مصانع الرحمن

في الإثنين ٠٨ - أكتوبر - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

كأن الناس كانوا في صوم وجوع طيلة عام، أو كأنهم يعملون ويوفرون لينفقوا ما صرته أيديهم في شهر واحد، أو كأن فضيلة الصوم لا تكتمل إلا بالموائد العامرة بما نحتاجه وما لا نحتاجه، وبما نشتهي وما لا نطيق.

وهكذا التصقت بالشهر العظيم سلوكيات لا تليق به ولا بغيره من الشهور، والأهم أننا جعلنا جل تركيزنا علي المظاهر من موائد يقيمها أهل المال في أنهر الشوارع، ليأخذوا ما يحتاجون من دعاء وثناء وسيرة مليئة بالتباهي، تروي علي ألسنة المفطرين من جود أهل الكرم، في مشهد يثبت أننا شعب من الجوعي.. إلي محال تضحك علي المشترين وتبيعهم بضاعة بثمن مبالغ فيه. نذهب إلي المحال في طوابير طويلة.

. كل منا يريد إقصاء الآخر، يمد الباعة بضاعتهم إلي قلب الشارع غير مبالين بتعطل السير، لتكتمل معاناة مريض يحتاج لمن يسعفه أو عجوز يبتغي داره أو متلهف علي فرصة تضيع تحت قدميه، وهكذا تعاني شوارع القاهرة صراعات وحرب تصفية حسابات مجهولة بين خصوم مجهولين.

وما يهمني هنا هو ذلك المشهد الذي يتكرر كل عام، وهو موائد الرحمن التي تعم أرجاء المحروسة، ويتنافس فيها رجال الأعمال ونجوم الفن والمجتمع، وينفقون عليها ما يقرب من مليار جنيه في موائد القاهرة فقط، حسب دراسة أعدتها لجنة الفتوي بالأزهر، فضلاً عن إنفاق مليار آخر في بقية المحافظات، أي إنفاق ملياري جنيه علي إطعام الفقراء في شهر واحد في العام، دون أن يفكر الميسورون فيما يسد بطون الجوعي في بقية أشهر السنة.

وإذا ما تأملنا هذا المشهد سنكتشف أنه صُنع خصيصاً لأجل المباهاة، والاستحواذ علي شهرة وجماهيرية مضافة دون الالتفات إلي النتيجة المنطقية لهذه الموائد، وهي تفاقم أعداد الذين لا يملكون ثمن وجبة رمضانية، فمن يملك قوت يومه لا يذهب إلي هذه الموائد المذلة.

وإذا ما كان الذين ينفقون هذه الأموال يبتغون الخير، فليفكروا فيما ينفع الناس، ويصون كرامتهم، ويضمن لهم حياة كريمة وتناول الطعام الطيب طيلة العام، أي أن يتم إنشاء مصانع في كل أنحاء الجمهورية بما ينفق علي موائد الرحمن في عام واحد، فمليارا جنيه مبلغ كفيل بأن يطعم أضعاف أضعاف من يفطرون علي موائد الرحمن، ولتكن تسمية هذه المصانع بـ «مصانع الرحمن»، وهذا ثواب دائم ومستمر، وهو بلا شك أنبل وأصدق وأنفع من موائد الرحمن. فيكفي أن تضمن فرص عمل للمحبطين والمسدودة في وجوههم الأبواب لكي نضمن تراجعاً كبيراً في الجرائم وامتلاك القدرة علي إدخال الصغار إلي المدارس، وعدم الحاجة «المذلة» للعلاج علي نفقة الدولة.

فرمضان شهر الفضائل والتسامح وتدريب النفس علي الابتعاد عن مساوئ الدنيا، ورفع درجة الإحساس بمعاناة الفقراء الذين يتعرضون للجوع دائماً وليس فقط في شهر واحد، ورغم هذا كله تنحرف سلوكيات البعض، ويتحوَّل شهر الكرم إلي فرصة كبيرة عند التجار ليتربحوا ويكسبوا قناطير مقنطرة من المال، إذ يستغلون تدافع الناس وسعيهم وراء الشراء المكثف وغير المبرر، فيرفع هؤلاء التجار الأسعار إلي حيث يريدون، وتتحقق رغباتهم في الكسب السريع، ثم يقيمون موائد الرحمن.

ولأن رمضان فرصة للتأمل والتدبر والتعقل، وهذا ما نحتاجه جميعاً، فإننا يجب أن نطور عقولنا ونطوّع ما في أيدينا لخدمة مجتمعنا. إذ ليس منطقياً إنفاق هذا المبلغ الضخم، علي مائدة احتفالية تنتهي بانتهاء الشهر. ثم يظل الفقراء والمحتاجون ومرتادو هذه الموائد جوعي طوال عام. كأن علي هؤلاء أن يغلقوا أفواههم ويسدوا أمعاءهم طيلة العام انتظاراً لشهر رمضان. أليس بيننا عقلاء يفكرون بنضج ويستطيعون الابتعاد عن كل مظاهر الزيف والخداع، والتفاخر، ليشاركوا في عمل أكرم من هذه الموائد، وساعتها سيعطون باليد اليمني دون أن تعرف اليد اليسري، وستكون صدقتهم كالنهر جارية ومتدفقة، وتلك أهم الأسس التي حث عليها الدين الإسلامي الحنيف، ليكون العمل مقترناً بالعبادة.

فمنح الناس سنارة خير وأعظم من إعطائهم السمك، إذ إن الإنسان لا يأكل طعاماً أشهي من طعام اكتسبه بعرق جبينه طالما كان قادراً علي الكد والتعب. أما المقعدون والمرضي وأبناء السبيل، فتليق بهم هذه الموائد.

فلماذا هذه السلوكيات تحديداً في رمضان؟ إننا يمكن أن نأخذ من رمضان الحكمة لكي نصنع شيئاً مفيداً، إذ إن إنفاق ملياري جنيه علي موائد الرحمن في رمضان يعتبر إسرافاً في غير موضعه، وجمع هذا المبلغ باسم جمعية تسمي «مائدة الرحمن» لإنشاء مصانع في كل محافظات مصر يعطي دفعة قوية وحقيقية للتنمية والتقدم في مصر، فلنستبدل بموائد الرحمن مصانع الرحمن أو مدارس الرحمن أو ورش الرحمن.