قصة اللجان الألكترونية

سامح عسكر Ýí 2018-11-04


اللجان الألكترونية هي نشاط على الإنترنت من قَبَل جماعة أو تنظيم يهدف لنشر مفاهيم معينة أو التأثير على الرأي العام لخدمة قضايا معينة خاصة بأصحاب وقادة تلك اللجان، حتى لو كانت هذه المفاهيم – المراد نشرها- مزيفة أو كاذبة، فمحور عمل اللجان متجرد تماما من أي التزام أخلاقي أو عقلي، أي أن تلك اللجان هي (بروباجاندا) في الأخير تعمل لنشر الإشاعات والهجمات الألكترونية والهاكرز والتبليغات في حق الخصوم.

مؤخراً عرفت تلك اللجان بالذباب الألكتروني كتحقير لأصحابها عن طريق وصف أعمالهم بالخسة وصناعة رأي عام مضاد لهم كفكرة شعبية رافضة للكذب واختلاق الأوهام عمدا، وهو صراع يدار ضمن نطاق عمل (الحرب الألكترونية) العالمية بدون تمييز، فلا تسلم معظم الحكومات من توظيف تلك اللجان لخدمتها في سبيل السيطرة على الإنترنت لكونه وسيلة تواصل غير مرئية ولا يمكن السيطرة عليها سوى باللجان المدفوعة.

وللتمييز بين عناصر تلك اللجان وغيرهم من الأشخاص الطبيعيين يلجأ البعض لوصفهم بحكم الخبرة والتعامل معهم عن قرب، مما يعني بأن إفشاء أسرار وطبيعة تلك اللجان غالبا يحدث من قبل عناصر منشقة ، فتقوم بفضح وسائلهم بشعور انتقامي أو الانضمام للجان ألكترونية أخرى مضادة، ومن بين هذه الصفات التي وقف عليها البعض لتمييز عناصر اللجان هي عدة صفات:

أولا: المحتوى الفارغ، فالحساب الخاص بالعنصر الدعائي في اللجنة خالي من أي أفكار أو تحليلات خاصة في الغالب.

ثانيا: حداثة الإنشاء..يعني تاريخ إنشاء الحساب جديد بما يتناسب مع زمن الهجمة الألكترونية، ولكن لا يعني ذلك أن كل حسابات اللجان حديثة، فقد يكون بعضهم احتياطي لتلك العناصر فيخصص لعمل اللجنة.

ثالثا: الهاشتاكات الموجهة، فحسابات العناصر لا تعمل سوى في الهاشتاكات ذات المحتوى الموجه، وهذه أبرز سمة لحسابات اللجان الألكترونية..حيث يتعلق نشاطها وجوديا بحملات موجهة تهدف لبث الإشاعات أو الهجمات الشخصية.

رابعا: التكرار..ولأن عناصر تلك الحملات يفتقدون للحد الأدنى من الفكر والاستقلالية فيهتمون أكثر بنسخ ولصق كلام وجُمل تعبيرية أو أخبار أو شتائم..وهذا يسهل اكتشافه بالدخول فقط على الهاشتاك ورؤية تغريدة واحدة مكررة بعشرات أو مئات الحسابات المختلفة.

خامسا: استطلاعات الرأي، فحسابات اللجان دائما تبحث عن تلك الاستطلاعات وتنشرها وتعيد تغريدها كجزء من حملات التوجيه وصناعة الرأي العام، وقلت دائما لأن ذلك جزء من وظيفتها مما يعني أنه ليس كل من يشارك في الاستطلاعات هو عنصر لجنة، لكن عنصر اللجنة دائما مهتم بالاستطلاع ولا يترك ما يخصه منها، أما المشاركين في الاستطلاعات من خارج اللجان فلهم اهتمامات أخرى تثنيهم عن البحث والاهتمام الكلي بها.

سادسا: عدم المناقشة، فعناصر اللجان لسبق توظيفهم بأوامر محددة لم يعد المجال لديهم مفتوحا للمناقشة ، فتراهم يضعون تعليقاتهم بحُكم أو خبر أو تكفير أو تخوين أو سب وشتم دون انتظار الرد، وهذا السلوك مؤثر في سيكولوجية الإنترنت ، إذ يؤثر ذلك أحيانا على القراء والمتابعين إذا لم يعوا أن ذلك كله جزء من خطة وليس رأيا قابلا للنقاش، وهذه السمة تحديدا هي أكثر ما تزعج المثقفين وأصحاب الرأي ،بحيث تفتح الباب للهجوم عليهم وشخصنة آرائهم مع عدم إمكانية الشرح والدفاع.

هذه السمات الست قد لا تنطبق على بعض عناصر لجان أخرى مدفوعة، وهذا يعني أن قصة عمل اللجان لا يلزمها فقط حسابات جديدة، بل يلجأون لتجنيد ذوي الحسابات الكبيرة والمشاهير أحيانا إما بالترغيب مقابل رواتب منتظمة، أو بالترهيب والتخويف اعتمادا على أصل الفكرة المُحركة لعمل اللجان التي قد تكون أيدلوجية دينية أو سياسية سلطوية، وفي كلتا الحالتين يُرفع سلاح تلك الفكرة إما بتكفير أو بتخوين الرافضين للعمل ..مما يعني خلق الدافع لعقاب هؤلاء وبالتالي تنازلهم وقبولهم بالعمل في اللجان.

إنما هذا الصنف الثاني يصعب اكتشافه في الغالب، ونشاطه يمثل ثغرة في التعرف على مراكز القوى الألكترونية، أي يُفتح الباب واسعا لاتهام شخوص أبرياء يقولون رأيهم باستقلالية ، لذا من الأفضل أن يتم تناول تلك اللجان ومواجهتها فقط عبر الصفات الست المذكورة، فهي وإن لم تمثل كل عناصر اللجان لكنها تمثل أغلبيتهم المطلقة وبنسبة قد تفوق 90% على الأقل، وبالتالي فهي القوة الضاربة التي يعتمد عليها الصنف الثاني، مما يعني أن حسابات المشاهير الكبيرة - التي نجح اللجان في تجنيدهم - لن تصبح مؤثرة إلا بهذا الصنف المذكور بالصفات الست.

على جانب آخر فعمل اللجان الألكترونية قد لا يكون رغبوي سياسي، بمعنى أنه قد يكون دينيا أو اقتصاديا وتجاريا، أو اجتماعيا، لأن فلسفة تلك اللجان قامت على أساس التجمع على فكرة واحدة قد تكون غير سياسية هدفها الربح مثلا أو الإعلاء من شأن القبيلة أو الحزب أو الدين أو المذهب أو الرمز ، وتداخل هذه المجالات في حياة الناس اليومية يجعل من هدف تلك اللجان الموجهة أمر بديهي مطلوب وجوديا وحقوقيا، أي سيختلقون ألف مبرر لنشاطهم ومن زوايا كثيرة نفسية وفكرية يصعب ردها أو التعامل معها.

هذا يعني أن الحرب الألكترونية بهذا الشكل باتت سمة عصرية يصعب التعامل معها أو تفادي مشكلاتها ، وفي تقديري إذا أرادت الدول والمجتمعات أن تتصدى لخطر أو لعمل تلك اللجان عليها سن تشريعات مانعة لتشكيلها ، فهي من ناحية قانونية مجرد كيان فوضوي، ومن ناحية أخلاقية هو تنظيم غير مقيد بأخلاقيات، ومن ناحية سياسية يساهم في بث الشكوك والهواجس التي تفقد الثقة وتشكل حواجز ضد الآخر، ومن ناحية فكرية ومعلوماتية تساهم في نشر أخبار كاذبة ومعلومات مزيفة وتحليلات غير علمية.

ذلك لأن الدافع المؤسس لعمل اللجان عموما هو (المصلحة) دون الاعتبار بمصالح وحقوق الآخرين، فجهود اللجنة لمن يدفع، وهذا يطرح إشكالية فلسفية غاية في الخطورة ، وهي سيطرة القيم المادية والمعيشية البحتة على قيم العقل والفكر والتدبر، مما يعني سيطرة الأهواء على الحقائق فيتخلف الإنسان فورا وتسوده قيم فوضوية تعيد الحضارة للوراء، ومن هذا المدخل يجب على كل مفكري العالم أن يتصدوا لتلك الجرائم بوصفها ليست فقط مهددة لمصالح وحقوق الناس بل أيضا تهدد وجودهم.

أذكر أن أول ظهور لتلك اللجان في مصر حدث قبل ثورة يناير 2011 ولكن بشكل أصغر مما هو عليه الآن تبعا لتاريخ الوجود الذي يبدأ بدائيا ثم يتطور، فقد تعرضت حملة البرادعي وحركة كفاية وبعض رموز الحركة الوطنية والمعارضة المصرية لحملة تشويه ألكترونية غزت صفحات التواصل الاجتماعي في تويتر وفيسبوك والمنتديات وصولا ليوتيوب، ومنها صنعت بعض الإشاعات الباقي أثرها إلى الآن، لكن ولأن حركة المعارضة لنظام مبارك كانت كبيرة في الشارع فلم تنجح تلك الحملات في إسقاط المعارضة المصرية.

وأثناء ثورة يناير نشطت تلك اللجان وكانت مصدرا هاما للتلفزيون المصري وبرامج التوك شو وقتها التي قاومت الثورة في بدايتها ولجأت لتشويهها بطرق اعتباطية، ذلك لأن القائمين على عمل تلك اللجان كانوا جهلة في الغالب فخلقوا إشاعات ساذجة وبوسائل بدائية سطحية مما ساهم في نفور الناس أكثر من التلفزيون وكراهية كل أو أغلب ما يمثله من برامج ومذيعين في هذا التوقيت، ولن أعدد أو أسمّي هؤلاء، لكن أشير فقط إلى أن طبيعة الإعلام المصري قبل وأثناء يناير عادت الآن بنسبة كبيرة نظرا لطبيعة الصراع الوجودي بين الحكومة وأشد معارضيها من التيار الديني.

أما بعد ثورة يناير وفشل هذه اللجان في تحجيم المعارضة ألكترونيا لم يتعظ القائمين على الدولة الذين كانوا مزيجا من إسلاميين وعسكريين، حتى استتب الوضع لتنظيم الإخوان فرأينا هذه اللجان تعود مرة أخرى ولكن لحساب السلطة الإخوانية والرئيس مرسي، لكن أضيف لها ملمحا دينيا وهو تكفير وشيطنة المعارضين دون استثناء، وانتشرت الأخبار بتلقي التنظيم أوامر من خيرت الشاطر بإنشاء وتوسعة هذه اللجان عن ما كانت عليه في زمن مبارك، ولكن ما فشل فيه صفوت الشريف كأحد دهاة عصر مبارك لم ينجح فيه قادة الإخوان الذين كانوا – وما زالوا – أقل من حيث الكفاءة العقلية والشعور بالواقع.

أما الآن فقد انحصر عمل تلك اللجان بين مؤيدي السيسي ومؤيدي الإخوان، وبنفس الطريقة القديمة الشائعة في زمن صفوت الشريف، لم يضيفوا شيئا، ولم يتعظوا من تجارب سابقيهم، ذلك لأن محور عملهم بالأصل قائم على الوهم والغش والخداع، لا يناقشون أمورا جوهرية أو حقيقية التي هي محط أنظار واهتمام رجل الشارع، وهذا يفسر انحسار شعبية السيسي والإخوان الآن في مصر رغم سيطرتهم تقريبا على السوشال ميديا، مما يُنذر بحركة تغيير قادمة تكتسب طبيعتها الثورية من رفض الطرفين وكل الوسائل المضللة التي رفعوها.

نفس الشئ في لجان ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" التي قادها المسئول في الديوان الملكي "سعود القحطاني" فاللجان السعودية هدفت منذ البداية إلى ترسيخ سلطة بن سلمان والهجوم على معارضيه وتهديدهم واختراق حساباتهم وربما تصفيتهم بدنيا إذا لزم الأمر، وطبيعة مقتل خاشقجي في القنصلية السعودية باسطنبول شرحت ذلك منذ ظهورة في برنامج بلا حدود على قناة الجزيرة في نوفمبر 2017 ومن يومها عجت صفحته بالتهديدات من قِبَل تلك اللجان بسبب نقد خاشقجي للسلطات السعودية وقربه نفسيا وسياسيا من قطر.

أي أننا في الحقيقة لم نعد نتحدث عن لجان سوشال ميديا معزولة عن الواقع، فالسعودية حوّلت هذه اللجان إلى عصابات مافيا تخطف وتهدد وتشتم، بيد أنه لو عقدنا مقارنة بين لجان السيسي والإخوان من ناحية سنرى أن وسائلهم أقل حدة وعنف من لجان سعود القحطاني الذي تجاوز بصلاحياته حد القتل وبطرق شنيعة مثلما حدث لخاشقجي، وتقديري أن الظرف الدولي والإقليمي هو الذي دفع بن سلمان أن يتصرف بهذا الشكل، فهو مضغوط من إيران وقطر وتركيا من ناحية، ومغروس في الوحل اليمني الذي يقطف يوميا أرواح العشرات من جنوده ويفقده عشرات المليارات شهريا.

نفس الوسيلة السلمانية تستخدمها الجماعات الإرهابية على الإنترنت، حيث يشكلون أحيانا جماعات ألكترونية تهدد كل معارضيهم وناقديهم بالقتل، علاوة على غسيل الدماغ بنشر مفاهيم التطرف والتكفير على الرأي، ولأن ثقافة المجتمع العربي واقعة تحت تأثير رجال الدين فوجدت دعايتهم قبولا شعبيا عند البعض مما ساعدهم في عمليات التجنيد والتمويل، وبرغم محاولات تويتر وفيسبوك ويوتيوب السيطرة على المحتوى الإرهابي لكن التلاعب بإدراك الأميين والجهلة كان أسبق على الرأس، وباتت محاولات تلك المواقع تذهب في اتجاه آخر يرفضه الإنسان الحديث وهو القهر والتسلط على الحريات وحذف وتجميد حسابات كثيرة لمجرد رأيها السياسي أو الديني السلمي.

ومما زاد الأمر خطورة عند الغرب هو استهداف تلك اللجان مؤسساتهم التشريعية والإدارية باتهام أمريكا لروسيا بإدارة وتوجيه عناصر ألكترونية للتأثير على انتخابات الرئاسة والكونجرس، وكذلك إيران مما حدا بمؤسس فيس بوك لحذف عشرات الحسابات الإيرانية الكبيرة لظنهم أنها لجان منسقة، ورغم أن تصرف فيس بوك يتنافى مع المعايير الديمقراطية والحقوقية لكن ردود الأفعال عموما ضد أخلاقيات اللجان الساقطة تبرر هذا التصرف، بمعنى أنه لم يعد مقبولا ممارسة الأخلاق مع من لا يفهمها، ورغم منطقية هذا التبرير لكنه يمثل تسلط واستبداد في الأخير، إذ كان يلزم أمريكا وفي سبوك تشكيل لجان تحقيق أو رفع دعاوى قضائية لإثبات التهم.

بيد أن المنطق يقول بأن مستخدمي فيسبوك وتويتر في أمريكا هم أضعاف أضعاف مستخدميه في روسيا وإيران، فكيف ستؤثر الأقلية على الأكثرية؟..فالروس حسب علمي لا يعتمدون على مواقع أمريكا التواصلية إنما يعتمدون أكبر على موقعهم التواصلي الشهير vk كبديل عن محتوى أمريكا الأقل شهرة باللغة الروسية، وكذلك إيران فمواقع التواصل هناك محجوبة وحجم المشاركة على الفيس وتويتر باللغة الفارسية يكاد يكون محدود، اللهم إلا إذا قصدوا من يغرد باللغة الإنجليزية ، وتقديري أن هذا أقرب لشهرة تلك اللغة واعتمادها تقريبا كلغة ثانية مستعملة من الهند حتى الهضبة الإيرانية.

لكن ولربما خرج الاتهام لدوافع سياسية خاصة بالجمهوريين يبقى أن تضرر الدول من اللجان الألكترونية ثابت، وفرص تجهيل الناس وتضليلهم باتت أكبر، وقفزت قوى العدوان والكذب إلى الواجهة اعتمادا على حجم التمويل الذي يعيد قصة زواج السلطة والمال مرة أخرى، وأستطيع أن أؤكد أن فشل هذه اللجان أصبح حتميا، فهي من ناحية تفشل غالبا في التأثير على الرأي العام ، ومن ناحية أخرى لا تقوم عليها اعتبارات سياسية عليا نافذة، بمعنى أنه لا قرارات سياسية في الغالب مبنية على نشاط تلك اللجان إنما هذا النشاط منصب في الدرجة الأولى على توجيه الشعوب وإثبات الوجود ليس إلا.

أما الواقع والمستقبل فيقرره الشارع المعزول عن فكرة عمل اللجان، ففي حين يهتم الشارع بمصالحه ومقدساته، تهتم اللجان بمصالح قادتها ومقدساتها التي قد تتعارض مع مصالح ومقدسات الشعوب، ومن هذا التعارض تنشأ فجوة بين السلطة والشعب إذا أصرت الحكومات على التعامي عن مشكلات الناس الحقيقية.

ختاما: إن فكرة تجمع الناس على هدف هو شئ طبيعي، لكن الغير طبيعي هو أن يكون هذا الهدف شرير ووسائلة شريرة لا تتقيد بأعراف وأخلاقيات أو احترام عقل الإنسان، مما يعني أن فكرة تكوين لجان ألكترونية مثلا لشرح وتوضيح مسألة معينة فكريا هذا يدخل ضمن عمليات الفكر والتعبير عن النفس، لكن إذا قررت تلك اللجان فرض هذه المسألة جبرا وعدوانا وتخويفا فتتحول فورا إلى عصابة منفلتة وجب مقاومتها بشتى الطرق المشروعة.

اجمالي القراءات 7473

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2012-09-25
مقالات منشورة : 788
اجمالي القراءات : 7,598,223
تعليقات له : 102
تعليقات عليه : 411
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt