أكثر أهل عصره صلفا وكرما .
عمارة بن حمزة : الكاتب التيّاه

في السبت ١٢ - نوفمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

يذكر الطبرى فى تاريخه أن أبا جعفر المنصور غضب على خالد بن برمك الذي كان عاملا على خراج فارس وأراد أبو جعفر المنصور قتله ، وخالد هو رأس البرامكة الذين اشتهروا فيما بعد فى خلافة الرشيد ونكبتهم مشهورة ..والمهم أن أبا جعفر المنصور فرض غرامة على خالد قدرها ثلاثة آلاف ألف درهم وأعطاه مهلة قصيرة لا تزيد على ثلاثة أيام ، و إلا فالقتل . فقال خالد لأبنه يحيى : " يا بنى إني قد أوذيت وطولبت بما ليس عندي وإنما يريد الخليفة دمى " ، وأوصاه على العائلة وأمره أن يذهب إلى بعض إخوانه يسألهم المعونة ، وذكر من إخوانه الذين يثق فى مروءتهم وشهامتهم " عمارة بن حمزة ".. وذهب خالد إليهم يستغيث بهم ليقرضوا أباه ما استطاعوا ليدفع الغرامة وينجو برأسه من سيف الخليفة ، فمنهم من أساء استقباله ، ومنهم من لم يأذن له بالدخول عليه ، ومنهم من بعث ببعض المال سرا ، ولكن كان له موقف غريب مع " عمارة بن حمزة " ، يقول يحيى بن خالد " واستأذنت على عمارة بن حمزة فدخلت عليه وهو فى صحن داره ووجهه إلى الحائط فما التفت إلى ، فسلمت عليه فرد على ردا ضعيفا وقال :" يا بنى كيف أبوك ؟ قلت بخير ،يقرأ عليك السلام ويعلمك ما قد لزمه من هذا الغرم ويستسلفك مائة ألف درهم ، فما رد على قليلا ولا كثيرا ، فضاق بي موضعي ومادت بي الأرض ، ثم كلمته ثانيا فقال : إن أمكنني شيء فسيأتيك . فانصرفت وأنا أقول فى نفسي لعن الله كل شيء يأتي من تيهك وعجبك وكبرك ، ووصلت إلى أبى فأخبرته الخبر، ورأيته يثق فى مروءة عمارة بن حمزة أكثر من الآخرين ، وسرعان ما وصل رسول عمارة بن حمزة بالمائة ألف "..

وتكملة القصة التى رواها الطبرى وتحكى أن خالد بعد أن نجا من هذه الأزمة وتولى الموصل وصارت فى يده الأموال أرسل لأبنه يحيى بالأموال التى أقرضها له عمارة بن حمزة ، ونقرأ وصف يحيى بن خالد لمقابلته التالية لعمارة بن حمزة ، يقول :" فأتيته فوجدته على مثل الحال التى لقيته عليه فسلمت عليه ، فما رد السلام على ، ولا زادانى على أن قال :" كيف أبوك ؟ قلت : بخير ،وأخبرته بأنني أحمل له المال الذي اقترضه منه  فاستوى جالسا وقال : هل كنت قسطارا لأبيك يأخذ منى إذا شاء ويرد إذا شاء ؟ قم عنى لا قمت ، فرجعت إلى أبى فأعلمته فقال لي : يا بنى هذا هو عمارة ومن لا يعترض عليه "!!.. وتنازل عمارة عن المال .

هذا هو عمارة بطل قصتنا الذي اشتهر فى عصره بالأنفة والكبر والإعجاب بالذات إلى درجة أنهم ضربوا به المثل فقال عنه الخطيب البغدادي فى كتابه تاريخ بغداد :" وكان أتيه الناس حتى ضرب بتيهه المثل فقالوا أتيه من عمارة ..".

وقد تشبه به فى التكبر والكرم الفضل بن يحيى بن خالد بن برمك ، وقد عوتب على ذلك فقال : " هيهات هذا شيء حملت على نفسي لما رأيت من عمارة بن حمزة ، وذكر القصة التى حدثت لجده مع عمارة والتي أشرنا إليها ..".

وعمارة بن حمزة من أحفاد عكرمة مولى ابن عباس ، وقد توفى فى حدود سنة 180 هـ وكان اعور دميما إلا أنه كان كاتبا بليغا وشاعرا ومعظما لنفسه وجوادا ممدحا ، وقد تولى عدة ولايات ، وكان المنصور والمهدي يعظمانه ويحتملان أخلاقه لفضله وبلاغته وكفايته ووجوب حقه عليهم باعتباره من موالى جدهم ابن عباس ، وقد جمعوا له فى عدة أوقات بين ولايات البصرة وفارس والأهواز واليمامة والبحرين والعرض .

وكان عمارة يحتفظ بكرامته وبغطرسته حتى فى تعامله مع الخلفاء،وكانوا حسبما ذكر المؤرخون يحتملون ذلك منه ويرون أن تكبره وإعجابه بنفسه خلق أصيل فيه وأنه لا يتكلف ذلك ولا يتصنعه ، وقد أراد أبو جعفر المنصور يوما أن يمزح معه وأن يعبث به فأمر بعض خدمه أن يقطع حمائل سيفه لينظر هل سيأخذ سيفه إذا وقع على الأرض أم لا ؟ ففعل ذلك وسقط السيف فاستمر عمارة فى سيره ولم يلتفت إلى ما وقع منه تكبرا وتعاظما ..!!

وكان يوما يمشى مع المهدي وهو ولى العهد فى خلافة أبيه ، وكانت يده فى يد المهدي ، فقال رجل للمهدي  : من هذا أيها الأمير ؟ فقال المهدي : هذا أخي وابن عمى عمارة بن حمزة ، فلما ولى الرجل قال عمارة للمهدي : انتظرت أن تقول غير ذلك فكنت سأنفض يدي من يدك !!..فضحك المهدي .

وبعد أن تولى المهدي الخلافة دخل عليه عمارة فأكرمه المهدي فقال : رجل من قريش للخليفة : يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي أعظمته هذا الإعظام كله ؟ فقال له : هذا عمارة بن حمزة مولاي ..( أى من الموالى التابعين لي ) فغضب عمارة وقال : يا أمير المؤمنين جعلتني كبعض خبازيك وفراشيك ، ألا قلت هذا عمارة بن حمزة بن ميمون مولى عبد الله بن عباس ليعرف الناس مكاني منك ؟

وزار السيدة أم سلمة إحدى سيدات البيت العباسي  فأهدت له عقدا من اللؤلؤ الثمين ، فأخذه بيده وشكرها ثم وضعه بين يديه ونهض وتركه ، فأرسلت السيدة بالعقد إليه مع خادم ، فقال له الخادم : هذا لك يا سيدي وقد نسيته ، فقال للخادم : ما هو لي فأردده ، فقال له الخادم : إنما هو لك ، فقال للخادم : إن كنت صادقا فهو لك ، فانصرف الخادم بالعقد فاشترته أم سلمه من الخادم بعشرين ألف دينار عل سبيل التعويض !!

وحدثت جفوة بينه وبين الخليفة المهدي ، ربما بسبب مبالغة عمارة فى اعتداه بنفسه ، وتصادف إن كان عمارة يجتاز ظروفا صحية سيئة وظروفا مالية أشد سوءا حتى لقد اضطر إلى بيع كسوته وأثاث بيته ، وربما ترجع تلك الأزمة المالية إلى إسرافه فى الكرم ـ وذلك ما سنتحدث عنه فيما بعد ـ وعلم المهدي بما جرى له عن طريق الفضل بن ربيع فبعث له المهدي مع الفضل بخمسمائة ألف درهم ، ودخل عليه الفضل بالأموال فوجده جالسا كالعادة ووجهه إلى الحائط ، فألقى عليه السلام فما التفت وسأله : من أنت ؟ فقال : ابن أخيك الفضل بن ربيعة وذكر له أن الخليفة تذكره وأرسله بذلك المال له ، فقال له عمارة : لقد كنا نحب أن نكافئك ولم نتمكن . فالآن انصرف بهذا المال فهو لك ، ولم يستطع الفضل أن يرد عليه فترك المال محمولا على البغال أمام داره وذهب إلى والده وأخبره ، فقال له أبوه : " يا بنى خذ المال بارك الله لك فيه فليس عمارة ممن يتراجع أو يراجعه أحد فيما يقول ".. أى أن عمارة احتفظ بكرمه وأنفته حتى وهو يبيع ملابسه وكسوته !! وقد كان مشهورا عن عمارة أنه إذا أخطأ يستمر فى خطئه ويتكبر عن الرجوع ويقول : نقض وإبرام فى ساعة واحدة ؟ الخطأ أهون من ذلك ..

وفى ولايته على البصرة فى خلافة المهدي كرهه أهلها بسبب غطرسته وصلفه فادعوا عند الخليفة أنه أختان مالا كثيرا ، فسأله المهدي عن ذلك فقال : " والله يا أمير المؤمنين لو كانت هذه الأموال التى يزعمونها إلى جانب بيتي ما نظرت إليها "، فقال له المهدي : صدقت ، ولم يراجعه فى تلك القضية !!   

ملاحظة : فى مشروع (تحويل التراث الى دراما ) تم تجميع كل المعلومات عن عمارة بن حمزة   من بين سطور التاريخ ، ومنها علاقة ابنته بالخليفة الهادى ، وهذه هى المرحلة الأولى ، ثم تمت كتابة هذه القصة بناءا عليها  فى المرحلة الثانية ، وأخيرا تمت كتابة سيناريو درامى عليها ، بنفس العنوان . ومشروع (تحويل التراث الى دراما ) يحوى عشرات الأعمال بنفس الطريقة. وسبق نشر عشرات القصص على موقعنا ، وهى كلها من قصص هذا المشروع . نقول هذا حفظا لحقنا .

هذه المقالة تمت قرائتها 353 مرة

 


التعليقات (2)
[61782]   تعليق بواسطة  نجلاء محمد     - 2011-11-12
الترف الشديد بجانب الكرم هو ما اشتهر به البرامكة . ولكن

قد اشتهر البرامكة  بالترفـ  والبزخ  فقد كانوا يعيشون في ترف شديد جدًا، حتى أنهم كانوا يبنون قصورهم ويضعون على الحوائط بلاط الذهب والفضة، وبنى جعفر بيتًا له كلفه عشرين مليون درهم، وكان الرشيد في سفر ذات يوم، فلم يمر على قصر ولا إقليم ولا قرية إلا قيل له: هذا لجعفر، وعندما عاد الفضل من حربه في الديلم أطلق لمادحيه ثلاثة مليون درهم. وهذا السرف جعل الرشيد يتابعهم في الدوواوين والكتابات، فأكتشف وجود خلل كبير في مصاريف الدولة.


فلا نتعجب من فعل عمارة بن حمزة وسواء أطلقنا عليه كرم أو بزخ أو سفه جميعها في النهاية تٌصب في قالب واحد .


 ليست من قبيل الإنفاق في سبيل الله فهى مجرد تصرفات يظهر منها التعالي والكبرياء والأنفة .


ويٌظهر مدى البزخ المنتشر بين علية القوم وقتها وعلى الجانب الآخر كان هناك من يعاني فقرا شديدا ولا يجد ما يسد رمقه .

 

[61790]   تعليق بواسطة  محمود مرسى     - 2011-11-12
الخلـــــــفاء العباسيين كانوا أكثر سفها.. وتسلطاًً..ومن ورائهم السعوديين..

  •  الحقيقة أن السفه والإسراف صفات شيطانية .. أورثها الشيطان لأجداد العباسيين من قريش..  وتوارثها العباسيون من آبائهم.. وامتد هذا الإرث حتى للأمراء السعوديين.. ومما يروى عن الأمير السعودي الراحل حديثاً  أنه عندما كان يلعب القمار باندية القمار الكبرى في لاس فيجاس ..  وكان يفوز في أدوار قليلة.. يطير فرحاً .. ويرمى عشرات الآلاف من الدولارات على الحاضرين  ويشعروا بالنشوة وهو ينظر إلى مؤخرة الذين ينحنون لالتقاط الدولارات .. من أرضية نادي القمار..

  •  كما شعرائهم كانوا يمتدحونهم ويرفهونهم لمرتبة الآلهة.. حتى يفوزوا بالقصور في انحاء أوروبا على ضفاف الببحيرات السويسرية..

  •  إذن فلا عجب أن يتطاول ويتمادى البرامكة في الأنفة والغرور كما هى حالة العباسيين .. مجاراة لهم في الكبر والسفه..

  •  والغريب انهم كانوا يفرضون الضرائب على الأرامل والعجزة من بلاد البلاد المحتلة  باسم الاسلام.. كما حدث في مصر..