مشروع الحوار القروي(4:6)

سامح عسكر Ýí 2013-09-15


يتميز القروي بخياله الواسع، فالطبيعة من حوله تخلق لديه صوراً أجمل مما يراها المدني، ويشم رحيقا ونسيماً أجمل..فإذا دَمَجَ هذا الخيال مع يقينه الثابت والمتعدد ظهرت لديه علامات الرسالة..فيدعو من حوله إلى أفكاره ويصر عليها ويُلحّ على الناس، وكلما امتلأ ذهنه بالمعلومات كلما تحولت تلك المعلومات إلى عقائد، وهو بذلك أصبح صيداً سهلاً لدُعاة الأيدلوجيا..أزعم أن الحركات الأيدلوجية في مصر ظهرت بتلك الطريقة وبنفس الأسلوب، فلو لم تبدأ السلفية والإخوانية في الريف ما كان لها أن تنتشر في المدينة.

في قريتي- وقبل أن يتمكن دعاة الأيدلوجيا منها- كان الترابط الاجتماعي هو عنوان القرية،فكانت تُعقد الولائم والمجالس العُرفية، وكذلك فالمناسبات جميعها دعوة افتراضية للجميع دون تخصيص أو ذكر أسماء، وكم تحدث –الآن -من مشاكل فقط بمجرد نسيان اسم أو عائلة من الدعوة لمناسبة فتحدث الضغائن، كان ذلك في الماضي غير متاح..ولكن لا أستطيع تعميم ذلك على أهل القرية بالعموم، إذ يتطلب ذلك مسحاً اجتماعياً عاماً على جميع القرى، أتذكر جيداً كيف كانت مناسبة المولد النبوي تجمع أهل القرية على الذكر الإلهي ثم يختمون يومهم بعشاء جماعي في مكان مفتوح..انتهت تقريباً تلك الطقوس، وأشهد أن آخر وليمة جماعية حدثت كانت منذ عشر سنوات، حاول الأكابر فيها إحياء هذه الوليمة الجماعية التي ماتت منذ زمن فلم يحضرها إلا القليل، ولم يجلس على الموائد سوى أصحابها.

هكذا تحولت الموائد من وليمة للآخرين فيشكروا صاحبها إلى موائد لأصحابها فلا يشكرهم أحد، لقد حدثت القطيعة أول ما حدثت بحصار النزعة الصوفية في القرى، ذلك لأن الصوفية تُهذّب الوجدان وتزرع التواضع وحب الناس ، لم يشأ أصحاب السلفية -القادمون من أقصى ربوع نجد في شبه الجزيرة العربية- أن يظل الناس على هذا الحال الطيب، لقد اختزلوا الدعوة الصوفية في التبرك بالأضرحة وتقديس الأولياء، ولم يقفوا على محاسن تلك الدعوة التي ضاعت فور ظهور السلفية وتمرد القاعدة الشعبية على التراث الصوفي، فاستبدلوا .."خُلق التواضع"..بعقائد الولاء والبراء وتكفير المتوسلين، وحصروا.."حُبّ الناس"..في حب ذويهم وأنصارهم فكانت الكارثة، لقد حدث الشقاق بين وجدان أهل القرية، فيتعاملون مع بعضهم معاملة نفعية لا خُلق فيها ولا إيثار، ولا يُنقذهم من أنفسهم سوى ما تبقى من مجالس العُرف أو توسط أهل الحكمة.

في تقديري أن هذا الاستبدال كان منشأه توق القرويون للحرية، فهم الذين عاشوا عقوداً يعملون ويخدمون في أرضاً ليست أرضهم، وأملاكاً لا حق لهم فيها إلا العمل والأجر نهاية اليوم،لكن مع ذلك كانوا يحرصون على تفسير الحرية داخل إطار فهمهم للدين، أي أن الحرية لديهم في المجمل كانت صناعة الشيوخ الذين ملأوا المنابر دعوةً للحرية –كأصل في الدين-إلا أنهم يقفون مع ظهور أول تعارض من التراث حول هذه الدعوة..أي أن التمرد على النزعة الصوفية كان لارتباطها لديهم بوضعهم الاقتصادي، وكذلك ظهرت وعود المشايخ بالرفاهية والخير فور تخلصهم مما يظنونه .."البدعة".

ويبدو أن توق القرويون للحرية –دون علم-أدى إلى التخلص-ولو جزئياً-من عقائدهم الإيمانية والاجتماعية، بمعنى أن الدين قد اختلف معناه لديهم باختلاف الفاعل والناشط..وهم الذين نسميهم .."بالدُعاة"..قديماً كان المتصوفة والدراويش، وحديثا السلفية والإخوان، وقد أدى ضعف مؤسسة الأزهر وانتمائها للدولة إلى نزع الثقة بشيوخها فترة من الزمان..إلى أن جاء حُكم الإخوان لمصر ورأى القرويون دولتهم تنهار، وهم كونهم لا يثقون في هذه الدولة إلا أنهم تعلقوا بها كحصن أخير لهم ولأملاكهم، حينها عادت ثقة القرويون مرة أخرى إلى الدولة وشعروا أنهم ضمن كيان لا يمكن الاستغناء عنه، وساعد على نمو هذا الشعور لديهم شخصية وزير الدفاع .."الفريق أول عبدالفتاح السيسي"..فكلماته البسيطة وأسلوبه الفطري وصدق وجدانه قد استلب من القرية شخصيتها إلى شخصية أخرى عسكرية وقومية في آنٍ واحد.

ذلك لأن من أهم الأسس التي صنعت -ونظّمت -الثقافة القروية هو رؤيتهم للمحصول الزراعي والحيواني، فاقتصرت الثقافة القروية في تفسير ذلك على معدل الإنتاج، وهم بذلك بعيدون عن حركة التاريخ، ولا يتذكرون منها سوى ما فعله عبدالناصر من مزايا للفلاحين ساهمت في رفع معدل الإنتاج، فارتبط أهل القرية-منذ ذلك الحين-بالجيش كونه المؤسسة التي أخرجت عبدالناصر إليهم ليُعيد لهم إنسانيتهم..وأقصد ببعدهم عن حركة التاريخ أي أنهم لا يدركون منها شيئاً ولا يهتمون لها أصلاً، مع كونهم جزء منها لا يتجزأ، ولا يأتي طرف له مصلحة أو معركة إلا وكان أهل القرى هم الوقود له ولأتباعه.

حتى نُظم التعليم في القرية يدينون للجيش بالفضل عليها، فهم المحرومون -منذ أن ولدتهم أمهاتهم- من مزايا التعليم، قديما لم تكن في القرية سنوات دراسية في فصول تعليمية.. بل كان مجرد.."كُتّاب"..يحفظ فيه الأطفال القرآن، لا يعلمون شيئاً عن الجبر والهندسة والميكانيكا، فتلك الأسماء من رائحة المُدن، ولا يشم تلك الرائحة إلا الموظفين وأبنائهم أصحاب الأموال، بينما هم لا ينفقون أموالاً هم لا يمتلكونها أصلاً، وقد كانت غالب معاملاتهم الاقتصادية عبر نظام.."المقايضة"..ويعني استبدال الأشياء بأشياء أخرى، أو مقابلة الخدمات بالأشياء، كمن يريد حلاقة شعره مقابل قدح من الذرة أو القمح، أما الأموال فكانت لبيع وشراء الممتلكات، أو لتأجير العين الزراعية أو التجارية.

أذكر جيداً –وأنا طفل-كيف كانت الأحوال المعيشية في القرية، كان نظامهم الغذائي أقل مما هو عليه الآن، لا يأكلون اللحوم سوى على فترات متباعدة، وكذلك الحبوب، فالأرز كان طعام الترفيه وكذلك المرضى باستشارة الأطباء، كان القمح والخبز واللبن هو عماد البيت القروي، وكذلك الخضروات كالبامية والملوخية والسبانخ هي الأطعمة الشعبية للفلاحين، هذا لم ينعدم.. "بالكلية"..ولكنه موجود في بعض البيوت، لكن لا يصل لمرتبة.."الظاهرة"..كما كان عليه في الماضي، ولا زالت النظرة القروية للطعام تختار الأفضل حسب الاشتهاء والعادة وليس حسب المنفعة.

عرجنا على مسائل التغذية والتعليم والحرية والبيع والشراء كهامش-دون تفصيل- لاستعراض المعطيات التي شكلت الوعي القروي الذي نهدف لتنميته وتأهيله للحوار، فباجتماعها يظهر لنا أن القرية المصرية قد مرت على عدة مراحل وتجارب لم يتواصل فيها أهل القرية تواصلاً ثقافياً يُخرجهم من الجغرافيا إلى التاريخ، لأن علاقتهم بالتاريخ مقطوعة أصلاً.. وهم بذلك بعيدون عن المجتمع الإنساني وتطوره وتحدياته، فالمقصود أن نعمل على علاج -أو إنهاء- تلك القطيعة ، وهذا لن يحدث إلا بالتثقيف ورفع معدلات الكفاءة العقلية للفلاحين.

اجمالي القراءات 7441

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2012-09-25
مقالات منشورة : 788
اجمالي القراءات : 7,590,135
تعليقات له : 102
تعليقات عليه : 411
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : Egypt