هوامش على دفتر الواقع .

طارق حجي Ýí 2008-07-20


فرغت أمس من مطالعة دراسة مقال مطول بقلم أشهر باحث غربي في الإسلام وهو البروفسور البريطاني الأمريكي الأشهر بيرنارد لويس عن خرافة أن العرب هم الذين قاموا بحرق مكتبة الإسكندرية القديمة . بحثُ رائع كتبه عَلامة يمثل أعلى المستويات الأكاديمية العالمية يؤكد فيه أن العرب لم تكن لهم أية علاقة بالنهاية المأساوية لمكتبة الإسكندرية القديمة. هذا البحث الفذ (رغم صغرِ حجمه) كتب له الدكتور إسماعيل سراج الدين مقدمة متميزة وجدير بالذكر أن جحافل المُثقفين العرب من قبيلة بني حنجرة قد إستسهلوا : (بنو لحية وبنو قومجي وبنو ماركس وبنوعشلق) إستسهلوا وإستمرأوا الهجوم على البروفسور بيرنارد لويـس ، (رغم أنهم لا يملكون مؤهلات التلمذة على يديه ، وبعضهم لا يستطيع مطالعة نصوصه الأصلية باللغة الإنجليزية) . وهذا الإستسهال والإستمراء ليست له علة إلا أن البرفيسور لويس يهودي الديانة (وهو جُرم لا يُغتَفَر عند كثيرين من أبناء منطقة الشرخ الأوسط) . اليوم إنني لا أشك أن جحافل بني حنجرة سيلتزمون صمت الجمادات أمام ورقته العبقرية عن إكذوبة حرق العرب لمكتبة الإسكندرية. والبروفسور بيرنارد لويس هو صاحب أفضل دراسة علمية – في تاريخ الدراسات الإسلامية عن الطائفة الإسماعيلية . كذلك فهو العَلامة الذي قال أكثر من مرة أن العرب قابلون للدمقرطة مثلهم مثل غيرهم ، وأن العيب ليس فيهم وإنما في بعض رقائق تاريخهم ونوعية الحكم بمجتمعاتهم . اليوم لا شك عندي أن مُثقفي بني حنجرة سوف يتجاهلون ما كتبه البروفسور لويس عن التهمة التي ألصقها كثيرون بالعرب أي كونهم الذين دمروا مكتبة الإسكندرية القديمة . فأنى لمثقفي بني حنجرة أن يحكمون على برنارد لويس بعقولهم وهم الذين إعتادوا أن يحكموا بغرائزهم السياسية ونوازعهم القبليـة ؟ إن الساعات التي أمضاها كاتب هذه السطور مع البروفسور لويس في جامعة برينستون هى أثرى وأمتع من سيناريو قيامه بمطالعة كل ما أنتجه مثقفو بني حنجرة خلال نصف القرن الأخير .

وصلت الثقافةُ العربية (وبالتالي الذهنية العربية المعاصرة) لدركٍ أسفل من الغرائزية وإنعدام الموضوعية في تناولِ معظم وسائل الإعلام العربية لقيامِ إيطاليا بتجريم الهجرة غير الشرعية لها . فوفق آرائنا الغرائزية , فليس من حق إيطاليا أن تُجرّم الهجرةَ غير الشرعية لها لأن هؤلاء الذين يذهبون لها (بطرق غير شرعية) هم إما عرب أو مسلمون أو أفارقة !!! إن تناول وسائل الإعلام العربية لهذا الموضوع وتأثيمها لإيطاليا لأنها أصبحت تعتبر المهاجرين غير الشرعيين محض مُجرمين ، هو دليلُ ساطعٌ على ما آلت إليه الثقافة العربية المعاصرة من الشخصنة وإنعدام الموضوعية بل – وأكرر – الغرائزية البدائية . إن من حق إيطاليا (منطقاً وعقلاً وقانوناً) أن تُجرم الهجرة غير الشرعيةِ لها وأن تتعامل مع المهاجرين غير الشرعيين كمجرمين ، وأن تُنزل بهم العقاب الذي يحدده القانون الإيطالي لهذه الهجرة غير الشرعية والتي أصبحت اليوم في إيطاليا "جريمةً" .

هناك أكثر من طريقة للنظرِ إلى وتقييم إتفاق تسليم الأسرى الذي أُبرم منذ أيام بين إسرائيل وحزب الله . البعض قد يراه إنجازاً كبيراً لحزب الله . والبعض قد يراه دعاية إسرائيلية أمام العالم المُتحضر , إذ تُظهر إسرائيل إستعدادها لإعطاء عشرات بل ومئات الأحياء والموتى (من العرب) في مُقابلِ جثة أو جثتين إسرائيليتين . ولا أعرف كيف يطلقُ أبناء بني حنجرة على هذا الإتفاق أنه إتفاق الذل والهوان لإسرائيل ؟ فإسرائيل تقول للعالم الحر ولشعبها أن جثة إسرائيلي تُساوي أو تفوق في قيمتها (عند إسرائيل) عشرات بل مئات الأحياء والموتى عند العرب . من حق البعض أن يرى أن هذا التصرف الإسرائيلي تصرف خاطئ ، ولكن ما دخل العار والهوان والذل في هذا الإتفاق ؟ إنها مرة أخرى عقلية قبيلة بني حنجرة التي تعيش وتموت في ظل الكلام الكبير الأجوف . فلو كان هناك مجال لمفاهيم مثل العار والهوان والذل فإنها (أي تلك الأوصاف) ستكون من نصيب الذين تقتصر مُساهمتهم في مسيرة العلم والتقدم على التغني بماضي مجيد هو أقرب إلى الظن والوهم منه إلى الواقعِ والحقيقة – أما لحظتهم الراهنة فتشهد على تأخرهم في كل مجالات العلمِ والإقتصاد والإنتاج والمنافسة .

يصلي الليبراليون العرب صباح مساء من أجل سوريا ! يصلون ويدعون الله أن يكلل جهود سوريا في المفاوضات مع إسرائيل بالنجاح الكامل للجانب السوري ، بمعنى أن تحصل سوريا على كل ما تريد , فتعود لها الجولان غير منقوصة ، وفي المقابل تعترف سوريا بإسرائيل وتُفتَتَح السفارة السورية في تل أبيب والسفارة الإسرائيلية في دمشق ، ويجلس تلاميذ مدرسة الصمود والتحدي وثقافة المقاومة يلطمون الخدود ومعهم أشاوس الكتاب العرب الذين يمسكون سيوفاً من خشب ويحاربون في الخيال معاركً لم تحدث ، ولا بأس عندئذ أن يعلنوا الإنتصار وأن يَصموا الآخرين بأنهم أهل الذل والعار والهوان ، ويمكن أيضاً إضافة وصف مثل كتاب المارينز . الليبراليون العرب يصلون خمس مرات في اليوم وعقب كل صلاة يدعون لسوريا بالتوفيق في مفاوضاتها مع إسرائيل وأن تحقق كل مآربها؟؟ .

في مُقابل رموز التعصُب والإنغلاق والهجرة العمياء للماضي والتي كان أبرزها في جيله الأديب المصري مصطفى صادق الرافعي ، كان هُناك آخرون من رموز الإنتصار للعِلم والتقدُم والحضارة والمدنية مثل أحمد لطفي السيد وعبد العزيز فهمي وسلامة موسى ومنصور فهمي ومن الجيل التالي لهم الدكتور حسين فوزي . اليوم يشيعُ بين عددٍ غير قليل من حَمَلة الأقلام في واقعنا نموذج مصطفى صادق الرافعي ولا نكادُ نجد مُمَثِل للمدرسةِ الأُخرى . بقى أن يعرف القُراء أن مصطفى صادق الرافعي عاش ومات بدون أن يكون بوسعه قراءة فقرة واحدة بأية لغة غير عربية . أما أمثال أحمد لطفي السيد وعبد العزيز فهمي وسلامة موسى ومنصور فهمي فقد أحاطوا بكلاسيكيات الإبداع الإنساني في أصولها وبلُغاتها .

على كثرةِ ما يتردد ويُقال عن مُختلف الأنشطة في مجال "الحوار بين الأديان" ، فإنني لا أفهم ما المقصود بكل تلك الجهود . إن الشيء الوحيد الذي علينا أن نزرعه في عقول وضمائر أبناءِ وبناتِ أي مُجتمعٍ مثل مُجتمعنا هو أنكَ إذا أردت أن يحترم الناس دينك ومُعتَقَدَك فإن عليك أن تحترم أديانهم ومُعتقداتهم وألا يكون همك الدخول في حواراتٍ هدفها إثبات التفوق والسبق .

أُكررُ في هذه "الدانة" ما كتبته في أول فصول كتابي "ما العمل" الذي صدر في سنة 1986 وهو أن الشارع المصري اليوم يُجَسِد ويُمَثِل ويُشَخِص مُعظَم ملامح حالتنا المُجتمعية الراهنة من إنعدامِ معنى القانون وعدم إلتزام الأقوى بالذات بأحكامه وسيادة مبدأ أن القوى تُنشيء الحق وتحميه وذيوع القيمة العالية المؤَسَسة إما عن السُلطةِ أو المال وقبل كل ذلك خرق القانون من قِبَل المنوط بهم إحترامة ناهيك عن ترجماتٍ شتى لثقافة الفهلوة التي يكون فيها كل مواطن هو السُلطة التشريعية والسُلطة التنفيذية وأحياناً السُلطة القضائية أيضاً في ذات الوقت .

رغم وجودَ ألف دليل على فوائد بل وحتمية الفصل بين رجال الدين والعمل السياسي (لخطورة ذلك المروعة وعواقبه المدمرة) فقد تعلمتُ منذُ أيام أن هناك دليل آخر لم أكن على دراية واضحة به ، ففي أثناء مُطالعتي لعدة بحوث أكاديمية عن المُرشد الأعلى الحالي للجمهورية الإسلامية في إيران تعلمت أن جُزءاً كبيراً من هيبتهِ وسُلطتهِ وسطوتهِ أن غير قليلٍ من مُساعديه (ومنهم رئيس الجمهورية الحالي) يؤمنون بأنه يتلقى تعليمات بشكل مباشر من الإمام المهدي الغائب أي من الإمام الإثنى عشر في سلسلة الإمامية الإثنى عشرة ذات القداسة الكُبرى عند الشيعة وهو الإمام محمد بن الحسن العسكري الذي إختفى ويعتقد الشيعة الإمامية أنه لم يَمُت وأنه سيعود بل ويدعون في صلواتهم ويسألون الله أن يُعَجِل عودته . ومن الطريف أن نُقارن بين فكرة آخر الزمان عند عدةِ فِرَقٍ مسيحية تربطُ آخرِ مرحلةٍ في الزمان بإسرائيل وعودة المسيح ومعركة أرماجيدون التي تستقي جذورها من سفر رؤية يوحنا اللاهوتي وبين ما يُقابلها عند الشيعة الإمامية . والتماثُل في الأفكار والأساطير غير محصور في هذا المثال . فالجدل المُحتدم قبل مجمع نيقيا (325 م) حول ما إذا كان الإبن مخلوق من الآب أم لا (وقد قال بأن الإبن مخلوق عددٌ من رجال الدين المسيحي في ذلك الزمان آريوس) بينما قال معارضوه أن الإبن غير مخلوق – وقد طالعتُ منذُ سنواتٍ بعيدة الجدل المُحتدم بين المُعتزلة والآخرين (أهمهم الحنابلة) حول القُرآن وهل هو مخلوق أم غير مخلوق وأنا في ذهول من إنتقال مفاهيم بأكملها من دينٍ لآخر . ولعل أيضاً من أشهر الأمثلة الكثير من النُظُم الصوفية/الإسلامية المأخوذة بالكامل عن رُهبان المسيحية (الخلوة أربعون يوماً ... عدم تناول طعام فيه روح ... ذكر أسماء لله هى في حقيقتها في اللغة بإحدى اللغات الثلاث (العبرية أو الآرامية أو السيريانية) .

في شهر مايو 1967 سُئِلَ قائد عربي كبير عما ستفعله بلده لو أن الأسطول الأمريكي السادس تَدَخَل فى النزاع الذى كان مرتقبا يومها بين بلده وإسرائيل .فكان رده بكلمة واحده (سنغرقه) !!! وفى سنة 2003 قال قائد عربي آخر أن الأمريكيين سيموتون على أبواب بغداد . ومنذ أيام قال قائد إيراني أن أكثر من ثلاثمائة قبر يجري حفرها وإعدادها لدفن الأمريكيين والإسرائيلين بها !! . تذكرت تلك المقولات الناضحة بالحكمة وبُعد النظر ورجاحة العقل وأنا أراجع بروفة الطبعة الخامسة من كتابي عن العقل العربي ؛ وكنت ساعتئذ أراجع فصلاً معنوناً " ثقافة الكلام الكبير" ؛ فهمست : "على بركة الله !!

ما الذى يسوغ لعربة كارو (مثل مصطفي صادق الرافعي أو جلال كشك) أن يتجاسر ويهاجم بل ويسفه  سيارة رولز رويس (طه حسين) أو جاجوار (سلامة موسي ) ؟ ... السيد جلال كشك كان يكتب للملوك (بالأجرة !!) ؛ إذ كتب لملك سعودي كتابه السقيم "السعوديون والحل الإسلامي" وكتب لملك مغربي كتابه المرتزق " وقيل الحمد لله ".

رأيت الأب جورج قنواتي ( 1905-1994) مرة واحدة فى حياتي ... ذهبت إليه فى الدير الدومينيكاني بالقاهرة وأنا طالب بقسم الماجيستير فى القانون بجامعة عين شمس (1971)... كان حديثه يومها عن الفيلسوف فى أعمال نجيب محفوظ (الرواية والقصة القصيرة ) ... يومها : صال الأب قنواتي وجال فى حديثه المعمق عن فن الرواية فى الآداب العالمية وفى الأدب العربي المعاصر ... ثم طوف بنا فى عالم محفوظ من عبث الأقدار لبداية ونهاية لثلاثية بين القصرين ثم أولاد حارتنا واللص والكلاب ... ثم أطال الحديث عن رواية الشحاذ وعن المجموعات القصصية التى نُشِرَت فى أواخر الستينيات وبالذات "تحت المظلة" ... وفى نفس الجلسة تحدث بإستفاضة عن الفيلسوف الفرنسي جابرييل مارسيل وعن الفيلسوف الوجودي الألماني مارتن هايدجر ... ثم عرج على فيلسوف الشباب الأمريكيين - وقتها - هربرت ماركوز مؤلف "الإنسان ذى البعد الواحد"... فى آخر هذا اللقاء أعطانا الأب قنواتي بعض كتاباته عن إبن رشد ( الذى هو فى إعتقادي : أفضل عقل فى تاريخ المسلمين) ... وكانت تلك بداية غرام فكري وثقافي بإبن رشد العظيم . تذكرت كل ذلك منذ أيام وأنا أطالع مقالا عن الأب قنواتي ورد فيه أن أبرز المفكرين المصريين معرفة - شخصية وفكرية - بالأب قنواتي هو استاذ الفلسفة المرموق الدكتور عاطف العراقي ... فعسي أن يتحف الدكتور العراقي المناخ الثقافي فى مصر والمنطقة العربية بسلسلة مقالات عن هذا المحيط الفكري والثقافي والمعرفي والفلسفي العارم الأب جورج قنواتي ... وعسي أن تجذب هذه الكتابة الراقية عقول وضمائر أبناء وبنات مجتمعاتنا عوضاَ عن إستئثار التفاهة والسطحية والهزال الثقافي الذى يروج له - ليل نهار - مسوخ من الناحية المعرفية ... مسوخ وراءهم تمويل مفسد لا مثيل له فى تاريخ البشرية .

إسمان إذا ذُكرا أمام أي ديكتاتور اليوم فى العالم تكهرب وتخلله رعب وهلع وجزع وفزع لا حد لهم : تشاوشيسكو ... وميلوسوفيتش ... وفى المستقبل القريب سيُضاف إسم الرئيس السوداني البشير لقائمة أسماء الرعب وعدم النوم ؛ وربما الإسهال أيضا .

رغم إحترامي وتقديري الكبيرين لرموزٍ عظيمة من رموز النهضة الفكرية والأدبية في مصر مثل طة حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ؛ إلا أن جيلهم كان يضم نجوماً أخرى لم تحظ بالشهرة والشيوع والتقدير اللائقين لفقرٍ شديد في جانب المُتلقي . فعمالقة مثل أحمد لطفي السيد وسلامة موسى ومنصور فهمي ولويس عوض هم أفذاذ من طبقة برتراند راسل في بريطانيا ... ولكن المُتلقي هنا لا يستطيع التلقي على موجة الإرسال والبث التي تأتي عليها تجليات هؤلاء الأفذاذ فلطفي السيد الذى لا يعرف للمصري هوية إلا أنه مصري . ولطفي السيد الذى يُترجم للمصريين روائعا من أعمالِ أرسطو ... وسلامة موسى (مثله مثل حسين فوزي) الذى يُقدر الحضارة الغربية التقدير الذي تستحقه بصفتها الحضارة الوحيدة الحية اليوم على سطح الأرض اليوم ؛ فهؤلاء يصعب على المتلقي العربي المعاصر إستيعابهم . أما منصور فهمي فأكبر وأكثر من إحتمال (حتى بالمقارنة بسلامة موسي وأحمد لطفي السيد ) المُتلقي الذي هو في أعلى حالاته وفي شخوصِ من يُسَمون بكبار مثقفيه , محض أطفالٍ في عوالم المعرفة الإنسانية الرحبة . وينطبق نفس القول على لويس عوض الذي كان بقامة طة حسين والعقاد , ومع ذلك فإن مُقدريه وعارفي قدره أقل بكثير مما كان ينبغي أن تكون عليه الحال . ويمكن قول نفس الشئ على شخصياتٍ أخرى مثل محمود عزمي (فارس معركة الطربوش والقبعة منذ ثمانين سنة في مواجهة رمز من أكبر رموز التقوقع والهجرة للماضي وكراهة الحضارة الغربية وهو مصطفى صادق الرافعي) . أما حسين فوزي , فلا يوجد بين المثقفين المصريين والعرب المعاصرين من يعرف عنه أي شئ ؛ بإستثناءات معدودة . لماذا كانت ولا تزال تلك الظاهرة مُتفشية ؟ الجواب ببساطة: لأن المُتلقي ليس فقط مُعتل الصحة الثقافية وواهن الكيان المعرفي ولكن لأنه أيضاً ضحية ذهنية ثيوقراطية إقصائية تضع مُسميات على هؤلاء الأفذاذ , وهي مُسميات كفيلة بالإنصراف عنهم في بيئةٍ ثقافية أحفورية (من الحفريات) .

ما الذي دهى حِصن الإسلام السُني الأكبر أي الأزهر ؟ . لماذا تقبل مؤسسة بهذه العراقة بالتبعية الفكرية لمؤسسة دينية أُخرى خاضعة بالكلية لأضعف تيارات الفقه الإسلامي وأكثرها نصية وعبادة للنقل وعداءاً للعقل (تيار أحمد بن حنبل وإبن تيمية وإبن قيم الجوزية) ؟ لماذا لا يتصدى الأزهر لأفكارٍ هى بالتأكيد مفارخ التعصُب والتزمت والعُنف والإرهاب والدعوة الحاضة على الصدام مع الإنسانية مثل أفكار الولاء والبراء التي كان لها المُساهمة الكبرى في إنتاج دولة طالبان والأفغان العرب وأتباعهما من الجهاديين والإنتحاريين في شتى أرجاء المعمورة . لماذا لا يتصدى الأزهر لمُجمَل نظرية الولاء والبراء ويشرح لجمهوره الواسع أنها (نظرية الولاء والبراء) نظرية أنتجت في زمن معين وفي ظل ظرف تاريخي محدد هو سقوط أجزاء كبيرة من العالم الإسلامي تحت سنابك خيل المغول الذين أسقطوا عاصمة الدولة الإسلامية وداسوا أشياءاً عديدة في طريقهم . لماذا لا يُقال على أوسع نطاق أن القول بنظرية الولاء والبراء كانت حاجة سياسية مُلحة في زمنٍ وظرفٍ تاريخي لمنع أبناء الشعوب الإسلامية (وقتها) من التعامل مع العدو الغازي .

سمعت بأُذُني عملاق الأدب العربي الراحل عباس محمود العقاد وهو يتسائل في سُخريةٍ موحية : لا أظن أن الله سيُحاسبنا على أعمالنا في زمنٍ صار فيه كمال الدين حسين وزيراً للتعليم والبحث العلمي ! ... تذكرت هذه السخرية الفذة أثناء محنة تسرب أسئلة الثانوية العامة مؤخراً فالنظام التعليمي الرائع الذي ورثته حركة يوليو 1952 وحولت قيادتهِ من رجالٍ على شاكلة أحمد لطفي السيد ومحمد حسين هيكل وطه حسين لرجلٍ مثل كمال الدين حسين ، كيف وضعت هذه المؤسسة الهامة للغاية بيد الجهالةِ والسطحيةِ والرعونة منذ نصف قرن على طريق الأفول والإنهيار والإنحدار والتراجعِ حتى وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم ؟

لماذا لم تُثِر مآسي دارفور إهتمام جل المثقفين العرب ؟ لماذا يُثيرهم مقتل فلسطيني بغزة ولا يُثيرهم موت وذبح وإمتهان وإغتصاب وتشريد عشرات بل مئات الألوف فى دارفور؟... السبب أوضح من شمس مُتألقة فى السماء فى يوم صيفي : القاتل فى المثال الأول يهودي والقاتل فى المثال الثاني مُسلِم !!! ما أبشع العقل وما أحط الروح وما أشنع الضمير الذين يجعلون النخب العربية تفعل ذلك (ومعظم أفراد النخب العربية تفعل هذا على الدوام ) ... العنوان الذى لم أكتبه وغبطت كاتبه ووددت لو كنت أنا الذى كتبه هو " محاكمة سفاح مثل البشير جنائيا إنتصار لكرامة الشعوب المقهورة " ... العنوان الرائع سطره قلم الأستاذ / عادل حمودة (جريدة الفجر عدد 21 يوليو 2008) ... وأضيف أن منطق السواد الأعظم من أفراد النخب العربية المثقفة أبشع من صمتهم على الإجرام ؛ إذ يرددون فى ببغائية بلا عقل (لو أن الشرعية الدولية فعلت ذات الشيء مع جميع المعتدين ؛ لأيدناها !!!!) أي منطق بشع ومتعصب وجهول هذا ؟ ... ملاحقة مجرم تظل واجبة وحتمية ولا يبرر الإجرام لأن بعض القتلة لا يلاحقون ... وهو منطق أعوج يخفي ورائه جبالا من التعصب الديني المقيت ... وهو أيضا المنطق (اللا منطق) الذى يجعل النخب القافية العربية لا تهتم بمعاناة ومشكلات الأقليات الدينية وغير الدينية فى البلدان الناطقة بالعربية (كمشكلات ومعاناة الأقباط فى مصر والشيعة فى السعودية والأكراد فى سوريا والبهائيين فى أكثر من بلد وبالذات فى مصر وغيرهم كثر) . وهو أيضا المنطق (اللا منطق) الذى يجعل النخب الثقافية العربية تقف موقف المتفرج الجبان أمام موجات الثقافة الذكورية الرجعية والظلامية التى تعم المجتمعات الناطقة باللغة العربية ؛ وكأن شيئا لا يحدث وكأن المرأة الناطقة بالعربية لا تداس - فى حالات لا حصر لها - بأحذية الذهنية الذكورية البدوية القرون أوسطية الخارجة من رحم الظلام والتخلف ومجتمعات اللاحضارة واللاإنسانية واللاتقدم وإفك الثيوقراطية السقيم .

صرت - مع تجارب السنين - أرى أن بعضنا يحمل بعض الأشياء والظواهر والتوجهات الثقافية أكثر مما تحتمل . فكثير منها هو محض ترجمة لحالة الترهل والإنهيار فى المستويات الثقافية والتعليمية والإجتماعية ... ولتنخفض الجباه إحتراما لمن قال منذ قرابة القرن ونصف القرن (قل لي كيف تكسب وتعيش ؛ أقول لك كيف تفكر وماذا تتذوق وبما تؤمن !!) ... وليقرأ  قراء هذا المقال إما الفاتحة (لو كانوا مسلمين) أو الصلاة الربانية (إن كانوا مسيحيين) أو مزمور "إرحمني يا الله" (إن كانوا يهودا ) على روح العظيم كارل ماركس (1818 - 1883) ... فإن كان هو سيرفض تلك النصوص الثلاثة ؛ فلنقرأ مقدمة كتابه المسألة اليهودية !!!!! .....

منذ مائة سنة بالتمام والكمال أفتتحت الجامعة المصرية ( تحول الإسم من الجامعة الأهلية للجامعة المصرية لجامعة فؤاد الأول لجامعة القاهرة) ... فى سنواتها الأولي كان من بين طلاب الدراسات العليا بها طه حسين ؛ كما كان من أساتذتها البروفيسور الإيطالي الأشهر نيللينو - اليوم تغرق قطاعات عديدة من هذا الصرح العلمي العريق تحت ظلام ملاك الحقيقة المطلقة فيما يسحب صفة "الجامعة" عن أماكن كثيرة بها ... ففى البحث العلمي لا يوجد أولئك الذين يملكون الحقيقة المطلقة .

موقف جامعة الدول العربية (يوم 19 يوليو 2008 ) من قرار المحكمة الجنائية الدولية والذى تضمن الأمر بالقبض على الرئيس السوداني مع توجيه الإتهام له بالمسئولية عن جرائم دارفور ؛ موقف الجامعة العربية من هذا القرار هو موقف مفهوم ومستنكر فى آن واحد : مفهوم لأن وزراء الخارجية العرب (أو معظمهم) لا يعملون فى خدمة شعوبهم وإنما فى خدمة من وظفوهم أى الحكام ؛ وخدمة الموظف لرئيسه أمر مفهوم . كما أنه أمر بشع ؛ لأنه يعني أنهم يهتمون بجلال مناصب رؤسائهم وملوكهم وأمرائهم عن حياة وأرواح وأمن وكرامة مئات الألوف الذين قتلوا والذين شردوا واللآئي إغتصبن من أبناء وبنات دارفور لا لجرم إقترفوه وإنما - فقط - لكونهم من أصول إفريقية سوداء ؛ على خلاف قاتليهم الذين ينحدرون من أصول عربية (ربما يكون هذا دافع وزراء الخارجية العرب ؛ فهم يحمون القاتل لأنه من أصول عربية ؛ ولا يعبأون بالقتلي لأنهم من أصول إفريقية سوداء) ... أي خزي هذا ؟

اجمالي القراءات 10176

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (1)
1   تعليق بواسطة   عمرو اسماعيل     في   الثلاثاء ٢٢ - يوليو - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً
[24832]

مشكلتنا أننا لا نفهم هذه الفقرة ..

هذه الفقرة الرائعة من المقال تلخص المشكلة:


إن الشيء الوحيد الذي علينا أن نزرعه في عقول وضمائر أبناءِ وبناتِ أي مُجتمعٍ مثل مُجتمعنا هو أنكَ إذا أردت أن يحترم الناس دينك ومُعتَقَدَك فإن عليك أن تحترم أديانهم ومُعتقداتهم وألا يكون همك الدخول في حواراتٍ هدفها إثبات التفوق والسبق .


المصداقية التي نفتقدها للأسف في عالمنا .. هي أننا نقول مالانفعل ونفعل مالانقول .. نتهم الآخرين بالكيل بمكيالين ونحن سادة الكيل بألف مكيال .. نفرح بالقبض علي مجرمي الحرب في البوسنة والهرسك من الصرب لإبادتهم المسلمين ... وندافع عن مجرمي الحرب في دارفور رغم أبادتهم والغريب أيضا للمسلمين لمجرد أنهم من عرق أفريقي .. نصرخ إذا منعتنا دولة من أقامة مسجد .. ونمنع أقامة كنيسة في بلادنا أو نحرقها ..


هل هناك اي أمل فينا .. أم نحتاج عصور التنوير في أوروبا ومصلحين مثل روسو وجون لوك ومارتن لوثر .. لنري النتيجة بعد قرنين ؟


طارق حجي كمثال متهم في دينه ووطنيته .. بل ومعه كل عظماء مثل طه حسين .. وانتصر للأسف الرافعي وأمثاله .. لنرجع قرنا الي الوراء ..


لماذا .. سؤال يصعب الإجابة عليه ... دون مناقشة الكثير مما يعتبره الكثيرون من الثوابت ..


أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2007-11-14
مقالات منشورة : 15
اجمالي القراءات : 199,331
تعليقات له : 0
تعليقات عليه : 9
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt