فلسفة البول

في السبت ١٧ - فبراير - ٢٠٠٧ ١٢:٠٠ صباحاً

 

رقم 32

 فلسفة البول

كان عجيف بن عنبسة من قواد الخليفة المعتصم العباسي ، وكان موصوفا بالقسوة والجبروت ، وقد تآمر على المعتصم وفشل وانتهت حياته بالموت ..

وكانت لهذا القائد عجيف قصة من النوادر وقعت مع الكاتب محمد بن الفضل الجرجاني . وذكرها ابن الجوزى فى تاريخ المنتظم .

فالجرجاني كان يعمل لدى عجيف كاتبا لأملاكه وضياعه ، فاتهموه بأنه خرب الضياع ، فبعث إليه عجيف فجاء ، فلما رآه عجيف شتمه وقال : أخربت الضياع .. والله لا قتلنك .. هاتوا السياف.

يقول الجرجاني يصف شعوره يومئذ : ( فأحضرت ) أى أحضروه (ونحيت للضرب) أى أعدوه لقطع رقبته ( فلما رأيت ذلك ذهب عقلي ونزل بولي على ساقي ، فلما رأى كاتبه حالي قال له : أعز الله الأمير أنت مشتغل القلب الآن وضرب هذا أو قتله فى أيدينا ليس يفوت ، فتأمر بحبسه ، ثم انظر فى أمره ، فإن كانت التهمة صحيحة فليس يفوتك عقابه ، وإن كانت باطلة لم تستعجل الإثم بقتله وتنشغل عما أنت فيه ) فسكت عجيف وأمر بحبسه وبذلك نجا الجرجاني من القتل .

وظل الجرجانى فى الحبس إلى أن تآمر عجيف على الخليفة المعتصم فقبض عليه المعتصم وقتله . وعلم كاتب عجيف بمقتله فأطلق سراح الجرجاني من الحبس ، فخرج فقيرا ، ثم قصد صاحب الديوان فأعطاه عملا وأنزله دارا ينتظر فيها ، واحتاج الجرجانى لأن يذهب إلى دورة المياه فلم يجد فى الدار بغيته،  ونظر فإذا فى الدار تل فى ناحية ، فانتحى وبال عليه ، وجاء صاحب الدار وقال له ( أتدرى على أي شيء تبولت ؟ فقال : على تل من تراب ، فضحك وقال : هذا رجل من قواد الخليفة اسمه عجيف سخط عليه الخليفة وقتله ، ثم دفنوه وأقاموا عليه هذا التل من التراب ليواروه ، فقال محمد بن الفضل الجرجاني : فعجبت والله من بولي خوفا منه ومن بولي على قبره وأنا لا أدرى ! )

التعليق

مات المعتصم عام 227 ، وعاش فى عصره أئمة الفقه و الحديث مثل احمد بن حنبل  والخزامى و اسحاق بن راهويه  وسحنون وزهير بن حرب و الشاذكونى وابى مسعود العسكرى و النفيلى و ابى بكر بن ابى شيبة و اخيه و عبد الملك بن حبيب شيخ المالكية  وعبد العزيز بن يحيى الغول شيخ الشافعية و المدينى و ابن عمر القواريرى  وابن نمير  ويحيى بن معين شيخ الحديث ويحيى بن يحيى و يوسف الازرق و بشر الكندى المالكى وابن داود شيخ المعتزلة وجعفر بن حرب المعتزلى ويحيى بن اكثم و الحارث المحاسبى و حرملة صاحب الشافعى و ابن السكيت و ابن منيع و المازنى ، والحميدى شيخ البخارى وابن دكين وابى غسان المهدى وابن ابى اياس و القعنبى و عبدان المروزى و عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد و المدائنى و ابى عبيدة القاسم بن سلام وقرة بن حبيب  وعارم شيخ المحدثين وابن عيسى الطباع الحافظ وابن الفرج الفقيه المالكى و سعدويه الواسطى وابو عمر الجرمى وابن سلام البيكندى و سنيد و سعيد بن كثير بن عفير و يحيى التميمى .. وعشرات آخرون ..

فى هذا العهد ازدهر الفقه السنى يكتب فى الفراغ بينما كانت الشريعة العباسية الواقعية شيئا مختلفا ، يحظى برضى أولئك الأعلام من الفقهاء. كان من حق أى قائد خادم للخليفة أن يقتل من يشاء حسب هواه ودون محاكمة ودون مؤاخذة. كما رأينا من تصرف عجيف بن عنبسة ، وهو مجرد قائد من قواد المعتصم ..

ونسأل : فكيف كان حال المعنصم نفسه؟ ولماذا لم يقم أحد أولئك الفقهاء بالاعتراض على هذا المنكرالذى يجعل قتل الناس سهلا بهذا الشكل ؟

الاجابة لأنهم كانوا منشغلين بأمورأهم منها فقه المرأة و تعليبها داخل الحجاب ، والاختلاف   حول سند هذا الحديث أو ذاك،وحول الاستواء على العرش .. ولكنهم ـ و الحق يقال ـ لم يختلفوا حول قضية أهم ،  وهى الفتوى القائلة أن من حق الامام أن يقتل ثلث الرعية فى سبيل اصلاح حال الثلثين .. ولذلك لم يكن عيبا أن يقتل خدم الخليفة من يشاءون. كان العيب فى الاعتراض على هذا. وهم لم يعترضوا لأنهم كانوا ( مؤدبين )..

ولهذا جاءت العبرة معبرة عن هذا العصر. العبرة فى عنوان هذه النادرة.