الإمام مالك بن أنس ( الهجّاص الكبير )

آحمد صبحي منصور Ýí 2016-08-31


 أولا : الروايات التاريخية عن مالك                                                          

1 ــ أشارمحمد بن سعد فى ( الطبقات الكبرى ) الى مالك بن أنس عشرات المرات فى معرض التأريخ للتابعين الذين روى عنهم مالك و الذين صحبوا مالك أو رووا عنه ، إلا أن ترجمته لمالك جاءت فى جزء متمم من (الطبقات الكبرى)  لم يتيسر لنا الحصول عليه. والطبقات الكبرى لابن سعد هو أقدم مصدر تاريخى يؤرخ لطبقات الصحابة و التابعين وتابعيهم . و قد مات ابن سعد عام  230على أصح الأقوال. وقد اعتمد على (الطبقات الكبرى) لابن سعد معظم من جاء بعده ليؤرخ للصحابة و التابعين.

المزيد مثل هذا المقال :

2 ـ وكما أن (الطبقات الكبرى) هو العمدة فى التاريخ للصحابة و التابعين وتابعيهم حتى بدايات العصر العباسى فان (تاريخ الطبرى) هو العمدة فى التاريخ السياسى للمسلمين من عصر النبوة الى سنة 302 ثم توفى الطبرى عام 310 . واذا كان الطبرى يركز على الحكام والصراع السياسى فى تاريخه فان ابن سعد كان يركز على  على العلماء والرواة وجهدهم العلمى, ولذلك فان مالك لم يحظ فى تاريخ الطبرى سوى بعض السطور فى معرض الحديث عن ثورة محمد النفس الزكية العلوى الخارج على الخليفة ابى جعفر المنصور ؛ ففى أحداث عام 144 ذكر الطبرى ان الخليفة ابا جعفر المنصور لما حج استدعى بعض كبار المدينة و منهم مالك بن أنس وسالهم السعى فى تسليم محمد النفس الزكية  وأخيه ابراهيم) ( تاريخ الطبرى 7 / 539 ) وفى العام التالى حين أعلن محمد النفس الزكية ثورته ذكر الطبرى ان أهل المدينة استفتوا مالك فى الخروج مع محمد ضد الخليفة العباسى ، وقالوا له : إن فى أعناقنا بيعة لأبى جعفر المنصور ، فشجعهم مالك على  نقض بيعتهم لأبى جعفر قائلا : إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين ، يقول الطبرى : ( فأسرع الناس الى محمد ، ولزم مالك بيته ). ( تاريخ الطبرى 7 / 560 ) أى أنه حرضهم على الثورة وتخلى عنهم ، وعدا ذلك فان الطبرى لم يذكر شيئا عن مالك سوى نقل بعض الروايات التاريخية عنه . ومع أن مالك تعرض لعقوبة من السلطات العباسية بسبب موقفه إلا إن هذا لم يشفع له عند الطبرى فتجاهل ما حدث له من ضرب وإهانة ، ربما لأن مالك بن أنس ( 93 ـ 179 ) لم تكن شهرته قد طبقت الآفاق ـ بعد ـ فى عصر الطبرى الذى عاش فيما بين ( 224 ـ 310 ).

3 ـ بمرور الزمن تحول مالك الى صاحب مذهب فقهى مشهور ، وانتشر كتابه ( الموطأ ) بروايات مختلفة ومدونته فى الفقه فيما بين العراق و شمال افريقيا و الأندلس ، و بدأت فى التعاظم صورة مالك فى الكتابات التاريخية اللاحقة. ومن الطبيعى أن تلك الاضافات اللاحقة كانت أكاذيب من بنات أفكار المؤرخين الذين جاءوا فيما بعد فى عصر المذاهب الفقهية و التعصب المذهبى والذى تحول فيه أئمة المذاهب ـ فى عقول أتباعها ـ الى كائنات مقدسة.

4 ـ وعليه فلدينا نوعان من التأريخ لمالك بن أنس؛ أحدهما كان الأقرب الي الاعتدال والتعقل ، ويتمثل هذا فى ترجمة مالك التى ذكرها المؤرخ الفقيه الحنبلى المحدث ابن الجوزى المتوفى سنة 597 فى تاريخ ( المنتظم ) وقد جمع فيه ما قيل عن مالك مما كتبه ابن سعد والواقدى والطبرى ، ومثله المؤرخ المفسر المحدث الحنبلى ابن كثير (ت 774 ) فى ( البداية و النهاية ) وقد تطابقت الى حد كبير مع ما ذكره ابن الجوزى عن مالك فى المنتظم ، ثم نوعيات أخرى من التاريخ لمالك يغلب عليها طابع المدح و التمجيد وربما التقديس ، وبصور متفاوتة مختلفة كما يلاحظ فى ( تهذيب التهذيب )و ( صفوة الصفوة ) و( حلية الأولياء) و(وفيات الأعيان ) ( اللباب ) .ونكتفى بمناقشة ترجمة مالك فى (المنتظم) لابن الجوزى

ثانيا : ترجمة مالك فى تاريخ المنتظم لابن الجوزى

عن مالك يقول المؤرخ الفقيه المحدث ابن الجوزى فى تاريخه المنتظم ، ( ج 9 / 42 ـ ) :  

( الإمام مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن الحارث بن غَيْمان بالغينالمعجمة بعدها ياء مثناة من تحتها - بن جُثَيل - بالجيم بعدها ثاء مثلثة - بن عمروبن الحارث وهو ذو أصبح .

حُمِل بمالك ثلاث سنين، وكان طوالًا عظيم الهامة أصلع شديد البياضإلى الشقرة أبيض الرأس واللحية ‏.رأى خلقًا من التابعين وروى عنهم . وكان ثقة حجة ، يلبس الثياب العدنيةالجياد ، وكان نقش خاتمه (حسبي الله ونعم الوكيل)فقيل له‏:‏ لِم نقشت هذا فقال‏:‏ سمعتالله يقول عقب هذه الآية ‏: (‏فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سُوْء‏). وكانإذا دخل بيته فأدخل رجله قال‏:‏ ما شاء الله وقال‏:‏ سمعت الله يقول‏:‏ ‏(ولولا إذ دخلت جنتك قلت ماشاء اللّه‏).

أخبرنا محمد بن ناصر قال‏:‏ أخبرنا أبو سهل بن سعدويهقال‏:‏ أخبرنا أبو الفضل محمد بن الفضل القرشي قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن مردويهقال‏:‏ حدَّثنا سليمان بن أحمد قال‏:‏ حدثنا مسعدة بن أسعد العطار قال‏:‏ حدثناإبراهيم بن المنذر قال‏:‏ سمعت معن بن عيسى يقول‏:‏ كان مالك بن أنس إذا أراد أنيحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل وتَبخر وتطيب فإذا رفع أحد صوتَهعنده قال‏:‏ اغضض من صوتك فإن اللهّ عز وجل يقول‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لاترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي‏) ،‏ فمن رفع صوته عند حديث النبي صلى اللهعليه وسلم فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏

 أخبرنا محمد بن أبي القاسم أخبرنا حمد بن أحمد الحداد أخبرنا أبونعيم الحافظ حدثنا محمد بن علي بن عاصم قال‏:‏ سمعت الفضل بن محمد الجندي يقول‏:‏سمعت أبا مصعب يقول‏:‏ سمعت مالك بن أنس يقول‏:‏ ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهللذلك ‏.‏

 أخبرنا محمد بن عبد الباقي ابن سليمان قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن أحمدقال‏:‏ أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني الحافظ قال‏:‏ حدثنا أبو محمد بن حيان قال‏:‏حدَّثنا أبو محمد بن أحمد بن عمرو قال‏:‏ حدثنا أحمد بن عبد الله بن كليب قال‏:‏حدثني أبو طالب عن أبي عبيدة قال‏:‏ سمعت ابن مهدي يقول‏:‏ سأل رجل مالكًا عن مسألةفقال‏:‏ لا أحسنها ‏.‏فقال الرجل‏:‏ إني ضربت إليك من كذا وكذا لأسألك عنها ‏.‏فقال له مالك ابن أنس‏:‏ إذا رجعت إلى مكانك وموضعك فأخبرهم إني قدقلت لك لا أحسنها ‏.‏

 أخبرنا زاهر بن طاهر قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقيقال‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم قال‏:‏ حدثنا أبو الحسين محمدبن يحيى العلوي قال‏:‏ حدَثنا أبو علي الغطريف قال‏:‏ حدَّثنا أبو إسماعيل الترمذيحدثنا نعيم بن حماد قال‏:‏ سمعت ابن المبارك يقول‏:‏ ما رأيت رجلًا ارتفع مثل مالك بن أنس من رجل ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة عند الله ‏.‏

 أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابنحيوية قال‏:‏ أخبرنا أبو أيوب الجلاب أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال‏:‏ حدَّثنامحمد بن سعد قال‏:‏ حدَّثنا محمد بن عمر قال‏:‏ لما دُعي مالك وسُور وسُمع منهشَنِف الناس له وحسدوه فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا به إليه وقالوا‏:‏ إنهلا يرى أيمان بيعتكم بشيء وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت عن الأحنف في طلاق المكرهأنه لا يجوز فغضب جعفر بن سليمان فدعا بمالك فاحتج عليه بما رُقي إليه ثم جردهومدَّه وضربه بالسياط ومُدت يده حتى انخلع كتفاه وارتُكب منه أمر عظيم فو الله مازال بمالك بعد ذلك من رفعة عند الناس وكأنما كانت تلك السياط حُليًا حُليَ بها‏.‏

 وكان يشهد الصلوات والجنائز والجمعة ويعود المرضى ويجلس في المسجدويجتمع إليه أصحابه ثم ترك الجلوس في المسجد وكان يصلىِ ثم ينصرف وترك شهود الجنائزوكان يأتي أهلها فيعزيهم،ثم ترك ذلك كله فلم يكن يشهد الصلوات في مسجد ولا الجمعةولا يأتي أحدًا يُعزيه،واحتمل الناس له ذلك،  ومات على ذلك ، وربما كُلم في ذلكفيقول‏:‏ ليس كل الناس يقدر يتكلم بعذره ‏.‏

 ومنذ خرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة لزم مالك بيته فلم يخرجحتى قتل محمد، وكان يجلس في منزله على ضجاع له ونمارق مطروحة يمنة ويسرة في سائرالبيت لمن يأتيه من قريش والأنصار،  وكان مجلسه مجلس وقار وحلم،وكان نبيَلًا مهيبًالايستفهم هيبة ‏.‏

 قال محمد بن سعد‏:‏وحدثنا ابن أبي أويس قال:اشتكى مالك أيامًا يسيرة فسألت بعض أهلنا ، وتوفي في صبيحة أربعة عشر من ربيع الأول سنة تسع وسبعينومائة في خلافة هارون،وصلى عليه والي المدينة عبد الله بن محمد بن إبراهيم ، ودفنبالبقيع وهو ابن خمس وثمانين سنة ، وقيل‏:‏ توفي في صفر من هذه السنة رضي الله عنه‏.‏(

ثالثا : مناقشة ابن الجوزى فى ترجمته لمالك:

1 ـ  من حيث المصادر التى اعتمد عليها ابن الجوزى  فى ترجمته لمالك  وتعامله معها فانه نقل عن إثنين من المؤرخين تناقض منهجهما فى التأريخ :ابن سعد وأبى نعيم الأصفهانى . ابن سعد هو الذى سبق الجميع فى التأريخ لغير الحكام ، وحاول الدقة فى النقل ،أما أبو نعيم  الأصفهانى صاحب (حلية الأولياء ) فهو أول من كتب فى التراجم بطريقة المدح و سرد المناقب واختراع المنامات. إلا أن ابن الجوزى تجاهل الروايات الفجة فى ( حلية الأولياء) واكتفى بنقل رواية معقولة ممكن تصديقها .

كما نلاحظ ان ابن الجوزى لم ياخذ برواية الطبرى التى اشرنا اليها فى فتوى مالك لصالح ثورة محمد النفس الزكية وأثر ذلك فى تعرضه للتعذيب من قبل السلطات العباسية.  ابن الجوزى يرجع تعذيب مالك الى حسد بعض الناس له وسعيهم الى والى المدينة العباسى للايقاع به يقول ‏:‏(لما دُعي مالك وسُور وسُمع منهشَنِف الناس له وحسدوه فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا به إليه وقالوا‏:‏ إنهلا يرى أيمان بيعتكم بشيء وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت عن الأحنف في طلاق المكرهأنه لا يجوز فغضب جعفر بن سليمان فدعا بمالك فاحتج عليه بما رُقي إليه ثم جرده ومدَّه). وهنا يناقض ابن الجوزى نفسه ، لأنه قبل ذلك حين أرّخ لثورة محمد النفس الزكية قال (واستفتي مالك بن أنس في الخروج مع محمد وقيل له‏:‏ إن في أعناقنا لأبي حعفر بيعة‏.‏فقال‏:‏ إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين فأسرع الناس إلى محمدٍ ولزم مالك بيته ) ( المنتظم 8 / 64 ) وابن الجوزى ينقل بالنص ما ذكره الطبرى ، ثم يناقض نفسه فيما بعد. 

2 ـ  يقول ابن الجوزى (حُمِل بمالك ثلاث سنين) والمفهوم أنه ولد بعد موت أبيه بعد أن ظل  جنينا فى بطن أمه ثلاث سنين. ولا يمكن لجنين أن يبقى فى بطن أمه ثلاث سنين ، وهنا اتهام لمالك بأنه ابن زنا ، واتهام لأم مالك بالزنا ، وهذا ما نرفضه جملة و تفصيلا.  ولكن لا بد من بعض الايضاح.

فمن الخبل العقلى لفقهاء الدين السنى قولهم بأن مدة الحمل للمرأة تتجاوز السنة وأكثر. و ننقل من كتاب ( الفقه على المذاهب الأربعة ) للجزيرى موجز ما قالته المذاهب الفقهية السنية، فقد اتفقوا على أن أقل مدة للحمل هى ستة أشهر ، ولكن اختلفوا فى أطول مدة للحمل  : فقال المالكية إن أكثرها خمس سنين ، وهذا هو المشهور الذى درج عليه القضاء عندهم . وقال الحنفية إن أكثرها سنتان ، وقال الشافعية و الحنابلة إن أكثرها اربع سنين.( الفقه على المذاهب الأربعة 4 / 523 ، 521 ، 525 ، 527 )وعليه فان أى امرأة طلقها زوجها أو مات عنها يمكنها  ـ خلال سنتين الى أربع أو خمس سنوات  ـ ان تنجب من الزنا وتنسب ولدها للزوج السابق، ويرث هذا الابن ما ليس حقا له من نسب وثروة الزوج الذى لا صلة له بذلك الابن. وهذا ما كان يحدث فى الحياة الاجتماعية العباسية و المملوكية ،ولا غبار عليه طبقا لتشريع الفقه السنى .

ولقد غفل الفقه السنى عما جاء فى القرآن الكريم فيما يخص مدة الحمل : فالله تعالى جعل مدة الحمل و الرضاعة معا ثلاثين شهرا (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ) ( الأحقاف 15 ) وتعبير (وفصاله ) بالغ الدلالة عن حال الطفل الوليد الرضيع الملتصق بأمه قبل الفطام. أى أنه يكون متصلا بامه وهو جنين قبل الولادة ، ثم يظل ملتصقا بها بعد الولادة فترة الرضاعة . وفترة التصاق الولد بالأم داخل الرحم وداخل أحضانها مدتها ثلاثون شهرا.ثم يذكر القرآن أن فترة الفصال وحدها بعد الحمل مدتها عامان (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) ( لقمان 14 ). وخلال هذين العامين بعد الولادة تكون أطول مدة للرضاعة (وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ) ( البقرة 233 ). وعليه فحين نخصم سنتى الرضاعة  من الثلاثين شهرا يتبقى ستة اشهر كأقصر مدة للحمل. فاذا كان الحمل طبيعيا فانه تسعة أشهر ، و يظل هناك متسع للرضاعة خلال 21 شهرا. وفصال الطفل عن أمه يتدرج خلال سنته الثانية الى أن ينفصل عنها وينطلق يلهو ويتعرف على بيئته المحيطة به.

من الطبيعى أن تتعارض هذه الحقائق القرآنية مع الخبل الفقهى الذى يجعل حمل المرأة يصل الى عامين وأكثر، ولكن تمسك الفقهاء السنيون بما قالوه ، و حاولوا إثباته بالروايات الكاذبة المختلقة المختلفة ، ومنها جاءت هذه الرواية الكاذبة التى تجعل أم مالك تحمل به ثلاث سنين ليتخذ منها فقهاء المالكية حجة على ان الحمل يزيد عن العامين ردا على الحنفية الذين توسطوا فقالوا بان أكثر مدة للحمل سنتان. وهم أشبه بالدبة التى أرادت طرد ذبابة من على وجه صاحبها فألقت على وجهة صخرة لتقتل الذبابة فقتلت صاحبها .. وكم فى الفقه السنى من أعاجيب .!!.

رابعا : شخصية مالك من خلال ترجمته فى المنتظم لابن الجوزى

1 ـ مانكتبه هنا ليس حقائق يقينية عن مالك،بل هو رؤية تحليلية للروايات التى قيلت عنه آنفا . مالك ابن أنس الحقيقى لا يعلمه الا الله تعالى ، وهو بالنسبة لنا أخبار تاريخية نسبية تقبل الشك وتحتمل الاثبات ، وليس قضية ايمانية على الاطلاق ، بمعنى اذا نفيت وجوده من الأصل أو اذا أثبت كل أو بعض ما قيل عنه فلن يؤثر ذلك شيئا فى ايمانك أو عقيدتك. وما ينطبق على مالك ينطبق على كل الشخصيات التاريخية. ولا شأن لنا هنا بالذين يقدسون الشخصيات التاريخية من الصحابة و الأئمة و أسماء ما أنزل الله تعالى بها من سلطان.  هم خارجون عن المنهج العلمى و خارجون عن حقائق الاسلام اليقينية القرآنية التى تحصر الايمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الاخر، وليس فيها مجال للايمان بشخص ، وانما بالوحى الالهى الذى يصير به شخص ما نبيا ورسولا . هذا التوضيح نكرره كثيرا لأن أغلبية المسلمين لا تزال تعيش فى مرحلة عبادة الأبطال. 

2 ـ  تنقسم حياة مالك الى فترتين : الأولى فترة العزة و الايجابية و الاختلاط بالناس ، والثانية بعد أن تعرض للاهانة و الضرب عام 145 فاعتزل الناس تدريجيا وانقطع عن صلاة الجمعة و الجماعة و شهود الجنازات ، الى أن مات عام 179 .

3 ـ السمة الرئيسة فى شخصية مالك هى الاعتزاز الشديد  بالنفس ، ويظهر هذا الاعتزاز بصور مختلفة فى فترتى حياته ، ومن ذلك :

* اهتمامه بمظهره ومسكنه ، فخلافا لحركة الزهد التى انتشرت فى عهده كان مالك (يلبس الثياب العدنيةالجياد) وكان  فى منزله(يجلس في منزله على ضجاع له ونمارق مطروحة يمنة ويسرة في سائرالبيت لمن يأتيه من قريش والأنصار)

** واعتزازه بعلمه الى درجة المبالغة فقال( ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك) ، ولم يوجد هذا العدد من العلماء البارزين فى المدينة التى التصق بها مالك طيلة حياته . فالمفهوم أن مالك وقت حاجته لهذه الشهادة كان شابا ، وبمراجعة لعلماء المدينة ومكة نراهم أقل كثيرا من السبعين ‏.‏ولم تكن لمالك (رحلة ) لطلب العلم خارج المدينة. وكان شيوخه يعدون على الأصابع ، وأكثر من تتلمذ مالك على يديه هو ربيعة الرأى.

4 ــ وعزز من اعتزازه بعلمه أنه جاء استجابة لرغبة أهل المدينة من أحفاد المهاجرين والأنصار ـ فى أن يظهر من بينهم عالم عربى يكسر احتكار الموالى للعلم فى ذلك الوقت. قبيل ظهور مالك كان شيخ المدينة فى العلم أحد الموالى ، وكان شيخا لمالك و ابى حنيفة و الليث بن سعد ، أنه ربيعة الرأى الذى كان شيخ مالك والذى كان أعلم من مالك. أى جاء مالك أقل علما من شيخه ربيعة، ولكن حاز مالك الشهرة دون شيخه لسبب بسيط هو ان ربيعة كان من الموالى ، أى أقل درجة فى السلم الاجتماعى من العرب ، لذلك احتفل اهل المدينة بوجود تلميذ عربى لربيعة الرأى فارتفعوا به فى الشهرة فوق شيخه، ومات ربيعة الرأى مجهولا بينما نعم مالك بالشهرة و الصيت لأنه امتاز عن ربيعة بشىء وحيد أنه عربى من الأنصار. لقد مات ربيعة الرأى عام 136 وقت أن اشتهر تلميذه مالك فى المدينة ، ويروى ابن الجوزى فى ( المنتظم ) فى ترجمة ربيعة هذا أن بعضهم قال ( أتينا مالك بن أنس فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي فكنا نستزيده من حديث ربيعة فقال لنا ذات يوم‏:‏ ما تصنعون بربيعة هو نائم في ذاك الطاق ، فأتينا ربيعة فأنبهناه فقلنا له‏:‏ أنت ربيعة بن أبي عبد الرحمن قال‏:‏ نعم .قلنا‏:‏ ربيعة بنفروخ؟  قال‏:‏ بلى .قلنا‏:‏ ربيعة الرأي ؟ قال‏:‏ نعم ، قلنا‏:‏ الذي يحدث عنك مالك بن أنس؟ قال‏:‏ نعم.  قلنا‏:‏ كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك؟ قال‏:‏ أما علمتم أن مثقالًا من دولة خير من حمل علم‏ ) ( المنتظم 7 / 351 ـ ) سألوه لماذا حظى مالك بالشهرة بالعلم الذى أخذه من ربيعة بينما لم يحظ ربيعة نفسه بما يستحق من شهرة ، وأجاب ربيعة بتلك الكلمة القصيرة التى أوجزت الموقف كله : فالنفوذ السياسى والاجتماعى فى عصور الاستبداد هو الذى يرتفع بمتوسطى العلم الى درجة الشهرة بينما يعانى العلماء الحقيقيون من النسيان والاهمال.

ولاحساسه بأنه أقل علما من استاذه ربيعة فقد حرص مالك على تعويض هذا النقص بالمبالغة فى الاعتداد بنفسه الى درجة تقمص شخصية النبى محمد عليه السلام. فتراه حين يستشهد بآية قرآنية يقول ( سمعت الله ) كما لو أن رب العزة يكلمه وأنه ـ أى مالك ـ يسمع كلام الله  (سمعتالله يقولعقب هذه الآية ‏: (‏فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سُوْء‏). وكانإذا دخل بيته فأدخل رجله قال‏:‏ ما شاء الله وقال‏:‏ سمعت الله يقول‏:‏ ‏(ولولا إذ دخلت جنتك قلت ماشاء اللّه‏).

وعلى عكس شيخه ربيعة المتواضع كان مالك فى مجلس العلم يحرص على ابتداع طقوس معينة يتقمص فيها شخصية النبى محمد بحيث يفرض على الناس احترامه بمثل الاحترام الذى كان للنبى محمد فى حياته.(كان مالك بن أنس إذا أراد أنيحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل وتَبخر وتطيب فإذا رفع أحد صوتَهعنده قال‏:‏ اغضض من صوتك فإن اللهّ عز وجل يقول‏:‏ ‏(‏يا أيها الذين آمنوا لاترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي‏) ،‏ فمن رفع صوته عند حديث النبي صلى اللهعليه وسلم فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏) هذا مع أن مالك كان يقول روايات منسوبة كذبا للنبى محمد عليه السلام ، و لم يكن للنبى محمد عليه السلام أدنى علاقة بها ، سوى علاقة التناقض و التضاد.

5 ــ وبهذه الزعامة الدينية والاجتماعية أصبح مالك من زعماء المدينة بحيث كان ضمن كبار رجالها الذين طلب منهم الخليفة العباسى أبو جعفر المنصور أن يقنعوا محمدا النفس الزكية بتسليم نفسه. وبهذه الزعامة الدينية و السياسية نال مالك بن أنس ما لا يستحق من شهرة فى حياته فقال عنه ابن المبارك(  ما رأيت رجلًا ارتفع مثل مالك بن أنس من رجل ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة عند الله ‏.‏) ولذلك لم يكن مجلس علمه مليئا بضوضاء الأسئلة و النقاش ، بل كان مجلس رجل واحد يتكلم والآخرون يصمتون هيبة لا يقدرون على الاستفهامو النقاش والاستيضاح :( وكان مجلسه مجلس وقار وحلم،وكان نبيَلًا مهيبًا لا يستفهم هيبة ‏.‏)

6 ــ وبالضرب والاهانة تحطمت كل هذه الهالة التى أحاط مالك بها نفسه، ويبدو أن الوالى العباسى  كان حريصا على جعل العقوبة اهانة شخصية لمالك فقد جرده من ملابسه و ضربه(جردهومدَّه وضربه بالسياط ومُدت يده حتى انخلع كتفاه وارتُكب منه أمر عظيم )

7 ــ وانقلبت أحوال مالك بعد هذه الاهانة فأخذ فى اعتزال الناس ، ثم بالغ فى العزلة حتى ترك صلاة الجمعة وصلاة الجنازة(وكان يشهد الصلوات والجنائز والجمعة ويعود المرضى ويجلس في المسجدويجتمع إليه أصحابه ثم ترك الجلوس في المسجد وكان يصلىِ ثم ينصرف وترك شهود الجنائزوكان يأتي أهلها فيعزيهم،ثم ترك ذلك كله فلم يكن يشهد الصلوات في مسجد ولا الجمعةولا يأتي أحدًا يُعزيه،واحتمل الناس له ذلك،  ومات على ذلك ، وربما كُلم في ذلكفيقول‏:‏ ليس كل الناس يقدر يتكلم بعذره) .

8 ـ لهذا لا نصدق تلك الرواية التى قيلت فيما بعد ، تزعم أن الخليفة هارون الرشيد بعث الى مالك ليأتى الى بغداد ليحدثه ، فقالله مالك : "  العلم يُؤتى " ،يريد  أن يأتى اليه الرشيد تلميذا ، تقول الرواية الكاذبة : ( فقصد الرشيد منزله واستند إلى الجدار، فقال مالك: يا أمير المؤمنين، من إجلال رسول الله إجلال العلم. فجلس بين يديه، فحدثه .).

هى رواية ساقطة لأنه كان للرشيد من يتسلى بهم من رواة الأحاديث ، أشهرهم أبو معاوية الضرير . وقد كانت ميزته أنه كان ضريرا ، لا يرى ما يفعله الرشيد فى حضوره ولا يرى جوارى الرشيد ولا كئوس الخمر .  وكانت بغداد تعجُّ برواة الأحاديث ( المبصرين ) وكانوا يتنافسون أمام باب الرشيد ليحظى أحدهم بالوصول اليه ، يظنون أن المؤهل هو (العلم )، ولا يعرفون أن المؤهل هو ( العمى ) .! ثم لا نتصور من مالك وقد تعرض للضرب والاهانة من بنى العباس حتى إعتزل الناس أن يجرؤ على مخاطبة الرشيد بهذا ، ثم لا نتصور أن خليفة فى جبروت الرشيد وسطوته وإندفاعه وجُرأته على القتل يقبل أن يخاطبه أحد رعاياه بهذا ، خصوصا إذا كان (الرعية ) معارضا سابقا للعباسيين .

أخيرا : مالك الهجّاص

1 ـ هذا عن شخصية مالك بن أنس فى تحليل تاريخى . أما كتابه ( الموطأ ) فلنا تحليل آخر فيما حواه من هجص .

2 ـ كما قلنا فى المقدمة ف : ( الهجص ) تعبير مصرى ساخر ، يدل على معانى مركبة ، فى الكلام الذى يُقصد به أن يكون محترما وهو فى الحقيقة ( هجص ) أى كلام متخم بالخرافة والافتراء و مستحق للسخرية والاستهزاء . لذا يقول المصريون عن الشخص المشهور بالكلام (الفارغ ) إنه ( هجّاص ) ، يعنى يتكلم فى موضوعات جادة بكلام ساقط  لا يُعتدُّ به . إذن فالامام مالك ( هجّاص ) فيما رواه ونسبه زورا للنبى محمد عليه السلام . وسنتوقف مع هذا فى المقالات القادمة .

3 ـ والامام مالك ( هجّاص ) أيضا فى شخصيته . فقد صعد بنفسه الى مقام النبى ، وطلب من الناس أن يحترموه بمثل الاحترام الذى أوجبه رب العزة على من لقى النبى فى حياته ، وطلب من الناس أن يعتبروا أحاديثه الباطلة التى يفتريها ـ كلاما مقدسا .

4 ـ كان مالك يقول (هجصا ) ، والشخصية الى أضفاها على نفسه بلا إستحقاق كانت (هجصا ) ، فهو بكلامه وشخصه كان  ( هجصا مركّبا )  وحين عوقب وأُهين رجع الى اصله . وتاب عن هجصه .

5 ــ هذه هى حقيقة الهجاص الكبير الامام مالك بن أنس . مبتدع دين الهجص السنى .                                       

اجمالي القراءات 14547

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (2)
1   تعليق بواسطة   سعيد علي     في   الأربعاء ٣١ - أغسطس - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً
[83031]

لماذا توقف ظهور مذاهب أخرى ؟


إن تحليل الشخصيات التي أسست أو تم تأسيس مذاهب إسلامية بإسمها لهو مجال تأريخي رائع و ما أجمل هذه الفقرة لمن يحرص على إيمانه و هي : ( مانكتبه هنا ليس حقائق يقينية عن مالك،بل هو رؤية تحليلية للروايات التى قيلت عنه آنفا . مالك ابن أنس الحقيقى لا يعلمه الا الله تعالى ، وهو بالنسبة لنا أخبار تاريخية نسبية تقبل الشك وتحتمل الاثبات ، وليس قضية ايمانية على الاطلاق ، بمعنى اذا نفيت وجوده من الأصل أو اذا أثبت كل أو بعض ما قيل عنه فلن يؤثر ذلك شيئا فى ايمانك أو عقيدتك. وما ينطبق على مالك ينطبق على كل الشخصيات التاريخية. ولا شأن لنا هنا بالذين يقدسون الشخصيات التاريخية من الصحابة و الأئمة و أسماء ما أنزل الله تعالى بها من سلطان.  هم خارجون عن المنهج العلمى و خارجون عن حقائق الاسلام اليقينية القرآنية التى تحصر الايمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الاخر، وليس فيها مجال للايمان بشخص ، وانما بالوحى الالهى الذى يصير به شخص ما نبيا ورسولا . هذا التوضيح نكرره كثيرا لأن أغلبية المسلمين لا توال تعيش فى مرحلة عبادة الأبطال.)



و أتسآل هنا عن توقف ظهور هذه المذاهب بعد أن بدات تظهر بصورة واسعة و قد تتداخل ظهور بعض المذاهب في فترات و بأماكن مختلفة و أعتقد أن أول ظهور للمذاهب هو المذهب الإباضي في البصرة و ظهر قبل ظهور المذاهب السنية و كان عبارة عن أفكار و رؤى لجماعة معارضة و ليس لشخص واحد إلى أن بدا يظهر لمذهب بداية بأبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة و الذي خلف عبد الله بن أباض و مازل لهذا المذهب أتباع و مدارس فكرية في سلطنة عمان و الجزائر و ليبيا و تونس . المذاهب السنية بدأت بأبو حنيفة 80 – 150 ثم مالك 93 – 179 ثم ثم الشافعي 150 – 204 ثم أحمد بن حنبل 241 .



هذا مع عدم إغفال المذاهب الشيعية المشهورة كالمذهب الجعفري المنسوب لجعفر الصادق 83 – 148 و الإسماعيلي لإبنه إسماعيل و الزيدية المنسوب لزيد بن علي 75 – 122 .



لذا لماذا توقف ظهور مذاهب أخرى ؟



2   تعليق بواسطة   آحمد صبحي منصور     في   الأربعاء ٣١ - أغسطس - ٢٠١٦ ١٢:٠٠ صباحاً
[83032]

شكرا ايها السعيد على ، واقول


ذكّرتنى بكتاب لم يكتمل وهو عن نشأة الديانات الأرضية فى تاريخ المسلمين ، وهو يؤرخ لبدايات وتطور ما يسمى بالمذاهب الاسلامية ، وأثر السياسة فى نشأتها وفى تطورها .

أرجو أن يتسع الوقت والجهد لاكماله ونشره ..

أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 4981
اجمالي القراءات : 53,347,009
تعليقات له : 5,323
تعليقات عليه : 14,622
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي