د. سمير غطاس يكتب عن الدروس السبعة المستفادة: اعتصام «العقارية» يبشر بجنين عقد اجتماعي جديد في مصر

اضيف الخبر في يوم الإثنين ١٧ - ديسمبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً. نقلا عن: المصري اليوم


لما كان مكتبي محازياً تماماً لمجلس الوزراء في شارع حسين حجازي في قلب القاهرة، فقد قدر لي أن أعايش وأتابع عن كثب، وعلي مدار الساعة ولمدة ١١ يوماً كاملة حركة الاعتصام التي نظمها موظفو الضرائب العقارية في هذا الموقع بدءاً من يوم ٢/١٢ وحتي تعليق هذا الاعتصام يوم ١٣/١٢، بعدما تمكنت هذه الحركة من انتزاع القرار الذي كانت تطالب به.

مقالات متعلقة :


وكان من الضروري، وفقاً لهذه المتابعة، السعي لاستخلاص أهم الدروس من هذا الاعتصام، ومن أجل إنجاز هذه المهمة جري اعتماد منهجية ترصد وتحلل الوقائع كما جري تماماً في هذا الاعتصام، مع تجنب الوقوع في الكثير من الأعراض التي عادة ما تصاحب مثل هذه القراءة، كإسقاط رغباتنا علي هذا الواقع، وتضخيم الحدث أو استصغاره، فضلاً عن الأعراض الأخري مثل التعميم والخروج باستخلاصات قاطعة أو حاسمة وما إلي ذلك.

وقد يكون من المناسب أن نستهل هذه القراءة التحليلية لهذا الاعتصام بوضعه في إطاره السياسي العام، وفقاً للنقاط التالية:

أولاً: إن اعتصام العقارية جري في الإطار العام للتحولات العميقة التي يشهدها المجتمع المصري، خاصة علي المستويين السياسي والاقتصادي، والانتقال المتسارع، ومن دون ضوابط، لآليات اقتصاد السوق، وكانت الدولة المصرية، بعد فترة من المماطلة، قد بادرت إلي إطلاق هذه العملية تحت وطأة الضغوط الخارجية والداخلية لتصحيح المسار الاقتصادي لمصر.

وأظهرت الدولة والحكومة في هذه الأثناء انحيازها الواضح لقوي رأس المال المحلي والأجنبي، بما فاقم كثيراً من الأزمات المعيشية لأغلب الطبقات الفقيرة من العمال والفلاحين والشرائح الصغيرة والمتوسطة من الموظفين.

وقد أحدث ذلك كله إخلالاً بالتوازن الاجتماعي النسبي في المجتمع المصري، وكان طبيعياً أن تنهض الطبقات المغبونة للدفاع عن مصالحها وحقوقها، ولا يحق لأحد أبداً أن يصادر هذا الحق المشروع.

وقد يبدو هذا الكلام بديهياً، لكنه مع ذلك يثير نقاشاً غير مسبوق، علي ضوء تجربة اعتصام العقارية، حول الخيارات التي يجب علي المجتمع المصري أن يتوافق عليها لإدارة هذا الصراع الاجتماعي المرشح دائماً للتفاقم والانفجار.

فهل يمكن مثلاً إطلاق العنان للفوضي بالاعتماد المتزايد علي أساليب العنف والقمع لإدارة هذا الصراع، أم أنه يمكن، أيضاً علي ضوء تجربة اعتصام العقارية، اعتماد أساليب أكثر حضارية كما هو الحال في أغلب المجتمعات الديمقراطية المعاصرة؟

إن الانحياز للخيار الثاني، يستوجب أولاً ضرورة اعتراف الدولة والحكومة وأصحاب رؤوس الأموال بالحق المشروع لكل الطبقات والشرائح الاجتماعية المصرية في ممارسة الإضراب والتظاهر والاعتصام السلمي، واعتماد لغة التفاوض خياراً وحيداً لحل الصراعات والمنازعات التي من الطبيعي والمنطقي أن تنشأ بين القوي الاجتماعية في ظل المتغيرات المشار إليها.

ثانياً: إن اعتصام العقارية، يأتي أيضاً في السياق العام لحركة تتسع بإضطراد لممارسة الإضراب والاعتصام السلمي، التي وصلت في بعض التقديرات إلي أكثر من ٣٠ حالة في الأشهر القليلة الماضية، لكن اعتصام العقارية يتميز بأنه تعبير عن أزمة شريحة من موظفي الدولة نفسها، وهو مؤشر مهم علي الحالة المتردية التي وصلتها هذه الشرائح التي تمثل ما بين ٧ و٩ ملايين موظف.

ولهذا يكون الوقت قد حان لبحث فكرة تشكيل نقابة عامة مستقلة للوظيفة العمومية في مصر، لأن تجربة اعتصام العقارية كشفت عن أن الاتحاد العام لعمال مصر، شبه الرسمي، ليس هو العنوان المناسب الذي يمكن أن يتبني مطالب الموظفين.

ثالثاً: إن تجربة اعتصام العقارية، في هذا الإطار العام، كشفت عن ملامح أولية لجنين لم يولد بعد، لعقد اجتماعي جديد في مصر، ولهذا ينبغي إدارة حوار جدي بين كل القوي الاجتماعية في مصر لبحث أسس ومنطلقات هذا العقد الاجتماعي الجديد، علي ضوء التجارب المعاصرة للعديد من الدول الديمقراطية، وفي هذا السياق يمكن ترشيح التجربة الأيرلندية كنموذج علي ما حققته في هذا المجال.

وبعد هذه المقدمة، يمكننا الآن الانتقال لعرض سبعة من الدروس المهمة التي أفرزتها تجربة اعتصام العقارية من موقع المعايشة والمتابعة لهذه التجربة.

١- تسييس الاعتصام ومطالبه الفئوية:

كان تنظيم هذا الاعتصام من أجل انتزاع مطلب فئوي يخص موظفي الضرائب العقارية (٥٥ ألف موظف) والمطالبة بعودتهم إلي وزارة المالية لتحسين رواتبهم الضعيفة.

وسعياً لإنجاز هذه المهمة، حرصت قيادة الاعتصام علي تفادي التورط في تسييسه بالمعني الشائع لذلك في مصر، فلم تسمح مثلاً للنشطاء من الأحزاب والحركات الاحتجاجية، التي يفتقد أغلبها إلي قواعد جماهيرية، بركوب موجة هذا الاعتصام وتحويله إلي سوق للمضاربة بالشعارات الحزبية، ومع ذلك كان هذا الاعتصام سياسياً بجدارة، ليس فقط لأنه نجح في إطلاق المبادرات المستقلة لهذه الشريحة الاجتماعية، وإنما أيضاً لأنه نجح في ربط الشعارات السياسية الصحيحة بالشعارات المطلبية للاعتصام.

وقد ترددت في جنبات هذا الاعتصام شعارات سياسية مهمة مثل: «الإضراب مشروع ضد الفقر وضد الجوع»، و«لا ملامة في الإضراب والاعتصام لا ملامة»، و«ياحكومة الاستثمار إحنا عايزين القرار»، و«يارئيس الجمهورية العدالة الاجتماعية»، و«اربط أجري بالأسعار».. وما إلي ذلك من شعارات أخري.

٢- الاعتصام.. والشرطة:

علي غير العادة، أظهرت قوات الأمن والشرطة سلوكاً منضبطاً، ولم ترفع عصاها الغليظة في وجه هذا الاعتصام، واكتفت فقط بمراقبته.

و،كان الاعتصام نفسه، منذ يومه الأول، رفع شعار «سلمية سلمية»، ولم يتورط بدوره في أي سلوك صبياني لاستفزاز رجال الأمن، بل علي العكس سعي لتحييدهم، وخاطبهم بشعارات مثل: «إحنا ولادكم.. وإحنا أخواتكم».

ومن الضروري الآن البحث عن الوسائل التي لا تحصر هذا النموذج فقط في الإطار الاستثنائي، وتعود أجهزة الأمن إلي سياستها القمعية التقليدية، وربما لهذا يجب إعادة تأهيل كل قيادات الأجهزة الأمنية علي ضرورة احترام حق المواطنين المصريين في التظاهر والإضراب والاعتصام السلمي، والكف نهائياً عن نزعة القمع.

ولهذا فإن كل القوي في مصر: الدولة وخاصة أجهزتها الأمنية، والحركة الوطنية والمطلبية، مدعوة لاستخلاص هذا الدرس من خبرة اعتصام العقارية، لأنه ربما كان السبيل الوحيد لإنقاذ السلم الأهلي للمجتمع المصري.

٣- المصريات لسن ناقصات لا عقل.. ولا دين:

كانت المشاركة الواسعة والنشطة لمئات السيدات من الموظفات في اعتصام العقارية، واحدة من أبرز الظواهر الإيجابية في هذا الاعتصام، بعضهن شارك حتي في المبيت علي الرصيف، وانخرطت الأغلبية منهن في تفعيل لجان الإعاشة، وبرزت من بينهن قيادات نسائية نشطة ممن شاركن في قيادة الاعتصام وقيادة الهتافات.

ومن الضروري الالتفات بكل جدية لهذه الظاهرة الإيجابية علي مستويين:

المستوي الأول: ويخص المجلس النسوي الأعلي في مصر الذي يتعامل في الغالب مع نوعية محددة من النساء، فيما يجري تهميش الأغلبية من النساء، اللاتي يشبهن إلي حد بعيد النساء المعتصمات في تجربة العقارية.

أما المستوي الثاني: فيخص التيار الأصولي الذي ينعت النساء عامة بنقص العقل والدين فيما شاهدنا علي امتداد عشرة أيام كاملة مثل هذه المشاركة الفاعلة والنشطة لنساء موظفات يفقن في العقل والدين كل رموز هذا التيار الأصولي، ولم تكن النساء المصريات في هذا الاعتصام بحاجة أبداً لاستصدار فتوي بالاختلاط والمشاركة في كل الفعاليات.

٤- الانتصار لوحدة الهلال والصليب:

في الاتجاه الصحيح المعاكس تماماً للحملات المشبوهة التي تطلقها بعض الصحف للعب علي المشاعر الطائفية، كان اعتصام العقارية قد تميز بالحرص علي استعادة وحدة المسلمين والأقباط المصريين، إذ رغم الطابع الفئوي لهذا الاعتصام فقد شاهدنا رفع اللافتات التي تؤكد وحدة الهلال والصليب، كما جري ترديد شعارات تحمل المعني نفسه.

وعلي المستوي العملي تجسدت هذه الوحدة في العلاقة الحميمة بين كمال أبوعيطة ومكرم لبيب من أبرز قيادات هذا الاعتصام، وقد شاركا معاً، وكتفاً بكتف في قيادة هذا الاعتصام في الشارع، وفي إدارة المفاوضات الصعبة مع وزير المالية في الحكومة.

وهذا يعني أن الشعار الصحيح الذي تستحقه مصر ويستحقه المصريون هو شعار: «المواطنة هي الحل».

٥- الاعتصام والتنظيم الذاتي المستقل:

كان من أهم انجازات هذا الاعتصام التدريب السياسي التربوي الذي خاضه بكل عفوية الموظفون المعتصمون، كان الاعتصام فرصة مواتية لإطلاق المبادرات الإبداعية المستقلة وتنظيم فعاليات هذا الاعتصام علي نحو ذاتي ومستقل خارج وصاية النقابات الصفراء والأحزاب التي تعيق وتعرقل إطلاق مثل هذه المبادرات المستقلة.

وقد بادر المعتصمون إلي تشكيل لجان ذاتية للإعاشة، والإعلام، والاتصالات والتفاوض، ولم يعد الأمر متوقفاً علي زعيم واحد أو قائد ملهم، وكثيراً ما غاب عن الاعتصام لفترات ليست بالقليلة قياداته، أبوعيطة ومكرم وعبدالقادر وغيرهم، ولم يتأثر كثيراً نشاط الاعتصام.

إن الدرس الذي ينبغي استخلاصه من هذه التجربة هو ضرورة رفع الوصايا عن الشعب المصري بدءاً من المنزل، ومروراً بالمدرسة والجامعة، ووصولاً إلي وصاية الدولة والحكومة والأحزاب، لأن تقدم مصر مرهون إلي حد بعيد بتحرير إرادة مواطنيها، وإطلاق مبادراتهم الإبداعية المستقلة وتشريع الحق في التنظيم، وكل وسائل التعبير السلمي الأخري.

٦- الإعلام.. وحماية الاعتصام:

كشفت تجربة هذا الاعتصام عن تنامي الدور الذي يلعبه الإعلام، ليس فقط علي صعيد تعريف الرأي العام بقضايا المعتصمين ومطالبهم، وإنما أيضاً علي صعيد توفير نوع من السياج الحمائي للاعتصام والمعتصمين، ورغم أنه لم تحدث في هذا الاعتصام احتكاكات بين أجهزة الأمن والاعتصام، فإن الحضور شبه الدائم للإعلام لعب دوراً رادعاً في وجه احتمالات انفلات النزعة القمعية من عقالها.

٧- إدارة المفاوضات.. ونظرية «لوي الذراع»:

رغم قشرة الحداثة التي تغلف توجهات الحكومة المصرية، فإن عقلها السياسي لايزال علي ما يبدو محكوماً بالمنطق التقليدي الموروث والمحافظ، فيما تلوي هذه الحكومة عنق الأغلبية من المواطنين، تحت وطأة توحش الأسعار، فإنها تصر علي المعاندة أو الاستجابة للمطالب المشروعة للشرائح الاجتماعية في مصر وذلك بدعوي عدم الرضوخ لما تسميه بسياسة «لوي الذراع».

ولم يعد اعتماد هذا المنطق المتخلف جائزاً ولا مقبولاً، لأن كل عناد من الحكومة سيقابل بمزيد من التصعيد، ولهذا ليس هناك من بديل آخر إلا الاعتماد علي مبدأ التفاوض.

وكانت تجربة الاعتصام قد كشفت عن قدر غير قليل من المهارات التي أديرت بها عملية المفاوضات الشاقة مع الحكومة، كالقدرة علي الحشد، واختيار أسلوب الاعتصام، وتجنب المغامرات الصبيانية، واعتماد طول النفس، والتصعيد المتدرج والمحسوب، مثل الامتناع عن التحصيل وإغلاق المكاتب وتسليم المفاتيح لقيادة الاعتصام، وجمع العرائض.

وكانت الحكومة، بعد فترة من المعاندة، قد عرضت حلاً لجدولة مطالب المعتصمين علي ثلاث مراحل مؤجلة.

وعند هذا المفصل قدم هذا الاعتصام نموذجاً مميزاً لإدارة الصراع والمفاوضات، فتم عرض اقتراح الحكومة علناً علي المعتصمين، وأجري عليه تصويت ديمقراطي، أسفر عنه رفضه، وتقرر لذلك استمرار الاعتصام.

ثم خاضت لجنة المفاوضات جولات أخري مع الحكومة أسفرت في النهاية عن تحقيق أهم مطالب الاعتصام.

وقد يخشي أنصار نظرية «لوي الذراع» في الحكومة من مغبة تكرار ما حدث في هذا الاعتصام في مواقع أخري، والسؤال هو: ولما لا؟

والمهم هو أن تتوافق جميع القوي علي عقد اجتماعي جديد، يرتكز علي إطلاق حريات المواطنين وعدم تقييدها، خاصة الحق في التنظيم المستقل وكل أشكال التعبير، بما في ذلك التظاهر والإضراب والاعتصام السلمي، واعتماد المفاوضات خياراً وحيداً لإدارة الصراعات والتعارضات والمنازعات، واقتراح هيئة تحكيمية عليا مستقلة تلجأ لها كل الأطراف إذا ما استعصي عليها حل خلافاتها عن طريق التفاوض.

من بين الشعارات الكثيرة التي تردد صداها في هذا الاعتصام، أعتز كثيراً بشعار يقول: «وسع وسع وسع.. خلي الورد في مصر يفتح».


 

اجمالي القراءات 4204
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق