنها من ركوب هذا القطار، تشرح له المرأة أن كل ما في الأمر أن أختها تلدُ في القاهرة، وأنه ليس معها مال يُمكِّنها من الحجز، وأنه يُمكنها أن تقف طوال الطريق إلى القاهرة، لكنّ المفتش يرفض كل هذا، ويبدأ في وصلةٍ «أخلاقيةٍ» عن المال العام وعن أنه مؤتمن على مال «السكة الحديد»، وحينما يبدأ الركاب في استعطافه لتركها؛ يقول لهم بحزم: «اللي صعبان عليه يحط إيده في جيبه ويدفع لها 130 جنيه التذكرة»؛ ليصمت الجميع ويديروا وجوههم عنه وعن المرأة. تنظر المرأة للأرض وتعبر العربة مقتربةً من الباب؛ لتنزل في أول محطة من القطار الذي رفض وجودها فيه، ولم يراع حالتها؛ لأنها لا تملك المال.

وجه 5: لازال يمكننا مطاردة الأحلام

كوجه مها طالبة كلية الطب الحالمة يأتي وجه «صلاح» الشاعر الثلاثيني الأسواني الشاب، الذي يحمل حلمه وأوراقه التي يدوِّنُ عليها قصائده كلما سنحت له الفرصة لملاقاة الجمهور في القاهرة من خلال ندوةٍ أو أمسيةٍ ثقافيةٍ يقرأ دعوتها على موقع التواصل الاجتماعي «

فيسبوك»، فيلملم أوراقه ويستقلّ القطار ساعيًا ألف كيلو متر وراء حلمه.

الواقع الثقافي في الصعيد لا يختلف عن الجانب الصحي المتواضع والجانب المعيشيّ المعدوم كثيرًا، فلا يوجد ما يُمكِّنُ صلاح وأقرانه ممن لديهم بعض الأحلام والمشروعات الثقافية أن ينطلقوا لتحقيق أحلامهم في مدنهم النائية، فلا وسيلة تصل بأصواتهم، ولا بموهبتهم إلى الجمهور، وهو ما دفع صلاح – الموظف في إحدى الهيئات الحكومية – أن ينشئ حسابًا على موقع «ساوند كلاود» الذي يتمّ مشاركة الملفات الصوتية عليه، ويقوم برفع قصائده بعد أن يلقيها بصوته، وهي على ما بدا كانت فكرة عملية وفعّالة بالنسبة لصلاح.

مكنته الفكرة من التواصل مع معدي البرامج الذين استمعوا إلى قصائده، وطلبوا منه أن يسجِّل فقرات في برامجهم، وهو ما رحب به صلاح ودفعه لركوب القطار من جديد في كلّ مرة يتم فيها تسجيل لقاء تليفزيونيٍّ أو إذاعيٍّ معه، ليتمكَّنَ من ملاحقة حلمه، حتى وإن كان هذا يكبِّده قطع كل هذه المسافة في كلّ مرة فقط لتسجيل فقرةٍ إعلاميةٍ أو إلقاءِ قصيدةٍ في أمسيةٍ لن تستغرق من الوقت على أية حال أكثر من النصف ساعة، لكنه يتكبَّد أمامها سفر 24 ساعة ذهاب وعودة بين القاهرة وأسوان.

بعدما لم أجد صاحبيّ

لم يعد واحد منهما لي بشيء

هل تريدُ قليلًا من الصبر؟

لا..

فالجنوبي يا سيدي يشتهي أن يكونَ الذي لم يكنهُ

يشتهي أن يلاقي اثنتين:

الحقيقةُ والأوجهُ الغائبة!

*أمل دنقل

اجمالي القراءات 1712
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق




مقالات من الارشيف
more