المقال السادس من سلسلة القابلية للاستنعاج:
إن كنت رأسا فتهيأ للنطاح وإن كنت ذنَبا فتهيأ للنكاح

نبيل هلال Ýí 2012-01-15


انعدمت المعارضة في الإسلام بغياب مؤسساتها  وانعدام وجود مثال لها يعرفه عرب صدر الإسلام , إذ كانت السلطة في المجتمع القبلي والبدوي تقع كلها في يد شيخ القبيلة ولا معقب على حكمه , وله السلطة كل السلطة , ويتمتع بحقوق مالية ليست لغيره , فله ربع ما تغنمه القبيلة , وله أن يستصفي من تلك الغنائم قبل تقسيمها , كما يستولي على الفضول وهي الأموال التي لا تقبل القسمة من الغنائم . لذا لم يكن غريبا ألا يستنكف  المسلم من نهب الخليفة لمال بيت المال فقد فعلها قبله شيوخ القبائل .والمشاورة في الأمر هي الاشتراك في الإدارة السياسية , ولهذه المشاورة طرفان : السلطان والناس , الحاكم والمحكوم . وهذا المعنى واضح في الآيتين اللتين ورد  بهما  لفظ الشورى : وأولاهما الآية 38 من سورة  الشورى :

المزيد مثل هذا المقال :

 {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } " :فهي تبين نوعية الفئة التي تدلي دلو المشاورة نيابة عن الأمة , إنهم  بمواصفات محددة لا يجوز لمن لا يتمتع بها أن يكون طرفا في المشورة والحكم , إنهم ممن استجابوا لمنهج ربهم : فهم نظيفو  اليد لا ينهبون أو يدلسون من أجل المال والمكاسب , وهم لا ينفقون إلا مما يرزقهم الله من المال الحلال , فلا تكون مشاركتهم في المشورة والحكم هي مجرد إدارة مستترة لمصالحهم الخاصة, والاستجابة لربهم لا تعني مجرد انتماء نظري للدين , ولكنها تفعيل كل مبادئ الإسلام من إقامة العدل والمساواة . وإقامة الصلاة ليست مجرد أداء أصم للعبادة , ولكنها انتهاء عن الظلم وإمساك عن أكل السحت وأموال الناس بالباطل , فمن لم تردعه صلاته عن مقارفة المنكر والبغي , فلا صلاة له . وثانيهما الآية 159 من سورة آل عمران :

 " فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ". والآية تتوجه بالحديث إلى الحاكم - النبي في الآية -  لتحدد الموقف العام للحاكم تجاه المحكومين : إنه العفو والمغفرة , لا الغلظة والقسوة والقهروالقتل بالظنة فهي خصال مؤدية إلى انفراط عقد الأمة وشق عصى الطاعة ( لانفضوا من حولك ) , ثم تضيف الآية خصيصة ينفرد بها الحاكم في أمر المشاورة وهي المضي قدما في تنفيذ ما انتهت إليه المشاورة  بين الحاكم والمحكومين( فإذا عزمت فتوكل على الله ) , وإمضاء الأمر على هذا النحو يحبه الله ( إن الله يحب المتوكلين ) .

وكلمة " الأمر" تعني الحكم والإدارة وسياسة شؤون الدولة ( ومنها كلمة الأمير ) , وعليه فأُولي الأمر تعني - أول ما تعني - المختصين بشؤون السياسة والحكم , وإن وردت في غير ذلك فتعني أصحاب الاختصاص والخبرة . و" أُولي " لفظ جمع ليس له مفرد وإن ظن البعض أن مفرده " ولي " , وهذا  غير صحيح  لأن  جمع ولي" أولياء ". ويُفهم من الآية أن إدارة وتصريف شؤون الناس يكون لغير فرد واحد , وإنما للمجموع .  ولم تترسخ في الضمير المسلم فكرة العدالة باعتبارها حقا أساسيا كفله الله للناس دون تمييز يقوم على المكانة الاجتماعية أو العرقية , وكان دورالفقهاء في تهيئة عقول الناس لقبول الظلم الاجتماعي والسياسي والاقتصادي دورا أساسيا  في استئناس المسلمين وترويضهم لمصلحة السلاطين , فانكمش الناس وتقوقعوا , وفقدوا القدرة على ممارسة الرفض , وقيس فضلهم بمدى استخذائهم , وترسخ لديهم الاعتقاد بقبول الحكام مع معرفتهم بمخالفة أفعالهم لأقوالهم وبأنهم ليسوا شرعيين . واسمع من تراثنا- وهو مرآة تعكس البنية النفسية للناس في تلك الأزمان - إلى بدوي ينصح ولده قائلا :"يابني لا تكن رأسا ولا تكن ذنَبا , فإن كنت رأسا فتهيأ للنطاح , وإن كنت ذَنَبا فتهيأ للنكاح "  ولا حول ولا قوة إلا بالله .

ولم يدرك المسلم المستخذي مدى الخسارة التي ألمت به إذ عجزعن فهم واقعه وما يحدث له إلا عن طريق التفسيرات التي يقدمها له المسيطرون عليه , ولم يضطلع بأي مهمة لتحقيق خلاصه .

وهذا الحصار الذي ضربه الفقيه السلطاني على وعي المسلم , لا فكاك منه إلا بتبني ثقافة الرفض والتمرد على المستبدين , وإذا كانت ملاحقة مَن يقترف جريمة التعذيب مكفولة بحكم القانون ولا تسقط بالتقادم , فما أحرى الشعوب أن تلاحق من يعذبها وينهبها مهما طال زمنه , فلو أيقن المستبد - أي مستبد - أنه سيُلاحَق أمام قضاء عادل , لَما استبد وفرَّط .نبيل هلال هلال   

 



  

 

اجمالي القراءات 11776

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (7)
1   تعليق بواسطة   محمد عبدالرحمن محمد     في   الأحد ١٥ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[63942]

وكيف نكسر الحصار المضروب على وعي المسلم؟..

الاستاذ العزيز / نبيل هلال .. بارك الله في قلمك وفي مداده الذي يمد العقل المسلم بمدد الوعي الثاقب ... الذي يثقب حصاراً مضروباً ضربه فقهاء السلاطين.. وكهنة الدين.. الذين هم أصل نسل الشياطين... شياطين الانس بالطبع..


ما أروع ما خط قلمك وهو المختصر المفيد.. 


وإذا كان الحصار قد فرض منذ آلآف السنين على الضمير العربي الذي هو أصل الضمير المسلم في المنطقة من جانب شيوخ القبيلة في الماضي وشيوخ البترول في الحاضر.. على أيدي فقهاء في الماضي الاسلامي وفقهاء التراث الوهابي ..


 


وفي الماضي كان شاعر القبيلة يقوم بفرض الحصار على ضمير أبناء القبيلة لصالح شيخها وزعيمها الذي أصبح خليفة للمسلمين بعد الفتح لمكة ببضعة أعوام..


 لاشك أن مشوار كسر الحصار على الوعي والضمير المسلم يستلزم جهود المفكرين والمصلحين جيلا كاملا يهب سنوات نضجه وحصاد فكره لهذا الهدف النبيل.. وانت تسعى لهذا يا أستاذ نبيل..


فسعي محمود .. وكفاح ممدود


والسلام عليكم ورحمة الله.


2   تعليق بواسطة   نبيل هلال     في   الإثنين ١٦ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[63951]

تحية للأستاذ الكريم محمد عبد الرحمن محمد

شكرا أخي الكريم على مرورك على المقال ,وشكرا على إطرائك  , جعلني الله عند حسن ظنكم ,.  أما عن  ضرب الحصار على العقل المسلم فكان ذلك  خطوة ضرورية لترسيخ استخذاء المسلم وترويضه ,واشترك في تنفيذها السلاطين والفقهاء والملأ من مجموعات المصالح . وسنفرد بمشيئة الله سلسلة من المقالات لتلقى الضوء على هذا الأمر. وشكرا لكم مرة أخرى .


3   تعليق بواسطة   فتحي مرزوق     في   الأربعاء ١٨ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[63997]

لقد فعلها من قبل شيوخ القبائل ويفعلها اليوم شيوخ العساكر

الفاضل الأستاذ/ نبيل هلال السلام عليكم ورحمة الله  إذا كان  شيوخ القبائل والخلفاء قد استباحوا لأنفسهم نهب بيت مال المسلمين فقد فعلها ويفعلها اليوم شيوخ العساكر وكبرائهم ،  الذين يستبيحون لأنفسهم مال المصريين ومقدراتهم أن يأخذوا ما شاءوا وقتما شاءوا دون رقابة أو مسائلة ،


وأن من يتجرأ ويسألهم عن الميزانية الخاصة بهم يكون حسابه عسير وتٌقلب الدنيا عليه وعلى أهله لو لم يقدم لهم فروض الولاء والطاعة . فهم لا يقبلون مجرد النقد.


4   تعليق بواسطة   ربيعي بوعقال     في   الخميس ١٩ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[64013]

أهي زلة لسان، أم ماذا ؟


علم غزير مبطن في مقال قيم، ثم خلق كريم ، وأدب جم، باستثناء العنوان ...(المبهم) ؟
ولا يخفى عليك يا صاحبي ، أن عفة اللسان، من ليونة القلب، ورجاحة العقل.
أشهد الله عز وجل أني أحبك، ومعجب بمقالاتك،،  ولكن العنولن (مبهم).
حسن الظن يقتضي التبين قبل إرسال الاتهام : فهل أنا  غلطان ..؟؟؟
شكرا على ردك السابق، حين كتبت : نحن أمة لا تقرأ ولا تكتب ، فإن وجد مكتوب ـ لا قدر الله ـ فتحصيل حاصل، ليس وراء قطر ولا طل ولا طائل.
رب كلمات يكتبها أخي هلال خير من ألف وألف مقال
قالت: زلة عالم، قلت: أخشى زوال العلم، وتلك الجبال
  قالت: من غربل الناس نخلوه، قلت: كلا ، لن يفعلها بدر الكمال، وأنك لتعلمين أن نخله لي خير مدح بعض الآفلين.
أحبكم يا أهل القرآن، ولا قرت عين الحسود الحقود الشاطن الشيطان. 

5   تعليق بواسطة   نبيل هلال     في   الخميس ١٩ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[64017]

تحية للأستاذ ربيعي بو عاقل

شكرا أخي الكريم على تعليقك على المقال ,أما عنوانه فليس مبهما إذ وضح المعنى الذي جعلك تنكره علينا , وعنوان المقال مثل ذائع في تراثنا وقد جاء في كتاب (العقد الفريد)لأبي عمر بن عبد ربه الأندلسي , الجزء الثالث ,وهو كتاب من عيون التراث وقد صححه وضبطه كل من الأساتذة الفطاحل :أحمد  أمين وإبراهيم الإبياري وأحمد الزين ,وقدم له الأستاذ الكتور عبد الحكيم راضي . وما كانوا يتقاعسون عن رد كلام ابن عبد ربه إن رأوا فيه سوء أدب , وما كنت أنا العبد الفقير إلى الله لأظن أنني  أكثر منهم عفة لسان ,وقد رأيت الأمر على أنه مثل معبر عن الحال لا أكثر ,أما عن تساؤلك عن كون العنوان ذلة عالم ,فأجيب بالنفي مرتين: فهى ليست بذلة  إذ كتبته عمدا وقصدا , كما أنني لست بعالم -فذاك شرف لا أدعيه_ بل مجرد قارئ أجتهد .شكرا جزيلا لك أستاذي الكريم مرة أخرى .


6   تعليق بواسطة   ربيعي بوعقال     في   الخميس ١٩ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[64027]

لم يتقاعسوا يا سيدي إطلاقا.



أخي نبيل، لك مني أفضل تحية ، وبعد: لعل القدر يسوقك يوما لزيارة الجزائر، وهديتي ـ إن زرتنا ـ تلك النسخة المذكورة بعينها، وفيها : (( ... والكتاب كله صدى لشخصيته( ابن عبد ربه ) التي حكينا طرفا منها، فهو أديب حسن الذوق في الاختيار ، وإن كان ذوقه ينبوا أحيانا فيروي من الهجر ما لا يليق، ولكن لا يفوتنا أن لكل عصر ذوقه، ولكل بيئة حكمها ...))مقدمة العقد الفريد/ أحمد أمين، دار الكتاب العربي.

لم يكن العنوان مبهم، وإنما قصدت التعمية وصرف الجاهل والمبتدئ، وإبعادهما عن التهام العلماء ، وأنت منهم بلا شك ولا مراء ، وأنا أحترم رأيك، ولا أنكر قولك :"إنما هو مثل معبر عن الحال لا أكثر"، كما أني على يقين أنك لا تخاطب ولدك  بنلك اللهجة المستهجنة. وختاما أرجوا أن يستفيد القراء من هذا الحوار الأخوي الهادي، العفيف.

والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.


7   تعليق بواسطة   نبيل هلال     في   الخميس ١٩ - يناير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً
[64034]

تحية للأستاذ ربيعي بو عاقل

شكرا أخي الكريم و تحية مني لك ولكل أهلنا في الجزائر الشقيق ,وأشكرك مرة أخرى على (الهدية) مجموعة العقد الفريد فهى عندي بالفعل ,وربما سنحت لنا الفرصة مستقبلا لزيارة بلدكم الكريم بلد المليون شهيد.تحية لك.أخوكم نبيل هلال هلال


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2011-01-12
مقالات منشورة : 123
اجمالي القراءات : 1,421,212
تعليقات له : 109
تعليقات عليه : 282
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt