من هو فرعون موسى؟

في الإثنين ٠٦ - أغسطس - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

 
أولا :

. أختلف الباحثون في تحديد اسم الفرعون الذي عاصر موسى وذكره القرآن والتوراة ..
وحتى لا نرهق القارئ في تلك القضية فأننا نكتفي باختيار ثلاثة من الباحثين تعرضوا لهذه القضية وبحثوها ,وكل منهم له خلفيته الثقافية والفكرية ..

1 ـ يرى الباحث الأمريكي بول ف بورك في كتابه ( the world of Moses ): أن الكتابات المصرية القديمة ليس فيها أشارة لموسى ، كما أن التوراة لم تذكر أسم الفرعون المعاصر لموسى ولا تذكر التاريخ الزمني لهما ، وليس على الباحث إلا أن يقارن بين الأحداث التاريخية التي ترجح على أن موسى قد ولد حوالي 1525 ق . م ، أي قبل الخروج الإسرائيلي من مصر بثمانين عاما .
ويقارن الكاتب بين ما استقاه من التاريخ الزمني لعصر موسى وبين التاريخ المصري القديم ويرجح أن تلك هي الفترة التي حكمت فيها الملكة حتشبسوت ، ويرى أنها هي التي قالت عنها التوراة أنها بنت الفرعون التي ذهبت لتغتسل في النهر فعثرت على تابوت موسى واتخذته ابنا لها . ويسير الباحث مع هذه النظرية ليفسر أحداث قصة موسى وقصة حتشبسوت وكيف انتهت المرحلة الأولى بهرب موسى من مصر، فهو يقول أن حتشبسوت كانت ابنة لتحتمس الأول حين عثرت على تابوت موسى وتبنته ، ثم تزوجت من أخيها غير الشقيق تحتمس الثاني الذي أصبح فرعونا واستمر يحكم خمس سنوات فقط ، ومات دون أن ينجب منها ، وكان لتحتمس الثاني ابن من زوجة أخرى تولى الحكم اسميا مع حتشبسوت بعد موت والده ، وهو تحتمس الثالث ، إلا أن حتشبسوت اغتصبت منه النفوذ فظل في عهدها خامل الذكر ، وعملت على أن يتولى الحكم من بعدها موسى الذي تربى في البلاط الفرعوني وأصبح قائدا مهابا ، ولكن واجهتها ثورة فلم يكن موسى مصريا ولم يهتم بتأدية الشعائر المصرية ، ونجحت المؤامرة في قتل حتشبسوت وأنصارها ، فاضطر موسى للهرب إلى مدين ، وقد اختفت حتشبسوت من التاريخ المصري سنة 1442 ق . م . وكان عمر موسى وقتها أربعين عاما ، وتذكر التوراة أنه رفض أن يكون ابن الفرعون .
وبعدها تولي تحتمس الثالث كافة سلطاته، و بعد اختفاء حتشبسوت طمس تاريخها واضطهد أنصارها وانتقم لنفسه منها ..
وعلى ذلك فأن فرعون موسى أكثر من شخص ،تحتمس الأول الذي اضطهد بني إسرائيل ، وتحتمس الثاني الذي قام بتربية موسى ، ثم تحتمس الثالث الذي جاء له موسى فيما بعد نبيا مرسلا ..
ولكن الباحث الأمريكي لم يأت بأدلة على ما قالته التوراة عن اضطهاد فرعون لبني إسرائيل وتسخيره لهم، مع أن ذلك الباحث يعتمد علي التوراة في تحديد عصر موسى من وجهة نظره وهو أنه في عصر تحتمس وحتشبسوت ..
2 ـ أما الباحث المسلم محمد عزة دروزه في كتابه " تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم " فهو يربط بين ما جاء في التوراة من اضطهاد الفرعون لبني إسرائيل وبين ما ورد في أوراق البردي المصرية من حديث عن اضطهاد رمسيس الثاني للعبرانيين ، وكان رمسيس الثاني أعظم ملوك الآسرة التاسعة عشرة التي حكمت ما بين ( 1462 : 1288 ) ق. م .
ويعتمد على ما جاء في كتاب " تاريخ مصر من أقدم العصور " لمؤلفه " بريستد " الذي تحدث عن تسخير رمسيس الثاني للعبرانيين في جنوب بلاد الشام نتيجة لما كان بينه وبين الحيثيين من اتفاقيات ، وقد ذكر " بريستد " خروج بني إسرائيل من مصر في عهد منفتاح الثاني في ظروف الارتباك الذي حدث في مصر وقتها ، وأن السحرة والمنجمين نصحوا منفتاح بتعذيب بني إسرائيل ، وظهر فيهم موسى وانتهي الأمر بخروجهم وطاردهم منفتاح وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وقد اعتمد بريستد في معلوماته على المدونات اليونانية القديمة والمؤرخ المصري القديم ماثنيون الذي عاش في القرن الثالث قبل الميلاد. ويقول بريستد أنه قرأ نصوصا مكتوبة في طيبة ( الأقصر) يفتخر فيها منفتاح الأول بتنكيله ببني إسرائيل وباقي سكان فلسطين حين ثاروا عليه . ويحاول الأستاذ دروزة أن يجمع بين تلك الروايات فيقول أن بني إسرائيل خرجوا من مصر على دفعتين :دفعة صغري في عهد رمسيس الثاني أو أبنه ودفعة كبري في عهد منفتاح الأول أو الثاني ، والأخيرة هي التي قادها موسى .
ومعني ذلك أن فرعون موسى هو منفتاح الأول أو الثاني ، أو هما معا ..
3 ـ والباحث المصري القبطي فؤاد باسيلي في كتابه " حياة موسى" يذكر تضارب ألآراء في فرعون موسى بين تحتمس الأول وأموسيس الأول وسيتي الأول ورمسيس الثاني ، ويميل إلى أنه رمسيس الثاني على أساس أن ذلك الفرعون بني مدينه " رعمسيس" وسحر في بنائها بني إسرائيل ، كما أنه بني أيضا مدينة نافي وسخر فيها بني إسرائيل أيضا ..
ولنا بعض ملاحظات على آراء أولئك الباحثين ..
1 ـ فقد اختلفوا في تحديد من هو فرعون موسى ، ما بين تحتمس الأول إلى منفتاح الثاني ، وتلك فترة زمنية طويلة حوالي ثلاثة قرون ، ما بين ( 1539 : 1213 ) ق. م .ولم يستطع أحدهم الوصول إلى تحديد دقيق لفرعون موسى يحظى بتأييد أغلبية الباحثين ..
2 ـ وقد اعتمدوا في أدلتهم على المقارنة بين أحداث قصة موسى في التوراة وما يأتي متفقا مع بعض تلك الأحداث في التاريخ المصري القديم، سواء قصة الاضطهاد ، أو إيجاد صلة بين حديث التوراة عن بنت فرعون التي أنقذت موسى وحتشبسوت ..
3 ومبلغ علمنا أن كل من بحث هذه القضية قد أغفل الرجوع للقرآن الكريم .. ونحاول أن نسترشد بالكتاب الحكيم في تحديد أقرب لفرعون موسى ..
ثانيا :
1 ـ لقد كان الفراعنة معروفين بعدم تسجيل النكسات والهزائم وإغفالها ، في نفس الوقت الذي يحرص فيه كل فرعون على تسجيل أمجاده والمغالاة فيها ، ثم نسبة أمجاد السابقين لنفسه ، وذلك في حد ذاته يمثل عامل شك كبير في صدق المصادر التاريخية الفرعونية خصوصا عندما نحاول أن نتعرف منها على حقيقة الكارثة التي حدثت في عصر موسى ونتج عنها غرق الفرعون وجنده في البحر .
والأكثر من ذلك أن القرآن الكريم يثبت حقيقة تاريخية لم ترد في كتابات المؤرخين ، وهي أن بني إسرائيل قد ورثوا فرعون في مصر بعد انهيار النظام الفرعوني وغرق فرعون وقومه أو جنده: يقول تعالى " فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ )( الأعراف 137) ويقول تعالى: ( فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ )(الشعراء 57 : 59 ")
والواضح من الآيات الكريمة أن بني إسرائيل لم يحكموا مصر بالمعني السياسي وإنما ورثوا خيراتها وثروتها بعد غرق النظام الفرعوني . كان فرعون وجنده أو قومه يتحكمون في الأرض الزراعية والفلاحين المصرين ، وذهب فرعون ونظامه ، وبقي الشعب الكادح الذي اعتاد تسليم ثمرة عرقه للحاكم . ولأن فرعون قد غرق بنظامه فأن بني إسرائيل هم الذين ورثوه في ثروته الذهبية والاقتصادية . وبالطبع أستمر ذلك حينا من الزمان ، واستعاد النظام المصري الفرعوني مؤقتا هيبته ولكنه اغفل تلك النكسة وتجاهلها ، ولولا القرآن ما عرفنا عنها شيئا ..
2 ـ ونعود إلى شخصية فرعون موسى من خلال القصص القرآني
أن المنهج القرآني المعتاد في القصص هو عدم تحديد الأشخاص وذلك للتأكيد على جانب العبرة والعظة بأن تتحول الحادثة التاريخية المحددة بالأسماء والزمان والمكان إلى قضية عامة قابلة للاستشهاد بها والاتعاظ بها في كل زمان ومكان ، وبذلك يتحول الشخص من " اسم " إلى " رمز "، بل أن القرآن الكريم حين يذكر اسم شخص فأنه يحوله أيضا إلى رمز لفكرة معينة ، ولذلك تحول " أبو لهب " و" آزر "إلى رمز للسقوط والتردي حتى لو كان ذلك الخاسر من أقرب أقارب النبي ، وبذلك اسقط القرآن دعاوى النسب الشريف التي تعطي حصانة لأصحابها فخاتم النبيين محمد عليه السلام كان عمه " أبو لهب " كافرا ، وخليل الله إبراهيم كان أبوه " آزر " كافرا .. ولم يغنيا عنها من الله شيئا لذلك تحول اسم " أبو لهب "و " آزر " إلى رمزين لقيمة أساسية من قيم الإسلام العظيم
. ونعود إلى فرعون موسى ..
أن " فرعون" في حد ذاته لقب سياسي للملك المصري ، وليس اسما شخصيا ، وفرعون موسى ليس بدعا من أسلافه ، في الطغيان ، ولذلك اكتفي به القرآن رمزا لكل حاكم ظالم مدع للألوهية يسير إلى نهاية الشوط فى حرب الله تعالى فيلقى جزاءه ..
ومع ذلك تبقي الإشارات القرآنية عامل توضيح وترجيح في تحديد شخصية فرعون موسى ..
ففي القرآن ما يرجح أن فرعون موسى شخص واحد ، هو الذي اضطهد بني إسرائيل وهو الذي طاردهم إلى أن غرق بجنوده ، في البحر .
تفهم ذلك من قول تعالى حاكيا عن تلك الفترة (وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِـي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ )( الأعراف 127 ) . أى أن الاضطهاد استمر متصلا قبل مجيء موسى وبعده، والعدو الذي يمارس الاضطهاد شخص واحد ، وهو الذي سيلقي الهلاك وسيخلفه بنو إسرائيل في الأرض ..
وفي سورة القصص تفصيلات أكثر يتضح منها أن فرعون موسى شخص واحد وملك واحد . يقول تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ ) ( القصص 4: 8 ) .
أى أن الفرعون الذي اضطهد بني إسرائيل هو نفسه الذي كفل موسى وهو نفسه الذي كان موسى سببا في ضياع ملكه ، بل أن الملأ هو نفس الملأ ، وهامان هو نفسه هامان في سنوات الاضطهاد وفي الغرق أيضا .
وفي سورة الشعراء توضيح طريف نتأكد منه أن الفرعون الذي تربي موسى في كنفه هو نفسه فرعون الذي جاءه موسى فيما بعد نبيا مرسلا يطلب الخروج بقومه ، وقد تعرف عليه فرعون بعد تلك المدة الطويلة وقال له: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ ؟ ) (الشعراء 18 : 19 ) .
2 ـ أى إن فرعون موسى شخص واحد .. فمن هو ؟
أنه ليس بالقطع رمسيس الثاني الذي دحر الحيثيين في قادش بالشام وأرغمهم على عقد أول معاهدة في التاريخ ، وأحكم سيطرته على الشام خصوصا في جنوبها .
ليس هو رمسيس الثاني لسبب بسيط ، أن موسى حين قتل المصري وهرب من فرعون أتجه إلى مدين بالشام ، فكيف يهرب موسى من فرعون إلى فرعون ؟ كيف يهرب من يد فرعون اليمنى إلى يد فرعون اليسرى ؟
المفهوم أن يعشين في عصر رمسيس آخر يكون خلفا لرمسيس الثاني وأضعف قبضة منه على الشام حتى يحس موسى بالأمن وهو يستقر هناك مختفيا عن الأعين ..
والمفهوم أن يرث ذلك الفرعون عظمة رمسيس الثاني وأن يكون له من القوة الداخلية ما يمكنه من شغل وقت فراغه بتحديد النسل لطائفة مستضعفة في شعبه ، وأن يستخدم جيشه في التدريب على حرب داخليه مضمونة النصر ضد المستضعفين ، علاوة على ما انشغل به من عقد المؤتمرات وإلقاء الخطابات على نحو ما تردد في القرآن الكريم: (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ) (الزخرف 51) (فَحَشَرَ فَنَادَى فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى ) (النازعات 23 ـ )
ولو كان هذا الفرعون – مثل رمسيس الثاني – منشغلا بحروب خارجية ما التفت إلى الداخل بهذه الطريقة ، علاوة على أنه لم يرد في القرآن أن فرعون موسى قد أنشغل بغير مصر ..
لقد تحدث القرآن الكريم عن بني إسرائيل في عصر موسى وهم يرفضون دعوته لدخول فلسطين لأن فيها " قوما جبارين " وأولئك القوم الجبارون من سكان فلسطين كانت لهم دولة ذات حدود وأبواب، أى دولة مستقلة و لم تكن تابعة لمصر وقتها ، بل كانت دولة مهابة ، ونلمح هذا من الحوار الذى دار بين موسى وقومه ،ثم ما قاله رجلان من الشجعان : ( قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىَ يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُواْ عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللّهِ فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (المائدة 22 ـ )..
والمعنى المستفاد من القرآن أنه بعد سقوط فرعون موسى بنظامه في البحر الأحمر قامت دولة مستقلة في فلسطين أرهبت بني إسرائيل فقالوا لموسى : ( قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ) (المائدة 22 ،24 ).
إن تلك الدولة الكنعانية التي أرهبت بني إسرائيل لم تقم فجأة بين يوم وليلة وإنما بدأت تتكون على مهل أثناء انشغال فرعون موسى باضطهاد بني إسرائيل واستغراقه بشئون مصر الداخلية ، وأثناء ذلك اتسعت تلك الكيانات السياسية في الشام وتحررت من السيطرة المصرية فلما سقط فرعون وجنوه في البحر كانوا هم القوة الكبرى في المنطقة ..
.وبنو إسرائيل في عصر موسى عرفوا الكسل التام ، إذ كانت عصا موسى هي التي تجلب لهم المن والسلوى وتفجر لهم عيون الأرض أثنتا عشره عينا للاثنتى عشرة قبيلة ، والشيء الوحيد الذي نشطوا إليه هو أنهم صاغوا العجل الذهبي من الذهب المصري وقاموا على عبادته .. وحين طلب منهم موسى أن يدخلوا فلسطين طلبوا أن يخرج منها الفلسطينيون أولا ، أو أن يذهب موسى وربه ليقاتلا الفلسطينيين بالنيابة عنهم..
وبسبب تقاعس بني إسرائيل في عصر موسى عن الجهاد فإن الله تعالى حكم عليهم بأن يظلوا في الصحراء تائهين حتى ينقرض ذلك الجيل المتهالك ويأتي جيل آخر أشد وأقوى ، ومات موسى في فترة التيه ، وبعده جاء نبيٌّ وتم في عهده تعيين جالوت ملكا .. وهو الذي هزم طالوت الفلسطيني وأسٌّس دولة لبني إسرائيل ..
. والذي نفهمه أن الإمبراطورية المصرية تقلصت إلى حدود مصر الطبيعية بعد عصر فرعون موسى إلى درجة أنه قامت لبني إسرائيل دولة على حدودها الشرقية .
وذلك يرجح أن يكون فرعون موسى من خلفاء رمسيس الثالث ..
لقد تعاقب بعد رمسيس الثالث ثمانية من الملوك كل منهم فرعون يحمل لقب رمسيس ، ولا نسمع عنهم كثيرا كما يقول المؤرخون .
ويعزز ذلك أن مصر دخلت بعدهم في دور الضعف والانقسام والانهيار وتولي السلطة الليبيون والنوبيون وفراعنة ضعاف ثم احتل مصر الآشوريون ثم الفرس ، ومعناه أن فرعون مصر في عصر موسى هو آخر الفراعنة الكبار ، وقد لقي مصيره في اليم وحقت أللعنة على خلفائه الذين يسيرون على منواله..
3 ـ والقرآن يذكر أن موسى دعا الله أن ينتقم من فرعون ويهلكه ويطمس على أمواله ..وأن الله تعالى قال لموسى وهارون ": (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ) (يونس 88 ،89 ).
وقد لحقت الدعوة ليس بفرعون موسى وحده بل بالنظام الفرعوني بأكمله فلم تر مصر بعدها فرعونا عظيما مهابا ..كما يؤكد ذلك التاريخ المصري القديم ، ولا تزال تلك الدعوة تلحق كل فرعون يحكم مصر مستبدا مفسدا، حتى فى عصرنا الراهن.ومن أجل هذا كان قصص فرعون موسى من أكثر القصص ترديدا فى القرآن الكريم.
والله تعالى لا يحكى هذا عبثا ـ تعالى الله تعالى عن العبث ـ (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا ) ( الطارق 13 ـ ) .
لقد كرر الله تعالى ذلك القصص القرآنى ليكون عبرة وعظة لكل البشر الى قيام الساعة : (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَـكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ) (يوسف 111 ).
هو عبرة لأولى الألباب ..
واين هم الان بين حكام العرب الفراعنة الجدد ؟؟