فمثله كمثل الكلب:
إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث!!

نسيم بسالم Ýí 2014-10-21


يقُول تعالى في سُورة الأعراف واصفًا حالَ المُنسلِخين عَن آياتِه؛ المُتذمِّرين مِن وحيِه الشَّريف: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) [الأعراف : 176].

المزيد مثل هذا المقال :

شبَّه الباري عزَّ وجل حالَة المُعرِض عَن وحيِ ربِّه؛ المُنسلِخ مِن دثارِ الآيات البيِّنات وحمايتِها؛ المُلقي بنفسِه لُقمَة سائغَة بيَد الشَّياطين يُوجِّهُونه كيفَما شاؤُوا؛ المُخلِد إلى الأرض؛ أي الرَّاكِن إلى الدُّنيا المُتَّبع لشهَوات نفسِه وملذَّاتِها؛ بحال الكَلب الذي لا يتوقَّف عَن اللَّهث سواء أكانَ واقفًا في مكانِه؛ أم إنَّك لاحقتَه وجريتَ وراءَه!
أحببتُ في هذه الخاطرَة القصيرَة أن أعقِد شيئًا من المُقارنات بينَ الشَّقي المُكذِّب بالله وبآياتِه؛ والكَلب أعزَّ الله أقداركم جميعًا؛ فأقُول وبالله التوفيق.
أولا: الشقي التعيس؛ المُعرض عَن ذِكر الله وغشيان المساجِد وتعهد مجالس الصَّالِحين، المُغرق في المعاصي والآثام؛ تلفاهُ دَومًا مُتذمِّرًا يُصعِّد الزَّفرات؛ لا يُحسُّ بالرِّضا ولا القناعَة؛ ولا يذُوق بَرد الطمأنينَة ولا السَّكينَة؛ ولَو كان يملكُ الملايير!! مثل الكَلب لا يفتأُ يلهَث في حالَة الرَّيِّ وفي حالَة العَطش، في حالَة الوُقوف أو الجَري؛ في الصّحَّة أو المَرض. في كُلِّ أحوالِه وتقلُّباتِه. 
ثانيا: تساءل العلماء عن سر لهََث الكلب فوجدوا أن هذا المخلُوق يختلف عن معظم الكائنات الحية في آلية التنفس لديه؛ فمن المعروف أنَّ سائِر الكائنات الحيَّة تخزن الأكسجين في رئتيها وتتم عملية تبادل الغازات بين أكياس في الرئة تسمى الحويصلات وبين الدم. وذلك كله يتم في عمليتين هما الشهيق والزفير! إلاَّ الكلب الذي لا يخزن الهواء في رئتيه؛ بل يأخذ الهواء ويزفره بشكل مستمر مُباشِر وقلة الاكسجين تسبب له اللهث! والعجيب أن هذا اللَّهث يبدأ عِندَ الكلب منذ أن يكون جنيناً في بطن أمه وبعد أيام قليلة فقط من تكوّنه؛ حَوالي 36 يَومًا!
وهكذا الشَّقيُّ المُعرض يعيشُ دَومًا في عذابٍ مُستَمر لا يَنتَهي! تعبَ القَلب، ضيِّق الصَّدر؛ كأنَّما يصَّعَّد في السَّماء؛ من شدَّة الهُموم والغُموم والأحزان التي تَكتنفُ فُؤادَه! :evil: 
ومِن غريب المُفارقَات أن تجدَ أفضَل حيوان يصطحبُه الغافلُون في تِجوالِهم وسياحتِهم هُو الكَلب؛ بمُختلفِ أنواعِه وأصنافِه؛ بَل بعضهُم وصَل إلى أن يُورِّثَ كلبَه ثرواتٍ طائلَة بعدَ مماتِه؛ لَم يكُن المسكينُ يَدري أنَّه كانَ يعيشُ معيشَة الكِلاب؛ وهُو لا يشعُر!!
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً) [طه : 124].
ثالثًا: يَحوي جِلد كُلّ واحدٍ منَّا فتحات كثيرَة للتَّعرُّق؛ وتَنظيم حرارَة الجسَد، وإزالَة الجراثيم؛ وهكذا سائِر الكائنات؛ إلاَّ الكَلب فإنَّه لا تُوجد لَديه هذه الفَتحات؛ فيضطرُّ إلى اللهث المستَمر لتنظيمِ حرارَة جسمِه!صورة
كذلك الشَّقي ليسَ لَديه ما للمُسلِم الحَق مِن سُبُلٍ لتَفريغ الشُّحنات السلبيَّة التي تدلفُ إلى جسمِه مِن وساوس الشَّياطين، أو لوثات الواقِع الوسِخ؛ مِن رُكوع وسُجود، وقيامٍ ودُعاء ومُناجاة، وصيام وصَدقةٍ وما إلى ذَلك؛ فيعيشُ كما لَو كانَ في وسَط قِدرٍ مُحكم الجَنبات؛ ممنُوع الهَواء، لا يرى النُّور، ولا يستنشِقُ نسماتِ الرَّاحَة وهُدوء البالِ والضَّمير!  
رابعا: مِن صفاتِ الكَلب الظَّاهرَة النُّباح؛ وهُو صَوت غير محبُوب عادَة، ومُفزع لمَن يمرُّ بجَنبِه؛ ولا تتوقَّع أن تسمَع مِن كلبٍ صَوتًا حسنًا هادئًا وَديعًا إلاَّ ما نَدر! كذلك الشَّقي كلامُه كُلُّه نُباح على النَّاس، وتهجُّم عليهِم، وقَدح وتَجريح لأعراضِهم؛ ومَلامة وتَعنيف على بعض أخطائِهم؛ وسَبُّ وشتيمَة، وبُهتان وقذف..الخ. يحذرُ كُلُّ معاشريه أن يقتربُوا مِنه، ولا يُحادثُونَه إلاَّ باقتصادٍ وتقلُّل! ولا غَرو في ذَلك؛ فهُو يُنفِّسُ عمَّا بداخلِه مِن بَراكين ثائرَة، وعَواصِف هَوجاء! وكُلُّ إناء بِما فيه ينضَح.
خامسًا: مِن عادَة النَّاس في استِخدام الكِلاب – أجلَّكُم الله – أنَّها تُتَّخذُ للحراسَة؛ فتلفاها دَومًا قابعَة على أبواب الفِلل الفَخمَة، والمصانِع الضَّخمَة، والمزارِع الواسعَة؛ لا تحظى مِنها إلا بذَلك البَيت الصَّغير الضَّيِّق المعرُوف! مثل الشَّقي يعيشُ حارسًا لأموالِه التي صرَف عُمره كُلَّه في جَمعها، وبذَل أوقاتِه وصحَّتَه ومُخَّه وأعصابَه، ورُبَّما باعَ دينَه وآخرَتَه في سبيلِ اقتنائِها بلهثٍ ونهمٍ لا يَنتَهي! قَد لا يستغلُّ مِنها إلا شَيئًا قليلاً؛ ويبقى أكثرُه لورثتِه مِن بعدِه! كما حُكيَ لي عَن أحدِهم أنَّه لا تطمئنُّ نفسُه حتَّى يدخُل بيتَ أموالِه (ولا أقُول خزانَة أموالِه فقَط)؛ ويرى تِلك الرِّمم المُكدَّسَة مِن الأموال عَن يَمين وشِمال؛ وما لا يُحصَى مِن الذَّهب والفِضَّة! يعدُّها كُلَّ يَوم حتَّى يرتاحَ إلى أنَّها لَم تنقُص ولا يزال يبتغي المَزيد وقَد جاوزَ التِّسعين مِن العُمر!  
وهُو مَع هذا يعيشُ في ضَنك كبير؛ وأولادُه يشتكُون مِن تقتيرِه وشُحِّه! فأيُّ معيشَةٍ هذه؟! إنَّها معيشةُ الكِلاب التي لا تَرضَى ولا تقنعُ بشيءٍ أبدًا، وتبقَى دومًا تلهث؛ عافانا الله وعافى إخوانَنا المُسلِمين مِن هذا الدَّرَك!!
سادسًا: ممَّا يُلاحَظُ في حركَة الكِلاب أنَّها غير مُنتظمَة وغير هادئَة! فمرارًا نلمَح كلابًا تُسرِع الخُطى كأنَّها تقصِد شيئًا؛ ثُمَّ سُرعان ما تعُودُ أدراجَها كأنَّها تذكَّرت شيئًا مَا! تمامًا كالذي يحدُث للقَلِق المُضطرب مِن خبرٍ مُشوِّش في المُستشفى أو في ميناء السِّلَع مثلاً يجيء ويرُوح! ومِثل هذا الاضطراب لا نراهُ عِند الحَيوانات الأُخرى؛ ولنا أن نتأمَّل قَطيع غنَم، أو سِربَ أُسُود لنستمتِع بجمال حركتِها واستِقرارَها، وحلاوَة خَطوِها!صورة
وهكذا الأشقياء يعيشُون حياة حيرَة واضطِراب وقلقٍ دائِم؛ لا تطيبُ لهُم الحياةُ أبدًا؛ كُلَّما سلكُوا طريقًا تاهُوا فيه؛ يلتمسُون مِنه المَخرج مِمَّا هُم فيه مِن أزمَة وتخبُّط؛ فَلا يَزدادُون إلاَّ حيرَة على حَيرتِهم!
(كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام : 71].
سابعًا: مِن طبع الكِلاب أنَّها تميلُ إلى التَّغذيَة مِن المَزابِل والقُمامات؛ تُقلِّب في ثناياها عمَّا تسدُّ بِه جَوعتَها؛ كحال الأشقياء البَعيدين عَن الحَياة الرَّبَّانية الصَّافيَة النَّقيَّة؛ يقتاتُون دَومًا على اللَّحم النَّتِن والجِيَف؛ مِن غيبةٍ ونَميمَة، وكذب وافتراء، ونَشر إشاعات، وتجسُّسٍ على العَورات، وتنقيبٍ عَن العُيوب والأسرار، وهكذا.
ثامنًا: قليلٌ تجوُّل الكِلاب داخِل المَدينَة؛ سيَما في وضَح النَّهار؛ وغالب تواجُدِها خارَج المَدينَة وعلى أطرافِها بعدَ مُنتصف اللَّيل عادَةً!! ونفسُ الأَمر نراهُ عِند جماعات الغافلِين؛ أصحاب الخُمور والمُخدِّرات والمُجُون؛ يَطيبُ لهُم السَّمَر على أطرافِ المَدينة بعيدًا عَن أنظارِ النَّاس في ساعاتٍ مُتأخِّرَةٍ من اللَّيل؛ وقت هيجان الشَّياطين، وثوران الشَّهوات البهيميَّة؛ يخافُون العارَ والفضيحَة!! وإخوانُهم المُؤمنُون هاجعُون في بيُوتِهم مُشتاقُون لمُناجاة خالِقهم في الثُّلث الأخير من اللَّيل؛ لمَّا تخُور قوى أولئك الغافلين ويستسلمُون للنَّوم إلى بعد طُلوع الشَّمس؛ لا صَلاة صُبح ولا هُم يحزنُون! ينهضُون مُتثاقلين مُتناعسِين؛ لا هُم أحيُوا ليلهُم بالعبادَة، ولا نهارهم بالنَّشاط وعمارَة الأَرض!
تاسعًا: يقُول العُلماء أنَّ الكلاب يُمكنُ لَها أن تُنجب في غُضون ستِّ سنَوات فقَط؛ هيَ وأولادُها؛ إن سلمَت مِن الأمراض والعاهات؛ حوالَي ستة وستُّون ألف كلبًا!! فحينَما يسمع المرءُ هذا العَدد الضَّخم يخالُ أنَّ المَدينَة ستُدكُّ بقطعان هذه الكِلاب، وستملأ كُلَّ شارعٍ فيها ولَن يبقَى في الأزقَّة مُتَّسع للمارَّة؛ ولَكن العَكس هُو الصَّحيح لا نكادُ نراها إلا غبًّا! في حينِ أنَّ الشِّياه - مثلاً – تلدُ مرَّة أو مرَّتين في العام؛ وهي واسعة الاستِهلاك في القرابين والأَضاحي، والأعراس والمُناسبَات؛ وفي الوَجبات اليَوميَّة؛ ومَع ذلك نرَى فيها وفرَةً وبركَة عجيبتين؛ ولواحدٍ منَّا أن يُسافِر في إحدَى الطُّرق العامرَة بعد عيدِ الأضحَى مُباشَرة؛ ليرى تِلك القطعان البهيجَة كأنَّه لَم ينقُص مِنها شَيء؛ لأنَّها مُباركَة؛ والكِلاب لا بركَة فيها.
وهكذا حياة النَّاس؛ مَن اتَّبع مَنهج الله وهديَه بُورَك فيه وفي صحَّتِه وأهلِه ومالِه ولَو كان رزقُه نزرًا يسيرًا؛ ومَن أعرضَ واستَنكَف لَم يُبارَك فيه؛ ولَو كان يملكُ مالَ قارُون!
عاشرًا: الكلاب تعشَق الوِحدَة والانعزال، والحَياة الانفراديَّة؛ وهي أنانيَّة بِطبعِها لا تَرضَى أن يُزاحمَها في طعامِها أحد؛ وكَم رأينا مِن تهارُشها مَع بعضِها بسبب عَظمٍ بالٍ تتقاتلُ مِن أجلِه؛ ونفسُ المَنظر نراهُ في عالَم الغافلِين. يُؤثرُون اعتزالَ النَّاس ليتفرَّغُوا لمُحاكاة شياطينِهم، والإنصاتِ لوساوسِها في جوِّ كئيبٍ قاتِل!
ويُروى عَن بعضِهم أنَّه لا يعرفُ جارَه الذي بجنبِه رُغمَ أنَّه يسكُن معه قُرابَة اثني عشَر عامًا! ويمُوت بعضُهم في شُققٍ يعيشُون فيها لوَحدِهم؛ ولاَ يشعُر بِهم المُحيطُون بهم إلاَّ بعدَ أن تفُوحَ جثثُهم! وأمَّا المُؤمن فهُو إنسان اجتماعيُّ؛ يُخالطُ النَّاس ويصبرُ على أذاهُم؛ يألفُ ويُؤلَف؛ لا يشذُّ عَن الجَماعَة، ولا ينأَى بنفسِه عَن إخوانِه.
• هذه خصالٌ عَشر بدَت لي مِن مُلاحظَة ما بين حياةِ الكِلاب والأشقياء مِن تجانُس وتشابُه؛ وفي كُلِّ مرَّة نُدركُ عُمق المُفرَدة القُرآنيَّة وغِناها الدَّلالي! حقًّا إنَّه كتاب لا يخلقُ على كثرَة الرَّد! ولكُم أن تتأمَّلُوا أحبَّتي لتُضيفُوا إلى ما كتبتُ ما فتح الله عليكُم، والسلام عليكُم ورحمةُ الله وبركاتُه.

 

 

 

اجمالي القراءات 9187

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2012-01-12
مقالات منشورة : 53
اجمالي القراءات : 789,177
تعليقات له : 9
تعليقات عليه : 27
بلد الميلاد : algeria
بلد الاقامة : algeria