( ســلامة القــس)

آحمد صبحي منصور Ýí 2010-12-06


 

1 ـ من أشهر أفلام السيدة أم كلثوم ، تلك الجارية المغنية التي أحبها العابد الناسك عبد الرحمن بن أبي عمار ، وقام بدوره في الفيلم  الفنان يحيي شاهين.

والحبكة الدرامية في قصة الفيلم تكمن في وقوع الرجل التقي العابد في غرام جارية مغنية وصراعه النفسي بين حبه وتقواه ، وعلى تلك الحبكة الدرامية دارت قصص كثيرة  . وليس ذلك عجيباً ، وإنما العجيب فعلاً أن تلك الحبكة الدرامية هي قصة واقعية تاريخية ، وأن الغرام الملتهب الذي جمع بين العابد الناسك عبد الرحمن بن auml; أبي عمار والمغنية اللعوب من حقائق التاريخ التي سطرتها كتب التاريخ المحترمة والموثوق بها.

2 ـ ونستطيع أن نقراها في تاريخ الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك الذي حكم الدولة الأموية بعد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، كما نستطيع أن نقرأها في خلال ترجمة بطليها : العاشق عبد الرحمن المشهور بلقب القــس والعاشقة سـلامـة التي حملت هي الأخرى لقب سـلامـة القــس ..

3 ـ ولكن كيف تجتمع المتناقضات وينتج عنها ذلك العشق الغريب بين عابد ناسك ومغنية لعوب؟ وكيف يحدث هذا في مكة المكرمة في بداية القرن الثاني الهجري حيث عاش كبار التابعين ومشهورو النساك والمتعبدين ؟..

4 ـ إن السياسة الأموية هي المسئولة عن ذلك التناقض..

إذ أن الحجاز "مكة والمدينة" كان موطن المعارضة السياسية والحربية ضد الأمويين وعاصمتهم دمشق.. فمن المدينة ومكة خرجت الثورات تحتج على انفراد بني أمية بالحكم وتحويلهم الخلافة إلى ملك وراثي يقوم على القهر والاستبداد ، ومن المدينة خرج الحسين ثائراً بأهله وكانت مأساة كربلاء ، وعلى أثرها ثارت المدينة ثورة عارمة فاقتحمها الجيش الأموي وانتهك حرمتها ، وبعدها ثار عبد الله بن الزبير في مكة وأعلن نفسه خليفة فهزمه الأمويون وقتلوه وصلبوه ولم يأبهوا بحرمة البيت الحرام..

وحتى لا تعود المدينة ومكة للثورة وتسيل الدماء ويقتل الأمويون أقاربهم من قريش في الحجاز ارتأى الأمويون حلاً آخر هو شغل أبناء المهاجرين والأنصار في مكة والمدينة بالمال والمتاع والجواري والغناء والشعر وكل وسائل التسلية ، وبذلك امتلأت مكة والمدينة بأرباب الغناء وأصبحت في كل منهما مدرسة فنية تنافس الأخرى ، ويهيج تلك المنافسة الشعراء وأصحاب السمر والأخبار ، وبينما أنغمس في المجون أكثرية الشباب فإن الأقلية ردت عليهم بالتطرف في العبادة والزهد والنسك ، وحدث الالتقاء بين طرفي النقيض في علاقة العابد عبد الرحمن القـس بسـلامـة اللعوب..

5 ـ وينتمي عبد الرحمن بن أبي عمار إلى قبيلة جشم ، وقد سكن مكة واشتهر فيها بأنه أفضل الناس عبادة ونسكاً فأطلقوا عليه لقب "القــس"..

أما ســلامــة فقد نشأت جارية بالمدينة وتعلمت الغناء على أعلام الغناء فيها وأشهرهم معبد وابن عائشة وجميلة ومالك بن أبي السمح. وحين استوى عودها واشتهرت بحسن الصوت نافستها جارية أخرى كانت دونها في حسن الصوت إلا أنها كانت أجمل منها وجهاً وهي "حبابة" ، إلا أن ســلامــة امتازت عن حبابة بميزة إضافية وهي قولها الشعر ، فكان ثمنها أعلى ومحـبـُّوها أكثر..

ونالت سـلامـة إعجاب أحد المترفين في مكة فاشتراها وأحضرها إلى بلده مكة ، وهو سهيل بن عبد الرحمن بن عوف ، وأبوه الصحابي المشهور .. وتحولت دار سهيل إلى ملتقى للماجنين محبي الغناء والسمر والجمال ، تظل نوافذه مضاءة ورواده إلى الفجر في سرور وحبور وأصواتهم تصل إلى جنبات الشارع..

وذات يوم مر عبد الرحمن القــس على دار سهيل فسمع صوت سلامة وهي تغني فأعجبه صوتها فتوقف ، وكان منظراً غريباً أن يتوقف القس العابد ليسمع الغناء ، ووصل الخبر إلى الفتى الماجن سهيل فنزل يدعو القس للدخول فأبى وانصرف في خجل ، إلا أنه في اليوم التالي عاد في الوقت نفسه ووقف يسمع الغناء ، وتلاحقت الهمسات حول القـس كلما مر يوم وهو على عادته يسمع الغناء ويرفض الدخول ، وفي النهاية غلبه الشوق فاستجاب لرجاء سهيل ودخل داره وشاهد سـلامـة وجلس معها وشغف بها حباً وهامت به غراماً ، ولم يستطع كتمان مشاعره ففاض لسانه شعراً سارت به الركبان ، فاشتهرت سلامة وأصبح لقبها سلامة القس..

على أن عبد الرحمن القس في حبه لسلامة ظل محافظاً على ورعه وتقواه ، إذ جلس معها في خلوة فقالت له : والله أنا أحبك ، فقال لها : والله أنا أحبك ، قالت : وأشتهى أن أقبلك ، فقال : وأنا والله أحب ذلك ، فقالت: وما يمنعك ؟ فقال : إني أخاف الله .. ثم قام عنها وتركها وعيناه تدمعان ، وعاد إلى نسكه وعبادته وانقطع عنها ، إلا أن شوقه كان يغلبه أحياناً فيمر ببابها ويرسل إليها السلام ، ويقال له : أدخل فيأبى ، ويعود دامع العينين ..!!

6 ـ وانتشرت قصة سلامة وغرام العابد الناسك بها ، ووصلت إلى دمشق مصحوبة بالأشعار التي قالها الناسك والأشعار الأخرى التي قيلت فيهما ، وكان تداول الشعر هو أسرع الطرق لنشر الأخبار و الشهرة . وكان الخليفة الأموي يزيد بن عبد الملك مشهوراً بالمجون باحثاً عن الجديد والمشهور من ألوان المتع ، وعرف أن سلامة وحبابة قد وصلتا إلى النهاية في الشهرة فبعث من اشتراهما له ، وسافرت سلامة إلى دمشق وحظيت مع حبابة لدى الخليفة الشاب ، وبينما ماتت حبابة في عهد الخليفة فإن سلامة عاشت بعده ، ويذكر المؤرخون أن الخليفة الأموي  اشترى سلامة من مولاها بعشرين ألف دينار.

7 ـ واقفرت مكة من أخبار سلامة القس ، وتحولت الآذان إلى دمشق تتسمع ما يقوله الخليفة الشاب وما يقال له ، وهو يجلس بين الجاريتين المشهورتين سلامة وحبابة ، وهما تغنيان له وتسقيانه الخمر ، فكان إذا غلبه السكر يقول : أريد أن أطير ، ويلقي بنفسه في بركة ماء أو حمام السباحة ، وانتشرت هذه الأخبار عن الخليفة في أرجاء الدولة الأموية ، واستغلها أعداء الدولة في الدعاية ضدها ، فكان أبو حمزة الخارجي الثائر على الأمويين يخطب في مكة ويقول عن الخليفة يزيد بن عبد الملك "أنه أجلس حبابة عن يمينه وسلامة عن يساره ، ثم قال: أريد أن أطير ، فطار إلى لعنة الله وأليم عذابه".

ويذكر المؤرخون أن ابن الخليفة يزيد بن عبد الملك قد تولى الخلافة بعد عمه سليمان ، وذلك الابن الذي تولى الخلافة اسمه الوليد بن يزيد ، وكان مثل أبيه في حب المجون حتى أنهم ثاروا عليه وقتلوه ، ويذكر الطبري في تاريخه أنهم اتهموه بأنه كانت له علاقة شائنة بجواري أبيه ، ويذكر المؤرخ الصفدي أنهم اتهموه بأن له علاقة بسلامة.

وبسبب تلك الحياة الماجنة دخلت الدولة الأموية في طور الضعف والانقسام الداخلي لأن الذي ثار على الخليفة الوليد بن يزيد وقتله وتولى الخلافة بعده هو الخليفة يزيد بن الوليد ، وبعد بضع سنوات سقطت الدولة الأموية ..سنة 132هــ.

وكانت سلامة وما تمثله من مجون من أسباب سقوط هذه الدولة .

8 ـ ونعود إلى العابد الناسك عبد الرحمن القس ، إذ أنه بعد رحيل سلامة إلى دمشق  أراد أن يداويها بالتي كانت هي الداء ، إذ طفق يمر على سوق الجواري يبحث عن شبيه للحبيبة الغائبة فرأى جارية رائعة الجمال غالية الثمن اسمها "ريا" فافتتن بها ، وظل يطوف بمكانها . وسارت الركبان بالحب الجديد للناسك ذي القلب الرقيق ، وقال فيه الشاعر المشهور ابن قيس الرقيات يصف غرامه السابق اللاحق :

لقد فتنت ريا وسلامة القسـَّا   فلم يتركا للقس عقلا ولا نفسا

فتاتان أما منهما فشبيهة الـ   هلال وأخرى منهما تشبه الشمسا

تكنان أبشارا رقاقا وأوجهاً    عتاقاً وأطرافاً مخضبة مـُلسا

وجاء إلى القس زملاؤه من النساك المتعبدين يلومونه ، وكان منهم كبار التابعين مثل عطاء وطاووس ومجاهد ، فرد عليهم بدمع غزير وشعر حزين .

وعلم بخبره عبد الله بن جعفر بن أبى طالب الهاشمي فخشي أن تتكرر مأساة القس مع سلامة ويبعث الخليفة الأموي يشتري "ريا" ويحرم القس منها، لذلك جاء من المدينة إلى مكة وبعث للتاجر فاشترى منه "ريا" ، وجمع الناس حوله في محفل عام ، وبعث للقس فأتى ، وسأله عن أحواله فشكا له الحب وقلة الحيلة ، فأمر بإحضار الجارية إليه وأهداها له ومعها مائة ألف درهم نفقة لهما ..

وقام عبد الرحمن القس مسرورا وتوارى بحبيبته (ريا ) بين سطور التاريخ..

اجمالي القراءات 36783

للمزيد يمكنك قراءة : اساسيات اهل القران
أضف تعليق
لا بد من تسجيل الدخول اولا قبل التعليق
تاريخ الانضمام : 2006-07-05
مقالات منشورة : 4980
اجمالي القراءات : 53,336,993
تعليقات له : 5,323
تعليقات عليه : 14,621
بلد الميلاد : Egypt
بلد الاقامة : United State

مشروع نشر مؤلفات احمد صبحي منصور

محاضرات صوتية

قاعة البحث القراني

باب دراسات تاريخية

باب القاموس القرآنى

باب علوم القرآن

باب تصحيح كتب

باب مقالات بالفارسي