حقيقة الحجاب وحجيةالحديث

في الثلاثاء ٢٧ - أكتوبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

حقيقة الحجاب وحجيةالحديث
المستشار / محمد سعيدالعشماوى
 
مقدمة الطبعةالكاملة


نظرًا لطبيعتى الخاصة وثقافتى العامة, ودراستى القانونية, وعملى القضائى, فقد درجت على ألا ألتفت إلى القول المرسل, مهما كان شائعًا, أو أنتبه إلى الرأى المطلق, ولو كان غالبًا, وإنما أبحث وأدرس ما وراء القول وما حول الرأى, من أسباب وأسانيد وحجج وأدلة, مهما كان البحث مضنيًا أو كان الدرس مجهدًا. وكانت النتائج الصحيحة التى يصل إليها البحث وينتهى إليها الدرس, خير جزاء على الضنى وأفضل مكافأة على الجهد.
والذى راعنى بحق, أنى خلصت من بحوثى ودراساتى إلى أن العقل البشرى فى مجموعه, تكوَّن بالإشاعات, وتركب بالأمنيات وتأسس بالخرافات ولم يكن للحقائق فى هذا التأسيس وذلك التركيب وذاك التكوين شأن كبير. ولأن الإشاعة تترابط بالإشاعات والأمنية تتساند بالأمنيات, والخرافة تتراكن إلى الخرافات, فقد نتج عن هذا كله تراث شائه. أدنى إلى الخرافة وأقرب إلى السخافة, ليس فيه من الحقيقة شئ عظيم. ومع مرور السنين توارثت الأجيال هذا التراث, رغم وجود اختلافات فيه بسبب الحدود المكانية أو الظروف الزمانية, أوالمواريث القبلية أو المعاريض النقلية, غير أن المؤكد لدى البحث الرصين والدرس المحايد أن أغلب موروثات العقل البشرى فى كل أوان وكل مكان, لها من الخرافة حظ مؤثر, قليلاً كان أم كثيرًا, وأن التخلص من الخرافات ومن المغلوطات يقتضى جهودًامضنية من البشرية كلها, تتوافق على تحديد الهدف وسبيل العمل وتقدير النتائج.
وفى نطاق الدراسات الإسلامية, فقد وجدت الكثير من الأخطاء فى الفكر وفى الفقه ترجع كلهاإلى عدم تعريف الألفاظ, أو ما يسمى بلغة علم أصول الفقه, عدم ضبط المصطلحات, هذابالأضافة إلى غياب المناهج عامة, وإلى أن أكثر العلماء والكتاب لايُصدر فيما يكتب ويبحث ويقول عن تعريف وتحليل وتعقيد ومنهجة, وإنما يفعل ذلك لتبرير وضع قائم أو فكرموروث أو قول مبتور أو رأى مشطور. وقد تعدى هذا الأسلوب إلى النهج الإسلامى عامة, فقلّ أن يُوجد من يقرأ أو يسمع قصد الوصول إلى الرأى الصادق, والقول الصحيح, والعلم المتين.
لقد حاولت فى الدراسة المنشورة فى هذا الكتاب, ما احوله فى كل أعمالى, من وضع التعريف أو ضبط المصطلح وإتباع منهجية واضحة ونظامية مطردة حتى أخلص لنفسى ولغيرى بأقرب الآراء إلى الصحة وادناها إلى الصواب حتى لو خالفت المألوف وعارضت المعروف. لكنى تبينت أن المشكلة ليست فى الوصول إلى الصواب ولا فى الحديث على مقتضاه, إنما المشكلة الحقيقية هى فى الرفض المسبق من القارئ أو السامع لقبول الرأى الآخر أو السماح بأى كلمة تهدد فكره المغلوط أو تقوض رأيه المخطئ أو تفكك حماسته الأوهام. ومع كل ذلك فإن القافلة لابد أن تسير لأن العواء سوف يخفت ثم يصمت أمام قوة الحق وقدرة الصدق.
وهذا الكتاب هو الغائب الحاضر, فلقد ادت ظروف سيئة تتصل بالنشر وبحماية حق المؤلف إلى أن يغيب عن الظهور المستمر الواضح فى ساحة الفكرالعربى وأن يكون تداوله سرًا بعيدًا عن القانون, أو يكون نسخًا ليس هو الأصل, وزعمالبعض فى دعاية مغرضة أن الكتاب قد صودر, وهذا قول غير صحيح ولم يحدث قط لأن للمصادرة إجراءات قضائية لم تُتَّبع لا فى هذا الكتاب ولا فى أى كتاب من كتبى, لكنه القول الهراء الذى لاقيمة له وإن كان قد حدث ضمن طلب مستمر وشديد على الكتاب, ممايقطع بأنه كان على الدوام حاضرًا فى عقول الناس وفى ضمائرهم.
وهاهى الطبعةالكاملة توضع بين أيدى القراء, وتصدر عن دار " روزاليوسف" التى حدثت على صحفاتها أشهر مجادلة عن الحجاب, فريضة هو أم غير فريضة. وقد تضمنت الطبعة ثلاثة ملاحق لابدمنها لتتكامل الدراسة.
والله ندعو أن يوفق الجميع إلى السمع المحايد والقراءةالموضوعية والحكم الصائب, لما فى ذلك من أثر عظيم على الأفراد وعلى الإسلام, وعلى البشرية.
10
فبراير 2002.
 
 
القسم الأول

حقيقة الحجاب
(1)
الحجاب فى الإسلام

نُشر هذا البحث فى مجلةروزاليوسف المصرية , العدد رقم 3444 بتاريخ 13/6/1994.

مسألة حجاب النساءأصبحت تفرض نفسها على العقل الإسلامى, وعلى العقل غير الإسلامى, بعد أن ركزت عليها بعض الجماعات. واعتبرت أن حجاب النساء فريضة إسلامية, وقال البعض إنها فرض عين, أى فرض دينى لازم على كل إمرأة وفتاة بالغة, ونتج عن ذلك اتهام من لاتحتجب ـ بالطريقةالتى تفرضها هذه الجماعات ـ بالخروج عن الدين والمروق من الشريعة. بما يستوجب العقاب الذى قد يُعد أحيانًا عقابًا عن الإلحاد, ( أى الإعدام ) , هذا فضلاً عن إلتزام بعض النساء والفتيات ارتداء ما يقال إنه الحجاب فى اللغة هو الساتر, وحجب الشئ أى ستره, وإمرأة محجوبة أى إمرأة قد سترت بستر [ لسانالعرب, المعجم الوسيط: مادة حجب].
والآية القرآنية التى وردت عن حجاب النساءتتعلق بزوجات النبى وحدهن, وتعنى وضع ساتر بينهن وبين المؤمنين.
{
يا أيها الذين آمنوا لاتدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه, ولكن إذادعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلك كان يؤذى النبى فيستحى منكم والله لايستحى من الحق وإذا سألتموهن ( أى نساء النبى ) متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهم وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدًا إن ذلكم كان عند الله عظيمًا } [ الأحزاب 33: 53].
هذه الآية تتضمن ثلاثة أحكام:
الأول : عن تصرف المؤمنين عندما يدعون إلى الطعام عند النبى.
الثانى : عن وضع الحجاب بين زوجات النبى والمؤمنين.
الثالث: عن عدم زواج المؤمنين بزوجات النبى بعد وفاته.
وقيل فى أسباب نزول الحكم الأول من الآية { تصرف المؤمنين عندما يدعون إلى الطعام عند النبى }, إنه لما تزوج " زينب بنت جحش" إمرأة زيد اَوْلَم عليها, فدعا الناس, فلما طعمواجلس طوائف منهم يتحدثون فى بيت النبى, وزجه " زينب" مولية وجهها إلى الحائط, فثقلواعلى النبى , ومن ثم نزلت الآية تنصح المؤمنين ألا يدخلوا بيت النبى إذا ما دعوا إلى طعام إلا بعد أن ينضج هذا الطعام, فإذا أكلوا فلينصرفوا دون أن يجلسوا طويلاًيتحدثون ويتسامرون. [ تفسير القرطبى ـ طبعة دار الشعب ـ ص 5306].
وقيل فى أسباب نزول الحكم الثانى من الآية ( والخاص بوضع حجاب بين زوجات النبى والمؤمنين) , إن عمر بن الخطاب قال للنبى: " يا رسول الله, إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر, فلوأمرتهن أن يحتجبن ". فنزلت الآية. وقيل إنه إثر ما حدث عند زواج النبى بزينب بنت جحش نزلت الآية بأحكامها ( الثلاثة ) تبين للمؤمنين التصرف الصحيح عندما يدعون إلى طعام فى بيت النبى, وتضع الحجاب بين زوجات النبى والمؤمنين, وتنهى عن الزواج بزوجاته بعد وفاته ( المرجع السابق ), ولاشئ يمنع من قيام السببين معًا.
فالقصد من الآية أن يوضع ستر بين زوجات النبى وبين المؤمنين, بحيث إذا أراد أحد من هؤلاءأن يتحدث مع واحدة من أولئك ـ أو يطلب منها طلبًا ـ أن يفعل ذلك وبينهما ساتر, فلايرى أى منهما الآخر, لا وجهه ولا جسده ولا أى شئ منه.
هذا الحجاب ( بمعنى الساتر ) خاص بزوجات النبى وحدهن, فلا يمتد إلى ما ملكت يمينه ( من الجوارى ) ولاإلى بناته, ولا إلى باقى المؤمنات, وفى ذلك يروى عن أنس بن مالك أن النبى أقام بين خيبر والمدينة ثلاثًا ( من الأيام ) يبنى عليه ( أى يتزوج ) بصفية بنت حُيى, فقال المؤمنون إن حجبها فهى من أمهات المؤمنين ( أى من زوجاته ) وإن لم يحجبها فهى مماملكت يمينه ( أى من جواريه ) ..."color: blue; font-size: 18pt">حيث كانت النساء يضعن أخمرة ( أغطية ) على رؤوسهن ثم يسدلن الخمار وراء ظهورهن فيبرز الصدر بذلك, ومن ثم قصدت الآية تغطية الصدر بدلاً من كشفه, ون أن تقصد إلىوضع زى بعينه.
وقد تكون علة الحكم فى هذه الآية ( على الراجح ) هى إحداث تمييزبين المؤمنات من النساء وغير المؤمنات ( اللاتى كن يكشفن عن صدورهن ), والأمر فىذلك شبيه بالحديث النبوى الموجه للرجال ( احفوا الشوارب وأطلقوا اللحى ) وهو حديث يكاد يجمع كثير من الفقهاء على أن القصد منه قصد وقتى, هو التمييز بين المؤمنين وغير المؤمنين ( الذين كانوا يفعلون العكس فيطلقون الشوارب ويحفون اللحى ).
فالواضح من السياق ـ فى الآية السالفة والحديث السابق ـ أن القصد الحقيقى منهماهو وضع فارق أو علامة واضحة بين المؤمنين والمؤمنات وغير المؤمنين وغير المؤمنات. ومعنى ذلك أن الحكم فى كل أمر حكم وقتى يتعلق بالعصر الذى أريد فيه وضع التمييزوليس حكمًا مؤبدًا ( و سَيَلِى بَيَان أوْفى فى ذلك ).



ثالثًا : آيةالجلابيب:
أما آية الجلاليب فنصها كالآتى:
{
يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن جلاليبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يُؤذين } [ سورةالأحزاب 33: 95].
وسبب نزول هذه الآية أن عادة العربيات ( وقت التنزيل ) كانت التبذل, فكن يكشفن وجوههن كما يفعل الإماء ( الجوارى ). وإذ كن يتبرزن فى الصحراءقبل أن تتخذ الكُنف ( دورات المياه ) فى البيوت, فقد كان بعض الفجار من الرجال يتعرضون للمؤمنات على مظنة أنهن من الجوارى أو من غير العفيفات, وقد شكون ذلك للنبى ومن ثم نزلت الآية لتضع فارقًا وتمييزًا بين " الحرائر" من المؤمنات وبين الإماءوغير العفيفات هو إدناء المؤمنات لجلابيبهن, حتى يُعرفن فلا يؤذين بالقول من فاجريتتبع النساء دون أن يستطيع التمييز بين الحرة والجارية أو غير العفيفة. [ المرجعالسابق ص 5325 , 5326 ].
فعلَّة الحكم فى هذه الآية أو القصد من إدناء الجلابيب أن تعرف الحرائر من الإماء والعفيفات من غير العفيفات, حتى لا يختلط الأمر بينهن ويُعرَفن, فلا تتعرض الحرائر للإيذاء وتنقطع الأطماع عنهن, والدليل على ذلك أن عمربن الخطاب كان إذا رأى أمة قد تقنعت أو أدنت جلبابها عليها, ضربها بالدرة محافظةعلى زى الحرائر [ ابن تيمية ـ حجاب المرأة ولباسها فى الصلاة ـ تحقيق محمد ناصرالدين الألبانى ـ المكتب الإسلامى ص 37].
وقد اختلف الفقهاء فى معنى إدناءالجلابيب على تفصيل لا محل له, والأرجح أن المقصود به ألا يظهر جسد المرأة.
وإذاكانت القاعدة فى علم أصول الفقه أن الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا, فإن وُجِدالحكم وُجِدَت العلة, وإذا انتفت العلة انتفى ( أى رُفِع ) الحكم, إذ كانت القاعدةكذلك, فإن علة الحكم المذكور فى الآية ـ وهى التمييز بين الحرائر والإماء ـ قدانتفت لعدم وجود إماء " جوارى" فى العصر الحالى, وانتفاء ضرورة قيام تمييز بينهما, ولعدم خروج المؤمنات إلى الخلاء للتبرز وإيذاء الرجال لهن, ونتيجة لانتفاء علةالحكم فإن الحكم نفسه ينتفى ( أى يرتفع ) فلا يكون واجب التطبيق شرعًا.
حديث النبى ( ص):
واضح مما سلف أن الآيات المشار إليها لاتفيد وجود حكم قطعى بارتداءالمؤمنات زيًا معينًا على الإطلاق وفى كل العصور, ولو أن آية من الآيات الثلاث الآنف ذكرها تفيد هذا المعنى ـ على سبيل القطع واليقين ـ لما كانت هناك ضرورة للنص على الحكم نفسه مرة أخرى فى آية أخرى, فتعدد الآيات يفيد أن لكل منها قصدًا خاصًا وغرضًا معينًا يختلف عن غيره, لأن المشرع العادى منزه عن التكرار واللغو فما البال بالشارع الأعظم؟!.
ومن أجل ذلك, فقد روى حديثان عن النبى يستند إليهما فى فرض غطاء الرأس ( الذى يسمى خطأ الحجاب ) فقد رُوى عن عائشة عن النبى أنه قال: { لايحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت ( بلغت ) أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هاهنا } وقبض على نصف الذراع. ورُوى عن أبى داود عن عائشة أن أسماء بنت أبى بكردخلت على رسول الله فقال لها :{ يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى فيها إلا هذا, وأشار إلى وجهه وكفيه}.
ويُلاحظ على هذين الحديثين أنهما من أحاديث الآحاد لا الأحاديث المجمع عليها, أى المتواترة أو الأحاديث المشهورة, وفى التقدير الصحيح أن أحاديث الآحاد أحاديث للإسترشاد والاستئناس, لكنها لا تنشئ ولاتلغى حكمًا شرعيًا, ومن جانب آخر, فإنه رغم رواية الحديثين عن واحدة ـ هى عائشة زوجالنبى ـ فإنه قد وقع تناقض بينهما, ففى الحديث الأول قيل إن النبى قبض على نصف ذراعه عندما قال الحديث, بما يفيد أن الجائز للمؤمنة البالغة أن تُظهر وجهها ونصف ذراعها ( بما فى ذلك الكفين ) بينما قصر الحديث الثانى الإجازة على الوجه والكفين وحدهما ( دون نصف الذراع ), ومن جانب ثالث, فقد ورد الحديث الأول بصيغة الحلال والحرام, بينما جاء الحديث الثانى بصيغة الصلاح " لايصلح للمرأة إلا كذا" , وفارق ما بين الإثنين كبير, ذلك أن الحلال والحرام يدخل فى نطاق الحكم الشرعى, فى حين أن " الصلاح" يتعلق بالأفضل والأصلح فى ظروف اجتماعية معينة.
ومع هذا الاختلاف البين بين الحديثين, فإنهما يثيران مسألة وقتية الأحكام, أى تأقيت الحكم فى حديث شريف معين, بوقت بذاته وعصر محدد, ذلك أن بعض الفقهاء يرى أنه فيما صدر عن النبى حتى من تشريعات ـ ما يفيد أنه تشريع زمنى ـ روعيت فيه ظروف العصر. فقد يأمر النبى بالشئ أو ينهى عنه فى حالة خاصة لسبب خاص, فيفهم الصحابة ( أو الناس) أنه حكم مؤبدبينما هو فى الحقيقة حكم وقتى.
وقد كان لعدم الفصل بين النوعين من الأحكام: المؤبد والوقتى أثر كبير فى الخلاف بين الفقهاء. فقد يرى بعضهم حكمًا للرسول يظن أنه شرع عام أبدى لا يتغير بينما يراه الآخر صادرًا عنه لعلة وقتية, وأنه حكم جاء لمصلحة خاصة قد تتغير على الأيام ( عبد الوهاب خلاف ـ مصادر التشريع مرنة ـ مجلة القانون والاقتصاد ـ عدد أبريل / مايو سنة 1944 ص 359, و محمد مصطفى شلبى ـ تعليل الأحكام ـ طبعة سنة 1949, ص 28).
وأخذًا بهذا النظر, فإن جاء فى الحديثين المنوه عنهما, وخاصة ذلك الحديث الذى ورد بلفظ " الصلاح" , أقرب إلى أن يكون حكمًا وقتيًا يتعلق بظروف العصر وليس حكمًا مؤبدًا بحال من الأحوال, يؤيد هذا النظر ما أنف شرحه من أن آية الخمار قد قصدت تعديل عرف جار والتمييزـ غالبًا ـ بين المؤمنات وغيرالمؤمنات, كما أن آية الجلابيب قد قصدت التمييز بين الحرائر والإماء أو بينهن ( أى الحرائر العفيفات) وبين غير العفيفات.
أسلوب القرآن فى تنفيذ الأحكام:
ومهما يكن الرأى, فإن أسلوب القرآن ونهج الإسلام هو عدم الإكراه على تنفيذ أى حكم من أحكامه, حتى أحكام الحدود ( العقوبات) , وأنما يكون التنفيذ دائمًا بالقدوة الحسنة والنصيحة اللطيفة والتواصى المحمود.
ففى القرآن: { لا إكراه فى الدين } [ سورةالبقرة 256] . وإذا كان الأصل أن لا إكراه فى الدين ذاته, فلا إكراه ـ من باب أولى فى تطبيق أى حكم من أحكامه أو تنفيذ أى فريضة من فرائضه, أنما تكون نتيجة عدمالتطبيق وعدم التنفيذ إثمًا دينيًا, وهو أمر يتصل بالعلاقة بين الإنسان وربه, وحتى فى الحدود فإن القاعدة فيها أن لا حد على تائب, ومعنى ذلك أن الحد لا يقام على من يُعلن التوبة وإنما يُقام على من يرفض ذلك ويصر على توقيع العقوبات عليه. وفى تصرف النبى إثر رجم أحد الزناة ما يفيد أنه إذا أراد الجانى أن يفر من تطبيق العقوبة فعلى الجماعة ( المجتمع ) أن تمكنه من ذلك, أى أن الحدود لا تقام إلا بإرادةالجانى, وبقصد تطهيره إن رغب هو فى التطهر.
فإذا كان ذلك هو الأساس فى الإسلام, والقاعدة فى القرآن, فإنه لا يجوز إكراه أى امرأة أو فتاة على ارتداء زى معين, سواءكان الإكراه ماديًا باستعمال العنف أم كان معنويًا بالتهديد بالعنف أو الإتهام بالكفر, ويكون المكره فى هذه الحالة آثمًا لاتباعه غير سبيل الإسلام, وانتهاجه غيرنهج القرآن.
وقد كان من نتيجة الإكراه, والتلويح بالإكراه, على تغطية النساء رؤوسهن بغطاء يُسمى خطأ بالحجاب ( مع أن الحجاب شئ آخر كما سلف البيان ) كان من نتيجة ذلك أن وُضعت بعضهن هذا الغطاء رياء و رءاء, وأحيانًا أخرى مع وضع الأصباغ والمساحيق على الوجه بصورة تتنافى مع معنى الحجاب, وقد يحدث مع ارتداء ما يسمى بالحجاب أن تقف به سيدة أو فتاة فى المراقص العامة أو النوادى الليلية وهى تخاصررجلاً أو فتى تراقصه على الملأ, أو قد تسير أو تجلي معه فى طريق مظلم أو مكان موحشدون وجود أى محرم.
إن الحجاب الحقيقى هو منع النفس عن الشهوات وحجب الذات عن الآثام, دون أن يرتبط ذلك بزى معين أو بلباس خاص, غير أن الاحتشام و عدم التبرج فىالملبس و المظهر أمر مطلوب يقره كل عاقل و تتمسك به أى عفيفة.
 
الخلاصة:
يُخلص من ذلك:
الحجاب يعنى وضع ساتر معين, وهو فى القرآن يتعلق بوضع ستر بين زوجات النبى وحدهن ـ وبين المؤمنين, بحيث لا يرى المؤمن من يتحدث إليها من أمهات المؤمنين ولاهى تراه.
الخمار كان وقت التنزيل عرفًا تضع النساء بمقتضاه مقانع ( أغطية ) على رؤوسهن ويرسلنها وراء ظهورهن فتبدو صدورهن عارية, ومن ثم فقد نزل القرآن بتعديل هذاالعرف بحيث تضرب المؤمنات بالخمار على جيوبهن ليخفين صدورهن العارية ويتميزن بذلكمن غير المؤمنات.
إدناء الجلابيب كان أمرًا بقصد التمييز بين النساء المؤمنات الباكستانى", زعمًا بأنه زى إسلامى, وهذه الجماعات ـ فى واقع الأمر ـ تتمسك بالظواهر دون أن تتعلق بالجواهر, وتهتم بالتوافه من المسائل والهوامش من الأمور, ولا تنفذ إلى لب الحقائق وصميم الخلق و أصل الضمير, وقد سعت هذه الجماعات إلى فرضما يسمى بالحجاب ـ بالإكراه والإعنات ـ على نساء وفتيات المجتمع كشارة يظهرون بهاانتشار نفوذهم وامتداد نشاطهم وازدياد أتباعهم, دون الاهتمام بأن يعبر المظهر عن الجوهر, وأن تكون هذه الشارة معنى حقيقيًا للعفة و الاحتشام وعدم التبرج.
وقدساعدهم على انتشار ما يسمى بالحجاب بعض عوامل منها عامل اقتصادى هو ارتفاع أسعارتجميل الشعر وتصفيفه, وازديادها عن مستوى قدرة أغلب الناس. والدليل على أن للعامل الاقتصادى أثرًا فى انتشار ما يسمى بالحجاب, أن هذا العامل ذاته هو الذى يدفع كثيرًا من النساء والفتيات إلى العمل ـ فى الغالب ـ للحصول على موارد مالية أولزيادة إيراد الأسرة مع أن جماعات الإسلام السياسى تدعى أن عمل المرأة حرام. فالعامل الاقتصادى ـ فى غالب الأحيان ـ هو الذى دفع المرأة إلى العمل رغم الزعمبتحريمه, وهو الذى دفع كثيرًا من النساء والفتيات إلى وضع غطاء للرأس, وإن كان مزركشًا وخليعًا, كأنما الشعر وحده هو العورة لابد أن تستر ثم تكون بعد ذلك غطاءلأى تجاوز أوفجور.
 
 
بل الحجاب فريضةإسلامية
لفضيلة الدكتور
"
محمد سيد طنطاوى"
مفتى الجمهورية
نُشر هذاالرد فى مجلة "روزاليوسف" المصرية, العدد رقم 3446 بتاريخ 27/6/1994.

1
ـ كتب سيادة الأستاذ المستشار سعيد العشماوى, مقالاً عنوانه: " الحجاب ليس فريضة إسلامية" بمجلة " روزاليوسف" العدد 3444 بتاريخ 4 من المحرم سنة 1415 هـ الموافق 13 يونيو 1994م بدأه سيادته بقوله: " مسألة حجاب النساء, أصبحت تفرض نفسها على العقل الإسلامى, وعلى العقل غير الإسلامى بعد أن ركزت عليها بعض الجماعات, واعتبرت أنحجاب النساء فريضة إسلامية, وقال البعض: إنها فرض عين .. إلخ".
ثم استشهد سيادته بعد ذلك على ما ذهب إليه, من أن الحجاب ليس فريضة إسلامية, ببعض الآيات القرآنية فقال: " أولاً : آية الحجاب, والحجاب لغة الساتر, وحجب الشئ أى : ستره, وامرأةمحجوبة, أى امرأة قد سُتِرَتْ بستر".
"
والآية القرآنية التى وردت عن حجاب النساء, تتعلق بزوجات النبى وحدهن, وتعنى وضع ساتر بينهن وبين المؤمنين: { يا أيهاالذين آمنوا لاتدخلوا بيوت النبى إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذى النبى فيستحى منكم والله لايستحى من الحق وإذا سألتموهن متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن .. } [ الآية 53 من سورة الأحزاب ].
وبعد أن ذكرسيادته أن هذه الآية تتضمن ثلاثة أحكام قال ما نصه: " فالقصد من الآية أن يوضع ساتربين زوجات النبى وبين المؤمنين, بحيث إذا أراد أحد من هؤلاء أن يتحدث مع واحدة من أولئك ـ أو يطلب منها طلبًا ـ أن يفعل ذلك وبينهما ساتر, فلايرى أى منهما الآخر, لاوجهه ولا جسده ولا أى شئ منه. هذا الحجاب بمعنى الساتر خاص بزوجات النبى وحدهن, فلايمتد إلى ما ملكت يمينه ( من الجوارى ) ولا إلى بناته, ولا إلى باقى المؤمنات, ... إلخ".
2
ـ والذى أراه أن تخصيص هذا الحجاب بزوجات النبى وحدهن كما يرى سيادته ليس صحيحًا لأن حكم نساء المؤمنين فى ذلك, كحكم زواج النبى, لأن المسألة تتعلق بحكم شرعى يدعو إلى مكارم الأخلاق, وما كان كذلك لا مجال معه للتخصيص, ولأن قوله ـ تعالى : { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } علَّة عامة, تدل عل تعميم الحكم, إذ جميع الرجال والنساء فى كل زمان ومكان فى حاجة إلى ما هو أطهر للقلوب وأعف للنفوس.
ولذا قالبعض العلماء: قوله تعالى: { ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن } قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم, إذ لم يقل أحد من العقلاء, إن غير أزواج النبى لاحاجة بهن إلى أطهرية قلوبهن, وقلوب الرجال من الريبة منهن.
فالجملة الكريمة فيها الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب, حكم عام فى جميع النساء, وليس خاصًا بأمهات المؤمنين, وإن كان أصلاللفظ خاصًا بهن, لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه. [ تفسير أضواء البيان ج 6ص 46] وفضلاً عن كل ذلك, فإن الإمام القرطبى ـ الذى جعله سيادته مرجعًا له فى معظم مقاله ـ قد صرح بذلك عند تفسيره للآية ذاتها فقال :" المسألة التاسعة: فى هذه الآيةدليل على أن الله أذن فى مسألتهن من وراء حجاب, فى حاجة تعرض, أو مسألة يُستفتين فيها, ويدخل فى ذلك جميع النساء بالمعنى, وبما تضمنته أصول الشريعة" [ تفسيرالقرطبى ص 14, ص227, طبعة وزارة الثقافة 167] والخلاصة : أن تخصيص الحجاب فى هذه الآية الكريمة بأزواج النبى غير صحيح, ولا دليل عليه لا من النقل ولا من العقل.
3
ـ ثم قال سيادته: " ثانيًا : آية الخمار. أما آية الخمار فهى : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن } [ سورة النور 24: 31]. وسبب نزول هذه الآية, ومعنى قوله ـسبحانه ـ " وليضربن بخمرهن على جيوبهن" وأن معناه: يغطين رؤوسهن بالأخمرة ـ وهى المقانع ـ ويسدلنها من وراء الظهر, فأمرت الآية بستر العنق والصدر, بعد كل ذلك قالسيادته:
"
فعلة الحكم فى هذه الآية, هى تعديل كان قائمًا وقت نزولها, حيث كانت النساء يضعن أخمرة على رؤوسهن , ثم يسدلن الخمار وراء ظهورهن, فيبرز الصدر بذلك, ومن ثم قصدت الآية تغطية الصدر بدلاً من كشفه, دون أن تقصد إلى وضع زى بعينه ..".
4
ـ وتعليقى على هذا القول أن سيادته استشهد على ما يريده بالجملة الأخيرةمما ذكره من الآية الكريمة, وترك تفسير ما قبلها وما بعدها, مع أن محل الشاهد على الحجاب هو قوله ـ تعالى ـ قبل هذه الجملة مباشرة : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهرمنها }.
ومعنى الآية الكريمة إجمالاً: وقل ـ أيها الرسول الكريم ـ للمؤمنات ـأيضًا ـ بأن من الواجب عليهن, أن يغضضن أبصارهن عن النظر إلى ما لايحل لهن, وأن يحفظن فروجهن من كل ما نهى الله ـ تعالى ـ عنه, ولا يظهرن شيئًا من زينتهن سوى الوجه والكفين لغير أزواجهن أو محارمهن .. فحمل الشاهد على الحجاب ـ وعلى أن المرأةالبالغة لا يجوز لها شرعًا أن تظهر شيئًا من زينتها, سوى الوجه والكفين ـ لغيرزوجها أو محارمها ـ هو قوله ـ تعالى ـ : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها }.
و الإمام القرطبى الذى استشهد سيادته ببعض كلامه هنا, قد فسر هذه الآية فى ثلاث عشرة صفحة, وساق خلال خلال تفسيره لها ثلاثًا وعشرين مسألة, وقال فى المسألةالثالثة: " أمر الله النساء بألا يبدين زينتهن للناظرين, إلا ما استثناه من الناظرين فى باقية الآية, حذرًا من الافتنان, ثم استثنى ما يظهر من الزينة, واختلف الناس فى قدر ذلك .. فقال سعيد بن جبير وعطاء والأوزاعى : الوجه والكفان ...
ثمقال : ولما كان الغالب من الوجه والكفين ظهورهما عادة وعبادة , وذلك فى الصلاةوالحج, فيصلح أن يكون الإستثناء ـ فى قوله ـ تعالى: { إلا ما ظهر منها }, راجعًاإليهما, يدل ذلك على ما رواه أبو داود عن عائشة: " أن أسماء بنت أبى بكر دخلت علىرسول الله وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها رسول الله وقال لها: يا أسماء, إن المرأةإذا بلغت المحيض لا يرى منها إلا هذا, وأشار إلى وجهه وكفيه. فهذا أقوى فى جانب الاحتياط, ولمراعاة فساد الزمان, فلا تبدى المرأة من زينتها إلا ما ظهر من وجهها وكفيها". [ راجع تفسير القرطبى,ج 12 ص 226 وما بعدها ].
والخلاصة: أن قوله تعالى ـ :{ وليضربن بخمرهن على جيوبهن } هو بيان لكيفية إخفاء بعض مواضع الزينة بالنسبة للمرأة, بعد النهى عن إبدائها فى قوله ـ تعالى ـ قبل ذلك: { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها }. والمعنى: وعلى النساء المؤمنات ألا يظهرن شيئًا من زينتهن سوى الوجه والكفين. وعليهن كذلك أن يسترن رؤوسهن وأعناقهن وصدورهن بخمرهن, حتى لا يطلع أحد من الأجانب على شئ من ذلك, فالآية الكريمة بكاملها, من أصرح الآيات القرآنية فى الأمر بالتستر والاحتشام بالنسبة للنساء, وفى النهى عن إبداء شئ من زينتهن سوى الوجه والكفين.
5
ـ ثم قال سيادته: " أما آية الجلاليب فنصها كالآتى: { يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن جلاليبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يُؤذين } [ سورة الأحزاب 33: 59]".
وبعد أن ذكر سيادته سبب نزول الآية, ومن أنها نزلت لتضع فارقًا و تمييزًا بين الحرائر والإماء, قال: " فعلَّة الحكم فى هذه الآية أو القصد من إدناء الجلابيب ـ وهى الأثواب التى تستر جميع البدن أن تعرف الحرائر من الإماء والعفيفات من غير العفيفات, حتى لا يختلط الأمر بينهن ويُعرَفن, فلا تتعرض الحرائر للإيذاء وتنقطع الأطماع عنهن , ...".
ثم قال سيادته: " وإذا كانت القاعدة فى علم أصول الفقه أن الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا, فإن وُجِد الحكم وُجِدَت العلة, وإذا انتفت العلة انتفى ( أى رُفِع ) الحكم, إذ كانت القاعدة كذلك, فإن علة الحكم المذكور فى الآية ـ وهى التمييز بين الحرائر والإماء ـ قد انتفت لعدم وجود إماء " جوارى" فى العصر الحالى, وانتفاء ضرورة قيام تمييز بينهما .... ونتيجة لانتفاء علة الحكم فإن الحكم نفسه ينتفى ( أى يرتفع ) فلا يكون واجب التطبيق شرعًا".
6
ـ والذى أراه أن تفسير الآية الكريمة بهذه الصورة التى ذكرها سيادته, والنتائج التى استخلصها, بعيد عن الصواب, لأن الآية الكريمة واضحة فإنها تأمر النبى بأن يأمر أزواجه وبناته ونساء المؤمنين بالتزام الاحتشام والتستر فى جميع أحوالهن ..
وقوله سبحانه: { ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين } بيان للحكمة من الأمر بالتستر والاحتشام, أى ذلك التستر والاحتشام والإدناءعليهن من جلابيبهن الساترة لأجسامهن, يجعلهن أدنى وأقرب إلى أن يُعرَفن عن غيرهن من الإماء, فلا يؤذين من جهة من فى قلوبهم مرض.
وقد جرت العادة أن الإماء أو الخدم بطبيعتهن يكثر خروجهن وترددهن على الأسواق وغيرها, نظرًا لحاجتهن إلى ذلك بخلاف غيرهن من النساء.
ومع ذلك فالمحققون من المفسرين, يرون أن المراد بنساء المؤمنين هنا ما يشمل الحرائر والإماء, وأن الأمر بالتستر يشمل الجميع, فقد قال الإمام أبوحيان فى [ تفسيره البحر المحيط ج7 , ص 250]: " والظاهر أن قوله { ونساء المؤمنين } يشمل الحرائر والإماء, والفتنة, بالإماء أكثر, لكثرة تصرفهن, بخلاف الحرائر, فيحتاج إخراجهن ـ أى الإماء ـ من عموم النساء إلى دليل واضح, ولا دليل هنا ..".
وهذاالذى ذكره الإمام أبو حيان هنا من أن المراد بنساء المؤمنين , ما يشمل الحرائروالإماء, هو الذى تطمئن إليه النفس, ويرتاح له العقل, لأن التستر التام مطلوب لجميع النساء, لافرق فى ذلك بين امرأة وأخرى, سواء أكانت مخدومة أم خادمة.
والخلاصة: أن ما ذهب إليه سيادته من تفسير للآية, ومن استشهاد بعلم أصول الفقه, لانرى محلاًله, لأن الآية واضحة الدلالة فى أمر النبى بأن يأمر زوجاته وبناته وسائر نساءالمؤمنين, بالتستر والاحتشام, لأن ذلك أدعى لصيانتهن, من أن تمتد إليهن عيونالمنافقين بالسوء.
7
ـ ثم قال سيادته ـ بعد أن ذكر حديثين عن السيدة عائشة ـ :" ويُلاحظ على هذين الحديثين أنهما من أحاديث الآحاد لا الأحاديث المجمع عليها, أى المتواترة أو الأحاديث المشهورة, وفى التقدير الصحيح أن أحاديث الآحاد أحاديث للإسترشاد والاستئناس, لكنها لا تنشئ ولا تلغى حكمًا شرعيًا ..."
8
ـ وأقول: بلالتقدير الصحيح أن أحاديث الآحاد, حجة يجب اتباعها والعمل بها.
وفضيلة الأستاذالشيخ عبد الوهاب خلاف الذى استشهد به سيادته هنا, هو القائل فى كتابه [ علم أصول الفقه ص 43 ـ طبعة دار القلم بالكويت] : " وكل سُنَّة من أقسام السنن الثلاث: المتواترة, والمشهورة, وسنن الآحاد, حجة واجب اتباعها والعمل بها. أما المتواترة, فلأنها مقطوع بصدورها وورودها عن رسول الله, وأما المشهورة أو سنة الآحاد, بما توافر فى الرواة من العدالة وتمام الضبط والإتقان, ورجحان الظن كافٍ فى وجوب العمل ..".
وبناءٍ على كل ذلك يجب العمل بالحديثين اللذين وردا عن السيدة عائشة وأولهما تقول فيه :" قال رسول الله : لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر, إذاعركت ـ أى بلغت ـ أن تُظهر إلا وجهها ويديها هاهنا".
والثانى تقول فيه:" إناسماء بنت أبى بكر, دخلت على رسول الله وعليها ثياب رقاق, فقال لها: يا أسماء: ياأسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى فيها إلا هذا, وأشار إلى وجهه وكفيه".
والخلاصة: إن أحاديث الآحاد يجب اتباعها والعمل بها, ولا مجال هنالتفصيل القول فى ذلك.
9
ـ ثم قال سيادت: " ومهما يكن الرأى, فإن أسلوب القرآن ونهج الإسلام هو عدم الإكراه على تنفيذ أى حكم من أحكامه, حتى أحكام الحدود ( العقوبات) , وأنما يكون التنفيذ دائمًا بالقدوة الحسنة والنصيحة اللطيفة والتواصى المحمود ...".
ثم قال سيادته: " الحجاب ـ بالمفهوم الدارج حالاً ـ شعار سياسى وليس فرضًا دينيًا ورد على سبيل الجزم والقطع واليقين والدوام, فى القرآن الكريم أوفى السنة النبوية. لقد فرضته جماعات الإسلام السياسى ـ أصلاً ـ لتميز بعض السيدات والفتيات المنضويات تحت لوائهم عن غيرهن.."
10
ـ وأقول: نعم إن الإكراه والقسروتعدى الحدود ما قال به عاقل, ولكن الذى قال به العقلاء هو بيان الحكم الشرعى للأمور بيانًا واضحًا, خاليًا من التأويل السقيم, ومن التفسير المنحرف عن الحق. وإن الحجاب ـ بمعنى أن تستر المرأة المسلمة جميع ما أمر الله بستره من بدنها, سوى الوجهوالكفين ـ هو فرض دينى ورد على سبيل الجزم والقطع واليقين والدوام, فى القرآنالكريم, وفى السنة النبوية الشريفة, وليس شعارًا سياسيًا فرضته جماعات الإسلامالسياسى أو غبرها, وإنما الذى فرضه هو الله تعالى ورسوله محمد. وأنا شخصيًا لا أعرف شيئًا اسمه " الإسلام السياسى" , وإذا قال الله تعالى : { ولا يبدين من زينتهن إلاما ظهر منها }, فيجب على كل مسلم ومسلمة, يؤمنان بالله واليوم الآخر إيمانًا حقًاأن يقولا سمعنا وأطعنا.

وإذا قال النبى:" إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى فيها إلا هذا, وأشار إلى وجهه وكفيه". وجب على كل مسلم ومسلمة أن يقولاسمعنا وأطعنا امتثلاً لقوله سبحانه: { وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله  أمرًا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً }. [ سورة الأحزاب الآية 36 ].
وإن كل مسلمة بالغة لا تلتزم بستر ما أمر الله تعالى بستره مهما كان شأنها ومهما كانت صفتها هى آثمة وعاصية لله تعالى وأمرها بعد ذلك مفوض إليه ـ سبحانه ـ وحده ونسأله ـ عز وجل ـ أن يرزقنا جميعًا السداد والإخلاص فى القول والعمل.
محمد سيد طنطاوى
19/6/1994.



رد العشماوى على فضيله المفتى بأن الحجاب ليس اسلامياً
(3)
لا ليس الحجاب فريضة إسلامية



نُشرهذا الرد فى مجلة " روزاليوسف" المصرية العدد رقم 3446 بتاريخ 27/6/1994 عدا الفقرةالثانية.




أهلاً بالسجال مع فضيلة المفتى!



لقدتساجلنا مرة من قبل بشأن عقد إجارة الأماكن. ذلك أن فضيلته كتب مقالاً فى جريدةالأهرم ـ بتاريخ 10/4/1994 ـ ذكر فيه أن شريعة الإسلام لا تجيز امتداد عقود إجارةالأماكن لأكثر من ثمان أو عشر سنوات, كما لاتبيح تحديد الأجرة بواسطة المشرع. واقترح فضيلته تطبيقًا لحكم الإسلام ـ كما يراه ـ أن يصدر المشرع المصرى قانونًايمنح فيه مهلة للمستأجرين مدة خمس سنوات أو أكثر أو أقل ينتهى بعدها عقد الإيجارويكون على المستأجر أن يبحث عن مسكن جديد يتفق مع المؤجر على أجره بعيدًا عن تدخلالقانون. وقد استند فضيلته فى رأيه بتأقيت عقود الإيجار وعدم جواز امتدادها إلىالآية الكريمة: { قال إنى أريد أن أنكحك إحدى ابنتى هاتين على أى تأجرنى ( أى تعمللدى ) ثمان حجج ( أى سنين) فإن أتممت عشرًا فمن عندك } [ سورة القصص 28: 27 ]. وقدرددنا عليه بمقال ننفى فيه أن شريعة الإسلام تقضى بتأقيت عقود إجارة الأماكن وترفض تدخل المشرع لتحديد الأجرة عند اختلال العرض والطلب. وبينا أن الآية التى يعتمدعليها فضيلة المفتى وردت فى سياق قصة موسى فهى رواية وليست حكمًا, كما أنها تتعلق بعقد إجارة الأشخاص ( عقد العمل) لا عقد إجارة الأماكن, ثم أوضحنا الأصل فى حق المشرع ( ولى الأمر ) فى أن يتدخل بتسعير السلع والخدمات إذا ما اختل العرض والطلب حتى لايقضى على ملايين الأسر المستأجرة بالتشريد فى الطرقات.



ولم تنشر جريدة الأهرام ردنا هذا, ونشرته جريدة الأهالى فى 22/6/1994. كان ذلك هوالسجال الأول, وهذا هو السجال الثانى.



فلقد كنا نشرنا فى مجلة روزاليوسف مقالاً عن الحجاب فى الإسلام اعترض عليه فضيلته بمقال يقول " بل الحجاب فريضة إسلامة" وها هو الرد على مقال فضيلة المفتى.



أولاً: تعرضنا لمسألة الحجاب فى الإسلام بطريقة منهجية نظامية تعرض الآيات القرآنية التى تستخدم فى هذه المسألة ثم تطرقنا لحديث الرسول لكى ننتهى إلى وجهةالنظر.



وكانت الآية الأولى التى عرضناها هى: آية الحجاب [ سورةالأحزاب 53] وأوردنا الآية نصًا وفيها خطاب للمؤمنين { وإذا سألتموهن " أى نساءالنبى" متاعًا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن ... } ثم بينا أنلفظ الحجاب لغة ـ وعرفًا أيام التنزيل ـ هو الساتر والمرأة المحجوبة هى المرأةالمستورة بستر [ لسان العرب, المعجم الوسيط: مادة حجب ]. ومفاد ذلك أن آية الحجاب بصريح معنى لفظ الحجاب و وقفًا على أسباب التنزيل و طبقًا للسياق المستفاد من كلالآية. خاصة بنساء النبى تقصد وضعهن وراء ستار, فلا هُن يرين المؤمنين ولا المؤمنونيرونهن. هذا هو الثابت من تصرفات النبى مع زوجاته بعد نزول هذه الآية " كما سلف بيانه فى مقالنا الأول".



معنى ذلك أن الآية لا تتصل من قريب أو بعيد بوضع غطاء على رأس النساء المؤمنات. وتسمية هذا الغطاء ـ خطأ ـ باسم الحجاب ث متعليله بالآية المنوه عنها أمر ليس من الدين فى شئ, بل هو اعتساف فى تمس حكم شرعى لما لا حكم فيه وبآية لا تفيد ذلك أبدًا, وهذا المعنى الصحيح الصريح من نص الآيةالمذكورة وشروح المفسرين عليها ومقالنا السابق, هذا المعنى غاب عن رد فضيلة المفتى فخلط بين الحجاب الذى يعنى الساتر بالمعنى العلمى والحجاب الذى يطلق على غطاء الرأس فى القول الدارج ثم دعا إلى تعميم الحكم على كل نساء المؤمنين فى كل عصر ومصر. وبذلك وقع فيما يقوله غلاة المتطرفين من أن المرأة ـ متى بلغت ـ صارت عورة ينبغى سترها عن الرجال تمامًا, وستار العصر الحالى هو حجزها فى البيت " وهو ستائر من حجارة" ومنعها من رؤية الرجال أو رؤية الرجال لها, فإن خرجت من المنزل لضرورة قصوى ففى قناع من الرأس حتى القدم لايُبدى منها شيئًا ابدًا.



فهل هذا مايريده فضيلة المفتى ؟, وهل يتصور أن كلامه يبرر مقولات الغلاة والمتشددين, ويعطيهم السند الشرعى والحجة القانونية؟, وهل هذا ما يريده لنساء وفتيات مصر: أن يحتجبن " يُسترن" فى البيوت فلا يرين أحدًا من الرجال ولا يراهن أحد. لايخرجن ولا يعملن ولايشاركن فى الحياة العامة إطلاقًا!. وكيف تكون مصر آنئذ؟, وماذا يقول العالم عنا وعنالإسلام؟!.



أما استدلال فضيلته بما قال القرطبى ـ الذى استند إلى تفسيره ـ فى المسألة التاسعة تعليقًا على الآية المنوه عنها ( آية الحجاب ) فهو مايلى نصًا:" فى هذه الآية دليل على أن الله تعالى أذن فى مسألتهن من وراء حجاب فى حاجة تعرض أو مسألة يستفتى فيها ويدخل فى ذلك جميع النساء بالمعنى, وبما تصمنته أصول الشريعة من أن المرأة كلها عورة بدنها وصوتها .. فلا يجوز كشف ذلك إلا لحاجة كالشهادة عليها أو داء يكون ببدنها أو سؤالها عما يعرض وتعين عندها " [ تفسيرالقرطبى ـ طبعة دار الشعب ـ ص 5309 ], فرأى القرطبى فى هذه المسألة هو رأى أهل عصره, من أن المرأة كلها عورة, بدنها وصوتها, وهو قول غلاة المتطرفين فى العصرالحالى, فهل يرى فضيلة المفتى ذات الرأى أم أن لنا أن نأخذ من التفسير والكتب مايناسب عصرنا ونجتهد, كما اجتهد فضيلته فى مسألة عقد إجارة الأماكن مثلاً, حتى نصلإلى الحكم المناسب للعصر.



ثانيًا: ثم ذكرنا فى مقالنا السابق بعدذلك نص آية الخمار: { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن } [ سورة النور 24: 31]. وذكرنا أن النساء كن فى زمان النبى يغطين رؤوسهن بالأخمرة ( المقانع ) ويسدلنها من وراءالظهر فيبقى النحر ( أعلى الصدر) والعنق لاستر لهما, فأمرت الآية بتعديل هذه العادةولىّ ( أى إسدال ) المؤمنات للخمار ( الذى اعتدن لبسه ) على الجيوب, حتى لايبرزالصدر ( وهو عورة ).



فهذه الآية ـ كما يظهر بوضوح ـ تعديل فى أسلوبملبس كان شائعًا, بقصد تغطية الصدر وعدم إبرازه, ولا تتصل من أى جانب بوضع غطاء علىالرأس. ومن المعروف أن الملبس من مسائل العرف والعادات وأنه ليس من مسائل الفروضوالعبادات. وكل ما هو مطلوب شرعًا ودينًا أن تحتشم المرأة ( بل والرجل) وأن يتعففكُلُّ فلا يظهر عورة وهو أمر يقره العقل السليم والخلقالمستقيم.



ويقول فضيلة المفتى أن هذا الشق من الآية ( الخمار ) ليس هو الدليل على الحجاب ( وبذلك فقد اتفق معنا ) وأن " محل الشاهد على الحجاب هو قولهتعالى: { ... يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها }. ثم أضاف فضيلته إن معنى ذلك ألا يبدى النساء شيئًا من زينتهن سوى الوجه والكفين لغير أزواجهن أو محارمهن ... ثم أوردفضيلته رأى بعض الصحابة والفقهاء ـ كما جاء فى تفسير القرطبى ـ من أن المقصود بالزينة الوجه والكفان.



والواضح من الآية السالفة أن على المرأةالمؤمنة ألا تبدى زينتها إلا ما ظهر منها, أى أن لها حق إبداء ( كشف ) ما ظهر من الزينة. وقد اختلف الفقهاء فى بيان " ما ظهر من الزينة" وهو اختلاف بين فقهاء, أى آراء بشر قالوا بها فى ظروف عصورهم وأحوال أمصارهم ـ وليست حكمًا واضحًا محددًا قاطعًا , من ذلك أن بعض الفقهاء قالوا إن ما يظهر من الزينة هو كحل العينين وخضاب اليدين ( بالحناء ) والخواتم.



فهل يقول عاقل ـ فى العصر الحالى ـ إنللمرأة أن تكشف ما ظهر من زينتها بتكحيل العينين ووضح الخضاب والخواتم ووضع الأصباغ والمساحيق " خضاب العصر الحالى" ثم تكون مع هذه الفتنة البالغة آثمة إن لم تضع غطاءعلى الرأس. ومن الذى يقول إن الشعر وحده هو العورة أو الزينة التى لايجوز إبداؤهامع جواز وضع الكحل والخضاب والأصباغ والمساحيق؟ هل الفتنة فى الشعر وحده؟ وماذا عن الصوت, وهو فى رأى البعض عورة؟ وماذا عن الوجه وهو فى رأى آخرين عورة؟ وماذا عن القوام وهو فى رأى الغير عورة؟.



إن القول بأن شعر المرأة عورة " لأنه تاجها" يستتبع ـ باللزوم العقلى والتسلسل المنطقى ـ اعتبار الوجه " وهو عرشها" عورة, والصوت " وهو صولجانها" عورة, والجسد " وهو مملكتها" عورة, وكل المرأة عورة, وهو قول إن قيل فى العصور الماضية لظروف الزمان والمكان , فإن من يقول به اليوم هم غلاة المتطرفين وبغاة المتشددين, فهل يُدرك فضيلة المفتى نتائج مقاله وهل يرى رأى هؤلاء البغاة وأولئك الغلاة من أن المرأة عورة لاينبغى أن يراها الرجل, ولا يجوز أن تعمل, ولا يصح أن تختلط بالرجال فى المحال وفى الطرقات وفى الأندية ووسائل المواصلات. وما نتيجة ذلك كله إلا ردة جاهلية وانحصار فى الماض وية وعدم إدراك روح العصر وأسلوب الزمان الذى أصبح يرى أن الحجاب الحقيقى فى نفس المرأة العفيفة وضميرالفتاة الصالحة تحجب نفسها عن الشهوات وتنأى بذاتها عن مواطن الشبهات وتلتزم العفة والاحتشام؟!.



ثالثًا: ثم أشرنا فى مقالنا السابق إلى آية الجلابيب: { يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن جلاليبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يُؤذين } [ سورة الأحزاب 33: 59]. وذكرنا أن سبب نزول هذه الآية هوتمييز المؤمنات من الجوارى حتى يعرفهن المؤمنون فلا يتعرضوا لهن بالإيذاء بالقول على مظنة أنهن جوار ( على ما كان يحدث ذلك العصر ).



وقد وافقنا فضيلة المفتى لى رأينا ( الثابت فى المدونات الإسلامية ) غير أنه أضاف رأيًا لفقيه هو أبو حيان فى تفسيره مؤداه أن ظاهر قول الآية { ونساء المؤمنين } يشمل الحرائروالإماء ( الجوارى ) ثم أضاف فضيلة المفتى أن الآية واضحة الدلالة فى " أمر النبى بأن يأمر زوجاته وبناته وسائر نساء المسلمين, بالتستر والاحتشام ", ولسنا ندرى ماوجه الرد علينا فى ذلك وقد ذكرنا ـ فى مقالنا السابق ـ نصًا ( أما الحكم الدائم فهوالاحتشام وعدم التبرج ).



إن فضيلة المفتى لم يرد على لب ما ذكرناهمن أن هذه الآية لا تفيد معنى وضع غطاء على الرأس يُسمى خطأ بالحجاب, وما للجلابيبوما لغطاء الرأس؟ ما الصلة بين إدناء الجلابيب ووضع غطاء علىالرأس؟.



إن هذه الآية لا تتكلم عن الحجاب أبدًا, فآية الحجاب هى التى أوردناها نصًا من قبل [ سورة الأحزاب 33 : 53] ولو كانت آية الجلابيب تعنى الحجاب أو الخمار لكان معنى ذلك أن الآيتين الأخريين لا تتصلان بالحجاب بشئ أو أن هناك وفرة تشريعية بتكرار نفس الحكم أكثر من مرة, مع أن المشرع العادى يعمد إلى الاقتصاد ـ لحسن السياسة التشريعية ـ فما البال بالشارع الأعظم وهو منزه عن الحشووالتكرار؟.



إن الآية تفيد إدناء الجلابيب لتمييز المؤمنات من الإماء فى عصر التنزيل, والقول الذى ساقه فضيلة المفتى فى التسوية بين المؤمنات والجوارى [ نقلاً عن تفسير المحيط الوسيط ] قوله لفقيه فى عصر كانت فيه جوارٍ, أما فى العصرالحالى حيث لا جوارى إطلاقًا فإن الحكم العام بالتعفف والاحتشام يكون هو الحكم العام ـ كما ذكرنا ـ وهو غاية ما يدعو إليه العقل والخلق وحسنالآداب.



رابعًا: بعد أن انتهينا من عدم وجود حكم فى القرآن الكريم على شرعية وضع المرأة غطاء على الرأس, يسمى خطأ بالحجاب وتعتبره جماعات الإسلامالسياسى فريضة إسلامية وشعارًا إسلاميًا, اتجهنا إلى حديث النبى فقد روى عن عائشةعن النبى أنه قال : { لايحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر إذا عركت ( بلغت ) أن تظهر إلا وجهها ويديها إلى هاهنا } وقبض على نصف الذراع. ورُوى عن أبى داود عن عائشة أن أسماء بنت أبى بكر دخلت على رسول الله فقال لها :{ يا أسماء إن المرأة إذابلغت المحيض لا يصلح أن يُرى فيها إلا هذا وهذا, وأشار إلى وجهه وكفيه}. [ سنن أبى داود ـ كتاب رقم 31 بند 31 : يُراجع دكتور فنسنك : مفتاح كنوز السنة, نقله إلى العربية محمد فؤاد عبد الباقى, نشر دار إحياء التراث العربى ببيروت ].



ذلك هو الحديث الوحيد الذى روى عن النبى بروايتين, كلتاهما روايةآحاد, فما هو حديث الآحاد؟ وما حكم العمل به؟.



يرى الفقهاء ـ مماجمعناه عنهم من صحائف كتبهم ـ أن الأحاديث المروية عن النبى أحديث متواترة: وهى التى تواترت الجموع على نقلها عن النبى وأظهرها السنة العملية فى الصلاة وغيرها, وأحاديث مشهورة ( أو مستفيضة ) وقد رواها عن النبى صحابى أو جمع لم يبلغ حد التواتر ثم رويت بعد ذلك بجمع بلغ حد التواتر وأحديث آحاد وهى التى رواها واحد عن واحد عن واحد, وهكذا وأغلب السنة ( الأحاديث) يدخل فى هذا النوع ( أحاديث الآحاد ).



والرأى أنه لايجب الأخذ بسنة الآحاد فى الأمور الاعتقادية التى تنبنى على القطع ولا تنبنى على الظن الذى لايُغنى عن الحق شيئًا. أما فى الأحكامالعملية فيجرى اتباع ما جاء به, مع أنه ظنى الدلالة, لأن الصحابة والتابعين ومن يلونهم عملوا به [ يُراجع زكريا البرى ـ أصول الفقه ـ ص 200 وما بعدها, عباس متولىـ أصول الفقه ـ ص 84 وما بعدها, عبد الوهاب خلاف ـ علم أصول الفقه وتاريخ التشريعالإسلامى ـ ص 30 وما بعدها, أحمد أبو الفتح ـ المختارات الفتحية ـ ص 110 وما بعدها, أحمد إبراهيم ـ علم أصول الفقه ـ ص 19 وما بعدها ].



هذا مجمل مايُستفاد من أقوال الفقهاء بشأن العمل بأحاديث الآحاد, إذ لايؤخذ بها فى الأمورالعقائدية, ويؤخذ بها فى المسائل العملية أى مسائل الحياة الجارية التى لاهى من العقيدة ولا هى من الشريعة, على تقدير أن الجماعة اتبعتها, ويرى آخرون أن الحدود لاتثبت بأحاديث الآحاد [ محمود شلتوت ـ الإسلام عقيدة وشريعة ـ الطبعة الرابعة عشرة ـص 281 ].



و وجهة نظر الفقهاء فى العمل بأحاديث الآحاد ـ وهى أغلب الأحاديث المروية عن النبى ـ لأن الصحابة والتابعين ومن يلونهم عملوا بها, قلب الأوضاع, أشبه بوضع العربة قبل الحصان. فالأصل ألا يعمل الصحابة والتابعون ومن يلونهم بحديث الآحاد إذا كان حديثًا ظنيًا, فيصبح عملهم حجة على من بعدهم, بل أن يتحققوا من ضرورة كون الحديث قطعيًا فيعملوا به بعد هذا التحقق, وتكون قطعية الحديث سببًا لعملهم به. وليس عملهم به موجبًا للأخذ بالحديث.



وكنا فى مقالنا السابق قد ذكرنا أن الحديث المنوه عنه من أحاديث الآحاد التى يسترشد ويستأنسبها, أى أنها ليست فرضًا دينيًا, والفرض الدينى هو ما جاء فى حكم صريح قطعى لاتشابه فيه فى القرآن الكريم أو فى السنة المتواترة, أما أحاديث الآحاد ـ خاصة تلك التى لم ترد فى كل صحاح ومسانيد الحديث ـ فهى ليست فروضًا دينية بحال, والذى يقول بغير ذلك يفرض من عنده ما لم يفرضه الله.



على أننا أثرنا بالنسبة للأحاديث التى تتصل بالمعاملات أو الأمور العملية كما يقول الفقهاء مسألة وقتيةالأحكام, أى تعليق الحكم بعد فترة معينة لكونه حكمًا وقتيًا يتصل بزمان معين ومكان محدد, وأشرنا إلى مراجع عدة, وفي ما يناسب المجال, فإننا نرجو من فضيلة المفتى إبداءرأيه فى ذلك وسف نقدم إليه مثلاً محددًا, فالقرآن الكريم وإن توسع فى أبواب تحريرالرقيق لم يلغ الرق ولا التسرى بالجوارى إطلاقًا [ وورد التسرى بالجوارى فى 25موضعًا ], وقد ألغى المشرع الرق بالدكريت و الصادر فى 4/8/1884 والأمر العالى الصادرفى 21/1/1896, على اعتبار أن الرق لم بعد يساير روح العصر, وتبعته فى ذلك كل الدول العربية والإسلامية ( حتى الستينات ), فهل يجوز تطبيق الرق والتسرى بالجوارى الآن؟وما حكم الدول التى ألغت الرق فعطلت نصوصًا فى القرآن الكريم بعضها يتصل بالعبادات؟وهل هى دول عصت الله ورسوله فيتعين الخروج عليها وعل أحكامهاـ وهو منهم ـ بالقوةوالعنف؟ , وما رأيه فيمن يقتنى جارية فى الأيام الحالية يتسرى بها, هل هو آثم بحكم الشرع أم مخالف لحكم القانون؟ وإذا ساغ تعليق أحكام قطعية من أحكام القرآن الكريم للصالح العام, أفلا يجوز تعليق حكم متشابه فى حديث آحاد ( لم تروه كل كتب الأحاديث: المسانيد والصحاح ) إذا استبدلنا به الأصل العام من الاحتشام والتعفف والتطهر؟!.



خامسًا: ينهى فضيلة المفتى رده علينا بقوله: " وإن كل مسلمة بالغةلا تلتزم بستر ما أمر الله تعالى بستره ( والمفهوم من السياق أنه الشعر ) مهما كانشأنها ومهما كانت صفتها هى آثمة وعاصية ", وهو قول قاسٍ شديد لم نعهد صدوره منفضيلة المفتى الذى عرف بيننا بالوداعة والسماحة, ولعله فرط منه فى حماس الرد علينا والرغبة فى معارضتنا !.



إن هذا القول الذى يصف من لا تضع على رأسهاغطاء ـ يُسمى خطأ بالحجاب ـ مع التزامها الحشمة والعفة قول يستطيل إلى فضليات السيدات وكرائم النساء ممن يتصدين للحياة العامة ويتطوعن لخدمة المجتمع , فى مصروفى البلاد العربية والإسلامية, وبعضهن رئيسة للوزراء أو وزيرة, أو مديرة لعمل, أورئيسة لفرع أو غير ذلك من أعمال ومهن قيادية, هذا فضلاً عن أن هذا القول يقتربكثيرًا من اتجاه الجماعات المتطرفة التى ترمى بالكفر أى مخالف فى الرأى أو مغاير فى التصرف, والرمى بعصيان أمر الله أدخل فى باب الكفر بالله أو بأوامره : { وعصى آدم ربه فغوى } [ سورة طه 20 : 121 ].



هل يُقدِّر فضيلة المفتى أن ماجاء فى قوله ذاك يمكن أن يُعطى سندًا وذريعة لمن يرى ضرورة تغيير المنكر باليد لإيذاء من لا تضع غطاء على رأسها " وإن كانت غير مسلمة " بإلقاء ماء النار على وجهها " كما حدث" أو بإيذائها ماديًا أو بالإساءة إليها بالقول والإهانة ( كما يحدث دائمًا ) ؟!.



إن ما صدر عن فضيلة المفتى صدر عنه بحكم شخصه ولم يصدر بوضع منصبه, لأنه ليس من شأن هذا المنصب أن يرمى بالعصيان من أمر الله, الفضليات والكريمات والعفيفات, ويرمى بالخبث أزواجهن والمجتمع, لأنهم خالفوا له رأيًا وضح منكل ما سبق أنه محل نظر ( ولا نقول موضع خطأ ) كبير..



خلاصة القول إنما يسمى بالحجاب حالاً ـ وهو وضع غطاء على الرأس ـ غالبًا مع وضع المساحيق والأصباغ ليس فرضًا دينيًا, لكنه عادة إجتماعية, لايدعو الأخذ بها أو الكف عنها إلى إيمانأو تكفير, ما دام الأصل القائم هو الاحتشام والعفة.



وفقنا الله إلى الصحيح من الأمر, وأيدنا على الشجاعة فى إبداء الرأى, وساعدنا على الاعتراف بالخطأ إن ظهر وجه الصواب.
 
 
فتوى الأزهر عن الحجاب غيرشرعية
نشر هذا البحث فى مجلة روزاليوسف المصرية العدد 3454 بتاريخ 22/8/1994.


يبدو أن قدرنا أن نعاود الكر ونعيد, ما دام غيرنا يكررالكلام ولا يزيد!.

فلقد كنا قد نشرنا مقالاً عن الحجاب فى الإسلام " بمجلة روزاليوسف العدد 3444 بتاريخ 13/6/1994 فرد علينا فضيلة مفتى الجمهورية, ونشر رد فضيلته وردنا على الرد بمجلة روزاليوسف العدد رقم 3446 بتاريخ 27/6/1994, وكنا نرجوأن يستمر الحوار حتى يصل الجميع إلى قرار صحيح بشأن مسألة حساسة كمسألة غطاء الشعرـ التى يسمونها خطأ الحجاب ـ والتى يلخص البعض كل الإسلام فيها وحدها ويجعل منها فريضة الفرائض, أهم من أى فريضة أخرى وأبدى من أى واجب آخر. غير أن فضيلة المفتى لميؤثر الحوار المتصل وإنما فضل الحديث المنفرد وبدأ يزج فى كتاباته بجريدة الأهرام عن أدب الحوار فى الإسلام, رأيه الذى رددنا عليه بشأن الحجاب ( وإن بتعديل بسيط ) وهو مطمئن إلى أن ردنا عليه لن ينشر, وبذلك يستأثر بالحديث وينفرد بالرأى.
ثم طلعت علينا لجنة تُسمى " لجنة الفتوى بالأزهر الشريف" بما قالت إنه فتوى عن " الحجاب" بمناسبة قرار السيد وزير التربية والتعليم رقم 113 لسنة 1994 بشأن توحيدالزى المدرسى, وهو القرار الذى رأت الفتوى المذكورة أنه يمس أمر الحجاب. و نظرًالأن هذه الفتوى هى أول تعرض عام من لجنة الفتوى بالأزهر لموضوع عام, ولأنها رددت الحجج التقليدية مع إضافة خفيفة, فإننا نرى ضرورة الرد عليها. وتفنيد ما جاء فيها, حتى لو اضطررنا إلى تكرار الحديث, مادام غيرنا لا يمل من تكرار القول, فلا يأتى بجديد ولا يرد على الحجج المعارضة لقوله, أو يعنى بالأسانيد المفندة لرأيه.
وهذاهو الرد ...

(
أولاً ) : ينبغى لسلامة البحث وصحة الاستدلال أن يتحدد ابتداء ـ منهج تفسير آيات القرآن الكريم. فالمنهج التقليدى ( ويوافقه فى ذلك منهج المتطرفين و الإرهابيين ) يتأدى فى أن آيات القرآن الكريم إنما تفسر على عموم ألفاظها, أى وفقًا لمطلق ألفاظ الآية التى تُفسر دون نظر إلى الظروف التاريخية التى أحاطت بنزول الآية, وبغير اعتداد بأسباب تنزيلها.
أما المنهج الأصولى الصحيح فهويستقيم على أن آيات القرآن لا تُفسر على عموم ألفاظها, ولكن على خصوص أسباب التنزيل, فللإحاطة بالمعنى الصحيح الذى أريد من الآية ينبغى معرفة الظروف التاريخيةالتى تداخلت معها وأسباب التنزيل التى أدت إلى وجودها.
والمنهج التقليدى ـ وهوذات منهج المتطرفين والإرهابيين ـ يؤدى إلى تفسير آيات القرآن الكريم على غير ماأراد التنزيل, وإعمالها فى غير الأغراض التى تنزلت بسببها, ويبدو ذلك واضحًا فىالآية الكريمة : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }[ سورة المائدة 5: 44 ], فهذه الآية, وفقًا لرأى أصحاب المنهج السالف, تُفسر على عموم ألفاظها, فتعنى أن كل مجتمع وكل نظام حكم لا يحكم بما أنزل الله ( وفقًا لتصورهم للتنزيل وتفسيرهم له ) يُعتبر مجتمعًا كافرًا, ونظامًا كافرًا, وبذلك يتعين شرعًا مقاومتهوالخروج عليه وتقويضه. وهكذا ينتهى المنهج التقليدى إلى التوافق مع الإتجاه المتطرفوالإرهابى فى نتيجة اعتبار المجتمعات والحكومات كافرة, وإن كان التقليديون لاعتبارات سياسية ـ يقفون بتفسيرهم عند حد معين, بينما يتابع المتطرفون والإرهابيون النتائج حتى آخرها, فيصلون إلى ما يسكت عنه التقليديون من ضرورة تقويضكل المجتماعات وإسقاط كل الحكومات.
أما المنهج السديد, الذى يفسر الآيات وفقًا لظروفها التاريخية وتبعًا لأسباب تنزيلها, فإنه يرى أن الآية المنوه عنها نزلت فى يهود المدينة فى واقعة معينة, وطلبوا فيها من النبى أن يقضى بحكم الله فى التوراةعلى يهوديين كانا قد ارتكبا فعل الزنى, ثم أخفى اليهود " أى أنكروا" عن النبى حكمالله فى التوراة بمعاقبة الزانى بالرجم. فالآية من ثم تتصل بواقعة معينة, وتشير إلى يهود المدينة, ولا تعنى المجتماعات أو الحكومات, كما لا يجوز إطلاقها على المسلمين مهما كانت أخطاؤهم.
ومن هذا يتبين بوضوح أن المنهج المتبع فى تفسير آية قرآنية قد يجنح إلى خطأ شديد, ويتبنى تفسيرًا لم يرده التنزيل, كما أنه ـ من جانب آخر ـ لواُتُبع سبيل التفسير السليم يصل إلى الحقيقة ويعلن التفسير الذى أراده الشارع الأعظم.
(
ثانيًا ): الفتوى التى صدرت عن اللجنة المسماة ـ بلجنة الفتوى بالأزهرـ دون تاريخ ـ والمنشورة فى مجلة الأزهر ـ الجزء الثالث ـ السنة السابعة والستون ربيع الأول 1415 هـ , أغسطس / سبتمبر 1994 م ـ صفحات 275 – 279, هذه الفتوى قالت نصًا: " إن نصوص القرآن الكريم ونصوص السنة النبوية تقتضى بأن المسلمة متى بلغت المحيض ... وكانت خارج بيتها لا يجوز لها كشف شئ من جسمها سوى الوجه والكفين ... وأن يكون غطاء الرأس ساترًا بحيث لا يظهر سوى الوجه بحده المعروف طولاً وعرضًا, وأن يمتد غطاء الرأس بحيث يُغطى العنق, والرقبة وفتحة الصدر مما يلى الرقبة, وهوالمقصود بالخمار الوارد فى كتاب الله عز وجل.

وهذا ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

أما الكتاب ففى سورة النور قوله تعالى : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } [ سورة النور 24: 31], وفى سورة الأحزاب قول اللهتعالى : { يا أيها النبى قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن جلاليبهن ذلك أدنى أن يُعرفن فلا يُؤذين } [ سورة الأحزاب 33: 59].
(
أ ) وأول ما يُلاحظ على هذا الرأى أنه لم يبين المنهج الذى اتبعه فى تفسير آيتى القرآن سالفتى البيان, وإن كان الواضح تمامًا أنه ركن إلى المنهج التقليدى الذى يفسر آيات القرآن على عموم ألفاظها, وبهذا يكون قد أغفل سبب التنزيل, فوقع فى الخلط والتعميم. ذلك أن سبب تنزيل الآية الأولى " آية الخمار" أن النساء على عهد النبى كن يضعن مقانع على رؤوسهن تتدلى منها الأخمرة ( الطرح ) فيسدلنها وراء ظهورهن وبذلك يبدو الصدرعاريًا, ومن ثم فقد أُمرن أن يضربن ـ أى يسدلن ـ خمرهن ( التى كن يلبسنها أصلاً ) على صدورهن لإخفاء الصدر, وهو عورة. فالآية لم تأمر بلبس الخمار, ولكن أمرت بتغطيةالصدر. أما سبب تنزيل الآية الثانية " آية الجلابيب " فهو أنه لم تكن فى بيوت المؤمنين ـ فى المدينة ـ دورات مياه, فكانت النساء يخرجن إلى الخلاء بعيدًا عن المدينة لقضاء حاجاتهن وكان بعض الرجال يتعقبونهن ويؤذونهن بالقول, أى يتعرضون لهن بالقول الجارح, على مظنة أنهن جوارٍ أو غير عفيفات, ولما شكت النساء إلى النبى نزلت آية الجلابيب, تقصد من إدناء الجلابيب إلى أسفل أن يتميز المؤمنات من غيرهن فلايؤذين بالقول. فالآية بذلك لا تتصل بوضع غطاء الرأس " وما لإدناء الجلابيب ومالتغطية الشعر؟!" ولا تأمر بإدناء ( أى إرسال ) الجلابيب إطلاقًا, ولكن لسبب خاص هوأن تميز المؤمنات عن غيرهن, فإذا زال سبب هذا التمييز زالت الضرورة لإدناءالجلابيب, وهو الأمر الواقع فى العصر الحالى.
(
ب ) وقد ركن الرأى إلى جزء منالآية هو :{ وليضربن بخمورهن على جيوبهن } وعَدّ ذلك أساس وضع ما يُسمى بالحجاب, ولم يتعرض للشق الآخر: { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } مع أن فضيلة المفتى فى رده علينا استند إلى هذا الشق الأخير, وقال إنه سبب فرض ما يُسمى بالحجاب, وأنكر أنيكون هذا الفرض بسبب جزء الآية :{ وليضربن بخمورهن على جيوبهن }, وبذلك أصبحنا أمام رأيين, احدهن للمفتى والآخر للجنة الفتوى بالأزهر, كل يقول قولاً مرسلاً دون أن يعرض للرأى الآخر.
(
جـ ) وتزيد الرأى فاعتبر أن الخمار, المقصود من الآية, هو " غطاء الرأس ساترًا بحيث لا يظهر سوى الوجه .. وأن يمتد غطاء الرأس بحيث يغطى العنق, والرقبة, وفتحة الصدر .." وهذا تَزَيُّد لا أساس له, أو تفسير للآية بالمطلوب , وليس طلبًا بما هو فى الآية. فلفظ الخمار يعنى غطاء الرأس فقط, ولا يعنى سوى ذلك [ لسان العرب: مادة خمر: صفحة 157, طبعة دار صادر ببيروت: الخمار هو ما تغطى بهالمرأة رأسها: أى الطرحة : المعجم الوسيط ـ مادة طرحة ].
(
د ) لم يتعرض رأى اللجنة لما يقرره الفقهء من حق المرأة فى أن تُبدى زينتها الظاهرة بأن تكتحل وتضع الأصباغ والمساحيق وتلبس الأقراط والأساور, وهو ما يعنى أنه ليس للجنة رأى خلاف الفقهاء, ومفاد هذا أنه يحوز للمرأة أن تفعل كل ذلك ولا تعتبر أن ثم خطأ قد وقعمنها أو أنها كشفت عورة أو تظهر فتنة, أما الخطأ كل الخطأ, والمحظور الذى ما بعده محظور, فهو ألا تغطى شعر رأسها بخمار.
(
ثالثًا ) : ولبيان ما يجوز للمرأة أن تظهر من جسدها ـ وهو الوجه والكفان ـ اعتمدت اللجنة فى ذلك على حديث قالت فيه نصًا : { ما رواه أبو داود عن عائشة ـ رضى الله عنها ـ أن أسماء بنت أبى بكر دخلت علىالنبى (ص) فى ثياب رقاق, تشف عن جسدها, فأعرض عنها النبى (ص) وقال " يا أسماء إنالمرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يُرى منها إلا هذا وهذا, وأشار إلى وجهه وكفيه }.
(
أ ) وهذا الحديث لم يُخرجه البخارى فى صحيحه " أصح كتب الحديث " ولا أخرجهمسلم ولا ورد فى مسند ابن حنبل, وإنما جاء فى سنن أبى داود فقط " وهو كتاب واحد من ستة كتب للحديث لا تعتبر أصحها".
(
ب ) والحديث لم تروه عائشة وإنما رواه عنها شخص يُدعى خالد بن دريك, وقد قال أبو داود عن الحديث أنه مرسل, أى لم يثبت صدوره عن عائشة إلا عن طريق هذا الراوى الذى لم يعاصرها قط.
(
جـ ) والحديث من أحاديثالآحاد التى لن ترد بطريق التواتر ولا بصورة مشهورة, وإنما أخرجه أبو داود " فىأوائل القرن الثالث الهجرى" رواية عن واحد بعد واحد بعد واحد , حتى وصل إلى خالد بندريك الذى روى عن عائشة مع أنه لم يعاصرها ولم يرها قط.
(
د ) ولو أن الحديث قدصح للمسلمين فى عصر النبوة لا تبعوه جميعًا ولا تبعه من تلاهم ثم من تلاهم, وهكذاحتى يصل إلينا سُنة متواترة بالفعل وليس مجرد حديث آحاد مرسل. وإذا كان بعض الصحابة أو التابعين قد عمل بمضمون هذا الحديث فإنما وقع ذلك منهم كعادة اجتماعية وليسا
تباعًا لسُنة دينية.
(
هـ ) وأحاديث الآحاد يُعمل بها فى شئون الحياةالجارية ولا يُعمل بها فى المسائل الدينية, أى أنه لاتقوم بها فروض أو واجباتدينية, وإنما تصلح للاستئناس والاسترشاد لاغير, كما أنه لاتُقام بها حدود.
(
رابعًا ) : وتسوق اللجنة فى التدليل على رأيها حديثًا عن ابن عباس حيث قال: { إنالنبى ( ص) أردف خلفه ( على دابته ) الفضل بن العباس ـ يوم النحر ـ وكان رجلاً حسن الشعر, أبيض, وسيمًا. فجاءت امرأة من قبيلة خثعم تستفتى الرسول ( ص ) فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه, فجعل رسول الله ( ص ) يصرف وجه الفضل إلى الشق ( الإتجاه ) الآخر. فعاد الفضل ينظر إليها ثلاث مرات, والرسول ( ص ) يحول وجهه. فقال العباس لرسول الله ( ص ) لِمَ لويت عنق ابن عمك؟, فقال صلعم : رأيت شابًا وشابة فلم آمنالشيطان عليهما }, ثم أضافت اللجنة: زكل من هذين الحديثين ( هذا الحديث والحديثالسابق ) واضح الدلالة على جواز كشف الوجه والكفين من المرأة, وقد أجمع المسلمونعلى هذه الأحكام منذ عهد رسول الله ( ص ) إلى اليوم, وأصبحت معلومة من الدين بالضرورة !.
ويُؤخذ على هذا القول:

(
أ ) أن الاستدلال بهذا الحديث فىبحث يهدف إلى إضفاء الشرعية على تغطية المرأة رأسها ـ بما يسمى خطأ بالحجاب ـاستدلال فى غير محله, أو هو بتعبير المناطقة و الأصوليين استدلال فاسد, إذ ما الذى يقطع بأن المرأة ـ من قبيلة خثعم ـ لم تكن سافرة لاتضع على رأسها غطاء, بذلك يكونالحديث دليلاً على عكس ما تريد اللجنة أن تثبته, غاية ما فى الأمر أن الحديث دلالة واضحة على أن وجه المرأة قد يكون فتنة للرجل, كما قد يكون وجه الرجل فتنة للمرأة, فإذا ما أُريد بالحجاب أن يزيل هذه الفتنة من المرأة, فهو لن يفعل إلا إذا غطى كلالوجه, وهذه حجة أصحاب النقاب, يقابل ذلك أنه إذا تعين وضع النقاب على وجه المرأة لمنع فتنة الرجال, فإنه يتعين كذلك ـ من باب المساواة ـ ولتحقيق ذات الغرض ـ أن يوضع النقاب على وجه الرجل حتى لا تفتتن به بعض النساء.
(
ب ) وفى مقال منشوربجريدة الأهرام بتاريخ 7/8/1994 قال فضيلة المفتى :" وجمهور الفقهاء على المقصود بما ظهر منها ( ما ظهر من الزينة ) : الوجه واليدان". وبهذا لم يركن فضيلة المفتىإلى أحاديث للنبى ( ص ) ليثبت أن ما يظهر من المرأة البالغة هو الوجه واليدان فقط. وخالف بذلك رأى اللجنة, بل عدل فى رأيه السابق. فإذا كان الرأى فيما ينبغى أن يظهرمن المرأة ولا يعتبر عورة مردودًا إلى الفقهاء, فهو رأى بشر وليس أمرًا من الدين أوالشريعة. وما دام الناس أماك آراء بشرية فمن حقهم تعديلها وفق ما يرون, دون أن يُعد ذلك خروجًا من الدين أو جنوحًا عن الشريعة ما داموا يلتزمون الحشمة والعفة.
وإذا كان الفقهاء قد رأوا فى السابق أن شعر المرأة عورة لابد من تغطيتها, فإنه يمكن للمسلمين فى العصر الحالى ألا يعتبروه عورة ـ ما دام لايوجد نص فى القرآن أوالسنة قطعى بذلك ـ وأن يروا العفة فى ذات المرأة الطاهرة وضمير الفتاة النقى وقلب الأنثى السليم, لا فى مجرد وضع زى أو لبس رداء ثم تجاهل الأعراف والتقاليد والأخلاق.
(
جـ ) وتشير اللجنة إلى أن المسلمين قد أجمعوا على هذه الأحكام ( الحجاب يمعنى تغطية الرأس وبالمعنى الذى فصلته اللجنة من عندها ) منذ عهد الرسول ( ص ) إلى اليوم, والاستناد إلى الإجماع فى ذلك أمر غريب, فالإجماع يكون أساسًا حيث لايوجد حكم قاطع فى القرآن الكريم أو السنة النبوية, وما دامت اللجنة تركن فى الدليل على رأيها إلى القرآن والسنة فإنه يكون من قبيل اللغو الذى لا معنى له أنتعمد بعد ذلك إلى ذكر الإجماع خاصة أن ثمة خلافًا كبيرًا بين المسلمين فى مسألة الإجماع, فيرى المالكية أن الإجماع هو إجماع أهل المدينة وحدهم, ويرى آخرون أنه إجماع أهل ألمصار ( الكوفة والبصرة ), وينكر أحمد بن حنبل وجود أى إجماع إلا إجماع الصحابة, كما ينكر الوهابيون تعميم مبدأ الإجماع ويأخذون فى ذلك برأى ابن حنبل, وهناك فِرَق ـ كالشيعة والأباضية ـ لاتدخل بطبيعة الحال فى إجماع أهل السنة, ويرى بعض الفقهاء أن الإجماع لم ينعقد قط [ يُراجع ـ على سبيل المثال ـ دائرة المعارفالإسلامية ـ الطبعة العربية ـ باب إجماع ـ ص 245 ].
(
د ) وتقول اللجنة إن الآراء التى انتهت إليها أصبحت معلومة من الدين بالضرورة, وهى بذلك تلوح بعصا الإلحاد وتتكلم بلغة الإرهاب, فتصف من يخالف رأيها بأنه كافر وأنه يستحق عقوبة الردة, وهذا من أخطر ما يمكن أن يصدر عن لجنة تنتسب إلى الأزهر, لأنه يفرض جوًا منالرعب والخوف على مناخ البحث ويشل يد متخذى القرار عن أى مبادأة, ويُشيع الإرهاب المعنوى فى كل مكان وفى أى نفس. وإذا كان من يخالف رأى اللجنة ـ فى وضع ما يسمى بالحجاب ـ منكرًا لما هو معلوم من الدين بالضرورة ( أى كافرًا ) فما رأى اللجنة فىهؤلاء الذين يرون أن الإسلام يأمر بالنقاب ( لا الحجاب )؟, وأن كل من يخالف رأيهم يُعَد منكرًا لما هو معلوم من الدين بالضرورة؟. أليس حكم أنصار النقاب هؤلاء ـومنهم وهابيون بارزون ـ يستطيل إلى أعضاء لجنة الفتوى أنفسهم ؟!. وما حكم المسلمينوهم ضائعون بين أنصار النقاب وأنصار الحجاب, وكل يلوح بالكفر والإلحاد جزاء لمخالفة رأيه؟.
يا لضيعة المسلمين بين هؤلاء وهؤلاء, بين فقهاء من كل جانب يتهمونخصومهم ـ فى مسألة من مسائل الفروع لا الأصول ـ بالكفر والإلحاد, وهو أمر يجعل معظم المسلمين منكرين لما هو معلوم من الدين بالضرورة !! وبذلك يصبح الكل كفارًا !!.
(
خامسًا ) : و عَوْد على بدء, فإن فتوى لجنة الفتوى بالأزهر فى مسألة الحجاب أبديت بمناسبة صدور القرار رقم 113 بتاريخ 17/5/1994 ( من السيد وزيرالتربية والتعليم ) بشأن مواصفات الزى المدرسى, ووزعت على نطاق واسع, ونُشرت فى عدةصحف ومجلات منها مجلة الأزهر, وبذلك تكون هذه أول مرة, وأول سابقة, تتصدى فيها لجنةالفتوى فى الأزهر لمسألة عامة وتطالب بالعدول عن الرأى فيها, وتصف المسئولين ـ ومن يشايعهم ـ لاكفر والإلحاد, وتدمغ من يعمل القرار بالعصيان لأمر الله, وتهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور, وهى سابقة تلاها إبداء الرأى فى شأن انعقاد مؤتمر السكان بالقاهرة مما يشير إلى أنها سوف تصبح قاعدة, فتهيمن لجنة الفتوى بالأزهر على كل أوجه الحياة فى مصر وتسيطر على كل المناشط السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية والإعلامية والحضارية والعلمية وغيرها, وهى سيطرة لاتسمح بأى جل ولا تبيح أى نقاش, وإنما تضفى على رأيها العصمة, وتتهم من يناقشه بإنكار ماهو معلوم من الدينبالضرورة, أى بالكفر والإلحاد, وهو اتهام كاف لأن بعطى مسوغًا لأى إرهابى لأن يصفّى المعارض جسديًا فيغتاله دون أن يُعتبر آثمًا فى حكم الشرع ( كما قال واعظ أماممحكمة الجنايات ).
ونظرًا لخطورة هذه التداعيات, وإيذائها بقيام حكومة ثيوقراطية ( كهنوتية ) تحكم من خلال من يسمون أنفسهم رجال الدين, بينما لايعرف الإسلام إلاعلماء فى علوم الدين لا رجال دين ولا يقر وجود مؤسسات دينية, بل يعترف بقيام مؤسسات مدنية ـ كالأزهر الشريف ودار الإقتاء ـ يتصل عملها بشئون الدين, نظرًا لكل ذلك, فإنه يكون من الضرورى واللازم بيان الأساس الشرعى والسند القانونى لقيام لجنة الفتوى, ونطاق عمل هذه اللجنة, حتى يوضع كل أمر فى موضعه الصحيح, ويسود حكم القانون وتستقر أسس الشرعية.
فالذى يحكم نشاط الأزهر هو القانون رقم 103 لسنة 1991 بشأنإعادة تنظيم الأزهر والهيئات التى يضشملها, ولائحته التنفيذية الصادرة بقرار رئيس الجمهورية رقم 250 لسنة 1975. وهذا القانون نظم فى الباب الثالث منه " مجمع البحوث الإسلامية وإدارة الثقافة والبعوث الإسلامية", وجعل من فضيلة شيخ الأزهر رئيسًا لهذا المجمع ( مادة 18/2 ), وحدد هيئاته فى مجلس المجمع, ومؤتمره, والأمانة العامة ( مادة 20 ) كما حدد اختصاصاته بكل ما يتصل بالنشر والترجمة والتأليف .. " على أن " تتولى إدارات المجمع تنفيذ مقرراته", وأن " تنظيم هذه الإدارات بقرار من شيخ الأزهر ( مادة 25 ), ونظمت اللائحة التنفيذية للقانون إدارة الثقافة والبعوث الإسلامية", واعتبرت أنها " هى الجهاز الفنى لمجمع البحوث الإسلامية".
وواضح من الاطلاع على قانون الأزهر ولائحته التنفيذية أنه خلو من تنظيم أو إنشاء أو حتى الإلماح إلى مايسمى لجنة الفتوى بالأزهر, وكل ما يعرفه القانون هو مجمع البحوث الإسلامية ( الذىيرأسه شيخ الأزهر ) وإدارة الثقافة والبعوث الإسلامية, ولا يخول القانون أو لائحتهالتنفيذية لفضيلة شيخ الأزهر أو مجمع البحوث الإسلامية إنشاء أى لجان مستقلة للفتوى.
إن ما يسمى بلجنة الفتوى بالأزهر لجنة ليس لها أساس شرعى وليس لوجودهاسند قانونى وليس لعملها هيكل تنظيمى, وغاية ما فى الأمر أنها ذات وجود واقعى ( غيرقانونى ) أو أنها أنشئت بقرار داخلى من فضيلة شيخ الأزهر لمساعدة الناس فى التعرف على آراء الفقه فى مدارسه المختلفة, فإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يجوز لهذه اللجنةأبدًا أن تتصدى للمسائل العامة وأن تفرض رأيها على صناع القرار, وأن تتهم بالكفروالإلحاد من يخالفها فى مسألة من مسائل الفروع, مختلف عليها, ولا تحديدبشأنها.
فإذا عَنَّ لهذه اللجنة أن تبدى رأيًا فى مسألة ترى أنها تتصل بالإسلام فإن عليها أن تقدم هذا الرأى إلى مجمع البحوث الإسلامية ليصدر عن هذا المجمع وعنرئيسه ( فضيلة شيخ الأزهر ) كما حدث ابتداء فى مسألة مؤتمر السكان ( الذى عقد فىالقاهرة اعتبارًا من 5/9/1994 ), أما التصرف بالصورة الغريبة التى وقعت فيها اللجنة فهو أمر مخالف للإسلام, مقوض للشريعة, مجانب للقانون, وهو ما ينبغى أن يتكاتف الجميع لمنعه وأن يحول الكل دون وقوعه, حتى تعلو راية الإسلام وترتفع أسس الشرعية ويسود حكم القانون.
وما عدا ذلك فهو شرع الغابة أوالطوفان!.




شعر المرأة ليس عورة:



تقوم فكرة وضع المرأة غطاء الرأس, يسمى خطأ بالحجاب, على نظرية أن شعر المرأة عورة, فيتعين عليها أن تغطى هذه العورة ولا تكشفها, مع مشروعية إبداء زينتها, بأن تكتحل وتضع الأصباغ والمساحيق, وتتحلى بالأساور و الأقراط, وهو أمر يوجد حالة غاية فى التناقض ونهاية فى التعارض.
ولماذا يعتبر شعر المرأة عورة؟
ومن الذي يقول يذلك؟
ما هى جذور هذه الفكرة؟
وما هو وجه الصواب فيها؟
ذلك ما يقتضي الإجابة عنه بالإبتداء من أغوار التاريخ الساحقة.

الشَعْر فى الحضارات القديمة

نشأ لدى المصريين القدماء, منذعصور موغلة فى القدم, اعتقاد ـ صدر عن فكر غيبى ـ بأن شعر الإنسان هو مظهر القوة ورمز الافتخار, ولما كان الكهنة هم الذين يدخلون وحدهم قدس الأقداس فى المعابد, كما أنهم يهبون كل حيواتهم للإله فيعيشون ويقيمون فى هذه المعابد, فقد صار من طقوسهم الدينية أن يحلقوا رؤوسهم تمامًا, دليلاً على الضعف و رمزًا للاتضاع أمام الإله, وفى كل حركاتهم وسكناتهم, خلال أنشطة الحياة المختلفة.
ولذات المعانى اعتاد المصريون القدماء جميعًا ـ رجالاُ ونساءًا ـ أن يحلقوا شعورهم كلية, إظهارًا لضعفهم أمام الإله وتعبيرًا عن الخضوع والاتضاع فى كل تصرفاتهم, وكان الرجال يضعون على رؤوسهم أغطية من القماش تقيهم وهج الشمس وتحميهم من حرارتها, بينما كان النساء يضعن لذات الغاية وللتزيين ـ غطاء مصنوعًا من الشعر المستعار, هو الذى يُعرف باسم " الباروكة".
وقد تسرب فكر قدماء المصريين إلى أنحاء كثيرة من العالم وإلى حضارات مختلفة متباعدة, فكان رجال الدين المسيحي ـ فى العصور الوسطى ـ يحلقون شعور رؤوسهم كما أن المهنة البوذيين والهندوسيين ما زالوا حتى العصر الحالى يفعلون نفس الشئ: ربما إدراكًا منهم لفكرة المصريين القدماء فى حلق شعر الرأس, أو اتباعًا لأمر صارعادة عندهم, كما صار شارة لوضعهم الدينى ومركزهم الروحى.
وعندما حضر يوليوس قيصر ( 120 ـ 44 ق.م. ) من روما إلى مصر, تأثر بالفكرة, فلما أن غزا أرض الغال ( فرنسا ) ولاحظ أن أهلها يرسلون شعورهم أمر بقصها تدليلاً على خضوعهم لسلطانه.

الشعر في اليهودية

لأن موسى عليه السلام ( القرن الثالث عشر قبل الميلاد ) كان قد نشأ ورُبِى فى مصر فقد تأثر بفكر وحضارة قدماء المصريين, وعندما خرج من مصر مع العبرانيين ( اليهود ) وبعض المصريين, كانوا جميعًا ينتهجون نهج قدماء المصريين في أشياء كثيرة, منها ضرورة عدم إظهار شعر الرأس أمام الإله تدليلاً على الخضوع والخنوع, ولما كان هؤلاء العبرانيون قد تأثروا ـ مع الوقت ـ بعادات الآسيويين من إرسال الشعر وعدم حلقه كالمصريين القدماء, فقد واسطوا ( العبرانيون ) بين الأمر, فصاروا يرسلون شعورهم ـ ولا يحلقونها ـ ثم يعمدون إلى تغطيتها عند الصلاة ـ حيث الوقوف فى حضرة الإله ـ فكان الرجال يضعون على رؤوسهم " طواقى " بينما كانت النساء تضعن الأخمرة على رؤوسهن أثناء الصلاة, أو عند الدخول إلى المعبد.
وحتى العصرالحالى فإن اليهود المتدينين يضعون الطاقية على الرأس أثناء وجودهم فى المعابد أو أثناء الصلاة أو عند القيام بمهام دينية, بينما تضع النساء الخمار فى هذه الحالات.

بل زاد المتطرفون وأصبحوا يضعون الطاقية فوق رؤوسهم فى كل حين, وخلال سيرهم فى الشوارع, وقد يدعى بعضهم أنه أمر دينى وليس وضعًا سياسيًا يقصد إلى أن من يلبس الطاقية يهودي متزمت وهو بذاته نفس الحال فيما يتعلق بالخمار عند المسلمات.

الشعر فى المسيحية

لم يتكلم السيد المسيح عن الشعر ـ بالنسبة للرجل والمرأة ـ على الإطلاق, ربما لأنه عُنى بالجوهر لا بالمظهر, وركز على القلب والضمير لا الشكل والمظاهر.
لكن بولس الرسول تناول مسألة شعر الرأس فى رسالته إلى أهل كورونثوس فقال: { كل رجل يصلى أو يتنبأ وله على رأسه شئ يشين رأسه. وأما كلامرأة تصلى أو تتنبأ ورأسها غير مغطى فتشين رأسها .. إذ المرأة إن كانت لا تتغطى فليُقَص شعرها .. هل يليق بالمرأة أن تصلي إلى الله وهى غير مغطاة .. } [ الأصحاح الحادى عشر: 4 ـ 14 ].
ومفاد كلام بولس الرسول أنه لا ينبغي للمرأة أن تصلى لله ورأسها غير مغطى, أى دون تغطية الشعر, أما الرجل فيمكنه ذلك ـ وبهذا يكون بولس الرسول قد تأثر بعادات مجتمعه الرمانى من أنه يمكن للرجل أن يصلي دون أن يغطى شعر رأسه, لكنه ظل متمسكًا بالعادة اليهودية من أنه لا يجوز للمرأة أن تصلي لله دون أن تضع على رأسها غطاء وهو الخمار, كما أنه رأى أن هذا الغطاء بديل عن حلق أو قص شعرالمرأة, فإذا لم تضع المرأة الخمار على شعرها عند الصلاة فالأجدر أن تقص هذا الشعرلتذللها لله وإخضاعها لعزته.
فشعر المرأة, فى المسيحية واليهودية, وفى غيرهما, لايعد عورة, لكنه يعتبر رمزًا للقوة ومظهرًا للاعتزاز, وينبغى على الرجل والمرأة, فى اليهودية, وعلى المرأة وحدها, فى المسيحية, تغطية شعر الرأس عند الصلاة لله إظهارًا للخضوع لعزته وعلامة على الاتضاع أمامه, فإذا لم تضع المرأة الخمار عند الصلاة, فالبديل هو قص أو حلق شعرها على عادة قدماء المصريين.

شعر المرأة فى الإسلام

كان النبى يحب مخالفة أهل مكة ( المشركين ) وموافقة أهل الكتاب, ومن ثم فقد كان يفْرق شعره على عادة أهل مكة عندما كان يقيم فيها, فلما هاجر إلى المدينة ورأى أن أهل الكتاب يرسلون شعورهم أرسل شعره.
وكعادة أهل الكتاب, فإن كل رجل من المسلمين كان يضع على رأسه عند الصلاة " طاقية" لتغطية الشعر الذي لا ينبغي أن يظهر أمام الله آنذاك تعبيرًا عن الضعف إلى الله, والعبودية له, والاتضاع لعزته, والخضوع لحضرته.
ووضعت النساء الخمار عند الصلاة, كما كانت تفعل نساء أهل الكتاب, ولذات الغرض الذى وضعت هذه النساء الخمار من أجله, ونفس السبب الذي كان الرجال من المسلمين يضعون غطاء الشعر " الطاقية" من شأنه, عندالصلاة.
وفى معنى جعل شعر المرأة المسلمة عند الصلاة أمرًا واجبًا فقد روى عن النبى أنه قال:" لاتقبل صلاة الحائض ( المرأة البالغ ) إلا بخمار", أخرج الحديث أبوداود وابن حنبل وابن ماجه والترمذى [ مفتاح كنوز السنة ـ ص 168 ]. ويعني ذلك ضرورة أن تضع المرأة البالغ غطاء على شعرها أثناء الصلاة, هو ما يعرف بالخمار أو الطرحة [ المعجم الوسيط, مادة طرحة ].
وهذا الحديث :" لاتقبل صلاة الحائض ( المرأة البالغ ) إلا بخمار" يضعّف من ( أى يُضعف من شأن ) الحديث المروى عن النبى :" لا يصلح لامرأة عركت ( أى بلغت ) أن تظهر منها إلا هذا وهذا .. وأشار إلى كفيه ووجهه " [ رواه أبو داود فى سننه ], فلو أن الأصل أن تضع المرأة غطاء على رأسها عمومًا, لما كانت ثمة وصية ـ ولا مناسبة ـ لأن يُطلب منها وضع خمار على رأسها أثناء الصلاة. فحديث الخمار يفيد أن المرأة لم تكن دائمًا وأصلاً تضع على رأسها, وأن الحديث يوصي بأن تضع خمارًا على رأسها ( لتغطي شعرها ) وقت الصلاة, ووقت الصلاة فقط.

ومما يزيد تضعيف ( أى ضَعّف ) حديث حديث :" لايصلح لامرأة عركت ( أى بلغت ) أن تظهر منها إلا هذا وهذا " أن هذا الحديث أخرجه أبو داود فى سننه ( وهى سنن لم تعن بالتشدد فىرواية الحديث ) ولم يخرجه أى عالم آخر من علماء الحديث, فى حين أن حديث " لا تقبل صلاة الحائض إلا بخمار" حديث أخرجه ابن حنبل فى السند وابن ماجه والنرمذى, أى أن الذى أخرج هذا الحديث الأخير أربعة من علماء الحديث. بينما لم تخرج الحديث السالف " لا يصلح لامرأة عركت.." إلا واحد فقط, والحديثان مع ذلك لم يخرجهما البخارى فى صحيحه ( أصح كتب الأحاديث ). وأبو داود, عندما أخرج الحديثين معًا فى سننه, لم يلحظ ما يمكن أن يكون بينهما من اختلاف, ولم يحاول أن يحدد سببًا, أو حالة, لإعمال كل حديث منهما.

ومع أنه فى رأينا ـ كما سبق وبينا فى مقال سابق ـ أن آية الخمار : { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن } [ سورة النور 24: 31], هذه الآية ـ وفقًا لأسباب التنزيل ـ تتعلق بتعديل عُرف كان جاريًا وقت التنزيل, إذ كانت بعض النساء يضعن أقنعة على رؤوسهن تتدلى منها الأخمرة فيسدلنها وراء ظهورهن ومن ثم يظل الصدر بارزًا عاريًا, ولذلك فقد امرن بلىّ الأخمرة على صدورهن ـ بدلاً من إسدالها وراء ظهورهن ـ حتى يتغطى الصدر ( وهو عورة ), مع أن أسباب التنزيل تفيد هذا المعنى, إلا أنه ـ لمن لا يريد أن يأخذ بذلك ـ يمكن اعتبار الآية السالفة والحديث الخاص بالخمار متكاملين معًا, بحيث يكون المعنى أن على المرأة البالغ أن تضع خمارًاعلى رأسها وقت الصلاة ( عملاً بالحديث ) وأن تضرب بالخمار على جيبها حتى لايظهر صدرهها ( عملاً بالآية ), وبذلك يزول أي تعارض بين الآيات القرآنية والأحاديث المروية عن الرسول, وتتكامل الآية والحديث معًا ليفيدا وضعًا معينًا.

ويُستفاد من استقراء أوضاع الحياة الجارية فى عصر ما قبل الإسلام وفى وقت التنزيل, وفى صدرالإسلام, أن الزي واللباس كانا عادات اجتماعية ومواضعات عرفية, لا تتصل بالدين ولا تتعلق بالشريعة ( فيما عدا الاحتشام والتعفف والتطهر ), وأنه كان ثم نساء منقبات, وأخريات مقنعات, وغيرهن مستخمرات ( يضعن الأخمرة ), وباقهين سافرات, والأدلة على ذلك لا تقع تحت حصر. وقد ظلت هذه الأحوال مستمرة حتى انتهت وخاصة في مصر, إلى أن .

ولم يكن من المقبول أو المسموح, أن يقابل شخص رئيسًا أو حاكمًا أو أن يدخل إلى محكمة أو يصلي فى مسجد أو فى خلوة, دون أن يضع غطاء للرأس ـ يختلف باختلاف وضعه ـ دليلاً على تقديره لنفسه ورمزًا لتوقيره للسلطة الأعلى, ودلال على اتضاعه أمام الله وفى حضرته عند الصلاة. وفى هذا المعنى, كان رفع غطاء الرأس أمام الرؤساء والحكام والقضاة ومن ماثلهم يعتبر إهانة يعاقب عليها أو تفقده بعض اعتباره.

إن مسألة الزي والملبس من مسائل العادات والتقاليد التي تضرب بأصولها في مجتمعات بعيدة وأعراف قديمة, وتتداخل وتتشابه رغم اختلاف المعتقدات والشرائع. فالسيدة بناظير بوتو رئيسة وزراء باكستان تضع على رأسها خمارًا يغطى النصف الخلفي من شعر رأسها ويبرز النصف الأمامي, وهو بذاته الخمار الذي كانت تضعه ـ وبنفس الطريقة السيدة أنديرا غاندى رئيسة وزراء الهند, وهذا الخمار يعتبر فى جانب زيًا إسلاميًا بينما هو فى الجانب الآخر زيًا هندوسيًا, وهو فى الحقيقة عرف فى شبه الجزيرة الهندية, يشترك بين المسلمين وغير المسلمين, وزي الرجال الباكستانى ( المعطف الطويل والسروال الطويل ) يُعد لدى البعض زيًا إسلاميً مع أنه نفس لا الزي الذي يضعه الرجال الهنود ( الهندوسيون ). فهو زي قومي وليس لباسًا دينيًا.

وقد كان الأصل, والفرض, أن يفهم الناس الحقيقة, ويضعون خطوطًا فاصلة بين ما هو من الدين وما ليس منه, ما يكون من الشريعة وما لا يكون منها, غير أن الاتجاهات السياسية من جانب, وتصدير بعض البلاد النفطية لعاداتها الاجتماعية من جانب آخر, ووعاظ الفتنة ودعاة البلبلة من جانب ثالث, كل هذه العوامل وغيرها تفاعلت معًا ـ إن بوعى وإن بعدم وعى ـ لتفرض على النساء تغطية شعر الرأس زعمًا بأن ذلك عمل إسلامي, مع ترك زينة الوجه, ووضع الأصباغ والمساحيق, بل ووضع غطاء للرأس مزركش ومدندش ومتخايل, مما ينفى
حكمة الغطاء ويحوله إلى سبب للزهو والخيلاء بدلاً من أن يكون داعيًا للزهد والاتضاع.

والدليل على أن وضع غطاء الرأس ـ يسمى خطأ بالحجاب ـ عمل سياسى أكثر منه عملاً دينيًا, أنه يُفرض على الفتيات الصغيرات ( دون البلوغ ) مع أنه إذا أخذ بالنص الدينى فعلاً, فإنه يقتصر على النساء البالغات فقط. لكن القصد هو استغلال الدين لأغراض سياسية واستعمال الشريعة فى أهداف حزبية, بنشر ما يسمى بالحجاب, حتى بين الفتيات والصبيات دون البلوغ, لكى يكون شارة سياسية وعلامة حزبية على انتشار جماعات الإسلام السياسى وذيوع فكرها حتى وإن كان مخالفًا للدين, وشيوع رموزها مهما كانت مجانية للشرع.

الخلاصة

ويخلص من ذلك كل ذلك ما يلى

أولاً : أن شعر المرأة ( وشعر الرجل ) لايعتبر عورة أبدًا فى المفهوم الدينى الصحيح والتقدير الشرعى السليم.

ثانيًا : نشأ فكر قديم ـ لدى المصريين القدماء ـ بأن الشعر هو مظهر القوة ورمز الافتخار, وانتشر هذا الفكر فى العالم القديم مما أدى إلى أن يضع الرجال ـ فى كثير من الحضارات ـ أغطية على رؤوسهم ( طاقية أو طربوش أو عمامة أوغيرها ), وخاصة أمام الرؤساء والحكام والقضاة وعند الصلاة علامة على توقير الأعلى سطوة والأرفع سلطة وأسلوبًا لبيان الضعف الإنسانى والاتضاع الفردى أمام الله سبحانه ( عند الصلاة ) وكانت النساء يضعن أخمرة ( طرحًا ) على رؤوسهن لذات الغرض ونفس الهدف.

ثالثًا : الحديث الذى روى عن النبى ويقول :" لا يصلح أن يُرى فيها إلاهذا وهذا, وأشار إلى وجهه وكفيه ", حديث آحاد لم يخرجه إلا أبو داود فى سننه ( وهى سنن لم تعن بصحة الإسناد أو سلامة المتن ) ولم يرد الحديث فى صحيح البخارى, أصح كتب الحديث.

رابعًا : يتعارض مع هذا الحديث حديث آخر روى عن النبى :" لا تقبل صلاة الحائض إلا بخمار " وهو حديث آحاد كسابقه أخرجه أبو داود ( مخرج الحديث السابق ) كما أخرجه ابن حنبل وابن ماجه والنرمذى, وهذا الحديث يعنى أن الأصل لم يكن أن تضع المرأة غطاء على شعرها, فى كل وقت, ولكنه يطلب منها أن تضع خمارًا على رأسها وقت الصلاة فقط.

خامسًا : هذان الحديثان هما من أحاديث الآحاد التى لا تؤسس بها فريضة دينية أو يقام عليها واجب دينى وإنما يعمل بها على سبيل الاستئناف والاسترشاد.

سادسًا : الزى والملبس من شئون الحياة التى تتشكل وفقًا للأعراف وتتحدد طبقًا للتقاليد ولا تتصل بالدين أو تتعلق بالشريعة إلا فى ضرورة أن تلتزم المرأة ( والرجل ) الاحتشام والتعفف والتطهر.

سابعًا : ليس من الدين ولا من الشريعة أن يُفرض غطاء على الرأس ـ حتى على الأطفال والأحداث ـ بزعم أن الشعر عورة مع إباحة الحق للمرأة فى أن تبدى زينتها فتضع الأصباغ والمساحيق والكحل  والأقراط, ثم تضع غطاء للرأس مزركشًا زمدندشًا ومتبهرجًا.

وخلاصةالخلاصة أن شعر المرأة ليس عورة أبدًا, والذى يقول بغير ذلك يفرض من عنده ما لم يفرضه الدين, ويلزم الناس ما لا ينبغى أن تلتزموا به. ويغير ويبدل من أحكام الدين لجهل شخصى أو مصلحة سياسية أو أهداف نفطية.
 
 
الإسلام السياسى
أوالأيديولوجيا الإسلامية

نشر هذا البحث فى مجلة روزاليوسف المصرية العدد رقم 3460 بتاريخ 3/10/1994.

الإسلام عقيدة عامة, وشريعة حركية ( ديناميكية ).

فالإسلام عقيدة عامة, بمعنى أنه فى الأصل والأساس نظام دينى وليس مشروعًاسياسيًا, وهو كنظام دينى مفتوح أمام كل الناس دون أن يكون مقصورًا على أمة بذاتها, أو شعب بعينه, أو جماعة دون غيرها.
و الإسلام شريعة حركية, بمعنى أنه منهجللحياة يتحرك مع واقعات الحياة الجارية فتتغير أحكامه بتغير الأحداث ويتقدم إلىالمستقبل باجتهادات مستحدثة واتجاهات واقعية.
وفكرة النسخ فى القرآن خير دليلعلى ذلك, فأحكام القرآن لم تجئ من خارج الواقع مرة واحدة وإنما تفاعلت مع الواقعشيئًا فشيئًا وتنزلت منجمة " مجزأة " آية بعد آية وحكمًا إثر حكم.
وعلى سبيلالمثال فإن التوريث مر بمراحل ثلاث, كان لكل مرحلة فيها حكم فقد جاء فى القرآنالكريم : { ولكل جعلنا موالى مما ترك الوالدان والأقربون والذين عقدت أيمانكمفآتوهم نصيبهم } [ سورة النساء 4 : 33 ], وكان معنى ذلك أن ما يتركه المورث يكونلذوى الأرحام ـ دون تحديد أنصبة لهم ـ كما يكون لمن له عقد مع المورث وهو عقد كانمعروف فى الجاهلية وفى صدر الإسلام ـ حتى عهد التنزيل فى المدينة ـ اسمه الموالاةوبمقتضاه يصير كل من المتعاقدين وليًا للآخر ويرثه عندما يموت. ثم نزلت بعد ذلكالآية : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربينبالمعروف حقًا على المتقين } [ سورة البقرة 2: 180 ]. وكان معنى ذلك أن يتم التوريثعن طريق وصية يوصى بها المورث قبل وفاته ويحدد أنصبة من يرثونه ثم وقعت حادثة معينةنزلت بعدها الآية : { يوصيكم الله فى أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساءفوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك } [ سورة النساء 4: 11 ]. فهذه الآية الأخيرة نزلتبسبب واقعة معينة فنسخت ( ألغت ) ـ فى رأى عموم المسلمين ـ حكم التوريث بالوصية, كما أنها والآية السابقة لها نسختا ( ألغتا ) حكم التوريث بعقد الموالاة.
ومؤدىذلك أن منهج الإسلام أو شريعته منهج وشريعة حركية تتفاعل مع الأحداث لتواجه الواقعولا تقف خارج التاريخ وبعيدًا عن الزمن لاتغير ولا تتغير.
ومن هذا المعنى كانولابد لتفسير آيات القرآن تفسيرًا صحيحًا أن نعود إلى أسباب التنزيل وأن يتمالتفسير وفقًا لأسباب التنزيل وإلا حدث خلط فى الفهم وخطأ فى التقدير. فكل آياتالقرآن نزلت لأسباب اقتضتها واستجلاء هذه الأسباب وبينها ضرورى لتفسير هذه الآياتتفسيرًا واقعيًا صحيحًا.

والإسلام كعقيدة وشريعة ينأى عن الإطلاق ويبعد عنالفهم المطلق, فهو يجيز عدم الإيمان به: { فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر } [ سورةالكهف 18: 29 ], كما أنه لايقطع بصورة مطلقة فى شأن الخلاف بين المؤمنين أو ماجاءبه الإسلام وغيرهم وإنما يترك الخلاف قائمًا ـ دون قطع أو إطلاق ـ حتى يفصل اللهبين الجميع يوم القيامة : { إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارىوالمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة إن الله على كل شئ قدير } [ سورة الحج 22 : 17 ].
والإسلام كنظام دينى, وليس مشروعًا سياسيًا, نظام غيرشمولى, بل يترك للناس مساحة كبيرة يتصرفون فيها, ويدع للمجتمع مجالاً واسعًا يتحركفيه, دون أن يصبه فى قوالب حديدية أو يشله بقواعد جامدة كما تعمل النظم الشموليةالسياسية ( الفاشية ).
ومن ذلك أن الإسلام يفصل بين الدين والدنيا, وذلك واضح منمثال مشهور, فقد كان النبى قد أشار على المؤمنين بعدم تأبير النحل, وإذ استجابوالرأيه فإن النخل لم يثمر, عند ذلك عدل النبى عن رأيه وقال قولته المشهورة : { أنتم ( أيها الناس ) أعلم بشئون دنياكم }, أى إن الإسلام ـ كعقيدة وشريعة ـ ينأى بأحكامهويبعد بقواعده عن النظريات العلمية والتجارية والزراعية والأساليب الحياتيةوالأنظمة الصناعية والمعادلات الرياضية والقواعد الفنية وغيرها مما ماثلها وشاكلها, ذلك أن هذه كلها من شئون الدنيا التى يكون المختصون فيها أعلم بها من غيرهم, ولايتدخل فيها الدين أبدًا, ولا تختلط بها الشريعة قط.

غاية ما فى الأمر أنالعقيدة ـ كنظام قيمى ومنهج أخلاقى ـ تحكم بهذه الأخلاق وتلك القيم مسار النظرياتوالتجارب والأساليب والنظم والمعادلات والقواعد كما توجه غاياتها نحو كل ما هوإنسانى وكل ما هو كونى, وتحظر استعمالها ضد الإنسانية أو عكس الأهداف الكونية أولأغراض استغلالية أو لأسباب احتكارية, وهكذا.
ولأن الإسلام ـ كما أنف البيان ـنظام دينى وليس مشروعًا سياسيًا فإن السياسة فيه ليست أصلاً ولا أساسًا, فالنبى لميمارس السياسة قط فى العهد المكى, وعندما باشرها فى العهد المدنى ( على فرض أنهاكانت سياسة ) فقد باشرها فرعًا عن رسالته الدينية وليست أصلاً فيه أو أساسًا منهبحال من الأحوال. وحتى فى هذه المباشرة الفرعية الثانوية فإن حكومته ـ إن جاز أنتسمى حكومة ـ كانت حكومة ذات طابع خاص, فهى تباشر عملها تحت إشراف ورقابة الوحى, يصحح ويعدل ويوافق ويؤيد, أى إنها فى الفهم الإسلامى ـ كانت حكومة الله , أما بعدالنبى وحيث لايوجد وحى مباشر أو غير مباشر على الأقل فى المفهوم السنى فإن الحكومةتكون حكومة الناس تصدر منهم وتحكم عنهم وتتولى بإذنهم وتعفى برغبتهم. يضاف إلى ذلكأن حكومة النبى كانت حكومة تحكيم ولم تكن حكومة حكم. فالنبى لم يكن يحكم كل أنشطةالحياة من زراعة وصناعة وتجارة ورى وما شابه, بل اقتصر حكمه على تنظيم ما يتصلبالدعوة من مناشط, كإرسال الرسل وحرب المعتدين وتلقى الفئ والغنائم وتزيعها. وهكذا , وفيما يتعلق بالقضاء فلم يكن يحكم فى كل نزاع ويطبق حكمه بسلطان القانون كما يحدثحاليًا من الحكومات المعاصرة, بل كان محكمًا فيما يقبل الناس أن يرفعوه إليه منخصومات على أن ينفذوا حكمه طائعين مختارين بلا قوة تفرض عليهم أو سلطة تملى عليهمتنفيذ الحكم : { فلا وربك لايؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لايجدوا فى أنفسهمحرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا } [ سورة النساء 4: 65 ], { فإن جاءوك فاحكم بينهمأو أعرض عنهم } [ سورة المائدة 5: 42 ]. أى إن النبى لم يكن حاكمًا قائمًا مفروضًايلزم عليه أن بفصل فى أى خصومة بل إنه كان محكمًا للناس أن تلجأ إليه أو إلى غيره, فإن لجأوا إليه فله أن يقبل التحكيم أو أن يعرض عنه, وإذا أصدر حكمًا فالناس هىالتى تطبقه مختارة دون أن تفرضه عليهم سلطة أو تلزمهم به قوة.
هذا هو الإسلامالصحيح .. الإسلام الحق.
غير أنه حدث فا البواكير الأولى فى التاريخ الإسلامى أناستهوت السلطة بعض المسلمين فمالوا إلى السياسة وجنحوا إليها, ومن ثم عمدوا إلىتأييد أوضاعهم ـ سلطة ومعارضة ـ بآيات من القرآن الكريم, واستشهادات من الإسلامنفسه, فحولوا العقيدة العامة والشريعة الحركية إلى أيديولجيا ( مذهبية ) شمولية ( ديكتاتورية ) جامدة ( دوجماطيقية ) ذلك أن الدين عام إنسانى يقوم أساسًا علىالضمائر وينبنى على الأخلاق, أما السياسة فهى قاصرة متدنية انتهازية. أى إن الدينوالسياسة من نسيجين مختلفين ومن معدنين متنافرين. لذلك فإنه ما إن تدخل الساسة إلىالدين حتى تحوله إلى أيديولوجيا, أى إلى مذهب شمولى ومعتقد جامد.
ونتيجة لهذهالأيديولوجيا الإسلامية التى عضدتها السلطة وساندتها المعارضة, فإن المفهومالإسلامى تحول لدى كثيرين إلى أيديولوجيا مضادة للدين ومعارضة للشريعة.
1
ـ فقدرأى هؤلاء الأيديولوجيون " خالطو السياسة بالدين" أن الإسلام مقصور على العرب الذينكانوا عربًا وقت الرسالة, واستندوا فى ذلك إلى الآية : { وما أرسلنا من رسول إلابلسان قومه ليبين لهم } [ سورة إبراهيم 14 : 4 ], والآيى : { نزل به الروح الأمينعلى">.
بل إن قطع آيات القرآن الكريم عنأسباب تنزيلها واستعمالها على عموم ألفاظها ادى بواعظ لغوى إلى أن ينسب إلى الحاكم ( إثر أحداث 18, 19 يناير 1977) وضعًا هو لله وحده إذ قال عن الحاكم: { لايسأل عمايفعل وهم ( أى خصومه ) يُسألون } [ سورة الأنبياء 21: 23], وبهذا نسب للحاكم ما هوواضح من أسباب التنزيل وسياق الآية أنه خاص بالله سبحانه.
3
ـ وتؤدىالأيديولجيا الإسلامية كما تؤدى أى أيديولوجيا أخرى إلى الشمولية أى الدكتاتورية أىاحتكار السلطة, فرأيها هو وحده الرأى وما عداه كفر وإلحاد , وجماعتها هى جماعةالمسلمين ومن عداهم كفار, وهكذا.
ومن هذا المفهوم الجانح فإنها تفرض على أعضائهامبدأ " السمع والطاعة" الذى يهدر أى حرية ويلغى أى اختيار ويحول الشخص إلى آلة تسمعفتطيع بغير فهم ودون تمييز, مع أن أساس المساءلة الدينية والدنيوية هى حق التمحيصوالنقد وحرية الاختيار. يضاف إلى ذلك , أن قصر الإسلام على جماعة واختزال المسلمينفى مجموعة هو أمر ضد الإسلام وضد المسلمين خاصة حين يطابق بين هذه المجموعة وتلكالجماعة وبين الإسلام نفسه فينتهى إلى القول بأن اضطهاد هذه الجماعة اضطهاد للدينوأن الخروج عليها خروج على الإسلام.
هذا ما قالت به جماعات الخوارج فى فجرالإسلام وهو بذاته ما تقوله الجماعات السياسية التى تتمحل بالدين وتتمحك فىالشريعة, لأنها جميعًا حولت الدين إلى أيديولوجيا.
4
ـ ولأن الأيديولوجيابطبيعتها شمولية قابضة فإنها تعمل دائمًا على أن تنشب أظافرها فى كل مناشط الحياة, ومن ثم فإن الأيديولوجيا الإسلامية تخلط بين الإسلام كعقيدة عامة وبين التاريخ وهومن عمل الناس, كما تخلط بين الشريعة ـ وه نهج اله ـ وبين الفقه ـ وهو آراء البشر ـوبذلك فهى تدعى تنظيم كل الأنشطة وتوجيه كافة الأعمال وتضع الكفر جزاء لأى مخالفة. فالجهاد " بمعنى قتل أعدائها" فريضة والحجاب ( أى وضع غطاء للشعر ) فريضة ولزومالجماعة فريضة ... وهكذا يصبح كل شئ فريضة وتصبح أى مخالفة كفرًا عقوبتها الإعدامغيلة.

ومن جانب آخر, فمع أن القرآن والسنة المتواترة حرصا على ألا يرتبطالدين أو تختلط الشريعة بالنظريات العلمية لأنها متغيرة ولا بالأساليب الفنية لأنهامتطورة. وقال النبى فى ذلك قولته المشهورة: " أنتم أعلم بشئون دنياكم" , بما يعنىفصل الدنيا عن الدين وعدم ربط النظريات العلمية والتجارب الزراعية والأساليبالحياتية والأنظمة الصناعية والمعادلات الرياضية والقواعد الفنية وغيرها من أمورمتغيرة بقواعد الدين الثابتة إلا من حيث تأثر الأهداف بالقيم الدينية وتوشج الأغراضبالمبادئ الخلقية, مع هذا الوضوح والجلاء, فإن الأيديولوجيا فى إدمانها للشموليةتعمل على ربط العلوم والقواعد والمبادئ المتغيرة بالشمولية الدينية فتصل إلى أحدأمرين: إما وقف نمو العلوم والفنون والآداب, وإما إسقاط المفاهيم الدينية العامةعلى ما هو جزئى بطبيعته ومتغير بجوهره.
5
ـ والأيدولوجيا الإسلامية سياسة فىالأصل وتحزب فى الأساس ومن ثم فقد استبدلت الإسلام السياسى بالإسلام دينًا. واستهدفت كما عملت على تسويغ الأهداف السياسية بشعارات دينية وتبرر الأغراض الحزبيةبمقولات شرعية أى إنها تتخذ من الدين ستارًا يُخفى أبعادها كما تتخذ من الشريعةجدارًا تناور من ورائه.

إن السياسة لدى الأيديولوجيا الإسلامية هى المركزلنشاطها وهى البؤرة لرؤيتها. وكل ماعدا ذلك يقع فى الهامش ويستقر عند الحواف, وإذالم يكن الدين لديها فى البؤرة ولا الشريعة فى المركز فإنها لاتتعلق منهما إلا بكلما هو هامشى غير أساسى وكل ماهو عرضى غير جوهرى.
وتزعم هذه الأيديولوجيا أنهاتتبع خطى النبى فى السياسة وذلك تلاعب واضح وتماحك لاأساس له. فالنبى باشر السياسة ( إن كان قد باشرها ) عرضًا من رسالته ويس أصلاً للدين. وقد كانت مباشراته تحدث تحترقابة الوحى وتتم بتقرير منه. ولا وحى الآن يدعى أنه يسوس الأنشطة كالنبى, يُضافإلى ذلك أن عمل النبى العام مقصور على بعض الأنشطة دون كافة أوجه الحياة وأنه كانمحكمًا ولم يكن حاكمًا.
إن تعلل الأيديولوجيا الإسلامية بالدين وتمسحها بالشريعةليس إلا وسيلة لفرض جماعة أو حكومة ثيوقراطية ( كهنوتية ) تدعى أن حكمها هو حكمالله وأن رأيها هو رأى الإسلام وأن قولها هو القول الفصل فلا تسمح بمعارضة ولا تقبلرأيًا آخر ولا تسمع قولاً خلافًا لقولها. وتلك هى طبيعة الأيديولوجيا عامة حيث تدعىاحتكار المطلق وتزعم امتلاك الحق فى التعبير عن الله أو عن الكل.
هذهالأيديولوجيا التى زحفت على جوهر الإسلام وأزاحت من البؤرة أى عقيدة صحيحة نزعت إلىأن تتخذ لها مظاهر بدلاً من الجواهر وشعارات عوضًا عن الحقائق فوجدت فيما تسميهالحجاب شعارًا سياسيًا وعلامة حزبية شأنها فى ذلك شأن الأيديولوجيات التى اتخذتقمصانًا ملونة أو أربطة معينة أو قلادات خاصة, شارات لها وعلامات لجماعتها تريد أنتستشعر بها القوة وأن تزعم بواسطتها الانتشار.
فالحجاب إذن ( أو غطاء الشعر فىالحقيقة ) ليس فرضًا دينيًا ولا عملاً شرعيًا, لكنه فى الواقع شعار سياسى وعلامةحزبية.
إنه من ادعاء الأيديولوجيا الإسلامية وليس من جوهرالإسلام.
 
 
القسم الثانى

حجيةالحديث



قال النبى عن قومه من العرب : " إنّا أمة أمية لا نكتب و لانحسب" [ أخرجه البخارى ومسلم وأبو داود والنسائى. والمقصود بالأمة : العرب, والأمةلها معانٍ. والمعنى المقصود فى الحديث: الجماعة. والأمية نسبة إلى الأم, أى إنالأمى باقٍ على الحالة الأولى التى ولدته عليها أمه. وقد تكون النسبة إلى أم القرى ( مكة ) أى إن المقصود بالأمة : قريش ].



أى أن العرب قبل الإسلاموفى صدره, كانوا أمة أمية, وفى ذلك يُقال إن عدد من كانوا يعرفون القراءة والكتابةفى قريش ( قبيلة النبى ) كانوا عند بدء الرسالة عشرة أفراد, منهم عمر بنالخطاب.



وقد اتخذ النبى عددًا من غير الأميين من قومه ليكتبوا عنهالوحى, فكتبوا آيات القرآن فى أشياء متفرقة [ مثل الرقاع والأكتاف ( عظم عريض كانفى كتف الحيوان) والعُسب ( جريد النخل )]. حتى جُمع القرآن ـ فيما بعد ـ فى عهد أبىبكر الصديق, بمشورة عمر بن الخطاب, ثم جُمع المسلمون على قراءة واحدة ـ فى عهدعثمان بن عفان ـ هى تلك التى تُعرف بالرسم العثمانى, وحُرقت المصاحف التى كانتتتضمن قراءات أخرى, أى قراءات برسوم أو لهجات مختلفة, واستقر المصحف على الرسمالعثمانى المتداول حاليًا . [ الجامع لأحكام القرآن المسمى تفسير القرطبى ـ أبوعبدالله محمد بن أحمد الأنصارى القرطبى ـ طبعة دار الشعب ـ صفحة 43 وما بعدها, وأحمد أبو الفتح, المختارات الفتحية فى تاريخ التشريع وأصول الفقه ـ الطبعة الثالثةـ سنة 1922 ـ صفحة 47, 48].



وقد اختلف فى تدوين السنة القولية ( أىالأحاديث ) التى صدرت عن النبى, فقد قيل أن المؤمنين تورعوا عن كتابة شئ غيرالقرآن, أو أنهم أُمروا بذلك, كما قيل إن بعضهم كتب بعض الأحاديث, غير أن الأحاديثلم تُجمع إلا فى عصر التدوين, فى العصر العباسى الأول, وفى النصف الثانى من القرنالثانى الهجرى.



وثم رواية على أن عمر بن عبد العزيز ( 99 ـ 101 هـ / 717 ـ 720 م ) الخليفى الأموى الثامن أمر بجمع الحديث, إلا أن الراجح أن أمره هذهلم يصادف تنفيذًا, فبقيت الأحاديث دون جمع حتى العصر المنوه عنه. [ أحمد أمين ـ ضحىالإسلام ـ الجزء الثانى, صفحة 106 وما بعدها ].



ماهيةالحديث:-



والحديث لغة هو الخبر, واصطلاحًا هو كل خبر يتصل بأعمالالنبى وأقواله, وأحواله.

ولكل حديث سند أو إسناد يبين الراوى ويحدد سلسلةالرواة, ومتن ( نص ) هو موضوع الحديث.

وقد ظلت الأحاديث تُروى من شفة لشفة, وعن شخص إلى غيره, حتى وُجد اتجاه إلى جمعها, فى أمكنة مختلفة وفى أزمنة متقاربة,

ففى مكة جمع الحديث ابن جريج الرومى الأصل ( المتوفى نحو سنة 150 هـ ), ولميوثقه البخارى ( أى لم يُعتمد صحة ما كتب ), وقال عنه : " إنه لا يُتابع فى حديث".

وفى المدينة جمع الحديث محمد بن إسحاق ( المتوفى فى سنة 151 هـ ), ومالك بنأنس ( المتوفى سنة 179 هـ ).

وبالبصرة جمع الحديث الربيع بن صبيح ( المتوفىسنة 160 هـ ) , وسعيد بن أبى عَروبة ( المتوفى سنة 156 هـ ) وحماد بن سلمة ( المتوفى سنة 176 هـ ) .

وفى الكوفة جمع الحديث سفيان الثورى ( المتوفى سنة 161 هـ ) .

وفى بلاد الشام الأوزاعى ( المتوفى سنة 156 هـ ).

وباليمن مَعْمَر ( المتوفى سنة 153 هـ ).

وبخراسان ابن المبارك ( المتوفى سنة 181 هـ ).

وبمصر الليث بن سعد ( المتوفى سنة 175 هـ). [ أحمدأمين ـ ضحى الإسلام ـ الجزء الثانى, صفحة 103 ].



ولم يبق من هذهالمجموعات, حتى العصر الحالى, إلا مُوطَّأ مالك ( ابن أنس ), ووصف لبعض المجموعاتالأخرى, ويدل الموطَّأ, بلفظه وطبيعته, على أن جمع الأحاديث كان يهدف أساسًا إلىخدمة التشريع, بتسهيل استنباط الأحكام منها, فالموطَّأ مرتب على أساس فقهى, وكانالغرض منه, ومن أمثاله, أن يرد مالك وأضرابه على حركة فقهاء العراق الآخذين بالعقلوالقياس. فجامعو الأحاديث, على منهج الموطَّأ, كانوا يؤثرون الحديث, ولو كان خبرآحاد, على القياس وإعمال العقل, أى يفضلون النقل على العقل, ومن ثم فقد جمعواالحديث لكى يكون مصدرًا منظمًا لاستنباط الأحكام. [ أحمد أمين ـ ضحى الإسلام ـالجزء الثانى, صفحة 108 ].



وأحاديث موطَّأ مالك ـ الذى واصل وحدهالاستمرار فى المحيط الإسلامى ـ ليست كلها مسندة, يرويها مالك عن شخص محدد فآخرمعين حتى يصل إلى النبى, بل إن بعضها مرسل ( أى سقط من سنده اسم الصحابى فرواالتابعى ـ أى من يلى الصحابى فى المرتبة ـ من غير ذكر اسم الصحابى الذى روى عنهالتابعى ), وبعضها منقطع ( وهو الذى سقط من سنده راوٍ أو أكثر ). ومن أجل هذاالعوار فى سند الأحاديث ( سلسلة الرواة ) لم تروِ كتب الأحاديث الصحاح ( مثل صحيحالبخارى وصحيح مسلم ) كل أحاديث الموطَّأ, إذ لم يصح لدى جامعى هذه الكتب بعض هذهالأحاديث. [ خلدون الأحدب ـ الحديث المرسل ـ مفهومه وحجيته ـ دار البيان العربىبجدة 1984 ].



جمع الحديث :-



وتلت تلك المرحلة مرحلةأخرى أهم, هى مرحلة جمع الأحاديث على أساس تبويبها على أساس الموضوعات أو على أساسالرواة , وحد ذلك فيما يسمى بالصحاح والمسانيد.



فالصحاح هى ( الكتب , الدواوين ) التى ترتب الأحاديث على أساس الأبواب أو الموضوعات, كأن يُقال ( كتابالصلاة ) تم تورد الأحاديث التى تتصل بموضوع الصلاة, وهكذا, وأهم الصحاح: صحيحالبخارى وصحيح مسلم.



أما المسانيد فهى التى ترتب الأحاديث, علىطريقة السند, أى أن تُورد الأحاديث على حسب الرواة من الصحابة, فتجمع الأحاديث التىرواها أبو هريرة ـ مثلاً ـ عن النبى مهما اختلفت موضوعاتها من صلاة أو صوم ....... وأشهرها مسند حمد ( ابن حنبل ).



ويلى ذلك فى الأهمية ما يُعرف باسنالسنن, وهى كتب أو دواوين تنتهج نهجًا مغايرًا لنهجى الصحاح والمسانيد , فتقتصر علىإراد أحاديث الأحكام ولا تتشدد فىالرواية والرواة تشدد الصحيحين, ومن هذ السنن : سنن أبى داود ( سليمان بن الأشعث السجستانى 817 ـ 888 م ), وسنن الترمذى ( أبو عيسىمحمد بن عيسى 815 ـ 892 م ) وهو تلميذ لأبى داود السجستانى.
 
 
 
أما الأسباب التى دعتإلى وضع ( نحل أو اختلاق ) الحديث فكثيرة:

(
أولاً ) : فقد قُصر التشريععلى ما جاء فى القرآن الكريم والسنة النبوية فقط, ولما كانت الحياة متحركة متجددةفقد نشأت واقعات وأحداث لا حكم لها فى القرآن الكريم أو السنة النبوية, ومن ثماضطر بعض الفقهاء ـ عند استخراج حكم جديد" style="color: blue; font-size: 18pt">" ].



(
ثالثًا ) : وكان للخلاف بين الفرق الدينية أثر كبير فى وضع ( نحل أو اختلاق ) الأحاديث, فوُضِعَت أحاديث نصرة لفرقة أو تصف أخرى كالخوارج والقدرية وغيرهم بالسوءوالكفر والخروج عن الملة. [ اختصار علوم الحديث ـ المرجع السابق ـ , وضحى الإسلام ـالمرجع السابق ـ صفحة 124 وما بعدها ].



(
رابعًا ) : ووضع الزنادقةأحاديث كثيرة أرادوا أن يفسدوا بها الناس على دينهم لما جال فى نفوسهم من الرغبة فىالكيد للإسلام والمسلمين, فكانوا يظهرون بين الناس بمظهر التقاة, وهمالمنافقون.



قال حماد بن زيد :" وضعت الزنادقة على رسول الله ( ص) أربعة عشر ألف حديث" . ومن هؤلاء الزنادقة عبد الكريم بن أبى العوجاء الذى قتلهمحمد بن سليمان أمير البصرة سنة 160 هـ فى خلافة المهدى ( 158 ـ 169 هـ / 755 ـ 785م ), ولما اُخذ لتُضرب عنقه قال:" لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث, أحرم فيها الحلالوأحلل الحرام ", ومن هؤلاء الوضاع محمد بن سعيد بن حسان الأسدى الشامى الذى قال عنهأحمد بن حنبل :" قتله أبو جعفر المنصور ( 136 ـ 158 هـ / 745 ـ 775 م ) فى الزندقة, حديثه حديث موضوع " ومنهم ـ كذلك ـ كبْيان بن سمعان الهندى الذى قتله خالد بنعبدالله القسرى, ثم أحرقه بالنار, لأنه وضح أحاديث عن ألوهية على بن أبى طالب. [ اختصار علوم الحديث ـ المرجع السابق ].



ومن وضاع الحديث أصحابالأهواء والميول التى لادليل لها من الكتاب والينة, مثل الخطابية والرافضة وغيرهم, إذ وضعوا الأحاديث تشيعًا لأهوائهم وما يميلون إليه, وفى ذلك يقول عبد الله بن يزيدالمقرئ : " إن رجلاً من أهل البدع رجع عن بدعته فجعل يقول :" انظروا هذا الحديث عمنتأخذونه !. فـإنا كنا إذا رأينا رأيًا جعلنا له حديثًا ".



وقال حمادبن سلمة:" أخبرنى شيخ من الرافضة أنهم كانوا يجتمعون على وضع الأحاديث" [ اختصارعلوم الحديث ـ المرجع السابق ـ صفحة 70 ].



(
سادسًا ) : وكان بعضالقصاصين يضعون الأحاديث فى قصصهم قصد التكسب والارتزاق. , وتقربًا للعامة بغرائبالروايات المدعمة بالأحاديث. وقد كانوا فى ذلك يلجأون لكلام بعض الحكماء أو يقعونعلى الأمثال العربية فيركبون لها إسنادًا مكذوبًا, ثم ينسبونها إلى النبى على أنهاأحاديثه.



(
سابعًا ) : ووضع البعض أحاديث إرضاء للخلفاء, كما فعلغياب بن إبراهيم النخعى إذ دخل على المهدى ( 158 ـ 169 هـ / 775 ـ 785 م ), وأمامهحمام يلعب به فقال له :" عن فلان عن فلان أن النبى قال : لاسبق إلا قى نصل أو خف أوحافر أو جناح" , فأمر له المهدى ببدرة " أى صرة من المال".

وكان مقاتل بنسليمان البلخى, من كبار العلماء بالتفسير, يتقرب إلى الخلفاء بمثل ذلك, أى بوضعالأحاديث التى تروقهم. [ اختصار علوم الحديث ـ المرجع السابق ـ صفحة 72 ].



(
ثامنًا ) : كما وضع ( نُحل أو أختلق ) الأحاديث قوم ينسبونأنفسهم إلى الزهد والتصوف, لم يتحرجوا فى وضع الأحاديث فى الترغيب والترهيب أو فىبيان محاسن بعض سور القرآن, وكان بعضهم يقول فى ذلك : نكذب له ( أى النبى ) ولانكذب عليه.

ومن الأحاديث الموضوعة المعروفة الحديث المروى عن أبى كعبمرفوعًا فى فضئل القرآن سورة سورة, وقد ذكره بعض المفسرين فى تفاسيرهم كالثعلبىوالواحدى والزمخشرى والبيضاوى دون أن ينتبهوا إلى الخطأ. [ اختصار علوم الحديث ـالمرجع السابق ـ صفحة 73 ].



(
تاسعًا ) : ووضع البعض أحاديث فى فضلالبلاد, كأن تمتدح الشام فى العهد الأموى, وتذكر فضائل بغداد والكوفة ( من قبل أنتؤسس ) فى العهد العباسى ... وهكذا.



(
عاشرًا ) : ومما يدخل فى بابوضع الأحاديث, بحال من الأحوال, رواية البعض للأحاديث بالمعنى, لايتقيد فيه بألفاظالنبى, وفى ذلك قال سفيان الثورى: " إن قلت لكم إنى أحدثكم كما سمعت فلا تصدقونى, إنما هو المعنى".

ومتى لجأ امرؤٍ إلى ألفاظه هو ليعبر بها عن معنى قَصَدَهغيره, فإن تلك مقدمة لأن ينزع بعد ذلك إلى معانيه هو, ربما خلطًا منه بين ما هو وماهو لغيره, ولعله يفعل ذلك عن حسن نية, أو سوء تدبير, أو قساد قصد, أو خطأ مرمى, أوخطل اتجاه, أو ما إلى ذلك. [ راحع كتابنا ـ معالم الإسلام ـ صفحة 155 ].



وحتى غذا لم يلجأ إلى هذا, واقتصر على التعبير بلفظه عن معنىسمعه من النبى فإن الفارق بين التعبيرين وارد ومحتمل بل ومترجح. إذ قد يختلفالتعبير باللفظ عن الألفاظ السابقة ( التى قال بها النبى الحديث ) فى حرف أو فىكلمة أو فى ضمير إو فى زمن(ماض, مضارع, مستقبل ) أو غير ذلك, مما يمكن معه أن يتغيرالمعنى تغييرًا جزئيًا أو كليًا.
 
 

ضوابط بيان الحديثالصحيح:-




ونظرًا لكل هذه الإتجاهات فى وضع ( نحل أو اختلاق ) الأحاديث, فقد حاول علماء الحديث وضع ضوابط لاستخلاص الحديث الصحيح من الموضوعيُمكن نحديدها فيما يلى:



(1)
ألا يكون شخص قد أقر بوضع الحديث [اختصار علوم الحديث ـ المرجع السابق ـ صفحة 67 هامش رقم 1 ]. مثال ذلك ما رواهالبخارى فى التاريخ الأوسط عن عمر بن صبح بن عمران التميمى أنه قال:" أنا وضعت خطبةالنبى", وكذلك ما أقر به ميسرة بن عبد ربه الفارسى أنه وضع أحاديث فى فضائل القرآن, وأنه وضع فى فضل على بن أبى طالب سبعين حيثًا. وكما أقر أبو عصمة نوح بن أبى مريم, الملقب بنوح الجامع, أنه وضع على عبد الله بن عباس أحاديث فى فضائل القرآن سورةسورة.



(2)
اختبار سلسلة الرواة بحيث يكون كل منهم عدلاً روى عنعدلٍ, وألا يكون الراوى فد عاش فى غير زمن المروى عنه ( أى ليس معاصرًا له ), وأنيكون غير مجرح, وهذا ما يُعرف فى علم الحديث بالجرح والتعديل.



غيرأن تقدير جامع الحديث لكل شخص يختلف بينه وبين آخر, فبينما يرى أحدهم أن راويًا ماغير عدل أو مُجرح, لايراه الثانى كذلك. يضاف إلى هذا أن الشروط التى وضعت لقبولالحديث عن الراوى اختلفت من جامع لآخر, فلقد سلف بيان أن البخارى اشترط فى إخراجالحديث أن يكون الراوى قد عاصر شيخه ( أى من يُروى عنه ) , وثبت عنده سماعه منه, بينما لم يشترط مسلم مبدأ السماع عن المروى عنه, واكتفى بمجرد معاصرتهما لبعض, هذافضلاً عما سلف بيانه من أن جامعى السنن ( مثل أبى داود السجستانى ) لم يتشددوا فىالرواية والرواة تشدد الصحيحين. ومن هذه الفروق فى الشروط, وفى التقدير, اختلفتالأحاديث المروية فى كتب الأحاديث, ففى حين ذُكر بعضها فى أحد الكتب ( الدواوين ), فإنها لم تذكر فى كتب أخرى. ولهذه الأسباب فقط صح للبخارى 2726 حديثًا غير مكرر منجملة مائتى ألف حديث جمعها, بينما صح لمسلم 4000 حديث غير مكرر, أى الفارق فىالأحاديث الواردة فى الصحيحين 1238 حديثًا, وهو فارق غير قليل بين أصح كتابين منكتب الحديث, لايمكن التجاوز عن, أو إغفال دلالته التى تقتضى التحرز فى قبولالأحاديث عمومًأ.



على أنه يؤخذ على مبدأ جرح وتعديل الرواة, أىضرورة صحة الإسناد, أن بعض واضعى الأحاديث وضعوا لها إسنادًا صحيحًا, بحيث لايمكنالتحقق من وضع الإسناد إلا إذا أقر واضع الحديث وواضع إسناده بذلك, أما بعد عصور منهذا الوضع فإن مخرج الحديث يجد نفسه مضطرًا إلى أن يأخذ السند على علاته لصعوبة ـبل استحالة ـ تتبع سلسلة الرواة بعد أن توفاهم الله منذ آماد سابقة علىعمله.



وقد روى, فى وضع الإسناد, أن شخصًا يدعى أبو حاتم البستى دخلمسجدًا فسمع شابًا يقول :" حدثنا أبو خليفة حدثنا أبو الوليد عن شعبة عن قتادة عنأنس فقال: ثم ذكر حديثًا". فسأله أبو حاتم:" هل رأيت أبا خليفة ( الذى روى عنه )؟, قال: لا, قال: كيف تروى عن ولم تره؟, فقال الشاب: إن المناقشة معنا من قلة المروءة!, أنا أحفظ هذا الإسناد, فكلما سمعت حديثًا ضممته إلى هذا الإسناد". [ اختصار علومالحديث ـ المرجع السابق ـ صفحة 71 ].



وقيل لمأمون بن أحمد الهروى:" ألا ترى إلى الشافعى ومن تبعه بخراسان؟ فقال : حدثنا بن عبداله ( كذا فى لسانالميزان جزء 5 صفحة 7 ـ 8, وفى التدريب ص 100 أحمد بن عبد البر ) حدثنا عبدالله بنمعدان الأزدى عن أنس, مرفوعًا, قال: يكون فى أمتى رجل يقال له محمد بن إدريس, أضرعلى أمتى من إبليس, ويكون فى أمتى رجل يقال له أبو حنيفة, هو سراج أمتى " !!. [ اختصار علوم الحديث ـ المرجع السابق ـ صفحة 68 ].



فالوضع فى هذاالقول واضح, لكن الواضع لم يفته وضع سند صحيح.



(3)
عدم مخالفة المتن ( النص ) للعقل, أى ضرورة أن يكون المنقول موافقًا للمعقول, وأن يكون النص مقبولاًعقلاً, غير ظاهر الركة فى المعنى, حتى وإن لم ينضم إلى ذلك ركة اللفظ. [ اختصارعلوم الحديث ـ المرجع السابق ـ صفحة 68 ].



ومع أهمية هذا الشرط, فإن المسلمين أسقطوه, مقصرين تقدير الموافقة العقلية على جامع الحديث وحده, فإذاانتهى الأمر بإدراج الحديث فى أحد الكتب ـ الصحاح أو المسانيد أو السنن , أو حتىغيرها ـ صارت المعقولية قائمة فى الحديث المدرج, بحيث لايجوز لأى شخص آخر أن يعملعقله بعد ذلك. بل عليه أن يبرر ويسوغ, وإلا عد منكرًا للحديث, خارجًا عن الملة فىرأى البعض. فوجود الحديث فى أى كتاب, ولو كان من الكتب الثانوية أو المرجوحة أوالمعلولة ( ذات العلة ) كافٍ لمنع العقل من تقدير متنه ( نصه ) على موازين السلامةالفكرية ومعايير الصحة العقلية. وبذلك يكون هذا الشرط ( عدم ركة المعنى, وعدممخالفة المنقول للمعقول ) شرطًا نظريًا لا يُعمل به حقيقة. على تقدير أن جامعى كتبالأحاديث قد أعملوه, ولم يعد من الجائز لأحد من بعدهم أن يُقَوّم عملهم بموازينفكرية ولو كانت جديدة, أو يُراجع تقديرهم بمعايير عقلية وإن كانت واضحة وضوحالشمس.



ومن الأحاديث الثابتة ـ فى صحيح الخارى, المعتبر أن أصح كتبالحديث ـ وتتنافى مع العقل وتتجافى مع المنطق أحاديث كثيرة, نذكر منهاثلاثة:-

(
أ ) { إذا وقع الذباب فى إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن فىاحد جناحيه شفاء وفى الآخر داء } [ رواه أبو هريرة وأخرجه ابن ماجه أيضًا ـ فى الطب].

وهو حديث واضح المخالفة للعقل والمجانبة للذوق, ولو قوم طبقًا لهذهالمعايير لتعين تجاوزه, أو على الأقل لعُد متوافقًا مع ظروف عصرهفحسب.



(
ب ) { تدرى أين تذهب ( الشمس ) ... قال النبى: فإنها تذهبحتى تسجد تحت العرش فتستأذن فيؤذن لها, ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها, وتستأذن فلايؤذن لها, يقال لها ارجعى حيث جئت فتطلع من مغربها, فذلك قوله تعال { والشمس تجرىلمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم }} [ رواه أبو ذر وأخرجه مسلم وأبو داودوالترمذى والنسائى ].

والمعلوم حاليًا فى المعارف البشرية والعقل افنسانىوصميم العلوم أن الشمس لاتتحرك نحو المغرب, ولكن الأرض تدور من المغرب إلى المشرقحول الشمس, وإن الشمس لاتسجد وإنما تُشرق فى أماكن أخرى حتى تصل إلى منطقة الشرقالأوسط.

ومؤدى ذلك أن التسليم بصحة الحديث يلغى كل المعارف العلميةوالمفاهيم العقلية, وهو مالا يدعو إليه الإسلام, بل يأمر بضده.



(
جـ ) { إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنى, أدرك ذلك لا محالة }. وتقدير هذا الحديثوفقًا لضوابط العقل ومعيير الإسلام وموازين القرآن يجعله محل نظر, لأنه يلغى مبدأالحرية الشخصية التى قررها القرآن : { بل الإنسان على نفسه بصيرة } [ سورة القيامة 75 : 14 ], { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ سورة النساء 4 : 97 ], { وإن تصبهمسيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقطنون } [ سورة الروم 30 : 36 ]. يضاف إلى ذلك أنالحديث يسقط مبدأ المساءلة أو لا يجعلها على إثم اقترفه الشخص بإرادته. فما دام حظهمن الزنى قد قُدر عليه فأين يهرب من قدره؟!, وهل يستطيع إنسان ذلك ؟, ولم يعاقب علىقدر لم يختره لنفسه ولم يقترب من بإرادة حرة واعية؟!.
 
طبيعةالأحاديث


ونظرًا لأن هذه الأحاديث كلها أحاديث آحاد فقدثار فى الفكر الإسلامى جدل كبير حو هذه الأحاديث.

فثمت تقسيمات متعددةللأحاديث أهمها ـ من حيث رواية الحدث ـ أن الأحاديث ( السنة ) المنقولة عن النبى هىأحاديث متواترة, وأحاديث مشهورة أو مستفيضة, وأحاديث آحاد. [ زكريا البرى: أصولالفقه الإسلامى ـ صفحة 49 وما بعدها / محمد زكريا البرديسى: أصول الفقه ـ صفحة 198وما بعدها / عباس متولى: أصول الفقه ـ صفحة 78 وما بعدها / عبد الوهاب خلاف: علمأصول الفقه وتاريخ التشريع الإسلامى ـ صفحة 30 ومابعدها / أحمد أبو الفتوح: المختارات الفتحية ـ صفحة 38 وما بعدها ].



1
ـ فالأحاديث المتواترةهى ما رواها عن النبى فى عصور الصحابة والتابعين وتابعى التابعين, جمع يمتنعتواطؤهم واتفاقهم على الكذب عادة. وأمثلة هذه الأحاديث , الأحاديث العملية مثلالصلاة التى لم يرد بيانها فى القرآن الكريم, ونقلت عن النبى الذى قال: " صلوا كمارأيتمونى أصلى", وكذلك الحج والعمرة ( وقد كانت شعائرها معروفة فى عصر ما قبلالإسلام, وغير الإسلام فى التكبيرة الخاصة بعدم وجود شريك لله ) وأخذت الشعائر عنالنبى الذى قال:" خذوا عنى مناسككم".



أما الأحاديث القولية, فإنالفقهاء لم يتفقوا على تواتر أى حديث من الأحاديث بلفظه, وقال البعض إن ثمة حديثًاواحدًا ثبت فيه التواتر هو حديث:" من كذب علىّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". [ زكريا البرى ـ أصول الفقه الإسلامى ـ ص 49 ].



والسن المتواترة قطعيةالورود عن النبى ومن ثم يعمل بها ـ فى المسائل العقائدية ـ ما دام التواتر يوجبالعلم اليقينى.

وتواتر الحديث بالنقل والتدوين ـ بعد عصور الصحابةوالتابعين وتابعى التابعين ـ لايجعل الحديث متواترًا, لأن نقله فى العصور الثلاثةالتى كان عماد الرواية فيها على المشافهة والسماع لم يكن متواترًا, ولذلك لايقطعبصحة مثل هذا الحيث وثبوته. [ زكريا البرى ـ أصول الفقه الإسلامى ـ ص 50 ].



2
ـ أما الأحاديث المشهورة أو المستفيضة فهى تلك التى رواها عنالنبى صحابى أو جمع لم يبلغ حد التواتر, ثم رواها فى عصر التابعين وعصر تابعىالتابعين جمع بلغ حد التواتر.



ومثل هذه الأحاديث الحديث الذى رواهعمر عبد الخطاب عن النبى قال: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى" .. وحديث " بنى الإسلام على خمس .. ".



والفرق بين الأحاديث المتواترةوالأحاديث المشهورة أن الأحاديث المتواترة رويت بطريق التواتر فى العصور الثلاثةالأولى ( عصر الصحابة وعصر التابعين وعصر تابعى التابعين ). أما الأحاديث المشهورةفلم يتحقق فيها التواتر إلا فى عصر التابعين وتابعى التابعين, بمعنى أنه لم يتحققلها تواتر فى عصر الصحابة.



والأحاديث المشهورة لاتفيد القطع واليقينبروايتها عن النبى, وإنما تفيد الظن القريب من اليقين. [ زكريا البرى ـ أصول الفقهالإسلامى ـ ص 51 ].



3
ـ أما الأحاديث الآحاد فهى تلك التى رواها عنالنبى عدد لم يبلغ حد التواتر فى عصر التابعين وعصر تابعى التابعين, وتسمى ـ لذلك ـأخبار الآحاد, لأنها ما تكون قد رويت من واحد عن واحد عن واحد, وهكذا. وأغلبالأحاديث من هذا النوع.



وهذه الأحاديث تفيد الظن " الراجح" بنسبتهاإلى النبى ولا تفيد القطع كالأحاديث المتواترة, ولا تفيد التقرب من القطع كالأحاديثالمشهورة.



ولأن أحاديث الآحاد ظنية, وليست قطعية ولا قريبة منالقطعية, فإن بعض المذاهب والفرق الإسلامية انتهت, منذ وقت مبكر فى تاريخ الإسلام, إلى رفضها وإنكار حجيتها وعدم العمل بها, من هذه المذاهب والفرق: الشيعة والمعتزلةوالرافضة وبعض الخوارج. [زكريا البرى ـ أصول الفقه الإسلامى ـ ص 52 هامش "1" / عباسمتولى ـ صفحة 85 ].



وثم عدد من غير هؤلاء ينكر حديث " سنة الآحاد " [ زكريا البرى ـ أصول الفقه الإسلامى ـ ص 51 , 52]. ولا يرى له حجية, ويذهب إلى عدمالعمل به.



أما غير هؤلاء وهؤلاء " من الجمهور" فيرون عدم الأخذبأحاديث الآحاد فى الأمور الاعتفادية التى تتصل بالدين أو تتعلق بالشريعة, لأن هذهالأمور ينبغى أن تبنى على القطع واليقين ولا تقوم على الظن الذى لا يغنى من الحقشيئًا, ولكن يؤخذ بهذه الأحاديث فى الأمور العملية, أى فى شئون الحياة الجارية متىترجح صدقها " أى بعد اتباع المعايير الشكلية والموازين الموضوعية التى تفيد صحةالإسناد وسلامة ـ أى معقولية ـ المتن".



ومفاد ذلك أن أحاديث الآحادليست فريضة دينية, ولا واجبًا دينيًا, وأن من ينكر استقلالها بإثبات الفروض أوالواجبات الدينية لايكون قد أنكر شيئًا من الدين, ولا يكون آثمًا أو عاصيًا أوكافرًا.



فالفريضة [ يرى أغلب الفقهاء أن الفريضة هى ما ألزم الشارعالمكلف به بدليل قطعى لاشبهة فيه. والواجب هو ما ألزم الشارع المكلف به بدليل ظنىفيه شبهة, أو فيه شبهة العدم, وهو خبر الآحاد. وهذه التعريفات هى ما ننتقده فىالمتن, ونستبدل بها غيرها, إذ من غير المعقول أن يثبت واجب دينى بدليل فيه شبهةالعدم. مع ما للواجب الدينى من خطورة اعتبار تاركه آثمًا أو عاصيًا وربما كافرًأ ] هى مافرضه الله أركانًا للإيمان. بعد الشهادة ـ بدليل قطعى لاشبهة فيه, والفرائض ـبذلك ـ عند أهل السنة ـ أربع : الصلاة والصوم والزكاة والحج. وهى ـ عند الشيعة ـخمسة بإضافة الإمامة إلى الفرائض الأربع المنوه عنها. [ كثيرًا ما يطلق الحنيفيةلفظ الفرض على ما هو ثابت بدليل ظنى والواجب على ما هو ثابت بدليل قطعى. أى أنهم ـعلى عكس غيرهم ـ يبادلون بين لفظى الفرض والواجب, فيقولون إن الوتر " أى صلاةالوتر" فرض, لثبوته بدليل ظنى هو حديث النبى " الوتر حسن فمن لم يوتر فليس منى". والصلاة واجب لثبوتها بدليل قطعى هو قوله تعالى: " إن الصلاة كانت على المؤمنينكتابًا موقوتًا". والفرض عند الحنفية قسمان: "أ" فرض اعتقادى عملى هو ما ثبت بدليلقطعى لاشبهة فيه كفرضية الصلاة. "ب" وفرض عملى وهو ما ثبت بدليل ظنى كفريضة الوتر, ويرون الحنفية أن الفرض العملى إذا أنكره المكلف لايعد كافرًا, ويرى الشافعية ومنيذهب معهم فى الرأى, أن الفرض والواجب متردفان ].



والواجب هو ماأوجبه الله على عباده بدليل قطعى لاشبهة فيه, مثل قراءة القرآن: { فاقرأوا ما تيسرمن القرآن } [ سورة المزمل 73: 20 ], وطاعة الوالدين: { وإن جاهداك على أن تشرك بىما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما فى الدنيا معروفًا } [ سورة لقمان 31 : 15 ], وعدم دخول البيوت بغير إذن: { يا أيها الذين آمنوا لاتدخلوا بيوتًا غير بيوتكم حتىتستأنسوا وتسلموا على أهلها } [ سورة النور 24: 27].



ومن أنكراستقلال أحاديث الآحاد فى إثبات الفروض أو الوجوب أو التحريم لايعد منكرًا لشئ منالدين " فلا هو آثم ولا هو عاص ولا هو كافر", لأنه أنكر شيئًا اختلف فيه الأئمة, وينبنى على الظن.



وقد صدرت فتوى من الأزهر ـ بتارخ أول فبراير 1990ـ جاء بها :" إن الإيجاب "الوجوب" والتحريم لايثبتان إلا بالدليل اليقينى القطعىالثبوت والدلالة. وهذا بالنسبة للسنة " الأحاديث" لايتحقق إلا بالأحاديث المتواترة, وحيث إنها " هذه الأحاديث المتواترة" تكاد تكون غير معلومة, لعدم اتفاق العلماءعليها, فإن السنة " الأحاديث " لاتستقل بإثبات الإيجاب " الوجوب " والتحريم إلا أنتكون فعلية " وهى المتواترة كالصلاة والحج والعمرة " أو تضاف إلى القرآن الكريم " أى يقوم عليها دليل مستقل من القرآن تنضم إليه". [ نشر نص الفتوى فى جريدة الأحرارالمصرية بتاريخ 5 /8/1993 ].



وقد قال بعض الفقهاء بأن أحاديث الآحادتلزم فعل ما ورد بها, فرضًا أو وجوبًا, وهوتقدير خاطئ يؤدى إلى نتائج غريبة لم تخطرلهم على بال:

أولاً: كيف تكون ثم فرق بأكملها ـ كالشيعة مثلاً ـ تنكر هذهالأحاديث, ثم يقال إنها تلزمهم أو تفرض عليهم أو توجب عليهم فعل ما ورد بها؟, ومانتيجة عدم العمل بهذه الأحاديث؟, هل يمكن اتهام فرقة معاصرة ـ ومذهب معترف بهكالمذهب الجعفرى الشيعى ـ بإنكار شئ من الدين؟, وما حكم من يرى اتباع هذا المذهبفيما يراه؟.

ثانيًا: وكيف يكون الأصل أن أحاديث الآحاد لا تستقل بإثبات وجوبأو تحريم, ثم يقال ـ بعد ذلك ـ بوجود أو فرض العمل به؟

ثالثًا: وكيف يكونالرأى أن أحاديث الآحاد مما يؤخذ به فى الأمور الاعتقادية أساسًا, ثم يقال ـ بعدذلك ـ أنها توجب واجبًا أو تفرض فرضًا؟.

رابعًا: وكيف يجوز لأى شخص ـ غيرالشيعة ومن عداهم من أهل الجماعة ـ إنكار استقلال أحاديث الآحاد بإثبات الوجوبوالفرض دون أن يعد المنكر منكرًا لشئ من الدين " لأنه أنكر شيئًا اختلف فيهالأئمة", ثم يتعين بعد ذلك على المنكر أن يعمل بحديث ـ يحق له إنكاره ـ وإلا عدآثمًا أو عاصيًا أو كافرًأ؟.



إن قول القائلين بأن أحاديث الآحادتفرض فروضًا دينية أو توجب واجبات دينية, حدث نتيجة الخلط بين لفظى الفرض والواجب, وأثرًا لعدم وضع تعريفات محددة قاطعة ـ جامعة مانعة ـ لما يعد فرضًا وما بعد واجبًا [ يلاحظ أن لفظ " الفرض" فى القرآن يفيد حدود الله كما يفيد النصيب المقدر فىالميراث ]. وترتيبًا على انعدام النظرة التكاملية وافتقاد المنهج النقدى, وقد كانمن نتيجة ذلك حدوث قلقلة واضطراب وتشويش فى جانب من الفقه الإسلامى, ثم امتداد هذاالخلط إلى الفكر الإسلامى والشئون العلمية, نتيجة لعتامة الألفاظ وغموضهاواختلاطها, فأصبح يقال أن الجهاد فريضة والحجاب فريضة والسياسة فريضة .. وهكذا, مماقد يوحى للمستمع أن ما يوصف بأنه فريضة قد فرض من الله أو بأحاديث متواترة, الأمرالذى يبدل المفاهيم الدينية تمامًا ويغير من الفروض الشرعية كلية, ويخلط القولالظنى بالقرآن الكريم أو يمزج الرأى الفردى بالشريعة الإسلامية, وهى نتائج تفرض علىالمسلمين, مالم يفرضه الله, وتجعل لحديث الآحاد الظنى المتشابه غير المحكم واقعالنص القرآنى أو حكم الشرع الإسلامى, بل قد تغير من أحكام هذا وذاك, وتضيق الحياةعلى المؤمنين حين تجعلهم فى كل فعل أو تصرف أو قول أو لفظ معرضين للوقوع فىالمحظور, واقتراف الآثام, واجتراح الحرمات, مع أن الدين يسر لا عسر, ولايجوز لأحدمهما كان أن يفرض على المسلمين ما لم يفرضه الله, نتيجة للتلاعب بالألفاظ أو عدموضح فهمه أو نتيجة لقصور تعبيره.



ولبيان ذلك فى تطبيق عملى, يمكنتتبع الأثر فى أحاديث خمسة من أحاديث الآحاد:

1
ـ ففى الحديث: { إذا وقعالذباب فى إناء أحدكم فليغمسه كله ثم ليطرحه فإن فى احد جناحيه شفاء وفى الآخر داء } [ رواه أبو هريرة وأخرجه ابن ماجه أيضًا ـ فى الطب ].

فهل ما جاء فىالحديث يعد فرضًا دينيًا أو واجبًا دينيًا, يكون تاركه عاصيًا أو آثمًا؟ أو عندالتشدد كافرًا؟ وهل إذا عافت نفس شخص أكل طعام وقع فيه الذباب يعتبر أنه قد تركفرضًا دينيًا أو تخلف عن واجب دينى, بما يترتب على ذلك منتداعيات؟.



2
ـ وفى الحديث: { خالفوا المشركين, وفروا اللحى وأحفواالشوارب }, رواه ابن عمر وأخرجه البخارى. [ اخرجه مسلم " جزوا الشوارب وأرخوا اللحىوخالفوا المجوس" فالتبيان بينه وبين ما أخرجه البخارى جاء التخالف بين لفظى " حفوا" و " جزوا" ولفظى " وفروا" و " ارخوا" وبين لفظى " المشركين" و " المجوس" وهو خلافليس هينًا ].

فهل إذا لم يأخذ أحد بهذا الحديث, وأغلب الناس حتى علماء الدينورجال المؤسسات الرسمية التى يتصل عملها بالدين, والوعاظ والدعاة وغيرهم لايأخذ به, هل يؤدى ذلك إلى اعتبارهم جميعًا تاركين لفرض دينى؟, مسقطين لواجب دينى, أو هليعدون جميعًا عصاة آثمين؟!.



3
ـ وفى الحديث : { الناس تبع لقريش فىهذا الأمر } أى فى الولاية وفى الحكم وسياسة أمور الناس ـ بلغة العصر الحديث ـ رواهأبو هريرة وأخرجه البخارى, والحديث متفق عليه. [ دكتور فنسك ـ مفتاح كنوز السنة ـتعريب محمد فؤاد عبد الباقى ـ دار إحياء التراث العربى بيروت, صفحة 406. ويلاحظ أنحديث " الأئمة من قريش" لم يرد فى الصحيحين " البخارى ومسلم" ولا فى كتب الحديثالمعتمدة وإنما ورد فى مسند الطيالسى وحده, س6].

هل هذا الحديث يفرض علىالمسلمين جميعًا أن يتركوا الولاية لقريش كفرض دينى أو واجب دينى؟, وما حكم الخلافةالإسلامية فى بيت آل عثمان ـ غير القريشيين ـ من سنة 1517 حتى 1924؟, وما شرعية كلالحكومات فى كل البلاد الإسلامية عدا بلدًا أو بلدين؟, هل يعد الشعب والحكام قدخالفوا فرضًا دينيًا أو واجبًا دينيًا, أى أنهم جميعًا آثمون عصاة, ومع التشددوالتنطع, كفار بغاة؟.



4
ـ وفى الحديث: { لا أحلف على يمين فأرىغيرها خيرًا منها إلا أتيت الذى هو خير وتحللتها } رواه أبو موسى الأشعرى, أخرجهالبخارى , والحديث متفق عليه. [ مفتاح كنوز السنة ـ صفحة 69 ].

فهل إذا رأىمسلم ألا يجحد يمينه وأن يلتزم عهده يكون آثمًا عاصيًا وربما كافرًأ لأنه فريضةدينية وخالف واجبًا دينيًا ؟.



5
ـ وفى الحديث: { اجعلوا فى بيوتكممن صلاتكم ولا تتخذوها قبورًا } رواه ابن عمر وأخرجه البخارى.

هذا حديث ينهىعن اتخاذ القبور مساجد يصلى فيها, فما هى حال المسلمين الذين يخالفون الحديث, وفىمصر ـ مثلاً ـ ثمة مساجد أقيمت على أضرحة مثل مسجد الإمام الحسين والسيدة زينبوالسيدة نفيسة والإمام الشافعى والسيد أحمد البدوى والسيد إبراهيم الدسوقى والسيدمرسى أبو العباس والسيد عبد الرحيم القنائى وغيرهم كثير, هل يعتبر المسلمون الذينيصلون فى هذه المساجد آثمين عصاة وربما كفارًا لمخالفتهم فرضًا دينيًا ومجانبتهمواجبًا دينيًا؟, وهل تعد كل الحكومات كافرة لأنها سكتت عن الناس وهم يبنون المساجدعلى القبور ويأمون هذه المساجد للصلاة؟.



إن الوهابيين يأخذون بنصالحديث ويعتبرونه فرضًا دينيًا أو واجبًا دينيًا, فلا يقبلون الصلاة فى مساجد أقيمتعلى قبور, فما حكم باقى المسلمين الذين يصلون فى مثل هذه المساجد فى كل البلادالإسلامية؟.
 
وقتيةالأحكام:-



أثار بعض الفقهاء مسألة وقتية الأحكام بالنسبة لأحاديثسنة الآحاد, ويعنى ذلك تأقيت الحكم فى حديث معين, بوقت بذاته وعصر محدد, ذلك أنهؤلاء الفقهاء يرون أنه فيما صدر عن النبى حتى من تشريعات, ما يفيد أنه تشريع وقتىروعى فيه ظروف العصر. فقد يأمر النبى بالشئ أو ينهى عنه, فى حالة خاصة لسبب خاص, فيفهم الصحابة أو الناس أنه حكم مؤبد بينما هو فى الحقيقة حكموقتى.



وأضاف هؤلاء الفقهاء أنه كان لعدم الفصل بين النوعين منالأحكام: المؤبد والوقتى أثر كبير فى الخلاف بين المسلمين. فقد يرى بعض الفقهاءحكمًا للنبى يظنون أنه شرع عام أبدى لايتغير بينما يراه الآخرون صادرًا عنه لعلةوقتية وأنه حكم جاء لمصلحة خاصة قد تتغير على مر الأيام. [ عبد الوهاب خلاف ـ مجلةالقانون وللاقتصاد ـ عدد إبريل / مايو 1994 صفحة 259 , محمد مصطفى شلبى ـ تعليلالأحكام ـ طبعة سنة 1949 صفحة 28 ].



من هذا المظر, يمكن أن يُعادتقدير أحاديث الآحاد تقديرًا جديدًا, وتجاوز ما ينتهى الرأى أنه حكم وقتى خاص بعصرهأو مجتمعه.



وقد رأى بعض آخر من الفقهاء أن الأحاديث التى صدرت عنالنبى فيما يتعلق بالطب والزراعة والطعام والحرب وما يماثلها, أحاديث تتضمن خبرتهالذاتية وخبرة مجتمعه فى هذه المسائل, ولم تصدر عنه بمقتضىالوحى.



ومن هذا الفهم, يمكن أن يعاد ترتيب وتبويب أحاديث الآحاد علىنحو جديد, يمايز بين ما صدر عن الوحى وما صدر عن الخبرة.



الحديثوالحجاب:-



متى استقام الأمر إلى حقيقة أحاديث سنة الآحاد, وحجيتها, وأنها أحاديث ظنية لايؤخذ بها فى المسائل الاعتقادية, فلا هى تتصل بالدين ولا هىتتعلق بالشريعة, وأنه يمكن إنكار استقلالها بفرض الفروض الدينية أو بإيجاب الواجباتالدينية, دون أن يؤخذ على المنكر شئ, متى استقام كل ذلك, فإن السياق يقتضى تطبيقالنتائج على موضوع الحجاب ـ بالمعنى الدارج حاليًا والذى يعنى وضع غطاء على الرأس ـلبيان حجية الحديث الذى يقيم عليه الداعون إلى هذا الحجابدعواهم.



والحديث يقول: { إذا عركت "بلغت المحيض" المرأة, لم يصح أنيظهر منها إلا هذا وهذا, وأشار النبى إلى وجهه وكفيه }, رواه أبو داود فى سننه, ولميرد لا فى صحيح البخارى ولا فى صحيح مسلم ولا فى مسند ابن حنبل ولا فى سنن النسائىولا فى س"color: blue; font-size: 18pt">النور 24: 31] إن المقصود بالزينة الظاهرة: الوجه والكفان. وقول هؤلاء الصحابة فىشرح الآية المنوه عنها ليس دليلاً على وجود حديث مستقل بعدم كشف ما سوى الوجهوالكفين, وإذا كان هذا الحديث موجودًا فى عصركم, فلماذا لم لم يركنوا إليه ويحتجوابه؟ , ومن جانب آخر, فإن الذين يؤكدون على الحديث يعززونه بالآية المذكورة, والذينيشرحون الآية ـ بتحديد الزينة بالوجه والكفين ـ يركنون إلى الحديث, ومن ثم فهى حلقةمفرغة يدور فيها القول ويجرى المرء ويتشتت الفكر دون أن يستطيع التحديد: ما الذىبدأ وما الذى تلى؟, ماذا يفسر ماذا؟, هل الآية تعزز الحديث أم أن الحديث يشرحالآية؟.



وثم حديث آخر يضعف من الحديث السابق, فيزيده وهنًا على وهن, ففى الحديث: { لا تُقبل صلاة الحائض إلا بخمار } أخرجه أبو داود ( مُخرج الحديثالسابق ذكره ). كم أخرجه الترمذى وابن ماجه وابن حنبل. [ مفتاح كنوز السنة ـ صفحة 168 ].



فهذا الحديث الذى رواه أربعة من أئمة الحديث ـ منهم ثلاثةتُعد كتبهم من الصحاح, ومنهم أبو داود مُخرج حديث " إذا عركت ( بلغت ) المرأة" هذاالحديث يفيد بوضوح أن شعر المرأة لم يكن يُغطى " وفقًا لحديث إذا عركت المرأة", وأنه من ثم كان يوضع عليه خمار أثناء الصلاة, والخمار لغة : كل ماستر, ومنه خمارالمرأة [ المعجم الوسيط ـ مادة خمر ] , وهو ثوب أو طرحة [ المعجم الوسيط ـ مادةطرحة ] تغطى بها رأسها.



فالوصية بأن تغطى المرأة رأسها بخمار عندالصلاة يفيد ـ بمفهوم المخالفة ـ أن هذا الرأس لم يكن يُغطى قبل الصلاة , أى أنغطاء الرأس وصية للمرأة عند الصلاة, لكنه لايلزم فيما عدا ذلك, ولا أساس متينًاللقول بغير ذلك, بل هى آراء متضاربة يشد بعضها أزر بعض, فيقوض بعضها كلبعض.