الترجمة وتحدياتها المعرفية

سامح عسكر Ýí 2018-10-27


أحد المشكلات الفكرية الكبرى التي واجهت المسلمين الآن ليست مجرد رؤية دينهم، إنما التواصل مع العالم بشبكة ثقافية تشرح وتحلل رؤية المسلمين لدينهم وللأشياء والكون.

ظهرت هذه المشكلة على السطح إبان عصر التنوير الأوروبي ووضوح الفارق العلمي بين مجتمعات أوروبا الناهضة والصناعية وبين مجتمعات المسلمين المتخلفة والمستهلكة، بحث مفكرو المسلمين وقتها عن الأسباب واجتهد آخرون في تبرير ما حدث، وقد اتجه الفريق الأول الباحث عن الأسباب بالاطلاع على الثقافة الغربية للوقوف على موطن الداء الذي أصاب الجسد الإسلامي بالشلل، وجعله غير قادر على الإنجاز أو مواكبة التطور ، بينما اتجه الفريق الثاني للتقليد الحرفي بإعادة نصوص القدماء للواجهة وتفسير الحداثة على ضوءها.

أسس الفريق الأول ما تُعرف بحركة الاستشراق، أي ترجمة مقالات وكتب نقدية لباحثين غربيين عن الإسلام، بينما أسس الفريق الثاني أصولية إسلامية صنعت جماعات دينية خلطت بين العقيدة والسياسة، وحسب المنطق الجدلي هذا إنتاج لذاك وكلاهما يؤثر في بعضه، بحيث إذا قويت شوكة المستشرقين وتلامذتهم من المسلمين نجد شوكة بنفس القوة للأصوليين والجماعات، وظل هذا الصراع الفكري محتدم بين الفريقين طوال القرن العشرين، إلى أن ظهرت جماعات دينية أرادت تطبيق كل ما أنتجه الفريق الثاني من تقليد حرفي وإعادة لشريعة القدماء.

أدى ذلك لصدام من نوع مختلف خارج نطاق العقل، فرضت الجماعات الدينية سطوتها وانتشرت إلى أن انتهت في شكلها الحالي بسلطات وحكومات ودول فاشلة بتجارب قاسية وتدمير لبعض الدول والشعوب، وقد خدم ذلك جدليا حركة الترجمة والاستشراق، وأعاد قيمة البحث الديني للواجهة مرة أخرى للوقوف على موضع الخلل الذي أصاب ذهنية المسلمين.

يهمني في هذا المقام حركة الترجمة وكيف تناولت الإسلام بمنظور نقدي ، علما بأن الترجمة في هذا الباب تحدث بثلاثة أساليب:

الأول: ترجمة حرفية، وهي صعبة لظروف كل لغة ، وقد شرحت خطورة تلك الترجمة في مقالي المنشور على الإنترنت بعنوان " العرب ومخاطر ترجمة القرآن" وصلت فيه لاستحالة ترجمة القرآن ترجمة حرفية لما تزخر به اللغة العربية من نحو وصرف وكنايات واستعارات لا توجد عند لغات أخرى..ولأن بعض تلك اللغات لا تتوفر على أبجدية للنقل الحرفي كاللغة الصينية.

الثاني: ترجمة بالمعنى، وفيها يقيد المترجم عقله بالنص في حين يبحث عن معانٍ مناسبة له ، وهو ما يعني أن هناك إحساسا بالمعنى دفعت المترجم لإعادة صياغة النص، وهذا الأسلوب قد يكون غير مقبول في نقل المعاني الدينية، حيث تصبح رهنا لظروف وسعة وأهواء المترجم، مما يعني أن قرآنا قد يترجم إلى عشرات المصاحف المختلفة والمعاني المختلفة حسب وجهات النظر.

الثالث: وهو التخلي عن النص الأصلي وترجمته بطريقة مناسبة، فلو قال الله " ليس كمثله شئ" تُترجم مباشرة بألفاظ ونهي صريح عن المشابهة، وهي طريقة تشبه كلام المفسرين عن الآيات، فإذا كان لدينا مئات التفاسير سيُصبِح لدينا مئات الترجمات بنفس الطريقة.

تلك الأساليب ليست حصرية للمسلمين في ترجمة قرآنهم، بل إن ترجمة العهد الجديد ربما أكثر صعوبة لقدم لغتيه "اليونانية والعبرية" واللغات كالبيئة تختلف مع الزمن، أي أن ترجمة العهد الجديد الآن بعد أكثر من 3 آلاف عام على لغته الأصلية ربما ينتج عهد مختلف عن الأصلي حتى لو تُرجِمَ النص حرفيا، وهذا الاضطراب أثار شبهات عند البعض في صدق ترجمة شامبليون لحجر رشيد، فالرجل ترجم قياسا على اليونانية القديمة أبجديا، بينما ترادف المعاني والنطق الصوتي يكسر تلك الأبجديات.

كمثال مدينة الدار البيضاء المغربية مثلا، الأعاجم ينطقونها "كازابلانكا" تبعا للنطق الفرنسي، هنا لو ترجمنا الاسم من الفرنسية سيعطي نطق مختلف عن نطق العرب، وهذه أكبر شبهة على ترجمة شامبليون التي ظهر منها التأثير اليوناني على لغة المصريين "بلبيس – نفتيس – تانيس – إيزيس – أوزوريس" هذه طريقة اليونان ليست مصرية، وسبب آخر لأسماء كثيرة مرتبكة ومهتزة ك "عنخ – بعنخي – عج إب – سمر خت – خع با – شبسكاف – جدكارع –منكاورع – سمنخ – خع نفر –خع عنخ"..وغيرها..مع العلم أن ما بين كتابة حجر رشيد إلى زمن شاملبيون حوالي 2200 سنة كافية لحدوث متغيرات جذرية على اللغة.

كذلك دخل هذا الأسلوب جميع الحضارات من قبل، مما يعني أن ترجمة الأعمال الدينية والأدبية ستخضع في الأخير لوجهة نظر المترجم أو لغته مما يُضفي تأثيرات على النص الأصلي أليق ببيئة الترجمة ولا علاقة لها بالمؤلف، وقد حدث ذلك في ترجمات ألف ليلة وليلة أضافت طابعا فارسيا وعربيا على الأصل الهندي، وكذلك في ملاحم هوميروس اليونانية التي ترجمها الإنجليزي "ألكسندر بوب" في القرن 18 ، فقد أضاف لها بوب طابعا أرستقراطيا بحُكم النبلاء الإنجليز ، في حين أن ملاحم هوميروس ظهرت أكثر في العصر السوفسطائي الديمقراطي.

وظني أن الترجمة الأدبية أصعب من القانونية لوضوح الأخيرة أكثر بدلالتها القطعية، أما الأدبية فهي مفتوحة لخيال المترجم وقدرته في تصور الألفاظ والأبيات الشعرية، وهي مهارة تتطلب الإلمام بدقة المصطلحات والعلم بذهنية المؤلف وبيئته الثقافية، بينما أحسب أن تلك الشروط صعب توفرها في أي مترجم مما يضع التنوير أمام تحديات كبرى تتطلب الاهتمام بحركة الترجمة وتلافي عيوبها إن أمكن.

أما عن فوائد الترجمة فهي أكبر من عيوبها، إذ تصنع تلاقحا حضاريا ولو بالمعنى، في حين يمتنع الكثيرون عن التواصل ويُحرّمونه – كرجال الدين – هنا أصبحت الترجمة تعني الابتكار وتوفير أجواء منافسة للكهنة، إضافة إلى أن قُرب الترجمات من فهم العامة يزيح الغموض واللبس عنه وبالتالي زوال الشفرة المقدسة الاحتكارية لرجال الدين.

وقد ضربت لذلك مثل في دراسة لي منذ عام بعنوان "اللغة المصرية ليست عربية" قلت فيها " بعد ترجمة الكتاب المقدس من اللاتينية للغات المحلية أصبح فهمه ميسورا وأقرب للشعب من تفاسير الرهبان، وهذا ما يفتقر إليه المسلمون، حين حصروا ترجمة القرآن للغات الأخرى الغير عربية ولم يعترفوا بلغات أخرى محلية مما خلق نوعا من التكلف والصعوبة في التعامل مع القرآن، ونموذج الشيخ الشعراوي وتفسيره المصري للقرآن دليل على قُرب اللغة المصرية من الشعب ، فهذا الشيخ لم يكتسب شعبيته بين عموم المصريين فقط بعلمه ولكن أيضا بلغته المصرية"

ويبقى التحدي مرهونا ليس فقط بترجمة الأعمال الدينية والأدبية، بل الأعمال الفكرية والعلمية والفلسفية، هذا يُكسِب الشعوب زخما معلوماتيا وطُرقا في التحليل لم تكن موجودة، ورأينا كم استفاد الأوربيون من ترجمة أعمالهم للاتينية والعكس، فاللاتينية هي أم اللغات الأوربية ، نظيرتها الآن العربية الواجب ترجمتها إلى اللغات المحلية القريبة، ورأيي لو بذل المترجمون جهدا لتخليص لغاتهم المحلية من قيود اللغة الرئيسية سنرى الكون بشكل أرحب وأوسع ويتسع أفق المسلمون والعرب أكثر بشكل قد يؤهلهم لإحداث نهضة علمية شاملة.

اجمالي القراءات 3970

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2012-09-25
مقالات منشورة : 788
اجمالي القراءات : 7,606,791
تعليقات له : 102
تعليقات عليه : 411
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt