الخدمة العسكرية الإلزامية بين الرفض القاطع والتحمس المشروط

اضيف الخبر في يوم الإثنين ٠٢ - مايو - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: العرب


الخدمة العسكرية الإلزامية بين الرفض القاطع والتحمس المشروط

الخدمة العسكرية الإلزامية بين الرفض القاطع والتحمس المشروط
  • تتعدّد تسميات الخدمة الإلزامية العسكرية في العالم العربي من بلد إلى آخر حسب اللغة الإدارية المعتمدة والتوصيف الشعبي أيضا، والذي لا يخلو من مكر ومراوغات، فهي “خدمة العلم” أو”الجنديّة” أو “خدمة الجيش” أو حتى “السرفيس ميليتير” بالنطق الفرنسي لدى العامة في تونس وبعض بلدان المغرب العربي.
العرب حكيم مرزوقي [نُشر في 03/05/2016، العدد: 10264، ص(12)]
 
العيوب ليست في الخدمة العسكرية بل في كيفيتها وأهدافها
 
نعم تعدّدت التسميات لمسمّى واحد تقرّ به وتفرضه أغلب الدساتير في العالم بما فيه الدول العربية، لكنّه ليس واحدا في نوعية الخدمة وطبيعتها وحتى توجهاتها، لذلك انقسمت الآراء حول إلزاميته بين صفوف الشباب وهم الشريحة العمرية المعنيّة بالموضوع أكثر من غيرها، وكذلك اختلفت حولها النخب السياسية والعسكرية والثقافية.

الفريق الأول مؤيد لإلزامية الخدمة العسكرية على اعتبارها واجبا وطنيا لمن استطاع إليه سبيلا ومدرسة لا بدّ منها في القيم الكبيرة، تبدأ من مبدأ الاعتماد على الذات والرياضة الصباحية وتصل إلى مصافحة القيم الأكبر في التضحية ونكران الذات وخدمة المجموعة الوطنية.

والفريق الآخر رافض لما أسماه بالضريبة المجحفة والمجانية التي تقتطع من عمر الشباب في ريعان وكان الأجدر به أن يخدم الوطن بما ينفع نفسه أولا والبلاد عموما، فيساهم في دفع عجلة التنمية بطرق أكثر جدوى وفاعلية وابتعادا عن هذا التجميد بدل التجنيد كما قال أحد الشبان المجنّدين في الجيش التونسي، ثمّ إنه ليس كما يعتقد ويصوّر في اللقطات التحسيسيّة والإعلانية التي تطلقها وزارات الدفاع عادة في البلاد العربية.

ويضيف مثقف عربي يعيش في بلد أوروبي، أنه أوّل مدرسة للإذعان وتحمّل الإهانات والركض دونما سبب. ويقول طبيب سوري مهاجر إلى الولايات المتحدة، مازحا “لو ركضت في اتجاه واحد أثناء التدريبات العسكرية لوصلت إلى أميركا قبل مجيئي الآن بسنوات، وجنّبت عائلتي مصاريف مجيئي بسبب الانقطاع أثناء الخدمة العسكرية التي كنت أعمل فيها سائقا لسيارة زوجة أحد الضبّاط وممرّضا لأحد أقاربه”.

وتتفق آراء كثيرة حول أنّ العيوب ليست في الخدمة العسكرية، بل في كيفيتها وأهدافها غير المعلنة في بعض البلدان العربية ذات الأنظمة التي تأخذ منحى طائفيّا واقصائيّا واستبداديّا فيتحوّل فيها الجندي إلى شرطي قمع، يمسك بهراوته في وجه الشعب بدل أن يوجّه سلاحه نحو الأعداء الحقيقيين خارج حدود البلاد.

حيلة اقتصادية لإرجاء توظيف الناس وإتاحة فرصة عام للاقتصاد ليتحمل عبء الخريجين الجدد، ثم إن التدريب الذي يتلقونه لا يصنع منهم مقاتلين

يتحفّظ الكثير من الذين يساندون الخدمة العسكرية على مبدأ الفرض والإلزامية من ناحية فظروف الناس ليست واحدة، كما يقول أحد المعيلين لأسرته ويخدم عسكريته بنفس الوقت في صفوف جيش عربي نظامي، ثم إنّ الذين يساندون إلزامية الخدمة العسكرية أنفسهم يختلفون في مدّة الخدمة ويرى أغلبهم أنها مجحفة في دول كثيرة حيث تزيد الخدمة العسكرية عن عام.

هذا عدا الخلافات والاختلافات الفرعية التي يطرحها الموضوع كتجنيد اللاجئين الفلسطينيين ضمن ما يعرف بجيش التحرير في بلاد عربية مثل سوريا أو في فصائل لمنظمة التحرير وما يثيره ذلك من جدل حول مسألة الموالاة، كما لا بدّ من التعريج على موضوع تجنيد الفتيات عبر التطوّع أو الإلزام كما حصل في تونس ومناقشته في البرلمان وهو أمر وصفه كاتب تونسي بالمغالاة في قضية حقوق المرأة.

واستبشر ممثل كوميدي بإشاعة خبر تجنيد الفتيات بتعليقه “وأخيرا تمت المساواة التامة بين المرأة والرجل في تونس وأصبحنا سواسية كأسنان مشط السلاح في مواجهة الدواعش”، ونصح المجنّدات بعدم الإكثار من صور السيلفي مع جثث القتلى من الإرهابيين.

كما سنّ ما يعرف بـ”المجلس التشريعي للإدارة الذاتية في عفرين ذات الغالبية الكردية شمال سوريا” قانون الدفاع الذاتي أو ما يعرف بقانون الخدمة الإلزامية, حيث بموجبه يكون لزاما على كل بيت تقديم ابن أو ابنة لأداء هذا الواجب لستة أشهر، كما جاء في البند السابع أن “كل من يخالف أداء واجب الدفاع الذاتي داخل أو خارج المقاطعة يخضع للمحاكمة العسكرية” وفق قانون العقوبات العسكرية الخاص بالمتخلفين. وأشارت مصادر في عفرين أن المسؤولين بدأوا يجوبون البيوت في المدينة لتسجيل أسماء الفتيات للخدمة الإلزامية.

تأتي راهنيّة طرح هذا الموضوع وعرض حجج كل فريق، من حدّة وهول ما يحدث على أرض الواقع من معارك يذهب ضحيتها كل يوم شباب في عمر الزهور داخل الصفوف النظامية للجيوش أو الميليشيات الموازية والمتقاتلة على حدّ سواء، منهم المجنّد ومنهم المتطوّع ومنهم من سيق غصبا عنه في هذه الحروب التي قال عنها أحد الفلاسفة عبارته الشهيرة: أجمل ما في الحرب هو أن تتوقّف.

الجيش مدرسة لقيم التضحية

 
حاجة البلاد للجيش في كل شيء: الخدمة العسكرية ليست فقط في التدريبات خلف أسوار الثكنات أو محاربة أعداء الحياة، بل أيضا في الحياة المدنية ومد يد المساعدة بكل أشكالها
 

يقول أحد المتحمّسين لقانون التجنيد الإلزامي “إنّ العالم بأسره يحترم ويجلّ الذي يؤدي واجبه في الخدمة العسكرية أكثر من غيره”، مستدلاّ بشهادات كثيرة لدول كبيرة ومتقدمة مثل الولايات المتحدة التي لاحقت فيها التهجمات والإدانات مسؤولين كبار لم يؤدّوا أو تهرّبوا من الخدمة العسكرية مثل الرئيس بيل كلينتون.

بالإضافة إلى أنّ دولة مثل ألمانيا كانت قد دعت أصوات فيها كالحزب الديمقراطي المسيحي منذ عام إلى العودة إلى الخدمة الإلزامية بعد أربع سنوات من تعليق العمل بقانون الإلزامية والتحوّل إلى الاحتراف، وحجتها في ذلك محاربة الإرهاب الذي بدأ يضرب في عمق أوروبا.

كما عادت دول كثيرة إلى الخدمة الإلزامية كبولونيا أو أوكرانيا وليتوانيا بسبب تهديد الجيش الروسي على حدودها فما بالك بالعالم العربي الذي توصف دول كثيرة فيه بالخزّانات للفكر المتطرّف وتجنيد الشباب في صفوف الجماعات الإجرامية.

ويضيف المدافعون عن فكرة التجنيد الإجباري في صفوف الجيش النظامي أنّ تجربة الخدمة العسكرية تعزّز الروح الوطنية وتشحن الهمم والمعنويات، كما أنها تحمي من السقوط في براثن التطرّف والأفكار الإجرامية وتشكّل حصانة على المدى المنظور والبعيد، فهي تخدم الجاهزيّة القتاليّة والتأهّب عبر العمليات الاستباقية وردع وترهيب العدو المتمثّل حاليا في الجماعات المسلحة.

ويقول خبير عسكري وضابط متقاعد في الجيش التونسي وقد علّق على صفة “المتقاعد” بقوله “نحن العسكريون لا نتقاعد، فأنا مازلت أنهض في الصباح الباكر، أمارس الرياضة وأقوم حتى بتحية العلم مع أحفادي وأنا أنظر إليهم من شرفتي في المدرسة المجاورة”.

وينظر الكثير من العرب نظرة إعجاب إلى المؤسسة العسكرية المصرية التي تدير وتمتلك مشاريع كثيرة ساهمت في تنمية الاقتصاد المحلّي والتخفيف من البطالة والفقر، بالإضافة إلى دورها العسكري داخل حدودها والحيوي في المنطقة عموما كحماية الممرّات، ولم يكن يتوفّر ذلك لو لا عمل الدولة بقانون الخدمة الإلزامية. ويقول إعلامي عربي مقيم في لندن “كل الدول التي تخلت عن الإلزاميّة في التجنيد أنتجت ميليشيات طائفية متطرفة من دون عقيدة، وهذا ما حصل مع الجيش العراقي الذي ترك أسلحته وهرب أمام مجموعة غير مدربة من مسلّحي داعش، وينطبق الحال أيضا في ليبيا”.

مدرسة لا بد منها في القيم الكبيرة، تبدأ من مبدأ الاعتماد على الذات والرياضة وتصل إلى التضحية ونكران الذات

وهذا يطرح سؤالا جوهريّا حول غياب العقيدة القتاليّة التي تحتاجها مكافحة الإرهاب الآن أكثر من أي وقت مضى، وهي عقيدة تتعلّق بالقتال الميداني، أي بالسلاح وكذلك الطرق الأخرى التي تحتاج إلى خبراء ومنظّرين مشحونين بالروح النضالية العالية ضد قوى التطرف والإرهاب وليس مجرّد التخصص الأكاديمي.

وقد أظهرت استطلاعات الرأي في تونس، حجما يتزايد ويتصاعد كل يوم في الرضاء وتثمين جهود المؤسسة العسكرية لما قدّمته من جهود وتضحيات وصفت بالبطولية أثناء محاربة الجماعات الإرهابية في مدينة بنقردان الحدودية مع ليبيا، وكذلك في مناطق تونسية أخرى تمكّن فيها الجيش من محاصرة الجماعات الإرهابية وإيقاع خسائر في صفوف التكفيريين، الأمر الذي زاد من نسبة الإقبال على الالتحاق بالمؤسسة العسكرية رغم المرحلة الحسّاسة التي تمر بها وهي حالة التأهّب القصوى في الاستعداد للرد على جرائم الإرهاب وفقدانها لعناصر من المجنّدين والضباط في مواجهتها لعصابات التطرف.

ويشيد الكثيرون (أغلبهم لم يعش تجربة الخدمة الإلزامية) بجهود المجنّدين في النشاطات المدنية الموازية، كالمشاركة في أعمال البنى التحتية من طرقات وجسور، إضافة إلى تدخلات الإغاثة والإسعاف في الكوارث الطبيعية وغيرها.

كما يعود الفضل في بروز مواهب كثيرة في الرياضات بجميع أصنافها للمؤسسة العسكرية وتلك التدريبات المنضبطة والصارمة والأمثلة كثيرة لعلّ أبرزها هو البطل الأولمبي العدّاء التونسي محمد القمودي في ستينات القرن الماضي و صاحب أول ميدالية ذهبية عربية في مجاله.

التجنيد الإجباري تجميد لقدرات كثيرة

 
التدريبات الشاقة لا يجب أن تذهب سدى: نفور الكثير من الشباب العربي من الخدمة الإلزامية لأسباب عديدة، اقتصادية واجتماعية وسياسية أبرزها المفاضلات الطائفية الواضحة ولبنان ليس بمنأى عنها ولكن بصورة مختلفة نسبيا لما يحصل في العراق
 

يرى الكثير من معارضي الخدمة العسكرية الإلزامية أنها استهلاك للوقت والمال وتشتيت للجهود دون فائدة تذكر, خصوصا في البلاد العربية التي ينخرها الفساد الإداري والمحسوبيات، بالإضافة إلى سوء التخطيط والالتفاف على القوانين أمام الاستحقاقات والملفّات الساخنة.

يقول الكاتب العراقي حسين صالح في معرض ردّه على سؤال “الخدمة العسكرية الإلزامية لا تعدو كونها إرجاء إيجاد وظائف لحديثي التخرّج، فالجندي المكلّف يعيش عاما كاملا على حساب أسرته دون أن يحس أنه عاطل عن العمل، ثم إنها حيلة اقتصادية لإرجاء توظيف الناس وإتاحة فرصة عام للاقتصاد ليتحمل عبء الخريجين الجدد، يعني منح الاقتصاد سنة إضافية لإيجاد حل لأوضاع هؤلاء، ثم إن التدريب الذي يتلقّونه لا يصنع منهم مقاتلين، إنما هو فقط لزيادة عدد القوات لترهيب العدو، في حين أن الجندي المكلف لا يعدو كونه علفا لمدافع العدو وألغامه”.

يكثر معارضو الخدمة الإجباريّة في الجيش من الحديث عن الحرفيّة التي لا بدّ منها فالجيوش لا تقاس بالأعداد بل بالمعدّات والخبرات، والخدمة الإلزاميّة لا تحقّق ذلك، بل تثقل من كاهل الميزانية وتقتطع من مشاريع تنمويّة وتربوية وثقافية في الوقت الذي يحتاج العرب فيه إلى أسلحة أقوى وأكثر فاعلية وديمومة، وهي الاستثمار في الإنسان بوصفه منطلقا وغاية وذلك بصرف الأموال في التعليم والصحة والمرافق العامة بدل استنزاف أموال المجموعة الوطنية في سرقة عام على الأقل من عمر الشاب وهو في أول انطلاقته في الحياة ممّا يصيبه بالإحباط النفسي.

إضافة إلى أضرار أخرى، خصوصا في البلدان العربية التي لا تمنح الإذن بالسفر إلاّ بعد الاستظهار بدفتر إنهاء الخدمة العسكرية، إلى جانب صعوبة حصوله على شغل أو وظيفة مهما كان حجمها، إن لم يكن قد أدّى الخدمة الإلزامية، ويشبهها شاب سوري بالبيع المشروط، كأن يقال لك في السوبر ماركت “لا نبيعك خبزا إن لم تشتر لحما”.

معارضو الخدمة الإجباريّة في الجيش يكثرون من الحديث عن الحرفيّة التي لا بدّ منها فالجيوش لا تقاس بالأعداد بل بالمعدّات والخبرات

الخدمة الإلزامية.. يلفظها شاب لبناني وهو يبتسم متسائلا؛ كيف هي خدمة وإلزاميّة في نفس الوقت؟ لا تخلو معارضة الخدمة الإلزامية من المسألة السياسية في الاستطلاعات التي أجريت مع الشباب العربي عموما وبالأخص في المناطق التي تشهد حروبا وتوتّرات كثيرة كسوريا التي يعتمد جيشها النظامي على المجنّدين بالإكراه وفي ذلك تروى قصص درامية كثيرة حول اقتتال الشقيقين ومن العائلة الواحدة, كذلك ينسحب الأمر على دول أخرى كالعراق واليمن وليبيا.

وبالنسبة إلى اللاجئين الفلسطينيين في دول تفرض عليهم التجنيد الإجباري كسوريا، وذلك في إطار جيش مستنسخ وموازي، يشرف عليه الفلسطينيون الموالون لنظام الحكم من الناحية الإدارية الشكلية وحدها.

كما يبرّر الذين يقفون ضد قانون الخدمة العسكرية الإجبارية في هذه المناطق التي تتعدد فيها الطوائف والإثنيات، بالمفاضلة المذهبيّة الواضحة خصوصا في العراق، أو لبنان وبشكل مختلف على اعتبار أن حزب الله صار يقدم نفسه وكأنه البديل عن الجيش النظامي فهو يتغوّل في البلاد بإرادة إيرانية وخطاب طائفي واضح وصريح، أمّا في سوريا فلا يجد المعارضون للتجنيد وقتا ولا فرصة حتى لمجرّد إبداء الرأي.

يستشهد معارضو الخدمة الإلزامية بنماذج لدول متقدمة ألغت هذه المسألة في نظمها وقوانينها، فلم تخسر شيئا وحقّقت نجاحات أكثر في الجوانب الاقتصادية والخدمات العامة، بل ومن الدول من ألغى الخدمة العسكرية برمّتها ووجّه فائض الميزانية الذي تحقق بفضل هذا الإجراء نحو قطاعات الصحة والثقافة والتعليم، وقد وصف أحد الرافضين للخدمة العسكرية الإلزامية هذا الإجراء بالقرار الشجاع والحضاري.

اجمالي القراءات 2004
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق