دفاع عن الحديث
أضواء على السنة المحمدية 2

في السبت ١٢ - سبتمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

 

بسم الله الرحمن الرحيم
ننشر فى هذة المقالة الجزء الثانى من كتاب أضواء على السنة المحمدية للكاتب الأستاذ محمود أبو رية و فى هذا الجزء أربعة أبواب هامة و هى السنه ؛ مجرد أمر الرسول لا يقتضى الوجوب ؛ النهى عن كتابة الحديث و الأدلة القوية الصحيحة على حقيقة حديث من كذب على.
و هذا الجزء مليئ بالمعلومات القيمة التى يجب على كل قرآنى الألمام بها و تكون مرجع لنا عند القيام بأى بحث أو دراسة.
و اتمنى ان تكون هناك مناقشة جادة بيننا على هذا الجزء و مدى أتفاقنا أو أختلافنا على ما جاء فيه.
 
السنه:
نرى من الحق علينا قبل أن نتناول أطراف الحديث الذي أخذنا على أنفسنا القيام به أن نمهد بصدر صالح من القول في تعريف " السنة " لغة واصطلاحا وبيان حكم القولية منها التي هي أحاديث النبي، ومكانها من الدين. ثم نمضي في سبيلنا إن شاء الله.
 عرفوا السنة لغويا: بأنها الطريقة المعبدة، والسيرة المتبعة، أو المثال المتبع - وجمعها سنن، وذكروا أنها مأخوذة من قولهم: سن الماء إذا والى صبه. فشبهت العرب الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب، فإنه لتوالى جريانه على نهج واحد يكون كالشئ الواحد. قال الشاعر: فلا تجز عن من سيرة أنت سرتها * وأول راض سنة من يسيرها.
 وفي الأساس: سن سنة حسنة، طرق طريقة حسنة، واستن بسنته. وفلان متسنن، عامل بالسنة. وقال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم: السنة هي العادة وهي الطريق التي تتكرر لنوع الناس مما يعدونه عبادة أو لا يعدونه عبادة. قال تعالى: " قد خلت من قبلكم سنن، فسيروا في الأرض " وقال النبي صلى الله عليه وسلم " لتتبعن سنن من كان قبلكم " والاتباع هو الاقتفاء والاستنان.
 وسنة النبي طريقته التي كان يتحراها، وسنة الله تعالى قد تقال لطريقة حكمته وطريقة طاعته، نحو: " سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا " " ولن تجد لسنة الله تحويلا ". وقال الجرجاني في التعريفات: السنة في اللغة الطريقة مرضية كانت أو غير مرضية، وفي الشريعة هي الطريقة المسلوكة في الدين في غير افتراض ولا وجوب، فالسنة ما واظب النبي عليها مع الترك أحيانا، فإن كانت المواظبة المذكورة على سبيل العبادة فسنن الهدى، وإن كانت على سبيل العادة فسنن الزوائد.
 وسنة رسول الله هي ما كان عليه هو وخاصة أصحابه عملا وسيرة، وهذه السنة تعرف من الصحابة بالعمل والأخبار، كنحو: من السنة كذا.
 ثم اصطلح المحدثون على تسمية كلام الرسول " حديثا وسنة "  أي أنه اصطلاح مستحدث لا تعرفه اللغة ولا يستعمل في أدبها وقد جرينا على هذا الاصطلاح في تسمية كتابنا هذا وفيما يجري حديثنا فيه - وكان الحق أن نسميه - دفاعا عن الحديث لأنه وضع في الحقيقة من أجل ذلك وقد زدناها في تسمية هذه الطبعة.
 وقالوا السنة تطلق في الأكثر على ما أضيف إلى النبي، من قول أو فعل أو تقرير. مكان السنة في الدين جعلوا السنة القولية في الدرجة الثالثة من الدين، وأنها تلي السنة العملية، وهذه تلى القرآن في المرتبة، ذلك بأن القرآن قد جاء من طريق متواتر بحيث لا يتطرق إليه الشك، فهو من أجل ذلك مقطوع به جملة وتفصيلا. أما السنة فقد جاءت من طريق غير متواتر، فهي مظنونة في تفصيلها، وإن كان مقطوعا بجملتها، وأما الذي هو في الدرجة الثانية من الدين فهو السنة العملية. قال الإمام الشاطبي في الموافقات: رتبة السنة التأخر عن الكتاب في الاعتبار، والدليل على ذلك أمور: أحدها - أن الكتاب مقطوع به، والسنة مظنونة، والقطع بها إنما يصح في الجملة لا في التفصيل، بخلاف الكتاب فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل، والمقطوع به مقدم على المظنون، فلزم من ذلك تقديم الكتاب على السنة.
 
الثاني - أن السنة إما بيان للكتاب، أو زيادة على ذلك، فإن كانت بيانا كانت ثانيا على المبين في الاعتبار - إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان، ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين - وما شأنه هذا فهو أولى في التقدم، وإن لم يكن بيانا فلا يعتبر إلا بعد ألا يوجد في الكتاب، وذلك دليل على تقدم اعتبار الكتاب. الثالث - ما دل على ذلك من الأخبار والآثار كحديث معاذ، بم تحكم؟ قال: بكتاب الله. قال، فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي.
 وبعد ما أورد الشاطبي أدلة كثيرة عن عمر وابن مسعود وابن عباس تثبت ذلك قال: والمقطوع به في المسألة أن السنة ليست كالكتاب في مراتب الاعتبار. ومما قاله: " إن السنة بمنزلة التفسير والشرح لمعاني أحكام الكتاب، ودل على ذلك قوله تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم)، وأن السنة راجعة في معناها إلى الكتاب، فهي تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره، وذلك لأنها بيان له، وهو الذي دل عليه قوله تعالى: (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية، وأيضا فكل ما دل على أن القرآن هو كلية الشريعة وينبوع لها فهو دليل على ذلك ولأن الله قال: (وإنك لعلى خلق عظيم): وفسرت عائشة ذلك بأن خلقه القرآن، - واقتصرت في خلقه على ذلك - فدل على أن قوله وفعله وإقراره راجع إلى القرآن، لأن الخلق محصور في هذه الأشياء، ولأن الله جعل القرآن تبيانا لكل شيء، فيلزم من ذلك أن تكون السنة حاصلة فيه في الجملة، لأن الأمر والنهي أول ما في الكتاب، ومثل قوله: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) وقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم) وهو يريد بإنزال القرآن - فالسنة إذن في محصول الأمر بيان لما فيه، وذلك معنى كونها راجعة إليه، وأيضا فالاستقراء التام دل على ذلك وقد تقدم في أول كتاب الأدلة أن السنة راجعة إلى الكتاب، وإلا وجب التوقف عن قبولها وهو أصل كاف في هذا المقام " إلى أن قال: " إن السنة تطاع لأنها بيان للقرآن، فطاعة الله العمل بكتابه، وطاعة الرسول العمل بما بين به كتاب الله تعالى قولا أو عملا أو حكما. ولو كان في السنة شيء لا أصل له في الكتاب لم تكن بيانا له، ولا يخرج من هذا ما في السنة - من التفصيل لأحكام القرآن الإجمالية وإن كانت تتراءى أنها ليست منه كالصلاة المجملة في القرآن والمفصلة في السنة، ولكننا علمنا بهذا التفصيل أنه مراد الله في الصلاة التي ذكرها في كتابه مجملة ".
 وقال: إن السنة توضح المجمل، وتقيد المطلق، وتخصص العموم. وقال: إن السنة إنما جاءت مبينة للكتاب وشارحة لمعانيه. وسئل الإمام أحمد عن الحديث الذي روى في أن السنة قاضية على الكتاب فقال: ما أجسر على هذا أن أقوله، ولكني أقول إن السنة تفسر القرآن وتبينه.
وكان الإمام مالك " يراعي كل المراعاة العمل المستمر والأكثر ويترك ما سوى ذلك وإن جاء فيه أحاديث. وقال: أحب الأحاديث إلى ما اجتمع الناس عليه. وفي روح البيان للآلوسي أن الإمام الشافعي قال: جميع ما حكم به النبي فهو مما فهمه من القرآن. وقال الإمام الشافعي: لا تخالف سنة لرسول الله كتاب الله بحال. وقال الفقيه المحدث السيد رشيد رضا رحمه الله: والنبي مبين للقرآن بقوله وفعله ويدخل في البيان التفصيل والتخصيص والتقييد ولكن لا يدخل فيه إبطال حكم من أحكامه أو نقض خبر من أخباره، ولذلك كان التحقيق " أن السنة لا تنسخ القرآن ".. والعمدة في الدين كتاب الله تعالى في المرتبة الأولى والسنة العملية المتفق عليها في المرتبة الثانية وما ثبت عن النبي، وأحاديث الآحاد فيها رواية ودلالة في الدرجة الثالثة - ومن عمل بالمتفق عليه كان مسلما ناجيا في الآخرة مقربا عند الله تعالى وقد قرر ذلك الغزالي.
 حكم كلام الرسول في الأمور الدنيوية هذا ما رأينا إيراده من كلام كبار الأئمة من حيث بيان درجة كلام الرسول في الأمور الدينية - أما كلامه صلوات الله عليه في الأمور الدنيوية فإنه كما قالوا من الآراء المحضة ويسميه العلماء " أمر إرشاد "، أي أن أمره صلى الله عليه وسلم في أي شيء من أمور الدنيا يسمى إرشادا - وهو يقابل " أمر التكليف ". ومن القواعد الأصولية أن العمل بأمر الإرشاد - لا يسمى واجبا ولا مندوبا، لأنه لا يقصد به القربة ولا فيه معنى التعبد. ومن المعلوم أنه: لا دليل على وجوب أو ندب إلا بدليل خاص. وما ذكره العلماء في ذلك إنما هو لأن الرسل غير معصومين في غير التبليغ.
 قال السفاريني في شرح عقيدته: قال ابن حمدان في نهاية المبتدئين: وإنهم معصومون فيما يؤدونه عن الله تعالى وليسوا بمعصومين في غير ذلك من الخطأ والنسيان والصغائر.
 وقال ابن عقيل في الإرشاد: إنهم عليهم السلام لم يعتصموا في الأفعال - بل في نفس الأداء ولا يجوز عليهم الكذب في الأقوال فيما يؤدونه عن الله تعالى.
 وهذا ينكره علماء الشيعة فإنهم أجمعوا على أن الأنبياء لا يخطئون ولا يعتريهم السهو والنسيان - وهم مجمعون على أنهم معصومون في الكبر والصغر حتى في أمور الدنيا. وقد ثبت أن النبي كان يصدق بعض ما يفتريه المنافقون، كما وقع في غزوة تبوك وغيرها وصدق بعض أزواجه، وتردد، في حديث الإفك وضاق صدره به زمنا حتى نزل عليه آيات البراءة فكشفت له الغطاء عن الحقيقة.
 قال القاضي عياض: أما أحواله في أمور الدنيا فقد يعتقد الشيء على وجه ويظهر خلافه، أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع.
عن رافع بن خديج قال قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كنا نصنعه، قال: لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا، فتركوه فنفضت، فذكروا ذلك له. فقال: " إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشيء من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأيي فإنما أنا بشر ". وفي رواية أنس " أنتم أعلم بأمر دنياكم " وفي حديث آخر إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذوني بالظن. وفي حديث ابن عباس في قصة الخرص فقال رسول الله: " إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق، وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ أصيب ".
 وهذا على ما قررنا فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها، ولما نزل بأدنى مياه بدر قال له الحباب بن المنذر: أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال: لا بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: فإنه ليس بمنزل! انهض حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه من القلب فنشرب ولا يشربون. فقال: أشرت بالرأي. وفعل ما قاله.
 وأراد مصالحة بعض عدوه على ثلث تمر المدينة فاستشار الأنصار فلما أخبروه برأيهم رجع عنه. فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التي لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها يجوز عليه فيها ما ذكرناه. وقال وأما ما يعتقده في أمور أحكام البشر الجارية على يديه وقضاياهم ومعرفة المحق من المبطل، وعلم المصلح من المفسد فبهذه السبيل، لقوله صلى الله عليه وسلم: " إنما أنا بشر وأنتم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه بشيء فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار " (عن أم سلمة). وفي رواية الزهري عن عروة " فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضي له ". وهو صلى الله عليه وسلم يجري أحكامه على الظاهر وموجب غلبات الظن بشهادة الشاهد ويمين الحالف ومراعاة الأشبه... إلخ.
 وقال: فأما ما تعلق منها (أي معارف الأنبياء) بأمر الدنيا فلا يشترط في حق الأنبياء العصمة من عدم معرفة الأنبياء ببعضها أو اعتقادها على خلاف ما هي عليه، ولا وصم عليهم فيه. وقال صلى الله عليه وسلم: إني لا أعلم إلا ما علمني ربي. وقال موسى للخضر (هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا) . وقال الوزير اليماني في الروض الباسم: غير خاف عمن له أنس بقواعد العلماء أن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم عند المحققين لا تدل بنفسها على الوجوب، ولا على الندب، وإنما تدل على الإباحة - والقدر المقطوع به أنه لم يكن يفعل المعاصي المحرمة، فإن فعل شيئا من الصغائر سهوا لم يقر عليه، وبين الله تعالى ذلك - وقال المحققون: إذا فعل فعلا نظرنا، هل دلت القرائن على أنه فعل ذلك متقربا به إلى الله تعالى أولا، فإن لم تدل القرائن على ذلك لم يستحب التأسي به وكان من فعله على الإباحة، من شاء فعله ومن شاء تركه، ومن ذلك إقراره لعمر بن الخطاب على مخالفة رأيه في قصة أسرى بدر.
مجرد امر الرسول لا يقتضى الوجوب:
 روى محمد بن الحنفية رحمه الله عن أبيه أمير المؤمنين عليه السلام قال: كان قد كثر على مارية القبطية أم إبراهيم في ابن عم لها قبطي كان يزورها، ويختلف إليها، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: خذ هذا السيف وانطلق، فإن وجدته عندها فاقتله. قلت: يا رسول الله، أكون في أمرك إذا أرسلتني كالسكينة المحماة، أمضي لما أمرتني، أم الشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟ فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: " بل الشاهد يرى ما لا يرى الغائب " فأقبلت متوشحا بالسيف فوجدته عندها، فاخترطت السيف فلما أقبلت نحوه، عرف أني أريده، فأتى نخلة فرقى إليها، ثم رمى بنفسه على قفاه، وشغر برجليه، فإذا به أجب أمسح، ما له مما للرجال قليل ولا كثير، قال فغمدت السيف، ورجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: الحمد لله يصرف عنا أهل البيت.
 قال الشريف المرتضى في تعليقه على هذا الخبر: ومما فيه من الأحكام اقتضاؤه أن مجرد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقتضي الوجوب، لأنه لو اقتضى ذلك لما حسنت مراجعته ولا استفهامه، وفي حسنها ووقوعها موقعها دلالة على أنها لا تقتضي ذلك. وفي طبقات الأطباء والحكماء لابن جلجل عن سعد بن أبي وقاص قال: مرضت مرضا فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: ائت الحارث بن كلدة فإنه رجل بتطيب. فأمر رسول الله بإتيان الأطباء ومسألتهم عما بين أيديهم.
 
النهى عن كتابة الحديث:
 كان رسول الله صلوات الله عليه - كما قلنا - مبينا ومفسرا للقرآن بفعله وقوله، ولكن أقواله في هذا البيان أو في غيره لم تحفظ بالكتابة كما حفظ القرآن، فقد تضافرت الأدلة النقلية الوثيقة، وتواتر العمل الثابت الصحيح على أن أحاديث الرسول صلوات الله عليه لم تكتب في عهده كما كان يكتب القرآن ولا كان لها كتاب يقيدونها عند سماعها منه وتلفظه بها كما كان للقرآن كتاب ومعروفون يقيدون آياته عند نزولها، وقد جاءت أحاديث صحيحة وآثار ثابتة تنهى كلها عن كتابة أحاديثه صلى الله عليه وسلم نجتزئ هنا بذكر بعضها: روى أحمد ومسلم والدارمي، والترمذي والنسائي، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله: " لا تكتبوا عني شيئا سوى القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه "، وأخرج الدارمي عن أبي سعيد كذلك: أنهم استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في أن يكتبوا عنه فلم يأذن لهم. وراية الترمذي عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد قال: استأذنا النبي صلى الله عليه وسلم في الكتابة فلم يأذن لنا.
 (ومن مراسيل ابن أبي مليكة) أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه.
 وروى حافظ المغرب ابن عبد البر والبيهقي في المدخل عن عروة - أن عمر أراد أن يكتب السنن فاستفتى أصحاب رسول الله في ذلك - ورواية البيهقي - فاستشار، فأشاروا عليه أن يكتبها فطفق عمر يستخير الله شهرا، ثم أصبح يوما وقد عزم الله له، فقال: إني كنت أريد أن أكتب السنن، وإني ذكرت قوما كانوا قبلكم كتبوا كتابا فأكبوا عليها وتركوا كتاب الله، وإني والله لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا. ورواية البيهقي " لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا ".
 وعن يحيى بن جعدة أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة ثم بدا له أن لا يكتبها ثم كتب في الأمصار من كان عنده شيء فليمحه.
 وروى ابن سعد عن عبد الله بن العلاء قال: سألت القاسم بن محمد أن يملي علي أحاديث، فقال: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بها أمر بتحريقها ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب، قال فمنعني الناس القاسم بن محمد يومئذ أن أكتب حديثا. ودخل زيد بن ثابت على معاوية فسأله عن حديث، وأمر إنسانا أن يكتبه فقال له زيد: " إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمرنا ألا نكتب شيئا من حديثه، فمحاه.
 وعن عبد الله بن يسار قال: سمعت عليا يخطب يقول: أعزم على كل من عنده كتاب إلا رجع فمحاه، فإنما هلك الناس حيث تتبعوا أحاديث علمائهم وتركوا كتاب ربهم. وعن الأسود بن هلال قال: أتى عبد الله بن مسعود بصحيفة فيها حديث فدعا بماء فمحاها ثم غسلها ثم أمر بها فأحرقت.
 ثم قال أذكر الله رجلا يعلمها عند أحد إلا أعلمني به، والله لو أعلم أنها بدير هند لبلغتها، بهذا هلك أهل الكتاب قبلكم حين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون! وهناك غير ذلك أخبار كثيرة يرجع إليها في كتابي جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر وتقييد العلم للبغدادي وغيرهما. ولئن كان هناك بعض أحاديث رويت في الرخصة بكتابة الأحاديث إن أحاديث النهي أصح وأقوى، بله ما جرى عليه العمل في عهد الصحابة والتابعين. وقد عقد الفقيه المحدث السيد رشيد رضا رحمه الله فصلا قيما في التعادل والترجيح بين روايات النهي وروايات الرخصة نأتي به هنا ليكون مقطع الحق في هذا الأمر.
 قال رحمه الله: إن أصح ما ورد في المنع من كتابة الحديث ما رواه أحمد في مسنده ومسلم في صحيحه وابن عبد البر في كتاب العلم وغيرهم عن أبي سعيد الخدري مرفوعا: " لا تكتبوا عني شيئا إلا القرآن فمن كتب غير القرآن فليحمه ". وإن أصح ما ورد في الإذن حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما مرفوعا: " اكتبوا لأبي شاه " وهو لا يعارض حديث أبي سعيد وما في معناه على قاعدتنا التي مدارها على أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه مراد به ألا تتخذ دينا عاما كالقرآن، وذلك أن ما أمر بكتابته لأبي شاه هو خطبة خطبها صلى الله عليه يوم فتح مكة موضوعها تحريم مكة ولقطة الحرم، وهذا من بيانه صلى الله عليه وسلم للقرآن الذي صرح به يوم الفتح وصرح به في حجة الوداع وأمر بتبليغه - فهو خاص مستثنى من النهي العام.
 قد صرح البخاري في باب اللقطة من صحيحه بأن أبا شاه اليمني طلب أن تكتب له الخطبة المذكورة فأمر صلى الله عليه وسلم بإجابة طلبه. ولو فرضنا أن بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن بها تعارضا يصح أن يكون به أحدها ناسخا للآخر، لكان لنا أن نستدل على كون النهي هو المتأخر بأمرين أحدهما استدلال من روى عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة ومنعها بالنهي عنها، وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. وثانيهما عدم تدوين الصحابة الحديث ونشره، ولو دونوا ونشروا لتوافر ما دونوه.
فعزيمة علي (رضي الله عنه) على من عنده كتاب أن يمحوه وقول أبي سعيد الخدري: " تريدون أن تجعلوها مصاحف " وقول عمر بن الخطاب عند الفكر في كتابة الأحاديث أو بعدم الكتابة " لا كتاب مع كتاب الله " في الرواية الأولى وقوله في الرواية الثانية بعد الاستشارة في كتابتها: " والله إني لا أشوب كتاب الله بشيء أبدا "، وقول ابن عباس: " كنا نكتب العلم ولا نكتبه ".
 أي لا نأذن لأحد أن يكتبه عنا - ونهيه في الرواية الأخرى عن الكتابة.. ومحو زيد بن ثابت للصحيفة ثم إحراقها وتذكيره بالله من يعلم أنه توجد صحيفة أخرى في موضع آخر ولو بعيدا أن يخبره بها ليسعى إليها ويحرقها - وقول سعيد بن جبير عن ابن عمر، إنه لو كان يعلم بأنه يكتب عنه لكان ذلك فاصلا بينهما، ومحو عبد الله بن مسعود للصحيفة التي جاءه بها عبد الرحمن بن الأسود وعلقمة وقوله عند ذلك " إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره ". كل هذا الذي أورده ابن عبد البر وأمثاله مما رواه غيره كإحراق أبي بكر لما كتبه وعدم وصول شيء من صحف الصحابة إلى التابعين وكون التابعين لم يدونوا الحديث لنشره إلا بأمر الأمراء - يؤيد ما ورد من أنهم كانوا يكتبون الشيء لأجل حفظه ثم يمحونه.
وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث بل في رغبتهم عنه بل في نهيهم عنه  - قوى عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث (كلها) دينا عاما دائما كالقرآن. ولو كانوا فهموا عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه يريد ذلك لكتبوا ولأمروا بالكتابة، ولجمع الراشدون ما كتب وضبطوا ما وثقوا به وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه ويعملوا به، ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتبعة المعروفة للجمهور يجريان العمل بها.
 وبهذا يسقط قول من قال: إن الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية، وإذا أضفت إلى ذلك كله حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة بما يخالف بعض تلك الأحاديث، ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول والثاني من اكتفاء الواحد منهم كأبي حنيفة بما بلغه ووثق به من الحديث وإن قل، وعدم تعينه في جمع غيره إليه ليفهم دينه ويبين أحكامه - قوي عندك ذلك الترجيح. بل تجد الفقهاء - بعد اتفاقهم على جعل الأحاديث أصلا من أصول الأحكام الشرعية، وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين وبيان ما يحتج به وما لا يحتج به - لم يجتمعوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به، فهذه كتب الفقه في المذاهب المتبعة ولا سيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية، فيها مئات من المسائل المخالفة للأحاديث المتفق على صحتها، ولا يعد أحد منهم مخالفا لأصول الدين.
 أما ما رووه عن أبي هريرة من قوله: إن عبد الله بن عمرو كان يكتب ولا أكتب فليس حجة شرعية وهو لا يدل على أن ابن عمرو كان يكتب بأمر النبي ولا بإقراره فيصلح معارضا لحديث نهيه (صلى الله عليه وسلم) عن كتابة شيء عنه غير القرآن - (على أن ما كتبه عبد الله بن عمرو إنما كان أدعية كما سيتبين ذلك في موضعه). وقد أورد ابن القيم في أعلام الموقعين شواهد كثيرة جدا من رد الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملا بالقياس أو لغير ذلك - ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقيه - وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدا.
 وقد ذكروا أن نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) عن كتابة حديثه إنما كان لخوفه من اختلاط الحديث بالقرآن، وهو سبب لا يقتنع به عاقل عالم، ولا يقبله محقق دارس اللهم إلا إذا جعلنا الأحاديث من جنس القرآن في البلاغة وأن أسلو بها في الإعجاز من أسلوبه - وهذا ما لا يقره أحد حتى الذين جاءوا بهذا الرأي، إذ معناه إبطال معجزة القرآن وهدم أصولها من القواعد.
هذا على أن الأحاديث لو كانت قد كتبت فإنما ذلك على أنها أحاديث للنبي (صلى الله عليه وسلم)، وبين الحديث والقرآن ولا ريب فروق كثيرة يعرفها كل من له بصر بالبلاغة وذوق في البيان. ومن ثم كانت تؤثر على هذه الصفة - وإذا كتبها الصحابة بعد انتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى ووزعوا منها نسخا على الأمصار كما فعلوا بالقرآن فيكون ذلك على أنها أحاديث، ويتلقاها المسلمون على أنها كلام النبي، ويظل أمرها على ذلك جيلا بعد جيل فلا يدخلها الشوب، ولا يعتريها التغيير ولا ينالها الوضع.
على أن هذا السبب الذي يتشبثون به قد زال بعد أن كتب القرآن في عهد أبي بكر على ما رووه وبعد أن نسخ في عهد عثمان ووزعت منه نسخ على الأمصار وأصبح من العسير بل من المستحيل أن يزيدوا على القرآن حرفا واحدا، وما لهم يذهبون إلى اختراع الأسباب وابتداع العلل وقد بين كبار الصحابة أنفسهم السبب الحق في عدم كتابة الحديث كما تبين لك من قبل. وقد يكون قريبا من الصواب في حكمة نهي النبي عن كتابة حديثه هو لكي لا تكثر أوامر التشريع ولا تتسع أدلة الأحكام، وهو ما كان يتحاشاه (صلى الله عليه وسلم) حتى كان يكره كثرة السؤال - أو يكون من أحاديث في أمور خاصة بوقتها بحيث لا يصح الاستمرار في العمل بها.
وقبل أن نفرغ من هذا الفصل لا بد لنا أن نشير إلى حديث يروونه ليجعلوا كل الأحاديث من وحي الله كالقرآن الكريم، وهذا الحديث هو: " ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه " وفي وراية: " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه ". وهذا الحديث من أغرب ما قذفته الرواية في سيلها! لأن النبي إذا كان قد أوتي مثل " الكتاب " أو " مثل القرآن " فمعنى ذلك أنه قد أوتي ذلك ليكون تماما على القرآن وإكمالا له لبيان دينه وشريعته - وإذا كان الأمر كذلك فلم لم يعن النبي بكتابة هذا " المثل " في حياته، عندما تلقاه عن ربه، كما عني بكتابة القرآن؟ ولم لم يجعل له كتابا يقيدونه عند نزوله، كما جعل للقرآن كتابا؟ ولم اقتصر في النهي عن كتابة غير القرآن وأغفل هذا المثل فقال: " لا تكتبوا عني شيئا غير القرآن " ولم يقل - وغير ما أوتيته معه وهو " مثله!! ".
 وهنا يجوز لسائل أن يسأل: هل يصح أن يدع النبي نصف ما أوحاه الله إليه يغدو بين الأذهان بغير قيد، يمسكه هذا، وينساه ذاك، ويتزيد فيه ذلك! مما يصيب غير المدون في كتاب محفوظ؟ وهل يكون الرسول بعمله هذا قد بلغ الرسالة على وجهها، وأدى الأمانة كاملة إلى أهلها!! وأين كان هذا الحديث عندما قال النبي في مرضه الأخير الذي انقلب بعده إلى ربه، وبعد أن نزلت الآية: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي، ورضيت لكم الإسلام دينا ": إني والله ما تمسكوا علي بشيء، إني لم أحل إلا ما أحل القرآن، ولم أحرم إلا ما حرم القرآن، ثم أين كان هذا الحديث عند ما قال أبو بكر للناس: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه! وعندما قال عمر عندما طلب النبي (صلى الله عليه وسلم) وهو يحتضر أن يكتب للناس كتابا لن يضلوا بعده: حسبنا كتاب الله! ولم لم يشفق عمر من ضياع هذا " المثل "، وهو بزعمهم نصف ما أوحى الله به إلى النبي، فيذكره لأبي بكر عندما فزع إليه في أن يجمع القرآن ويكتبه بعد وقعة اليمامة؟! ثم أين كان هذا المثل عندما أجابت عائشة في خلق النبي، إذ كان عليها أن تقول كان خلقه القرآن ومثله معه؟ ولكنها اكتفت بقولها: كان خلقه القرآن!
وأين ذهبت عانية الصحابة بهذا " المثل " فلم يكتبوه كما كتبوا القرآن في زمن أبي بكر وعند ما نسخ في عهد عثمان ووزعت نسخه على الأمصار؟ إلا إنهم بإهمالهم هذا الأمر الخطير إنما يكونون قد تركوا " نصف الوحي " بغير تدوين، ويصبحون بذلك جميعا من الآثمين.
 الصحابة ورواية الحديث إذا كانت الآثار الصحيحة قد جاءت في نهي النبي (صلى الله عليه وسلم) عن كتابة حديثه، والأخبار الوثيقة قد ترادفت بأن صحابته قد استمعوا إلى نهيه، ولم يكتبوا حديثه بعد موته - كما علمت مما مر بك - فإنا نجد هؤلاء الصحابة لم يقف بهم الأمر عند ذلك، وإنما كانوا يرغبون عن رواية الحديث وينهون عنها وأنهم كانوا يتشددون في قبول الأخبار تشديدا قويا.
 روى الذهبي في تذكرة الحفاظ قال: من مراسيل ابن أبي مليكة أن الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها، والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئا، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله، وحرموا حرامه.
 وروى ابن عساكر عن محمد بن إسحاق قال: أخبرني صالح بن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن عوف قال: ما مات عمر بن الخطاب حتى بعث إلى أصحاب رسول الله فجمعهم من الآفاق، عبد الله بن حذيفة وأبا الدرداء وأبا ذر وعقبة ابن عامر، فقال: ما هذه الأحاديث التي أفشيتم عن رسول الله في الآفاق؟ قالوا: تنهانا؟ قال: لا، أقيموا عندي، لا والله لا تفارقوني ما عشت فنحن أعلم، نأخذ منكم، ونرد عليكم، فما فارقوه حتى مات.
 وروى الذهبي في تذكرة الحفاظ عن شعبة عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عن عمر حبس ابن مسعود وأبا الدرداء وأبا مسعود الأنصاري فقال: قد أكثرتم الحديث عن رسول الله ، وكان قد حبسهم في المدينة ثم أطلقهم عثمان.
 وروى ابن عساكر عن السائب بن يزيد قال: سمعت عمر بن الخطاب يقول لأبي هريرة: لتتركن الحديث عن رسول الله أو لألحقنك بأرض دوس (أي بلاده). وقال لكعب الأحبار: لتتركن الحديث عن الأول أو لألحقنك بأرض القردة. وكذلك فعل معهما عثمان بن عفان.
 وروى ابن سعد وابن عساكر عن محمود بن لبيد - واللفظ لابن سعد قال: سمعت عثمان بن عفان على المنبر يقول: لا يحل لأحد يروي حديثا لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر، فإنه لم يمنعني أن أحدث عن رسول الله أن لا أكون من أوعى أصحابه، إلا أني سمعته يقول: من قال علي ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار.
 وفي جامع بيان العلم وفضله لحافظ المغرب ابن عبد البر عن الشعبي عن قرظة ابن كعب قال: خرجنا نريد العراق فمشى معنا عمر إلى صرار ثم قال لنا: أتدرون لم مشيت معكم؟ قلنا: أردت أن تشيعنا وتكرمنا؟ قال: إن مع ذلك لحاجة خرجت لها. إنكم لتأتون بلدة لأهلها دوي كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث عن رسول الله وأنا شريككم، قال قرظة: فما حدثت بعده حديثا عن رسول الله. وفي رواية أخرى: إنكم تأتون أهل قرية لها دوي بالقرآن كدوي النحل فلا تصدوهم بالأحاديث لتشغلوهم. جودوا القرآن، وأقلوا الرواية عن رسول الله وأنا شريككم. فلما قدم قرظة قالوا: حدثنا! فقال: نهانا عمر.
 وفي الأم للشافعي رواية الربيع بن سليمان: فلما قدم قرظة قالوا حدثنا! قال: نهانا عمر! وكان عمر يقول: أقلوا الرواية عن رسول الله إلا فيما يعمل به. ولا غرابة في أن يفعل عمر ذلك، لأنه كان لا يعتمد إلا على القرآن والسنة العملية، فقد روى البخاري عن ابن عباس أنه لما حضر رسول الله (أي حضرته الوفاة) وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب قال النبي: هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده، فقال عمر: " إن النبي غلبه الوجع وعندكم القرآن فحسبنا كتاب الله ": وفي رواية: أن النبي يهجر.
 وروى ابن سعد في الطبقات عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة، قال: فما سمعته يحدث عن النبي حديثا حتى رجع، وسئل عن شيء فاستعجم وقال: إني أخاف أن أحدثكم واحدا فتزيدوا عليه المائة! وسعد هذا من كبار الصحابة ومن العشرة المبشرين بالجنة  كما يقولون. وعن عمرو بن ميمون قال: اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة، فما سمعته فيها يحدث عن رسول الله ولا يقول قال رسول الله، إلا أنه حدث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه قال رسول الله! فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يتحدر عن جبينه!! ثم قال: إن شاء الله إما فوق ذاك، أو قريب من ذاك، وإما دون ذاك.
 وفي رواية عند ابن سعد عن علقمة بن قيس، أن عبد الله بن مسعود كان يقوم قائما كل عشية خميس فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله غير مرة واحدة، فنظرت إليه وهو يعتمد على عصا - فنظرت إلى العصا تزعزع.. وأخرج الدار قطني عن عبد الرحمن بن كعب قال: قلت لأبي قتادة، حدثني بشيء سمعته عن رسول الله، قال أخشى أن يزل لساني بشيء لم يقله رسول الله.
 وأخرج البخاري عن السائب بن يزيد قال: صحبت طلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن الأسود وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم فما سمعت أحدا منهم يحدث عن رسول الله، إلا أني سمعت طلحة يحدث عن يوم أحد. وقال ابن حجر في شرح هذا الحديث، قال ابن بطال وغيره كان كثير من كبار الصحابة لا يحدثون عن رسول الله خشية المزيد والنقصان. وأخرج أحمد وأبو يعلى عن دجين قال: قدمت المدينة فلقيت أسلم مولى عمر بن الخطاب فقلت: حدثني عن عمر. فقال: لا أستطيع، أخاف أن أزيد أو أنقص، كنا إذا قلنا لعمر: حدثنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: أخاف أن أزيد أو أنقص، إن رسول الله قال: من كذب علي فهو في النار. وأخرج ابن ماجة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: قلت لزيد بن أرقم: حدثنا عن رسول الله، قال: كبرنا ونسينا، والحديث عن رسول الله شديد. وقال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: وكان كثير من جلة الصحابة وأهل الخاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم كأبي بكر والزبير وأبي عبيدة والعباس ابن عبد المطلب يقلون الرواية عنه، بل كان بعضهم لا يكاد يروي شيئا كسعيد ابن زيد بن عمرو بن نفيل وهو أحد العشرة المشهود لهم بالجنة، كما يروون.
ولو أنت تصفحت البخاري ومسلم لما وجدت فيهما حديثا واحدا لأمين هذه الأمة أبي عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وليس فيهما كذلك حديث لعتبة ابن غزوان وأبي كبشة مولى رسول الله وكثيرين غيرهم. والأخبار في ذلك كثيرة لا يمكن استقصاؤها وإليك كلمة صغيرة نختتم بها هذا الفصل. قال ابن القيم: إن الصحابة كانوا يهابون الرواية عن رسول الله ويعظمونها ويقللونها - خوف الزيادة والنقص - ويحدثون بالشئ الذي سمعوه من النبي مرارا.
 ولا يصرحون بالسماع ولا يقولون: قال رسول الله. تشديد الصحابة في قبول الأخبار كان الخلفاء الراشدون وكبار الصحابة وأهل الفتيا منهم - كما علمت - يتقون الرواية عن النبي ويهابونها بل كانوا يرغبون عنها، إذ كانوا يعلمون أنهم لا يستطيعون أن يؤدوا كل ما سمعوه عن النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه الصحيح لأن الذاكرة لا يمكن أن تضبط كل ما تسع، وما تحفظه مما تسمعه لا يمكن أن يبقى فيها على أصله مهما تحرى الإنسان الضبط، وكذلك لم يأمنوا من يسمع منهم أن يغير فيما سمعه بالزيادة أو النقص أو الغلط أو التبديل أو التحريف أو بغير ذلك، وهم بما عرفوا من أصول الدين وفروعه كاملة عن رسول الله ما كانوا ليرضوا بما رضي به بعضهم ومن جاء بعدهم من رواية الحديث " بالمعنى " لأنهم كانوا يعلمون أن تغيير اللفظ يغير المعنى في الغالب، وكلام الرسول ليس كغيره من الكلام، إذ كل لفظة من كلامه صلى الله عليه وسلم يكمن وراءها معنى خاص يقصده هو (صلى الله عليه وسلم).
 من أجل ذلك كانوا يتشددون في قبول الأخبار من إخوانهم في الصحبة مهما بلغت درجاتهم، ويحتاطون في ذلك أشد الاحتياط، حتى كان أبو بكر لا يقبل من أحد حديثا إلا بشهادة من غيره على أنه سمعه من الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وضع بعمله هذا أول شروط علم الرواية وهو شرط الإسناد الصحيح. قال الذهبي في ترجمته: إنه أول من احتاط في قبول الأخبار.
روى ابن شهاب عن قبيصة أن الجدة جاءت أبا بكر تلتمس أن تورث فقال: ما أجد لك في كتاب الله شيئا، وما علمت أن رسول الله ذكر لك شيئا، ثم سأل الناس فقام المغيرة فقال، كان رسول الله يعطيها السدس فقال له: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة بمثل ذلك فأنفذه لها أبو بكر. هذا هو عمل أبي بكر، أما عمر فقد كان أشد من ذلك احتياطا وتثبتا. قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: " وكان عمر شديدا على من أكثر الرواية - أو أتي بخبر في الحكم لا شاهد عليه، وكان يأمرهم بأن يقلوا الرواية - يريد بذلك أن لا يتسع الناس فيها ويدخلها الشوب ويقع التدليس والكذب من المنافق والفاجر والأعرابي.
 " وقد بلغ من شدة حرصه على صيانة الحديث أن ضرب أبا هريرة على رواية الحديث وأنذره بالنفي إلى بلاده إذا هو روى. وقال الذهبي في طبقات الحفاظ: " وهو الذي سنن للمحدثين التثبت في النقل وربما كان يتوقف في خبر الواحد إذا ارتاب ". روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال كنت في مجلس - من مجالس الأنصار - إذ جاء أبو موسى كأنه مذعور! فقال: استأذت على عمر ثلاثا، فلم يؤذن لي فرجعت. قال عمر: ما منعك؟ فقال استأذنت ثلاثا فلم يؤذن لي فرجعت. قال رسول الله: " إذا استأذن أحدكم ثلاثا فلم يؤذن له فليرجع "، فقال والله لتقيمن عليه بينة - زاد مسلم - وإلا أوجعتك - وفي رواية ثالثة: فوالله لأوجعن ظهرك وبطنك، أو لتأتين بمن يشهد لك على هذا - أمنكم أحد سمعه من النبي؟ فقال أبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم فقمت معه فأخبرت عمر أن النبي قال ذلك. فانظر كيف تشدد عمر في أمر ليس فيه حلال ولا حرام، وقدر ماذا يكون الأمر لو كان الحديث في غير ذلك من أصول الدين أو فروعه!
وقد استند إلى هذه القصة من يقولون: إن عمر كان لا يقبل خبر الواحد، واستدل بها من قال: إن خبر العدل بمفرده لا يقبل حتى ينضم إليه غيره، كما في الشهادة، وقال ابن بطال: يؤخذ منه التثبت في خبر الواحد لما يجوز عليه من السهو وغيره. وقد رأيت من قبل ما فعله مع أبي هريرة وغيره، ولم تكثر أحاديث أبي هريرة إلا بعد وفاة عمر، فقد روى عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقلت له - أكنت تحدث في زمان عمر هذا؟ قال: لو كنت أحدث في زمان عمر مثل ما أحدثكم لضربني بمخفقته. الكذب على رسول الله شر الرذائل كلها الكذب - لا يختلف في ذلك أحد. وليس في خلال الإنسان أسوأ خلة من الافتراء، ولا في أدواء الجماعات أعضل من داء البهتان، ولئن كان الكذب بين الأفراد والجماعات مما يمكن تداركه والقضاء عليه.
 إن بلاءه ولا ريب إنما يكون عميما، وضرره يكون عظيما، إذا كان على مثل رسول الله، فإن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره، لأنه رسول دين عام وصاحب شريعة للناس كافة. أخرج الطبراني عن رافع بن خديج قال، قال رسول الله: لا تكذبوا على فإنه ليس كذب علي ككذب على أحد.
 وقد أتت الرسالة المحمدية بأصول في العقائد ليس لانسان مهما بلغ من العلم أن يغير أصلا من أصولها، وجاءت بأحكام في العبادات لا يجوز لأحد أن يزيد فيها أو ينقص منها، أو يبدل شيئا من صورها ولا أزمانها، ذلك بأن الأعمال الدينية مبنية على قاعدتين: إحداهما ألا يعبد إلا الله، والثانية أن يعبد بما شرعه، وما عدا ذلك من نظم العمران وقواعد الاجتماع وغيرهما، فقد وضع له الدين أسسا عامة من العدل والرحمة والخير والمصلحة والمساواة والحرية وعدم الضرر والصدق.
والأمانة والاحسان وما إلى ذلك من أمهات الفضائل. ولما كان القرآن الكريم مصونا بالتدوين والحفظ، وأحاديث الرسول لم تدون فقد كان أشد ما يخشاه صلوات الله عليه أن يكذب أحد عليه وبخاصة بعد أن نرك حديثه بغير تدوين محفوظ، وقد شدد في هذا الأمر تشديدا عظيما، حتى جعل جزاءه القتل في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة.
 روى البخاري عن ربعي بن خراش قال: سمعت عليا يقول: قال النبي: لا تكذبوا علي فإن من كذب علي فليلج النار. وقال الحافظ ابن حجر في شرح هذا الحديث. يؤيده رواية مسلم من طريق غندر عن شعبة بلفظ " يلج النار ".
 وروى البخاري عن أنس وأبي هريرة بزيادة لفظ " معتمدا "، وكذلك أتت أحاديث في غير البخاري بهذه الزيادة، ولكن من حقق النظر، وأبعد النجعة في مطارح البحث، يجد أن الروايات الصحيحة التي جاءت عن كبار الصحابة، ومنهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين تدل على أن هذا الحديث لم تكن فيه تلك الكلمة " متعمدا " وكل ذي لب يستبعد أن يكون النبي قد نطق بها، لمنافاة ذلك للعقل والخلق اللذين كان الرسول متصفا بالكمال فيهما. ذلك بأن الكذب " هو الإخبار بالشئ على خلاف ما هو عليه سواء أكان عمدا أم خطأ "، ولعل هذه اللفظة قد تسللت إلى هذا الحديث من طريق " الادراج " المعروف عند العلماء ليسوغ بها الذين يضعون الحديث على رسول الله حسبة من غير عمد، كما كان يفعل الصالحون من المؤمنين ويقولون " نحن نكذب له لا عليه "! أو يتكئ عليها الرواة فيما يروونه عن غيرهم على سبيل الخطأ، أو الوهم أو سوء الفهم، لكي لا يكون عليهم حرج في ذلك لأن المخطئ غير مأثوم - ومن أجل ذلك وضع هؤلاء الرواة قاعدتهم المشهورة: " إنما الكذب على من تعمده ".
الأدلة الصحيحة القوية على حقيقة حديث من كذب على:
 وإنا نسوق هنا طائفة من الأدلة التي تؤيد ما ذهبنا إليه: ففي رواية لأحمد عن " عمر " مرفوعا: من كذب علي فهو في النار. وروى ابن سعد في طبقاته وابن عساكر عن محمود بن لبيد واللفظ لابن سعد قال: سمعت عثمان بن عفان على المنبر يقول: لا يحل لأحد أن يروي حديثا لم يسمع به في عهد أبي بكر ولا في عهد عمر، فإني لم يمنعني أن أحدث عن رسول الله ألا أكون أوعى أصحابه! إلا أني سمعته يقول: " من قال علي ما لم أقل فقد تبوأ مقعده من النار ".
 وروى أحمد والدارمي وابن ماجة وآخرون من حديث أبي قتادة عن النبي أنه قال: إياكم وكثرة الحديث عني، فمن قال عني فلا يقولن إلا حقا وصدقا، فمن قال على ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار ". وأقطع دليل في هذا الأمر الحديث الذي رواه البخاري عن عامر بن عبد الله ابن الزبير فقد قال فيه: قلت للزبير: إني لا أسمعك تحدث عن رسول الله كما يحدث فلان وفلان! قال أما إني لم أفارقه ولكني سمعته يقول: " من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار.
 قال ابن حجر في شرح هذا الحديث وهذا الحديث أخرجه الزبير بن بكار في كتاب النصب من وجه آخر عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن الزبير قال: " عناني ذلك " يعني قلة رواية الزبير فسألته - أي عن ذلك - فقال: يا بني كان بيني وبينه (صلى الله عليه وسلم) من القرابة والرحم ما علمت.
 وعمته أمي، وزوجته خديجة عمتي وأمه آمنة بنت وهب، وجدتي هالة بنت وهب ابن عبد مناف بن زهرة، وعندي أمك وأختها عائشة عنده، ولكن سمعته يقول: من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار " ، وأخرجه الدارمي عن عبد الله بن الزبير بلفظ " من حدث عني " كذبا ولم يذكر العمد. وهذا الحديث أخرجه كذلك أبو داود والنسائي وابن ماجة والدارمي والدارقطني وقال: والله ما قال متعمدا "، وأنتم تقولون متعمدا، ورواية ابن قتيبة في كتاب تأويل مختلف الحديث: من كذب علي فليتبوأ مقعده من النار، وقال أراهم يزيدون فيها " متعمدا " ووالله ما سمعته قال " متعمدا "، وفي نسخة إنهم يزيدون! ورواية ابن سعد والله ما قال متعمدا وأنتم تقولون متعمدا،
 وقد قال ابن حجر في شرح هذا الحديث: " وفي تمسك الزبير بهذا الحديث على ما ذهب إليه في اختيار قلة التحديث، دليل للأصح في أن الكذب هو الإخبار بالشئ على خلاف ما هو عليه سواء أكان عمدا أم خطأ - والمخطئ وإن كان غير مأثوم الإجماع، لكن الزبير خشي من الإكثار أن يقع في الخطأ وهو لا يشعر، لأنه وإن لم يأثم بالخطأ، لكن قد يأثم بالإكثار إذ الإكثار مظنة الخطأ فحمل عنه - وهو لا يشعر أنه خطأ - ما يعمل به على الدوام للوثوق بنقله فيكون سببا للعمل بما لم يقله الشارع، فمن خشى من الإكثار الوقوع في الخطأ لا يؤمن عليه الإثم ". ولعلك تمعن الفكر كثيرا في هذا الحديث وشرحه وتجعله مرآة لغيره. وقال الحاكم في المدخل: " إن موعد الكاذب عليه في النار، وقد شدد في ذلك وبين أن الكاذب عليه في النار، تعمد الكذب أم لم يتعمد في قوله (صلى الله عليه وسلم) فيما رواه ابن عمر: " إن الذي يكذب علي يبنى له بيتا في النار "، وقد زاد تشددا بقوله فيما رواه عثمان بن عفان: " من قال علي ما لم أقل " فإنه إذا نقله غير متعمد للكذب استوجب هذا الوعيد من المصطفى.
 ومن روايات هذا الحديث: " من نقل عني ما لم أقله فليتبوأ مقعده من النار ". قالوا: وهذا أصعب ألفاظه وأشقها لشموله للمصحف واللحان والمحرف. وهذا الإمام الشافعي الذي قالوا عنه إنه عالم قريش، والذي كان أقرب إلى معين السنة الصافي من البخاري ومسلم وأصحاب السنن جميعا وأستاذا للإمام أحمد، لو رجعنا إليه لنرى ما رواه في هذا الأمر لوجدناه قد روى أحاديث كثيرة في هذا المعنى ليس فيها كلها كلمة " متعمدا ". وإليك بعض ما رواه في رسالته المشهورة: عن واثلة بن الأسقع عن النبي قال: " إن أفرى الفري من قولني ما لم أقل ومن أرى عينيه ما لم تر، ومن ادعى إلى غير أبيه ". وعن ابن عمر أن النبي قال: " إن الذي يكذب علي يبنى له بيتا في النار ". وعن أم أسيد قالت: قلت لأبي قتادة: ما لك لا تحدث عن رسول الله كما يحدث الناس عنه؟ قال: سمعت رسول الله يقول: من كذب علي فليلتمس لجنبيه مضجعا من النار.
هذا بعض ما رواه الشافعي في رسالته، وكله لم يرد فيه كلمة " متعمدا " فليسمع من يعقل! - وكذلك ليس فيما ننقله مما رواه هذه اللفظة. وقال النووي في شرح حديث من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين، الذي رواه مسلم، ولا فرق في تحريم الكذب عليه (صلى الله عليه وسلم) بين ما كان في الأحكام، وما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ، وغير ذلك، وكله حرام من أكبر الكبائر وأقبح القبائح بإجماع المسلمين الذين يعتد بهم في الإجماع - إلى أن قال: وقد أجمع أهل الحل والعقد على تحريم الكذب على آحاد الناس! فكيف بمن قوله شرع، وكلامه وحي، والكذب عليه كذب على الله تعالى.
 وقال السيوطي: وللتحرز من ذلك كان الخلفاء الراشدون، والصحابة المنتخبون، رضوان الله عليهم يتقون كثرة الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود والمقداد بن الأسود وأبو أيوب الأنصاري وثوابان مولى رسول الله وزيد بن أرقم... إلخ. وكان أبو بكر وعمر يطالبان من روي لهما حديثا عن رسول الله لم يسمعاه منه، إقامة البينة ويتوعدانه في ذلك، وكان علي بن أبي طالب يستحلف عليه، وكان عبد الله بن مسعود يتغير عند ذكر الحديث عن رسول الله وتنتفخ أوداجه ويسيل عرقه وتدمع عيناه ويقول، أو قريبا من هذا، أو نحو هذا، أو شبه هذا، كل ذلك خوفا من الزيادة والنقصان، أو السهو والنسيان، واحتياطا للدين وحفظا للشريعة، وحسما لطمع طامع، أو زيغ زائغ أن يجترئ فيحكى عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ما لم يقله، أو يدخل في الدين ما ليس منه، ويقتدى بهم من يسمع منهم ويأخذ عنهم، فيقفو أثرهم ويسلك طريقهم.
 وعن مالك بن عبادة قال: إن النبي عهد إلينا في حجة الوداع فقال: عليكم بالقرآن وإنكم سترجعون إلى قوم يشتهون الحديث عني، فمن عقل شيئ فليحدث به ومن افترى علي فليتبوأ مقعدة في جهنم. هذا ما رأينا إيراده من الأدلة على أن حديث الرسول " من كذب علي " لم يكن فيه كلمة " متعمدا " وإنك لتجد مما أوردناه أن روايات كبار الصحابة ومنهم ثلاثة من الخلفاء الراشدين والزبير بن العوام حواري رسول الله قد اتفقت كلها على أن الرواية الصحيحة للحديث لم يكن فيها كلمة " متعمدا ".
 وإن العقل السليم والخلق الكريم، لينفران من قبول رواية " متعمدا " لأن الكذب هو أبو الرذائل كلها سواء أكان عن عمد أم غير عمد. الكذب على النبي في حياته صلوات الله عليه لعل النبي صلوات الله عليه قد حذر من الكذب عليه بعد أن سمع أن بعضهم قد افترى عليه كذبا وهو حي، فقد جاء في كتاب الأحكام في أصول الأحكام لابن حزم الظاهري عن عبد الله بن بريدة عن ابن الخطيب الأسلمي قال: كان حي من بني ليث على ميلين من المدينة فجاءهم رجل وعليه حلة فقال: إن رسول الله كساني هذه الحلة وأمرني أن أحكم في دمائكم وأموالكم بما أرى! وكان قد خطب منهم امرأة في الجاهلية فلم يزوجوه، فانطلق حتى نزل على تلك المرأة، فأرسلوا إلى رسول الله فقال: كذب عدو الله، ثم أرسل رجلا فقال: إن وجدته حيا - ولا أراك تجده - فاضرب عنقه وإن وجدته ميتا فحرقه بالنار.
 وأخرج ابن سعد في الطبقات والطبراني عن المقنع التميمي قال: أتيت النبي بصدقة إبلنا فأمر بها فقبضت - فقلت إن فيها ناقتين هدية لك: فأمر بعزل الهدية عن الصدقة، فمكثت أياما وخاض الناس أن رسول الله باعث خالد بن الوليد إلى رقيق مضر فمصدقهم، فقلت: والله ما عند أهلنا من مال! فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: إن الناس خاضوا في كذا وكذا فرفع النبي يديه حتى نظرت إلى بياض إبطه وقال: اللهم لا أحل لهم أن يكذبوا على، قال المقنع فلم أحدث بحديث عن النبي إلا حديثا نطق به كتاب أو جرت به سنة.
وهذا لمن يكذب عليه في حياته! فكيف بعد موته؟ - والأخبار في ذلك كثيرة. الكذب على النبي بعد موته صلوات الله عليه وإذا كان قد كذب عليه في حياته، فإن الكذب قد كثر عليه وفشا بعد وفاته والصحابة متوافرون والدين غض والناس ناس، وقد استفاض هذا الكذب بعد موت عمر لأنه كما علمت كان يخيف الناس حتى أفزعت كثرة ما نسب إلى رسول الله من أحاديث - كبار الصحابة وأمضتهم. فقد روى مسلم في مقدمة كتابه بسنده عن طاووس قال: جاء هذا إلى ابن عباس (يعني بشيربن كعب) فجعل يحدثه، فقال له ابن عباس: عد لحديث كذا وكذا، فعاد، فقال له: عد لحديث كذا وكذا، فعاد له، فقال: ما أدري؟ أعرفت حديثي كله وأنكرت هذا؟ أم أنكرت حديثي كله وعرفت هذا؟ فقال ابن عباس: إنا كنا نحدث عن رسول الله إذ لم يكن يكذب عليه! فلما ركب الناس الصعبة والذلول تركنا الحديث عنه.
 وجاء بشير بن كعب العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله، قال رسول الله: قال فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه ولا ينظر إليه فقال: يا ابن عباس ما لي أراك لا تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله ولا تسمع! قالابن عباس: إنا كنا مدة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله، ابتدرته أبصارنا، وأصغينا بآذاننا، فلما ركب الناس الصعبة والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف! وروي عن ابن أبي مليكة قال كتبت إلى ابن عباس أسأله أن يكتب لي كتابا ويخفي عني، قال: ولد ناصح، إني أختار له الأمور اختيارا وأخفي عنه قال: فدعا بقضاء علي فجعل يكتب منه أشياء ويمر بالشئ فيقول والله ما قضى بهذا علي إلا أن يكون قد ضل! وروي عن أبي بكر بن عياش قال: سمعت المغيرة يقول: لم يكن يصدق علي علي في الحديث عنه إلا من أصحاب عبد الله بن مسعود. نجتزئ بهذه النصوص التي تدل على أن الرسول صلوات الله عليه قد كذب عليه في حياته وبعد مماته، ولم يكن ذلك من أهل البدع والأهواء وأعداء الدين فحسب، وإنما كان كذلك من الصالحين، كما سيتبين لك ذلك في فصل " الوضاع الصالحون " من هذا الكتاب.
 حكم من كذب على رسول الله قال السمعاني: من كذب في خبر واحد على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وجب إسقاط ما تقدم من حديثه وقال أحمد بن حنبل وأبو بكر الحميدي وأبو بكر الصيرفي: لا تقبل رواية من كذب في أحاديث رسول الله وإن تاب عن الكذب بعد ذلك وقال ابن حجر العسقلاني: اتفق العلماء على تغليظ الكذب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لأنه من الكبائر حتى بالغ الشيخ أبو محمد الجويني فحكم بكفر من وقع منه ذلك، وكلام القاضي أبو بكر بن العربي يميل إليه، وجهل من قال من الكرامية، وبعض المتزهدة: إن الكذب على النبي يجوز فيما يتعلق بتقوية أمر الدين وطريقة أهل السنة والترغيب والترهيب، واعتلوا بأن الوعيد ورد في حق من كذب عليه، لا في الكذب له، وهو اعتلال باطل لأن المراد بالوعيد من نقل عنه الكذب سواء أكان له أم عليه، والدين بحمد الله كامل غير محتاج إلى تقويته بالكذب.
 الكذب على النبي صلى الله عليه وسلم من الكبائر أخرج ابن عساكر في تاريخه عن واثلة بن الأسقع قال: سمعت رسول الله يقول: إن من الكبائر أن يقول الرجل على ما لم أقل. وقال النووي في شرح مسلم، تحريم رواية الحديث الموضوع: ولا فرق في تحريم الكذب عليه (صلى الله عليه وسلم) بين ما كان في الأحكام وما لا حكم فيه كالترغيب والترهيب والمواعظ وغير ذلك، وكله حرام من أكبر الكبائر، وأقبح القبائح بإجماع المسلمين إلى أن قال: وقد أجمع أهل الحل والعقد على تحريم الكذب على آحاد الناس فكيف بمن قوله شرع، وكلامه وحي، والكذب عليه كذب على الله تعالى.
 درجات الصحابة: لم يكن الصحابة طرازا واحدا في الفقه والعلم، ولا نمطا متساويا في الإدراك والفهم، وإنما كانوا في ذلك طبقات متفاوتة، ودرجات متباينة، شأن الناس جميعا في هذه الحياة على مر الدهور: سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا. قال ابن خلدون في مقدمته: " إن الصحابة كلهم لم يكونوا أهل فتيا ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم وإنما كان ذلك مختصا بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه، ومتشابهه ومحكمه، وسائر دلالته، بما تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه منهم وعن عليتهم وكانوا يسمون لذلك (القراء) أي الذين يقرءون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية، فاختص من كان منهم قارئا للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ وبقي الأمر كذلك صدر الملة ".
 وعن محمد بن سهل بن أبي خيثمة عن أبيه قال: كان الذين يفتون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة نفر من المهاجرين، وثلاثة من الأنصار، عمر وعثمان وعلي، وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت. وعن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه: أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كان إذا نزل به أمر يريد فيه مشاورة أهل الرأي، دعا رجالا من المهاجرين والأنصار، دعا عمر وعثمان وعليا، وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي ابن كعب وزيد بن ثابت. وكل هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكر وإنما تصير فتوى الناس إلى هؤلاء فمضى أبو بكر على ذلك. ثم ولى عمر فكان يدعو هؤلاء النفر. وفي مسلم: عن مسروق قال: شاممت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدت علمهم انتهى إلى ستة: إلى عمر وعلي وعبد الله ومعاذ  وأبي الدرداء وزيد ابن ثابت، فشاممت هؤلاء الستة فوجدت علمهم انتهى إلى علي وعبد الله.
 وروى ابن القيم في إعلام الموقعين عن مسروق قال: جالست أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم) فكانوا كالإخاذة، الإخاذة تروي الراكب، والإخاذة تروي الراكبين، والإخاذة لو نزل بها أهل الأرض لأصدرتهم، وإن عبد الله من تلك الإخاذة.
 وروى البخاري ومسلم عن النبي قال: إن مثل ما بعثنيبه الله منالهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلا والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء، فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وأصاب بها طائفة أخرى، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلا.
 وعن عامر قال: كان علماء هذه الأمة بعد نبيها ستة: عمر وعبد الله وزيد ابن ثابت. فإذا قال عمر قولا وقال هذان قولا كان قولهما لقوله تبعا، وعلي وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري، فإذا قال علي قولا كان قولهما لقوله تبعا، وقال قضاة هذه الأمة أربعة: عمر وعلي وزيد وأبو موسى الأشعري. ودهاة هذه الأمة أربعة: عمرو بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة وزياد. تفاوت الصحابة في صدق الرواية فبعضهم أصدق من بعض صدق عمر عبد الرحمن بن عوف وقال له: أنت عندنا العدل الرضا - قال الذهبي في شرح الخبر فأصحاب رسول الله وإن كانوا عدولا فبعضهم أعدل من بعض فهاهنا عمر قنع بخبر عبد الرحمن، وفي قصة الاستئذان يقول لأبي موسى الأشعري: ائت بمن يشهد معك.
رواية الصحابة بعضهم عن بعض وروايتهم عن التابعين ليس كل ما جاء من الأحاديث عن الصحابة مما رووه عن رسول الله ودون في الكتب قد سمعوه كله بآذانهم من النبي صلوات الله عليه مشافهة، ولا أخذوه عنه تلقينا، وإنما كان يروي بعضهم عن بعض، فمن لم يسمع من الرسول كان يأخذ ممن سمع منه (صلى الله عليه وسلم)، وإذا رواه لغيره لم يعزه إلى الصحابي الذي تلقاه عنه، بل يرفعه إلى النبي بغير أن يذكر اسم هذا الصحابي - ذلك أن مجالس الرسول كانت متعددة، وتقع في أزمنة وأمكنة مختلفة، ولا يمكن أن يحضر الصحابة جميعا كل مجلس من مجالسه، فما يحضره منها بعض الصحابة لا يحضره البعض الآخر.
 وقد ذكر الآمدي في كتاب الأحكام في أصول الأحكام: أن ابن عباس لم يسمع من رسول الله سوى أربعة أحاديث لصغر سنه ولما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم " إنما الربا في النسيئة " وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يلبي حتى رمى حجر العقبة، قال في الجزء الأول لما روجع فيه، قال: أخبرني به أسامة ابن زيد، وفي الخبر الثاني: أخبرني به أخي الفضل بن العباس. ولما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من أصبح جنبا في رمضان فلا صوم له، راجعوه في ذلك، فقال: ما أنا قلته ورب الكعبة ولكن محمدا قاله! ثم عاد فقال: حدثني به الفضل بن العباس.
 وروي عن البراء بن عازب قال: " ما كل ما نحدثكم به سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم! ولكن سمعنا بعضه وحدثنا أصحابنا ببعضه ". وأما التابعون فقد كان من عادتهم إرسال الأخبار. ويدل على ذلك ما روي عن الأعمش أنه قال: قلت لإبراهيم النخعي: إذا حدثتني فأسند فقال: إذا قلت لك حدثني فلان عن عبد الله فهو الذي حدثني وإذا قلت لك حدثني عبد الله، فقد حدثني جماعة عنه، وقد قال الآمدي بعد ذلك، ولم يزل ذلك مشهورا فيما بين الصحابة والتابعين من غير نكير فكان إجماعا.
 وكما كان الصحابة يروي بعضهم عن بعض فإنهم كذلك كانوا يروون عن التابعين. وهذا أمر نص عليه علماء الحديث في كتبهم فارجع إليه إن شئت. وفي كلام ابن الصلاح وغيره في باب " رواية الأكابر عن الأصاغر " أن ابن عباس والعبادلة الثلاثة وأبا هريرة وغيرهم قد رووا عن كعب الأحبار - اليهودي الذي أسلم خداعا في عهد عمر وعدوه من كبار التابعين ثم سوده بعد ذلك على المسلمين. وهاك ما قاله السيوطي في ألفيته.
 وقد روى الكبار عن صغار * في السن أو في العلم والمقدار ومنه أخذ الصحب عن أتباع * وتابع عن تابع الأتباع كالبحر عن كعب وكالزهري * عن مالك ويحيى الأنصاري وقال شارح هذه الألفية الشيخ أحمد محمد شاكر رحمه الله - ومن هذا النوع رواية الصحابة عن التابعين كرواية البحر عبد الله بن عباس وسائر العبادلة وأبي هريرة ومعاوية وأنس وغيرهم عن كعب الأحبار! على أن الصحابة في روايتهم عن إخوانهم أو عن التابعين لم يكونوا - كما أبنا - يذكرون أن أحاديثهم قد جاءت من سبيل الرواية عن غيرهم، بل يروون ما يروون في المناسبات التي تستدعي ذكر الحديث مهما طال الزمن من غير عزو إلى من سمعوا منه ثقة بهم ويرفعونها إلى النبي، وظلوا على ذلك إلى أن وقعت الفتنة، ومن ثم قالوا، سموا لنا رجالكم! قال ابن سيرين: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم.
 وأخرج مسلم عنه: لقد أتى على الناس زمان وما يسأل عن إسناد حديث، فلما وقعت الفتنة سئل عن إسناد الحديث.. وفي سنن الترمذي عنه: كانوا في الزمن الأول لا يسألون عن الإسناد! فلما وقعت الفتنة، سألوا عن الإسناد، إن الرجل ليحدثني فما أتهمه ولكن أتهم من هو فوقه. وقد روى التابعون عن " تابعي التابعين ". ومن رواية التابعين عن تابعي التابعين.. رواية الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري عن مالك وهو تلميذهما. ومن الطريف للفطن كما قال السيوطي في ألفيته - أن يروي الصحابي عن تابعي، عن صحابي آخر حديثا، ومن ذلك حديث السائب بن يزيد الصحابي عن عبد الرحمن بن عبد القاري التابعي عن عمر بن الخطاب عن النبي (صلى الله عليه وسلم " من نام عن حزبه أو عن شيء منه فقرأه فيما بين صلاة الفجر وصلاة الظهر، كتب له كأنما قرأه في الليل " رواه مسلم في كتابه، ومن ذلك حديث " لا يستوي القاعدون ". وقد جمع الحافظ العراقي من ذلك عشرين حديثا.
 نقد الصحابة بعضهم لبعض لم يقف الأمر بالصحابة عند تشديدهم في قبول الأخبار من إخوانهم في الصحبة كما أسلفنا، ولكنه تجاوز ذلك إلى أن ينقد بعضهم بعضا. ولقد كان عمر وعلي وعثمان وعائشة وابن عباس وغيرهم من الصحابة يتصفحون على إخوانهم في الصحبة، ويشكون في بعض ما يروونه عن الرسول ويردونه على أصحابه. عن محمود بن الربيع - وكان ممن عقل عن رسول الله وهو صغير - أنه سمع عتبان بن مالك الأنصاري وكان ممن شهد بدرا، أن رسول الله قال: إن الله حرم النار على من قال: لا إله إلا الله يبغي بها وجه الله - وكان الرسول في دار عتبان فحدثها قوما فيهم أبو أيوب صاحب رسول الله - فأنكرها على أبو أيوب وقال: والله ما أظن رسول الله قد قال ما قلت! وقد استدلت المرجئة بهذا الحديث ونحوه على مذهبهم.
 وردت عائشة حديث عمر وابن عمر: " إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه "، فقالت: إنكم لتحدثون عن غير كاذبين ولكن السمع يخطئ والله ما حدث رسول الله أن الله يعذب المؤمن ببكاء أهله عليه! وقالت: حسبكم القرآن " ولا نزر وازرة وزر أخرى ". وفي رواية أنها لما سمعت أن ابن عمر يحدث بهذا الحديث قالت: وهل! إنما قال: إنه ليعذب بخطيئته وذنبه، وإن أهله ليبكون عليه " وفي رواية ثالثة: إنه لم يكذب ولكنه نسي أو أخطأ وقالت مثل قوله (ابن عمر) إن رسول الله قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال: إنهم ليسمعون ما أقول. وقالت: إنما قال: إنهم الآن يعلمون أن ما كنت أقوله لهم حق، ثم قرأت " إنك لا تسمع الموتى، وما أنت بمسمع من في القبور " حين تبوءوا مقاعدهم من النار.. والحديثان في البخاري ومسلم وغيرهما. وردت عائشة كذلك حديث رؤية النبي لربه ليلة الإسراء الذي رواه الشيخان عن عامر بن مسروق الذي قال لعائشة: يا أمتاه. هل رأى محمد ربه؟ فقالت: لقد قف شعري مما قلت! أين أنت من ثلاث من حدثكم فقد كذب: من حدثك أن محمدا رأى ربه فقد كذب، ثم قرأت: " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير. وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب " ومن حدثك أنه يعلم ما في غد فقد كذب، ثم قرأت: " وما تدري نفس ماذا تكسب غدا "، ومن حدثك أنه كتم شيئا فقد كذب، ثم قرأت: " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ".
وفي مسلم وكنت متكئا فجلست فقلت: ألم يقل الله " ولقد رآه نزلة أخرى " فقالت: أنا أول من سأل رسول الله عن هذا فقلت يا رسول الله، هل رأيت ربك؟ فقال: لا، أنا رأيت جبريل منهبطا. وفي حديث أبي ذر عند مسلم أنه سأل النبي عن ذلك فقال: نور أني أراه - ولأحمد رأيت نورا. وردت خبر ابن عمر وأبي هريرة: أن الشؤم في ثلاث: فقالت إنما كان رسول الله يحدث عن أحوال الجاهلية، وذلك لمعارضته الأصل القطعي من " أن الأمر كله لله ". ولما بلغها قول أبي الدرداء من أدرك الصبح فلا وتر له. قالت: لا - كذب أبو الدرداء، كان النبي يصبح فيوتر، ولما سمعت أن ابن عمر قال: اعتمر رسول الله عمرة في رجب، قضت عليه بالسهو، وقالت عن أنس بن مالك وأبي سعيد الخدري، ما علم أنس بن مالك وأبي سعيد بحديث رسول الله، وإنما كانا غلامين صغيرين! وكانت عائشة ترد كل ما روي مخالفا للقرآن - وتحمل رواية الصادق من الصحابة على خطأ السمع. أو سوء الفهم  - وكذب عمران بن حصين سمرة في حديث أن للنبي سكتين في الصلاة عند قراءته.
 والأمثلة على ذلك كثيرة وقد أتينا في تاريخ أبي هريرة بطائفة من الأحاديث التي انتقدوه فيها، وردوها عليه فراجعها هناك. عدالة الصحابة أما الكلام عن عدالة الصحابة فقد أرجأناه إلى مكانه من هذا الكتاب.
أنتهى الجزء الثانى.