الاتحاد الاماراتية -16 ديسمبر 2006
مصادر القهر بين الدين والسياسة

في السبت ١٦ - ديسمبر - ٢٠٠٦ ١٢:٠٠ صباحاً

 

السبت 16 ديسمبر2006

د. حسن حنفي
 
 القهر سمة العصر وأحد أسباب الضيق في الوجدان العربي المعاصر. قد يشعر الفرد بأنه مقهور، أو تحس الجماعة بأنها مقهورة. ويعاني الشعب أولاً لأنه مقهور. وقد كتب كثير من علماء النفس والاجتماع العرب عن "سيكولوجية الإنسان المقهور"، وعن مصادر القهر الديني والسياسي والاجتماعي والتاريخي.

القهر بنية بصرف النظر عن تجلياتها في السلوك الإنساني وفي الحياة العامة. هي بنية تقوم على التسلط. ويعني التسلط تحديد العلاقة بين طرفين معينين، بغض النظر عن شرعية ذلك، على نحو رأسي، بين الأعلى والأدنى، وليس على نحو أفقي بين الأمام والخلف. فالقمة أعلى من القاعدة، والإرادة الشاملة أقوى من الإرادات الفردية بل وتجبُّها. هو التصور الهرمي للعالم. وما دام هرمياً، فليس غريباً أن يبدعه قديماً فرعون ليجعله رمزاً للحياة وللممات. فهو "الإله"- الفرعون رمز القهر الديني والقهر السياسي. فالطغيان قد يولد نفاق البعض للتعايش وتجنب البطش. كما قد يؤدي إلى شهادة البعض الآخر لمقاومة البطش دفاعاً عن العدل ضد الظلم. وليس غريباً أن ينشأ القهر في مصر القديمة، بالرغم من شكاوى الفلاح الفصيح، وثورة ابن الهمام في صعيد مصر، وثورة الفلاحين، وثورة 1919، وثورة يوليو، والهبَّات الشعبية بين الحين والآخر والمظاهرات العارمة في لحظات الخطر والمساس بالكرامة الوطنية.

ومصادر القهر متنوعة، الأول، الدين في فهمه المغلوط، كما يعرضه بعض المحسوبين على رجال الدين دفاعاً عن مناصبهم "المزوَّرة" كما يقول الكندي. وطالما تعاون بعض رجال الدين مع رجال السياسة عبر العصور. وطالما تعاونت الكنيسة مع الدولة، والبابا مع الإمبراطور، وعلماء الأزهر مع رجالات الحكم باستثناء القليل. وأفرزت عقائد القدَرية السلبية التي ينقدها جمال الدين الأفغاني دفاعاً عن الحرية والمسؤولية بعد أن تحولت إلى ثقافة شعبية كما تبدو في الأمثال العامية "المكتوب ما منوش مهروب"، "المتعوس متعوس ولو علَّقوا على راسه فانوس"، "يا متعوس غير رزقك ما تحوش"، "العين صابتني ورب العرش نجَّاني" إلى آخر الأمثال التي درسها أحد علماء الاجتماع في مصر في "هتاف الصامتين" و"رسائل الإمام الشافعي". ولا تقوم ثورة إلا إذا تخلى الشعب عن هذا المسلك كما حدث قبيل الثورة الفرنسية بفضل فلاسف التنوير.

والثاني، السياسة كما تبدو في النظم التسلطية مثل النازية والفاشية والنظم الشمولية. وهو ما سماه ابن رشد في "الضروري في السياسة"، "وحدانية التسلط" أي الذي يقرر الصواب والخطأ، ويضع السياسات بناء على عبقريته أو إلهامه الخاص في الحرب والسلام، والاشتراكية والرأسمالية، والاعتماد على الشرق أو الغرب. هو وحده كامل الأوصاف لا بديل عنه. يحكم عن طريق أجهزة الأمن والشرطة والإعلام. لذلك تشتد الدعوات للحرية والديمقراطية وينتهي حكم الفرد بالليبرالية البرلمانية.

والثالث، المجتمع. وهو قهر العادات الاجتماعية وقهر أب الأسرة، والأخ الكبير والأم أحياناً والمدرِّس والناظر والفتوة والشجيع. ومن يخرج على التقاليد يتهم بالعقوق والانحراف. وإذا كان ما خرج عنه معتقدات شعبية فسرعان ما يتهم بالكفر والإلحاد والردة، جزاؤه الموت والتفريق، وعدم التوريث أو الدفن في مقابر المسلمين أي أنه "موت وخراب ديار". لذلك قامت كل الحركات الإبداعية في الفن والأدب بتجاوز التقاليد والعرف للتحول من القديم إلى الجديد، ومن الاتباع إلى الإبداع.

والرابع، التاريخ وتقليد القديم والتمسك بالماضي وممارسة العادات دون نقد أو تمحيص. مع أن القرآن يدعو إلى المشاركة في حركة التاريخ والاختيار بين التقدم والتأخر، كما يدعو إلى التنافس في الخير، فالتاريخ له ثقله في الوعي الشعبي. يعيش الماضي في الحاضر، والسلف في الخلف. فتنشأ الحركات الراديكالية التي تطالب بالعودة إلى الماضي بعد أن انسد الطريق أمامها. وعجزت عن الخروج من توقف الحاضر إلى حركة المستقبل. وهو ما يحدث الآن في هروب الحركة الراديكالية الدينية إلى الماضي وهروب الحركة العلمانية إلى المستقبل. وكلاهما عجز عن الدخول في أتون الحاضر. والأهم هو القهر الديني وتعاونه مع القهر السياسي والقهر الاجتماعي والقهر التاريخي. فالقهر الديني هو الأساس أي قهر الروح باسم الإيمان والطاعة، مستغلة القهر السياسي لأن أفضل وسيلة لطاعة السلطة السياسية هي السلطة الدينية. حدث ذلك في الغرب في العصر الوسيط عندما استعمل القهر الديني القهر السياسي، وسيطرت الكنيسة على الدولة، وقام البابا بطرد الملوك من الرحمة الإلهية إذا ما عصوه. تعاونت السلطتان على الدفاع عن الإقطاع، أراضي الكنيسة وأراضي الدولة، ضد ثورات الفلاحين كما حدث في ألمانيا في القرن السادس عشر بقيادة "توماس مونزر" الراهب البروتستانتي. واستعمل الملوك الأحْبار في بني إسرائيل. واستعملت بعض النظم السياسية في الوطن العربي المؤسسات الدينية لتبرير سياسات هذه النظم. فإذا ما قويت الدولة استعملت الكنيسة لمد سلطانها في الداخل والخارج في قبول النظام الإمبراطوري، واستعمار الشعوب في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية باسم التبشير.

ويأخذ النظام صفاته من الدين. ثم يسمع ويبصر عن طريق أجهزة المخابرات العامة والبوليس السري وأدوات التجسس والتصنت وانتهاك الحرمات.

وفي كلتا الحالتين، الشعب هو الخاسر، وهو مصدر السلطات. والفرد في المجتمع هو الضائع بفقدان حرياته الفردية. ومن تراكم القهر الديني قد تنشأ بعض حركات الإلحاد في حده الأقصى، أو العلمانية في حدها الأدنى للفصل بين السلطتين الدينية والسياسية، بين الكنيسة والدولة. كما تنشأ حركات ليبرالية تدافع عن حرية الفرد والجماعة، أو فوضوية تكفر بالدول والأنظمة السياسية والطبقة وكل مظاهر القهر الديني والسياسي والاجتماعي والتاريخي دفاعاً عن الفرد كما فعل "شترنر" في "الواحد وصفاته". وبدلاً من أن يتوقف التاريخ تحدث الثورات فيه وتقع الانكسارات في مساره المتصل. فالتاريخ قصة الحرية عند "كروتشه".

مازال القهر هو البنية الغالبة على الوجدان العربي. وانغرست فيه محرمات ثلاثة: الدين والسلطة والجنس، الثالوث المحرَّم. لعبة الدين والسياسة والجنس وراء كثير من الصراعات البرلمانية و أباطرة الإعلام والقنوات الفضائية والصحافة السوداء، صراعاً على السلطة، والقهر باقٍ. قنوات ثلاث يغذي بعضها بعضاً. لا يحدث تحرر سياسي إلا بعد تحرر الدين من التأويلات المغلوطة. تحرر الروح سابق على تحرر البدن. وتحرر الذهن قبل تحرر السجن. وتحرر القلب قبل تحرر العقل.