لمحة عن نظام البريد فى تاريخ المسلمين

في الخميس ٠٢ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

تاريخ النشر: 2009-04-01


يذكر المقريزي في الخطط أن أصل كلمة بريد هي " بريد ذنب" لأن الملك الفارسي " دارا" هو أول من ابتكر نظام البريد وأقام له دوابا محذوفة الأذناب والذيول سميت " بريد ذنب" ، ثم عربت وحذف منها نصفها الأخير فقيل " بريد".
ويرى المقريزي أن الخليفة المنصور العباسي هو أول من أقام البريد فيما بين مكة والمدينة واليمن وجعل له بغالا وإبلا وذلك سنة 186هـ ولكن الثابت أن معاوية هو أول من أدخل نظام البريد ثم أدخل عليه عبد الملك بن مروان تحسينات ، وكان يوصي حاجبه بإدخال صاحب البريد عليه ليلا أو نهارا لأن تأخيره ساعة قد يفسد أعمال الولاية سنة بأكملها.
البريد في عصر أبي جعفر المنصور:
إلا أن أبا جعفر المنصور هو الذي أحدث التطوير الهائل في نظام البريد وجعله ديوانا هاما من دواوين الدولة .. فكان صاحب البريد يراقب الولاة ويتجسس عليهم وعلى الأعداء وينقل أخبار الأطراف إلى الخليفة ، وحين ضعف الخليفة أصبح بإمكان الوالي النشط أن يشتري صاحب البريد في بغداد ويعرف من خلاله أخبار الخليفة ومؤامرات البلاط العباسي ، بمثل ما كان ابن طولون في مصر يعمل حين أراد الاستقلال بمصر .
ونعود إلى أبي جعفر المنصور الذي وحد الدولة العباسية وطور نظام البريد ، فهو في إحدى كلماته يعتبر صاحب البريد من أركان الملك الأربعة الذين لا يصلح الملك إلا بهم ومنهم القاضي وصاحب الخراج وصاحب الشرطة .وجعل صاحب البريد أهم واحد فيهم حين يكتب إليه يخبرهم على الحقيقة.
ويذكر الطبري أن عامل البريد في حضرموت أرسل إلي أبي جعفر المنصور يذكر أن الوالي يكثر الخروج إلى الصيد ، فعزله المنصور.
وكان صاحب البريد في كل ولاية يكتب للمنصور العباسي بأعمال الولاة وأحكام القضاة وموارد بيت المال وأسعار السوق ، وبلغ من انتظام البريد في عهده أن رسائل البريد كانت تصل إليه مرتين يوميا في الصباح وبعد صلاة المغرب ، وكان يقيم سياسته اليومية حسبما يصل إليه من أنباء البريد.

البريد في عصر بني بويه 334- 447 هـ
وحين تحكم بنو بويه في الخلافة العباسية بلغ نظام البريد على أيديهم مبلغا عظيما من الدقة والسرعة حتى كانت بواكير الفواكه تصل إلى قصورهم طرية سليمة ، وعاقبوا من يهمل واجبه من رجال البريد ، وكان عضد الدولة يرد على رسائل البريد بنفسه إذا كانت هامة أو يرسلها إلى المختصين في الديوان ، وكان يسأل بنفسه عن وصول البريد فإذا تأخر بدون عذر عاقب المتسبب في ذلك بأشد أنواع العقوبة .
وفي مصر :
وحين جاء ابن طولون واليا على مصر كان من وسائله في الاستقلال بها عن الدولة العباسية هو البريد ، إذ استمال إليه عامل البريد في بغداد ، وأزاح من مصر عامل البريد العباسي المسمى شقيرا حتى لا يتجسس عليه . وعن طريق البريد أحبط مؤامرات الموفق العباسي وعرف ما يدور في بغداد ضده.وكان لطرق البريد أثر كبير في تيسير انتقال قطر الندى بنت خمارويه بن أحمد بن طولون حين سافرت لزوجها الخليفة المعتضد العباسي ، فقد أمر خمارويه عمال بريد مصر بإعداد الطريق بين القطائع العاصمة الطولونية في مصر وبغداد ، فبنوا على رأس كل مرحلة قصرا تنزل فيه الأميرة وقافلتها .
واهتمت الدولة الفاطمية بالبريد حتى قبل أن يمتد ملكها إلى مصر، وحينما فتح جوهر الصقلي مراكش للخليفة الفاطمي وبلغ المحيط الأطلسي أرسل إلى الخليفة من مراكش سمكا في زجاجة دليلا على وصول ملك الفاطميين إلى البحر المحيط .
وفي عهد صلاح الدين الأيوبى تم ربط الدولة الأيوبية بشبكة خطوط من البريد ، وكان مركزها قلعة الجبل بالقاهرة ( القلعة )، ومنها تخرج الطرق البرية إلى الإسكندرية وقوص وعيذاب (على البحر الأحمر ) ودمياط وغزة.
وفي الدولة المملوكية البحرية اشتهر الظاهر بيبرس باهتمامه الفائق بالبريد ، فقد رتب البريد حتى صار الخبر يصل من قلعة الجبل بالقاهرة إلى دمشق في أربعة أيام ويعود فى مثلها ، وصارت أخبار المملكة ترد إلى السلطان مرتين أسبوعيا ، وكان يتحكم في سائر المملكة بالعزل والولاية عن طريق البريد وهو مقيم بالقلعة ، وكان ذلك سنة 956هـ واستمر الطريق البريدي منتظما بين القاهرة ودمشق إلى أن خرب تيمورلنك دمشق سنة 803هـ فخرب مراكز البريد واختلت الأمور ، وظلت الأمور مضطربة إلى عهد المقريزي حين كتب الخطط سنة 818هـ .
آلية النظام البريدي
وكان لنظام البريد أثره الكبير في تقدم علم الجغرافيا وتقويم البلدان وشق الطرق ورصدها والكتابة فى النظم أى الدواوين وشئون ادارة الدولة.
وأصبح ديوان البريد من اهتمامات من يكتب في الخراج والنظم الديوانية. وعلى سبيل المثال فإن قدامه بن جعفر في كتابه عن " الخراج وصناعة الكتابة " تحدث في " ديوان البريد والسكك والطرق إلى نواحي المشرق والمغرب " ذكر فيه شروط صاحب البريد ومهمته وأهمية أن يكون ثقة كفئا . وكيفية تأديته لوظيفته ، ثم ذكر بالتفصيل مراحل ومحطات الطرق البريدية بين بغداد إلى مختلف الجهات شرقا وغربا وشمالا وجنوبا والمسافات بين المحطات بالفراسخ والأميال ، مما يعطي صورة فصيحة لانتظام الطرق البريدية من الناحية الديوانية ومن الناحية العملية الواقعية .
وقام نظام البريد في بدايته على إعداد خيول في كل محطة بريدية ، فإذا وصل الخبر المسرع إلى مكان استراح الفرس وركب الفارس فرسا آخر إلى المحطة التالية حيث يبدله بفرس آخر ، وهكذا حتى يصل المكان النهائي وكان بين المحطة والأخرى أربعة فراسخ في تقدير الفقهاء وعلماء المسالك أي اثنا عشر ميلا .
ويتحدث المقريزي عن الطريق البريدي بين القاهرة ودمشق فقال إنه كان يوجد بكل محطة عدة خيول مستعدة للركوب وتعرف بخيل البريد وعندها عدد من السائسين .وللخيول رجال يعرفون بالسواقين ، يركب مع المكلف بركوب خيل البريد ليسوق له فرسه ويخدمه ، ولا يركب أحد خيل البريد إلا بمرسوم سلطاني .
الجمازات والفيوج :
وأدخل بنو بويه طريقة جديدة في نقل البريد وهي الجمازات وهي أشبه بالعربات التي تجرها الخيول السريعة ، وكان يركبها عمال البريد ورجال الحرب الذين يتطلب عملهم السرعة ، وقد قام على بن عيسي بترتيب الجمازات بين مصر وبغداد لتبلغه الأخبار كل يوم وذلك حين هدد الفاطميون مصر وطمعوا في فتحها ، فأرسل الخليفة العباسي المقتدر جيشا يقوده مؤنس الخادم سنة 302.
وبعدها عدل الحكام عن استخدام الخيول في البريد إلى استخدام الجمازات. وعندما أراد ابن العميد أن يلحق بأميره في فارس سنة 364 اتخذ الجمازات لأنها أسرع.
أما الفيوج فهم السعاة ، ولا تزال كلمة "ساع" تستعمل في البريد حتى الآن . وكان معز الدولة البويهي هو الذي أحدث الفيوج أو السعاة وأعطاهم الجرايات أو المرتبات الكبيرة لأنه أراد أن يبلغ أخباره لأخيه ركن الدولة ، وقد تهافت شبان بغداد على هذه الحرفة الجديدة ، وأقبل فقراء الشباب على تسليم أنفسهم للسلطان البويهي للتدريب على ذلك .
وقد امتاز من هؤلاء السعاة اثنان كان كل منهما يقطع ما يزيد على الأربعين فرسخا من مطلع الشمس إلى مغربها ، وقد ذكرهما المؤرخون وهما فضل ومرعوش وكان أحدهما ساعي السنة والآخر ساعي الشيعة .
ومصطلح الفيوج فارسي وكان المقابل له في مصر حملة البريد السريع ولقبهم
سيماكوي ، وكانوا جماعة منظمة في الدلتا تقوم بنقل الرسائل بسرعة ، وقد قيل في هذا الصدد " من أراد أن يكون ساعيا في الإسكندرية فلابد أن يحمل شعلة في سلة على هيئة موقد مثبت في عمود طوله قامة رجل وله حلقات من حديد ، وأن يقطع المسافة التي بين الإسكندرية ورشيد وطولها سبعة وعشون ميلا ويعود في يومه قبل مغيب الشمس "
الحمام الزاجل :
واستخدمت الدولة العباسية الحمام الزاجل على نطاق ضيق حتى عهد المعتصم.
وفي أوائل القرن الرابع الهجري توسع بعضهم في استعمال الحمام الزاجل ، فالوزير حامد ابن العباس حين تقلد الوزارة سنة 304 بعثوا إليه يستدعونه إلى الخليفة بذلك الحمام.
وفي فتنة القرامطة وصراعهم مع الدولة العباسية لعب الحمام الزاجل دورا هاما فالقرمطي في ادعائه علم الغيب استخدم الحمام الزاجل وسيلة لجلب الأخبار من أنصاره وجواسيسه وحين تأتيه الأخبار ينطق بها قبل أن يعرف بها الناس حوله فيعتقدون أنه يعلم الغيب.
وفي عام 311 هـ دخل القرامطة البصرة وأخبروا الناس بعزل الوزير ابن الفرات وولاية حامد بن العباس قبل أن يجيء الخبر إلى البصرة بأربعة أيام ، وظن القرمطي بذلك أنه يخدع أهل البصرة ، ولكنهم عرفوا أنه يستعمل الطير الزاجل.
ولما تحرك القرمطي نحو الأنبار في العراق أراد الخليفة المقتدر أن يعرف أخباره فاستعمل الوزير العباسي ابن مقله الحمام الزاجل وأرسلها إلى الأنبار حيث أعوان العباسيين ، وعاد الحمام بأخبار القرمطي تباعا.
ولما اشتد خطر القرمطي سنة 311 رتب الوزير على بن عيسى أعوانا بالحمام الزاجل بين بغداد ونهر زيار ، وكان عددهم مائة رجل ، وأعطى كل واحد منهم طائرا ليكتبوا له على أجنحتها معلومات عن القرمطي كل ساعة .
وفي سنة 321 حدث أن تفوق ابن قرابة على القائد العباسي المعين في الكوفة حين وصلت طيوره إلى بغداد للوزير ابن مقلة تخبره بسلامة الكوفة من القرمطي وذلك قبل أن تصل الطيور من صاحب المعونة( أى الشرطة ) العباسي في الكوفة.
وفي سنة 328 حدث أن اصطاد غلمان القائد بجكم التركي طائرا فوجدوا على ذيله كتابا كتبه كاتب بجكم يفشي فيه أسرار بجكم ، فقتل بجكم ذلك الكاتب ..
وذكر الثعالبي أن الرسائل كان يحملها الحمام الزاجل بين الرقة والموصل وبغداد وواسط والبصرة والكوفة في يوم وليلة. وفي النصف الثاني من القرن الرابع كان عند الشريف محمد بن عمر أنواع من الحمام الزاجل بين الكوفة وبغداد ، أي شاع استخدام الحمام الزاجل بين الحكام والمحكومين.
وذكر القلقشندى أن الفاطميين اهتموا بالحمام كوسيلة من وسائل البريد حتي لقد أفردوا ديوانا تخصص في أنساب الحمام مثلما كان العرب يحافظون على أنساب الخيول. ولكثرتها
كانت تنقل عينات من البضائع ، ويروي أن الخليفة العزيز بالله الفاطمي اشتهي القراصية البعلبكية فكتب الوزير يعقوب بن كلس بالحمام الزاجل إلى دمشق فأرسلوا إلى القاهرة أسرابا من الحمام الزاجل تحمل القراصية ، فلم يمض النهار حتى كان لدى الخليفة ما أراد..



هذه المقالة تمت قرائتها 166 مرة