جذور حركات التطرف الدينية السياسية في إيران:
طبيعة الشعب الإيراني

د. محمد علاء الدين منصور Ýí 2015-05-15


نشر تراث المفكر الراحل د محمد علاء الدين منصور

استاذ والرئيس السابق لقسم اللغات الشرقية بجامعة القاهرة

جذور حركات التطرف الدينية السياسية في إيران

ثانيا :مراحل  الجذور التاريخية

طبيعة الشعب الإيراني :ــ

الفرد الإيراني في الأغلب ، كما يذكر احد الدراسين الإيرانيين ، يتصف بالتمرد أكثر من الطاعة والعصيان اكثر من الانقياد .. لا ينصاع الإيراني إلا للحاكم المتسلط المتجبر الذي يهدده في حياته او معيشته ، ولا ينقاد إلا لمن يأنس فيه مصلحته ويتوقع منه فائدته ، وإذا وجد الفرد الإيراني في حاكمة لينا او معاملة حسنى او اعمالاً للعقل والمنطق في علاقته به بدأ في التمرد والعصيان حتى ينتهي الأمر إلى إحدى نتيجتين :ــ اما زوال هذا الحاكم الديمقراطي أو السائس العاقل وظهور حاكم مستبد غشوم فاهم لطبيعة الإيراني يخضع أتباعه قبل أعدائه ، وإما أن ينقلب الحاكم الديمقراطي المتعقل إلى أسد جسور ومستبد غاشم يبطش بالجميع ..

وفي الحالتين إذا مازج هذا الحاكم المستبد ظلمه بشيء من الحب والعطاء في بعض الحيان لقى الحب والطاعة من الفرد الإيراني ، أما القائد العطوف ذو الأصل ــ مثل مصدق أو بازرجان وقبلهما احمد شاه القاجاري ــ فهو عند الإيراني (أبله) أو (عبيط) ، في حين انه يلثم حذاء رضا شاه الديكتاتور ويظهر حبه وولاءه له ، وان ظهر في وجود هذا الحاكم القوي الغاشم  من يفوقه قوة واستبداداً ، انصرف الشعب الإيراني عن الأول إلى الثاني .  إن القائد الذي يرتضيه الفرد الإيراني ويطيعه من اتصف حكمه بالعنف والشدة والإرهاب لا من بالقول اللين والمنطق والاستدلال ، من أوقع عليه العقاب السريع الجائر بدون محاكمة وتقص للحق ، وإلا انطلق الشعب يثير القلاقل وأعمال الفوضى  إلى أن يظهر من يلجمه بلجام الشدة ويلهب ظهره بسوط العذاب فيخضع له ويحبه ويقر له بالسلطة (13)..

والتاريخ القديم والوسيط والمعاصر يؤيد هذا الرأي ..

فرغم تأسيس حكام (الميدين) سلطاناً وحضارة بها إلا ان الميدين حين رأوا في كوروش الكبير مؤسس الإمبراطورية الهخانشية( الأخمينية) حاكما أقوى من رئيسهم ورغم ان كوروش هذا يختلف عنهم عنصراً ويعادي بلادهم إلا انهم انفضوا عن حاكمهم والتفوا حول هذا العدو وأسقطوا له بلادهم في القرن السادس قبل الميلاد ..

وقد تكرر هذا مع آخر حكام الهخامنشية لما ظهر الاسكندر المقدوني واخضع بلادهم، وهكذا إلى ان ظهر المسلمون ،  وهرب من امامهم آخر اكاسرة الساسانيين (يزدجرد الثالث) ولجأ إلى نائبه بمرو ، ريثما تصله إمدادات من الصين ، وأراد النائب أن يقطع رأس ولي نعمته ليتقرب إلى المسلمين بها فهرب منه الكسرى ولجأ الى طحان بالقرب من مرو  ليقضى الليل عنده حتى الصباح ليواصل هروبه من وإلى مرو  ، لكن الطحان طمع في ملابسه الفاخرة وجواهره فقتله (14)..

ولما ظهر الإسلام ووجد فيه الإيرانيون عدلاً ومساواة لم يجدوها في الأكاسرة وحكمهم أقبلوا مخلصين في بداية الأمر، فلما عدل الحكام العرب عن سياسة العدل وآثروا الظلم وجمع الأموال منهم ، ولم تسكن ثائرتهم فأقضوا مضجع الخلافة الأموية بثورات متتابعة بدأت مع المختار الثقفي الذي انضموا إليه ضد يزيد بن معاوية ، ثم في ثورات آل علي من بعده ، كثورة زيد بن علي بن الحسين على هشام بن عبد الملك (121هــ) بدعوة أهل المدائن وخراسان وجرجان والرى من بلاد إيران ، وثورة ابنه يحيي عام (125هــ) ، ثم ثورة محمد بن على ابن العباس على الخلافة الأموية الذي استعان بالإيرانيين فحملوه على جيش أبي مسلم الخراساني وحطموا الأمويين وأقاموا الخلافة العباسية .

 ومع أن الخلفاء العباسيين أقروا بالفضل للإيرانيين واستوصوا بهم خيراً لأنهم شيعتهم وأنصارهم ، إلا انهم انقلبوا عليهم فقتل الخليفة المنصور  أبا مسلم الخراساني ، ونكل الرشيد بالبرامكة ، لما رأوا أنهم لا يساعدونهم حباً فيهم بل طمعاً في تحقيق أهداف قومية إيرانية وتحويل الخلافة الإسلامية العربية إلى إيرانية مجوسية وتخليص إيران من الاستعمار العربي ...

وقد توالت الفتن من الشرق على عهد الخلافة العباسية ترفع لواء الإلحاد والعصيان والتمرد على الحكم العربي لخراسان وغيرها ، حتى بات مُلْقىً في روع العربي أن (الفتنة تأتي من المشرق) من هذه الفتنة وحركات التطرف الديني والسياسي حركة سنباذ المجوسي والراوندرة وحركة المقفع الخراساني وبابك الخرفي والأخشبين ومازيار (15) ..

ونكتفي عن أولئك المتطرفين وحركاتهم بالتفصيل شيئا في حركة المقفع الخراساني .هبت زوبعة هذا الدعي عاتية واستمرت قرابة ربع قرن وكادت تقتلع جذور الإسلام الغضة في بلاد ما وراء النهر (التركستان) وخراسان ولمّا يمض قرن من الزمان على غرسها هناك ، جهر المقفع ، النبي المزعوم الذي يشتهر باسم (النبي المقفع الخراساني) ، بدعوته في بلاد ما وراء النهر عام (150 هــ / 767 م )  وكان قائداً في اول أمره لدى أبي مسلم الخراساني ، ولما مات أبو مسلم جهر نبوته فقبض عليه وحبس في بغداد زمناً ..  ثم اطلق سراحه ليجمع حوله بقايا أتباعه السريين ولما سأله أتباعه عن اسمه قال انه إلههم ورب العالمين وأنه يدعو نفسه بما يشاء من الأسماء وأنه ظهر من قبل في صورة آدم ثم في صورة إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وأبي مسلم وهو اليوم على الصورة التي يرونها ، وحين سألوه كيف بلغ هؤلاء درجة النبوة فقط فى حين بلغ هو درجة الربوبية ، أجابهم بأن هؤلاء جميعا مجرد متجسدين في حين أنه هو روحاني كامل قدير على أن يتخذ الصورة التي تتراءى له ، وبقى اول الأمر في نواحي  مرو  وبعث رسله من هناك إلى التركستان يدعون الناس إلى الدخول في ملته بهذه الدعوة ::

بسم الله الرحمن الرحيم

من هشام بن حكيم ملك الملوك ، الحمد لله الأحد الذي تحول فيما مضى في صورة آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وأبي مسلم .. هو أنا المقفع رب القدرة والعظمة والحق ، فبادروا إلىّ وآمنوا بي والتفوا حولي .. اعلموا أن لي ملك الدنيا والعظمة والقدرة ولا إله غيري ، فمن تبعني دخل الجنة ومن عصاني دخل النار)..

وكان من أثر فورة التشيع العدائية التي عمت العالم الإسلامي في ذاك الوقت ، وما صاحبها بخاصة من اضطرابات بسبب تغيير الخلافة القائمة ــ  أن شجع ذلك الطبقات الدنيا بالتركستان وخراسان  على الارتداد عن الإسلام ، لتقبل جموعهم من بعد ذلك على اعتناق دعوة المقفع ، وكانت نفوسهم ما تزال بها رواسب قوية من عقيدة المجوس القديمة ، فأقبلت جموعهم إليه ولبسوا البياض له وسموا بالمبيضة ، وانتظروه على الجانب الآخر من نهر خيخون (آمودريا) في بخارى وسمرقند وكش ونخشب ... وطلب إليه أحد اتباعه أن يأتيهم بمعجزة فأخرج لهم من أحد آبار نخشب جسماً مضيئا على هيئة القمر ولا يزال (ماء نخشب) أو (قمر نخشب) مجازاً رائعاً عند الشعراء الفرس. وتسلل المقفع إلى مخبأ حصين في (كش) فاختفى به ، وقد بقى يخفى وجهه بقناع ليخفي به عينا مفقوءة عند الطبرى او متشبهاً بعلي بن أبي طالب كما يعتقد الشيعة ، وهاجم المبيضة أتباعه بعض المساجد فقتلوا من بها فشاع الرعب في بلاد التركستان ، وقام القتال بينهم وأمير بخارى الذي قتل منهم سبعمائة فلم يؤثر هذا فيهم لأن أتباعه لم يكونوا يحجمون عن ركوب أشد الأخطار والتعرض للموت عن طيب خاطر انتصاراً لدعوتهم . وتمكن المقفع الذي كان يحيط نفسه بهالة من القداسة اعتقد الناس معها بأنها من نور الله من ضم شيخ من الشيوخ التركية يدعى (خلخ) إليه ومعه الوف من بني قومه يدفعهم الطمع في السلب والنهب والجهل وضعف الإيمان . وفشلت حملات الخليفة المهدي العباسي في القضاء على المقفع وأبيد الكثير منها ، واخيراً نجح القائد العباسي في اقتحام حصن نرشخ مركز قوة المقفع بعد حصار دام أربعة أشهر ، ولكن المقفع استطاع الإفلات منه فزاد إيمان الناس به ، واستبد القلق بالخليفة المهدي فقدم إلى نيسابور بنفسه عام ( 161هـ / 777م) وأخذت الحروب تتناوب بين الطرفين والمقفع متستر بحصنه من الداخل وقد وضع خيرة من جنوده في المتاريس المحيطة به بلغ عددهم خمسين ألفا وهم في شوق ملحّ اجتلاء طلعة زعيمهم و لو مرة واحدة ، على أن المقفع أبى عليهم ذلك وبعث إليهم بغلامه ومعه رسالة قال فيها (نبيء عبادي ان موسى أراد بدوره ان يراني جهرة أنا الله فغشى بصره من شدة انواري فلم يراني .. فمن يراني يحترق بنوري) .. فرد اتباعه بانهم يبذلون حياتهم عن طيب خاطر من اجل نظرة واحدة إليه ، ولما لم يجد المقفع بداً من تحقيق رغبتهم حدد لهم يوماً يخرجون إلى بوابة الحصن .. ، وفي هذا اليوم اصطف نساؤه داخل الحصن وبين كل واحدة منهن مرآة تعكس عليها آشعة الشمس بتدبير منه .. وحين احكم هذا الانعكاس إلى غاية أمر المقفع ففتحت أبواب الحصن هنالك غشى الضوء القوى أعين اتباعه فخروا له سجداً طالبين ان يكف انواره حتى لا ترديهم الهلكة ، ولبثوا على سجودهم حتى آتاهم رسوله ليقول لهم عن لسانه ان الله قد رضى عنهم ووهبهم نعيم الدينا ... ولما توالت الامدادات العربية وتجمعت تحت قيادة سعيد الجرشي أمير خراسان ضرب الحصار على حصن المقفع عامين آخرين حتى استسلم اتباعه دون قيد وشرط ... ولما لم يجد المقفع وهو متستر بداخل الحصن بداً من المقاومة أو قد ناراً وألقى بنفسه فيها لتنتهي فتنته التي ألقت بحدود الإسلام الشرقية العنت والبلبلة أكثر من عشرين عاماً ... ويبدو أن مذهبه كان شتيتا من عقائد الهند وفي التناسخ ومجوسية الفرس والشيوعية الجنسية وعد قتل المسلم تقرباً إلى الله (15)..

اجمالي القراءات 3904

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
التعليقات (1)
1   تعليق بواسطة   لطفية سعيد     في   الأحد ١٧ - مايو - ٢٠١٥ ١٢:٠٠ صباحاً
[78260]

حركة المقفع الخراساني وادعائه النبوة والألوهية


السلام عليكم ، العلم نور مقال رائع  يجمع معلومات تلخص سنوات من البحث والمراجع والتعب بين أمهات الكتب ، جعله الله سبحانه في ميزان حسنات كاتبه الدكتور علاء ... حلل الدكتور علاء في هذا المقال طبيعة الفرد الإيراني ( التمرد ) في الأغلب  وهذا يدل على دقة الباحث لأنه لم يجمع كل الإيرانيين بل قال في الأغلب ، ولو أحدثنا مقارنة بين طبيعة المصري وبين طبيعة الإيراني لشعرنا بالفرق  ... ثم تناول المقال أيضا حركة المقفع الإيراني كمثال على حركات المتطرفين ، والعجب إنه لم يدع فقط النبوة بل ادعى الإلوهية    : (جهر المقفع ، النبي المزعوم الذي يشتهر باسم (النبي المقفع الخراساني) ، بدعوته في بلاد ما وراء النهر عام (150 هــ / 767 م )  وكان قائداً في اول أمره لدى أبي مسلم الخراساني ، ولما مات أبو مسلم جهر نبوته فقبض عليه وحبس في بغداد زمناً ..  ثم اطلق سراحه ليجمع حوله بقايا أتباعه السريين ولما سأله أتباعه عن اسمه قال انه إلههم ورب العالمين وأنه يدعو نفسه بما يشاء من الأسماء وأنه ظهر من قبل في صورة آدم ثم في صورة إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد وأبي مسلم وهو اليوم على الصورة التي يرونها)



دمتم بخير وشكرا 



أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2015-03-29
مقالات منشورة : 0
اجمالي القراءات : 0
تعليقات له : 0
تعليقات عليه : 8
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt

احدث مقالات د. محمد علاء الدين منصور
more