بَغْيًا بَيْنَهُمْ

في الخميس ٢٦ - سبتمبر - ٢٠١٣ ١٢:٠٠ صباحاً

 

مقدمة :

جاء مصطلح (بَغْيًا بَيْنَهُمْ.) فى قوله جل وعلا :( وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ )(213) البقرة)، ( وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.)(الشورى: 14 ) ( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ )(19)(آل عمران ). ( وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنْ الأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ )(17)( الجاثية ). والمستفاد من الآيات الكريمة أنه بعد نزول الرسالة السماية بالهداية فإن البشر سرعان يقعون فى البغى على رب العزة ، بالكفر العقيدى العملى ( تأليه البشر والحجر ) والكفر العقيدى العلمى ( تقديس الأئمة وأسفارهم كالبخارى والغزالى ..الخ  ) والكفر السلوكى باستخدام الدين فى الوصول للسلطة والثروة وما يترتب على ذلك من الاكراه فى الدين واستحلال القتل والفساد والإستبداد . والنوعان مقترنان فى الأغلب فى تاريخ البشرية حيث يتم إستخدام الدين الأرضى فى الوصول للثروة والسلطة أو للإحتفاظ بهما. ونتدبر هنا مصطلح (بَغْيًا بَيْنَهُمْ.) لنستفيد منه فى حاضرنا البائس اليائس .

أولا :  مصطلح (بَغْيًا بَيْنَهُمْ.) يأتى مقترنا فى الآيات الكريمة بثلاثة ملامح ( 1 )أن البغى يأتى مباشرة بعد الرسالة السماوية ، (2 ) وأنه يأتى مقترنا بالشقاق والاختلاف ،( 3 ) وإنه يستلزم وقوع (البغى بينهم ) اى بين أولئك الناس . ونتوقف مع كل ملمح بالتدبر :

( 1 )أن البغى يأتى مباشرة بعد الرسالة السماوية : والرسالة السماوية تعنى البينات ، وهذا مفهوم من قوله جل وعلا : ( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ )(213) البقرة) . والبينات هى الكتاب السماوى المبين الذى ينزله رب العزة على كل رسول بلسان قومه ليبين لهم (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (4) (ابراهيم )، ونزل خاتم الكتب السماوية ينطق باللسان العربى ميسرا للذكر والهداية لمن يريد الذكر والهداية : (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُدّاً (97) مريم )( فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) الدخان )( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) القمر).أى أن البينات هى الكتاب السماوى،وهى أيضا (البينة) أى الكلمة الواضحة ، وقد تفرق أهل الكتاب من بعد ما جاءتهم البينة : ( وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَةُ (4))(البينة). وتأتى الرسالة السماوية أيضا بمعنى ( العلم )، فى قوله جل وعلا  : ( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ )(19)(آل عمران ) ، (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.)(الشورى 14 ) (فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ )(17)( الجاثية ). ويأتى وصف القرآن الكريم بمعنى ( العلم ) فى سياق الأمر للنبى محمد عليه السلام بالتمسك به مقابل أولئك الذين إختلفوا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ، يقول له جل وعلا :( وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120)( وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ (145) البقرة ). (وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا وَاقٍ ) (37)(الرعد )

 ( 2 ) وأنّ البغى يأتى مقترنا بالشقاق والاختلاف ، إذ يتمسك البعض بالحق ، ويصمم آخرون على الباطل ، وتنشأ فرق وملل ونحل ، ويتحول الخلاف من جدال الى صراع مسلح دموى حينما تتدخل فيه الأهواء والاستغلال السياسى ، فتأتى مرحلة البغى بينهم   .

( 3 ) إنّ البغى يقع بين القوم (البغى بينهم ) اى بين أولئك الناس ، أى يتحول الكفر العقيدى القلبى ( العملى والعلمى ) الى كفر سلوكى يخلط الدين (الأرضى ) المصنوع بالسياسة ، وينتج عن هذا إضطهاد الخصم الضعيف ، وتحالف رجال الدين الأرضى مع المستبد ، وتحول الدين الأرضى الى كهنوت حاكم مسيطر ، وقد ينتهز هذا الكهنوت الفرصة ليحكم بنفسه سياسيا ، وهذا يحدث كثيرا فى تاريخ البشرية من تاريخ الفراعنة الى ولاية الفقيه فى عصرنا . وهو مطمع السلفيين فى مصر.

ثانيا :

1 ـ وسبق فى الآيات الكريمة حديث رب العزة عن وقوع أهل الكتاب فى البغى فيما بينهم من بعد ما جاءهم العلم أو الرسالة السماوية . ونعرف من القرآن الكريم عصيان بنى اسرائيل لموسى فى حياته قبل وبعد نزول التوراة ( البقرة :51 -74]. ( الأعراف 138-140 ) ( طه :90-91]. ومع وجود طائفة صالحة منهم حتى عصر نزول القرآن فقد  وصل ببعضهم الكفر الى قتل بعض الأنبياء والذين يأمرون بالقسط من الناس ( آل عمران 19 : 21 ، 110 : 113 ).

2 ـ ونعرف من تاريخ بنى اسرائيل أنهم اختلفوا وانقسموا الى اليهود الكتبة وهم نساخ الشريعة ومفسروها، أى الفقهاء بتعبيرنا التراثى ،  والفريسيون أى الأولياء المقدسون  من الكهنة والعلمانيين ، ثم الصدوقيون ، وهم الطبقة الأرستقراطية بين اليهود، ومنهم معظم  رؤساء الكهنة وأصحاب المناصب والثراء ، وكانوا على خلاف مع اليهود الكتبة والفريسيين  .ثم الهيرودسيين ، وهم ليسوا طائفة دينية، بل هم في ولاء شديد للوالى هيرودس وهذا منحهم نفوذا واسعًا، وكانوا يقنعون الشعب بموالاة هيرودس والرومان ودفع  الجزية لقيصر. كرههم اليهود لذلك، ومع اختلافاتهم فقد إتحدوا جميعا ضد المسيح .  وحاليا ينقسم اليهود الى ( الارثوذكسية ) التى تعترف بكل التوراة والتلمود، وتقبل كل النواميس، وتعتقد أن الله أوحى بذلك كله إلى موسى مباشرة في جبل سيناء.و ( الاصلاحية ) التى بدأت مــع بدايات القرن التاسع عشر الميلادي، إذ شكك بعض اليهود في كيفية ظهور الكتب المقدسة، وانتهوا إلى أن التلمود عمل بشري غير موحى به، ومن ثم ضعفت مصداقيته لديهم. ولا يؤمن هؤلاء إلا بالتوراة. ويعتقد الإصلاحيين أن التعــاليم الأخلاقية والسلوكية أهم أجزاء اليهودية، ولا يولون أهمية للطقوس بل إنهم نبذوا كثيرًا من التقاليد . وهناك طائفة اليهود ( المحافظة التراثية ) التى نشأت في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي. ورغم إيمانهم بالتوراة والتلمود، إلا أنهم ذهبوا إلى وجوب تفسير النصوص المقدسة في ضوء المعارف العلمية الحديثة والثقافة المعاصرة. وهم كاليهود الإصلاحيين لم يهتموا كثيرًا بالطقوس، ولكنهم يمارسون العادات. وأدى قيام دولة اسرائيل الى تعميق الخلاف بين اليهود .

3 ـ وقد ارسل الله جل وعلا عيسى بن مريم المسيح رسولا لبنى إسرائيل ( آل عمران 49 ) بالانجيل الذى يؤكد أنه لا اله إلا الله جل وعلا ، ولكن سرعان ما ظهر بولس الذى نشر بدعة تأليه المسيح داخل وخارج فلسطين . و( بولس الرسول ) يعتبرونه أهم شخصية فى تاريخ المسيحية بعد المسيح نفسه لأنه هو الذى نشر تاليه المسيح . ومع انه يهودى الأصل وعاصر المسيح فإنه لم يلتق بالمسيح. بدأ بحرب أتباع المسيح المؤمنين الحقيقيين يعتبرهم فرقة ضالة تهدد الدين اليهودى ، وقد طاردهم حتى مدينة دمشق واعتقلهم وعاد بهم الى اورشليم . ثم زعم ـ وهو فى طريقه الى دمشق ـ أن الله جل وعلا أوحى اليه بأن المسيح هو ابن لله . وأن يسوع الناصرى هو المسيح المنتظر . وغيّر اسمه من شاول الى بولس ، وانقلب على رفاقه اليهود الذين حاولوا قتله ، ثم عاد الى اورشليم ، وطاف يدعو الى تاليه المسيح فى رحلات ثلاث الى انطاكية وآسيا الصغرى وقبرص واليونان وانتهت حياته فى روما معتقلا . ومن بين كتب العهد الجديد   الـ 27 تنسب 13 منها بشكل مباشر إلى بولس ، كما أن قرابة نصف سفر أعمال الرسل هى  عن حياته وعن مهماته التبشيرية .  وقد كان بولس ورفاقه يتنقلون من مدينة إلى أخرى ينادون بالخلاص عن طريق الايمان بالمسيح الاها مخلصا ، وأوجدوا جماعات مسيحية تابعة لهم من داخل  المجتمع اليهودى ، ولكن إهتم بولس أكثر بالتبشير بالمسيحية بين الوثنين الذين لم يمانعوا فى تأليه المسيح بدلا من آلهتهم المحلية . ورفض تطبيق الختان عليهم ن فإستقل بالمسيحية عن اليهودية .

ومع ذلك ظل من بنى إسرائيل من أتباع المسيح من تمسك بأن المسيح رسول وليس الاها أو إبنا لله جل وعلا . بل إن بعض من نشأ فى بيئة مسيحية أعلن خروجه على تأليه المسيح،وهو آريوس المولود عام 270 فى ليبيا ثم انتقل الى الاسكندرية . وقد رحل الى فلسطين وسوريا ولآسيا الصغرى يبشر بعقيدته التى عرفت بالأريوسية . وتابعه عدد من القساوسة ، فاعتقله الامبراطور قسطنطين لاكراهه على تأليه المسيح ، ولكنه رفض . وتوفى فى القسطنطينية. وقالوا إن أتباع أريوس قد أحدثوا هزّة فى أرجاء الكنيسة   وأرغموا أثناسيوس على أن يبارح كرسيه خمس مرات.. وفى مرتين منها أقاموا أساقفتهم على هذا الكرسى. وكان تفوقهم الساحق أكثر ثباتاً واستقروا في أنطاكيا، بعد عزل الأسقف أوستاتيوس عام 330 م.. وفى عام 360 أقاموا هناك صديقهم ميليتيوس الذي ما لبث أن أعرب في الحال عن اتجاهه إلى قانون إيمان نيقيا..أما في آسيا فكان نفوذهم أقل، ولو أن موقفهم هناك كان أكثر هدوءا، الأمر الذي لأجله كان موقف الأرثوذكسيين مرناً..وفى القسطنطينية – على مدى أربعين سنة – خلف أربعة أساقفة من أتباع آريوس الأريوسيين  الواحد الآخر، حتى إنه عندما صار غريغوريوس الثيئولوغوس أسقفاً للقسطنطينية أستقر في بيت صغير للصلاة (Chapel)،لأن الأريوسيين كانوا قد أستولوا على جميع الكنائس، ولكن غريغوريوس خلص القسطنطينية منهم.. وفى الغرب حصلوا على نجاح محدود حيث أستولوا فقط على بعض مراكز هامة قليلة مثل المديولانيين وذلك لعدة سنوات قليلة فقط.. إلا أنهم لم يتمكنوا من الوصول إلى كرسى أسقفية روما. ووقع عبء الدفاع عن عقيدة نيقية على اكتاف أثناسيوس الكبير الذي أدار النضال طيلة خمسين عاماً تقريباً.. وظلت الاريوسية قائمة حتى ظهور الاسلام. ولم يجد الاريوسيون فارقا بين الاسلام وعقيدتهم فى ان المسيح عبد لله وليس الاها مع الله ، فاعتنقوا الاسلام .

4 ـ ونصل الى الاسلام الذى جاء به خاتم الأنبياء عليه وعليهم السلام . إذ بمجرد موته عليه السلام بدأ الخلاف السياسى فى بيعة السقيفة ، ونشأ حزب سياسى يتشيع لعلى بن أبى طالب ، ثم تحول الخلاف الى الفتنة الكبرى التى لا زلنا نعيشها حتى الآن ، قتالا مستمرا ومذابح بين الشيعة والسّنة ، وعلى هامشه جدل لا ينتهى حول بيعة السقيفة وعلى والحسين وعائشة وأبى بكر وعمر وعثمان وأبى هريرة ومعاوية ..الخ .

5 ـ وقوله جل وعلا : (وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ.)(الشورى: 14 )   يتحقق فى حاضر المسلمين وفى تاريخهم  فى شقاق وصراع بلا نهاية . والعادة أن الخلافات السياسية يمكن حلها لأنها تقع فى نطاق الممكن ، أما الخلافات الدينية فغير قابلة للحل لأنها تقع فى نطاق المطلق والعقيدة ، إذ ترتبط بدين أرضى يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة . وليس لهذا محل فى الاسلام ، لأن رب العزة جل وعلا يؤكد على أن مرجعية الحكم فى الخلافات العقيدية اليه جل وعلا يوم الدين ، و ليس فى الاسلام فهو دين علمانى يتناقض مع كهنوت الأديان الأرضية ، وليس فيه إستبعاد لأحد ، فطالما هو مسالم فهو مسالم ، والذى يتم إستبعاده هو فقط الكافر بسلوكه الإجرامى الذى يحارب الناس ويقتلهم مستحلا الدماء والأموال والأعراض. وهو بإجرامه قد إستبعد نفسه من المجتمع . ومع ذلك فإن المسلمين بأديانهم الأرضية ( السّنة خصوصا ) لا يزالون يتقاتلون بسبب قضايا تاريخية مات أصحابها من 14 قرنا ، وهذه حالة فريدة فى الغباء وفى البغى أيضا .

6 ـ وقد نجت أوربا من هذا المرض مبكرا ، حين حصرت دينها الأرضى فى الكنيسة وإعتنقت العلمانية ، فدخلت بالعالم الى الكشوف الجغرافية والمخترعات العلمية ، بينما نحن المسلمين لا زلنا نناقش الختان والحجاب والنقاب ورضاعة الكبير وبول البعير .! وحتى اليهود الذين أقاموا إسرائيل بفكرة دينية إلا إنهم جعلوا إسرائيل دولة علمانية . وبعلمانيتها تتفوق اسرائيل على العرب ، ولا تزال .

7 ـ ومن الغباء المسيطر أنهم يواجهون دين الارهاب الأرضى الوهابى السّنى بالمواجهة الأمنية مع الاصرار على تسميته ( إسلامى ) ونسبته الى الاسلام ، تقديسا للوهابية وحرمها المصون . لذا سيظل هذا البغى على رب العزة مقترنا بالبغى بين المسلمين ، يقتتل به المسلمون بأيديهم وأيدى الآخرين .