شريك النخعى ..أجرأ قاضى عباسى

في الأحد ١٦ - أكتوبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

هو شريك عبد الله بن أبي شريك ، وجده  هو الحارث بن أوس بن الحارث بن ذهل بن وهبيل بن سعد بن مالك بن النخع بن مذجح .. وكان جده الحارث بن أوس قد شهد موقعة القادسية مع سعد بن أبي وقاص .

    في سنة 95 هـ ولد شريك في مدينة بخاري في خراسان ونشأ بها ، ويبدو أن أباه مات وهو صغير فتعلم أن يكون عصاميا يعتمد علي نفسه وهو يحكي عن نفسه وعن بدايته يقول :" أدبتني نفسي والله ، ولدت بخراسان ببخاري فحملني ابن عم لنا حتي طرحني عند بني عم لي بنهر صرصر ، فكنت أجلس إلي معلم لهم فعلق بقلبي تعلم القرآن فجئت إلي شيخهم فقلت يا عماه أريد أن أتعلم بالكوفة ، فأرسلني إليها فكنت في الكوفة اضرب اللبن وأبيعه واشتري دفاتر فأكتب فيها العلم ثم طلبت الفقه فبلغت ما تري " وكان شريك يتحدث بذلك أمام المستنير النخعي أحد شيوخ قبيلة النخع وقد أجهده تعليم أولاده ، فقال المستنير لأولاده : سمعتم قول ابن عمكم ، وقد أكثرت عليكم في الأدب ولا أراكم تفلحون فيه ، فليؤدب كل رجل منكم نفسه فمن أحسن فلها ومن أساء فعليها". 

                                                   أساتذته وتلامذته

    كانت مدرسة الكوفة في مطلع القرن الثاني للهجرة أحد المراكز الأساسية للعلم ، وبها نشأ شريك النخعي يتلقى العلم بعصاميته وطموحه فقد سمع العلم من أبي اسحق السبيعي ومنصوربن المعتمر وعبد الملك بن عمير وسماك بن حرب وسلمة بن كهيل وحبيب بن أبي ثابت وعلي بن الأقمر وزبيد اليامي وعاصم الأحول وعبد الله بن محمد بن عقيل ومخول بن راشد وهلال الوزان وأشعث بن سوار وشبيب بن غرقدة وحكيم بن جبير وجابر الجعفي وعلي بن بذيمة وعمار الدهني وسليمان الأعمش وإسماعيل بن أبي خالد .. وبعبارة أخري أخذ العلم عن كل شيوخ الكوفة . وكان العلم وقتها بالسماع عن شيخ يروى ما لديه من أحاديث منسوبة للنبى وفق الرواية الشفهية ، وهى فى الحقيقة تعكس آراء واجتهادات لم يجرؤ أصحابها على نسبتها لأنفسهم فنسبوها للنبى حتى تكتسب صدقية وقدسية وحصانة ضد النقد. ولذلك تكاثرت تلك الأحاديث وتناقضت ، وكلها حسب الظاهر منسوبة للنبى و( سنّة نبوية ). وكان مقياس العلم فى الدين مؤسسا على هذا السماع من شيوخ الحديث ، بالاضافة الى قراءة القرآن الكريم ، وتعلم الاستنباط منه حسب الشائع من  ثقافة العصر . وقد إجتاز شريك النخعى هذه المرحلة ، وتصدر لأن يكون شيخا يؤخذ عنه نفس العلم . إذ ما لبث أن تصدر للعلم والرواية والفتوى فأخذ عنه أعلام كبار أمثال عبد الله بن المبارك وعبد الله بن عون الخراز وعباد بن العوام ووكيع بن الجراح وعبد الرحمن بن مهدي وإسحاق الأزرق ويزيد بن هارون وأبي نعيم ويحيي بن الحماني وعلي بن الجعد ومحمد بن سليمان ، ثم قدم إلي بغداد عدة مرات وصار له فيها تلاميذ.

 بينه وبين علماء عصره

     ولأنه احتل الصف الأول بين علماء عصره فقد كانوا يقارنون بينه وبين غيره من المشاهير ،  فكان عباد بن العوام يقول قدم علينا معمر وشريك ، وكان شريك أرجح عندنا من معمر، وكان بعضهم يفضله علي أبي الأحوص ، فقيل ليحيي بن معين : أيهما أحب إلي، وقد قدمه يحيي بن معين أيضا علي أبي إسحاق وإسرائيل وهما من كبار المحدثين . بل إن شريك النخعي كان في موضع المقارنة بسفيان الثوري كبير الزهاد والفقهاء في زمنه ، يقول أبو أحمد الزبيري " كنت إذا جلست إلي سفيان الثوري ، رجعت وقد هممت أن أعمل عملا صالحا، وكنت إذا جلست إلي شريك بن عبد الله رجعت وقد استفدت أدبا حسنا ".     وعبد الله بن المبارك كان دقيقا في حكمه علي الرواة ، وقد قال ليحيي الحماني: أما يكفيك علم شريك ؟  وقال " شريك أعلم بحديث الكوفة من سفيان الثوري " وجاء يحيي ابن معين يكرر رأي أستاذه عبد الله بن المبارك في شريك فيقول في المقارنة بين شريك وسفيان الثوري " ليس يقاس بسفيان أحد ولكن شريك أروي منه في بعض المشايخ " أي أكثر رواية وأكثر ثقة منه في بعض المشايخ الرواة ، ويقصد بذلك التابعين من الكوفة .

     وقيل في شريك النخعي مدح كثير ، بالإضافة إلي ما سبق ، قال فيه عبد الله العجلي " شريك ابن عبد الله النخعي كوفي ثقة وكان حسن الحديث " وقال عنه أبو داود :" شريك ثقة" وقال معاوية بن صالح : سألت ابن حنبل عنه فقال : كان عاقلا صدوقا محدثا عندي وكان شديدا علي أهل الريب والبدع "، وقال النسائي " ليس به بأس "، وروي له الأربعة .

    إلا أن تولية القضاء جعل بعضهم ينفر منه إذ كانوا يعتبرون من الورع عدم التعامل مع أهل السلطان وألا يتولى أحدهم منصب القضاء . وقد تأثر بعضهم بذلك في حكمه عليه ، فقال مثلا : أبو علي صالح بن محمد " شريك صدوق ولما ولي القضاء اضطرب حفظه " ويحكي يحيي بن أيوب قال " كنا عند شريك يوما فظهر من أصحاب الحديث جفاء فانتهر بعضهم .." أي كانت العلاقات سيئة بينه وبينهم لذلك اتهمه بعضهم بالضعف وعدم الثقة وقلة الحفظ .

    توليه للقضاء 

     وشريك من أشهر القضاة في العصر العباسي الأول ، بل هو أشهر من تولي القضاء في عصر المنصور وابنه المهدي ، وقد رفض في البداية أن يتولى  القضاء ثم رضي بالأمر ، وكان يدافع عن نفسه أنهم قد أكرهوه علي ذلك المنصب ليمتص سخط رفاقه من العلماء والزهاد، ولكنهم كانوا يردون عليه هذه الحجة ، مثلا يحكي أن شريك قال لبعض إخوانه أكرهت علي القضاء ، قالوا له : أفأ كرهوك علي اخذ الأجر ؟ . ويروي يحيي بن يمان أنهم أكرهوا شريك علي تولي القضاء حتي كانوا يحيطونه بالشرطة يحفظونه ، ثم طاب له المنصب فصار يجلس للقضاء بدون شرطة تحفظه . وبلغ سفيان الثوري إنه صار يجلس للمنصب باختياره فجاء إليه فقام إليه شريك وبالغ في تعظيمه وسأله عن حاجته ، فقال له الثوري : ما تقول في امرأة جاءت فجلست علي باب رجل ، ففتح الرجل الباب فاحتملها ففجر بها فعلي من تقيم الحد؟ فقال له شريك : علي الرجل أما هي فلا عليها لأنها مغصوبة ، فقال له الثوري ، فإذا جاءت المرأة من الغد فتزينت وتعطرت وجلست علي ذلك الباب  ففتح الرجل الباب فرآها فاحتملها وفجر بها فعلي أيهما تقيم الحد؟ فقال شريك : عليهما جميعا لأنها جاءت من نفسها وقد عرفت الخبر من الأمس ، فقال له سفيان الثوري : أنت كان لك عذرك حين كانت الشرطة تحفظك وتحيط بك ، فاليوم أي عذر لك ؟ ثم قام عنه مخاصما له .. وكان الثوري يقول عنه : أي رجل كان شريك لو لم يفسدوه.

     وكان خصومه له بالمرصاد بعد توليه القضاء وقيامه بمستلزمات ذلك المنصب ، فقد حدث أن اقترب ركب الخيزران زوجة الخليفة المهدي قادمة من الحج ، فركب شريك ينتظر قدومها، وظل ثلاثة أيام حتي يبس الخبز الذي كان معه فصار يبلله بالماء ويأكله .

      ويروي ابن سعد في الطبقات الكبرى أن أبا جعفر المنصور استدعي شريك وقال له : إني أريد أن أوليك قضاء الكوفة فقال : اعفني يا أمير المؤمنين ، فقال : لست أعفيك ، قال : انصرف يومي هذا وأعود فيري أمير المؤمنين رأيه ، فقال له المنصور : إنما تريد أن تخرج فتغيب عني ، والله لئن فعلت لأقدمن علي خمسين من قومك بما تكره ، فلما سمع شريك يمينه عاد إليه ولم يتغيب ، وتولي قضاء الكوفة .

     وجدير بالذكر أن أبا جعفر المنصور عاقب أبا حنيفة حين رفض تولي القضاء ولم يكن ذلك الخليفة يتراجع في تهديد ، فقد سفك الكثير من دماء بنى عمه من العلويين ، وأمر بضرب مالك بن أنس ، وكان شريك متهما عنده بحب العلويين وتلك تهمة تبيح دمه لدي الخليفة العباسي ، لذا آثر شريك السلامة ورضي بمنصب القضاء ، وسار فيه بالعدل حتي في مواجهة أتباع الدولة العباسية ورؤوسها.

      وابن سعد في تاريخه الطبقات هو أقدم الكتب التاريخية  فى موضوعها وأقربها للصدق والتوثيق ، وقد ترجم لشريك ترجمة قصيرة ذكر فيها قصة توليه القضاء ، ولكن خصوم شريك ما لبثوا أن أشاعوا رواية أخري عن نفس الموضوع نقلها فيما بعد المؤرخ المملوكي  خليل بن ايبك الصفدي ، فى كتابه ( الوافى بالوفيات ) ، تقول إن شريك دخل علي المهدي فقال له :لابد لك من احدي ثلاث ، إما أن تلي القضاء أو تؤدب أولادي و تحدثهم  أو تأكل عندي أكلة فقال : الأكلة اخف عندي ، فعمل له الطباخ ألوان الأطعمة من المخ المعقود بالسكر، فأكل . فقال الطباخ : لا يفلح بعدها ، وفعلا عمل لديه معلما وتولي القضاء . وتلك الرواية تناقض ماهو معروف من سيرة شريك الذي تولي القضاء في عهد أبي جعفر المنصور واستمر قاضيا في عهد ابنه المهدي حتي عزله المهدي عن القضاء ، ثم إن تلك الرواية بعينها قد قيلت في تولية القاضي المشهور أبو يوسف والذي عرض عليه احدي ثلاث هو الخليفة الرشيد وذلك ما رددته كتب التاريخ .

       وخليل بن ايبك الصفدي ينقل رواية أخري يبدو فيها الإصرار علي تشويه صورة شريك ، يقول فيها إن الخليفة المهدي كتب ضيعة لشريكة وماطله في إعطائها ، فلما طالبه بها شريك ، قال له الخليفة : إنك لم تبع بها قماشا فقال له شريك : بل والله بعت ديني ، وتلك الرواية لا تستقيم مع أخبار شريك في تحري العدل ووقوفه ضد الظلمة من العباسيين وأعوانهم .. ولم يذكر خليل الصفدي شيئا من تلك الروايات وقد ذكرتها كتب التاريخ المتقدمة مثل المنتظم لابن الجوزي وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي .

     ولقد ذكر ابن الجوزي والخطيب البغدادي وابن كثير أن شريك كان إذا افتتح مجلس القضاء أخرج ورقة وقرأها ، وكان مكتوبا فيها " يا شريك بن عبد الله اذكر الصراط وحدته ، يا شريك ابن عبد الله اذكر الموقف بين يدي الله تعالي ، وقبل أن يجلس للقضاء كان يأتي المسجد ويصلي ركعتين، ثم بعد أن يقرأ تلك الورقة التي تذكره بمسئوليته أمام الله تعالي يدعو الخصوم للتقاضي . 

                                                  عدله في القضاء

     علي أن القول الفصل في الحكم علي شخصية شريك يكمن في مدي تحقيقه العدل حين كان قاضيا ، والروايات في ذلك الشأن يظهر منها أنه تحري العدل وواجه ظلم الجبابرة وكان يهددهم بالاستقالة من منصبه ، وما كان أحوج المسلمين إلي هذه النوعية من القضاة في بداية العصر العباسي بالذات حين كانت سطوة الدولة قوية علي الناس ، وكان الأجدى بالفقهاء الورعين أمثال سفيان الثوري أن يحذو حذو شريك في المواجهة لا أن يكتفي بالهرب والاعتزال بدعوى الزهد ومقاطعة الظلمة من الحكام .

      يروي مجالد بن سعيد أنه كان عند شريك في بيته وقد تأخر عن الذهاب لمجلس القضاء بسبب أنه غسل ثيابه ولم تكن قد جفت بعد ، وذلك يدل علي تقشفه العملي ، وجلس ابن سعيد مع شريك يتناقشان في مسألة فقهية عن العبد الذي يتزوج بغير إذن سيده ، وأثناء ذلك كانت الخيزران زوجة الخليفة المهدي وصاحبة النفوذ قد أرسلت إلي الكوفة رجلا من أتباعها وأمرت والي الكوفة وهو موسي بن عيسي العباسي ألا يعصى له أمرا ، فاستفحل نفوذ ذلك الرجل بالكوفة ، وأثناء حديث ابن سعيد مع شريك في بيته كان ذلك الرجل يسير في موكب فخم في الشارع ورجل يسير بين يديه مكتوفا وهو يصرخ مستغيثا بالله وبعدل القاضي شريك وآثار السياط علي ظهره ، وأسرع شريك بالخروج من داره فرأي ذلك المنظر ، وشكا المظلوم إلي شريك كيف أن ذلك  الرجل خادم الخيزران قد استأجره بالسخرة منذ أربعة اشهر وحبسه حتي أضاع عياله ، وعندما هرب منه استطاع أن يقبض عليه ويلهب ظهره بالسياط ، وسمع القاضي مقالة الأجير فقال لخادم الخيزران قم فاجلس مع خصمك فرفض ، فقال له : ما هذه الآثار التي بظهر الرجل ، فقال الرجل أصلح الله القاضي إنما ضربته أسواطا وهو يستحق أكثر من هذا ، وطلب من القاضي شريك  أن يدخله السجن تنفيذا لأوامر الخيزران صاحبة النفوذ، فما كان من شريك إلا أن ألقي كساءه الذي لم يجف ودخل داره وخرج ومعه سوط وانهال به ضربا علي خادم الخيزران ، وتجمع أعوان الخادم ليخلصوه من يديه فنادي شريك في فتيان الحي فأتوا إليه وأمرهم بالقبض علي أعوان الخادم والخادم وأن يذهبوا بهم إلي الحبس ، وأخذ الخادم يبكي ويقول مهددا لشريك : ستعلم عاقبة فعلك ، وأطلق شريك الأجير المظلوم ثم التفت إلي جليسه مجالد بن سعيد يقول له : يا أبا حفص ما تقول في العبد يتزوج بغير إذن سيده ، ودخل في النقاش الفقهي الذي كان كأن شيئا لم يحدث ، وقال له مجالد بن سعيد : والله لقد فعلت اليوم فعلة ستكون لها عاقبة مكروهة ، فلم يزد شريك علي أن قال له : من أعز أمر الله أعزه الله ، ودعاه إلي الاستمرار في المناقشة الفقهية ، وحدث أن ذهب خادم الخيزران إلي الوالي موسي بن عيسي العباسي يشكو إليه ، وقد صار معه أعوان الوالي ، إلا أن الوالي قال لهم : والله ما أتعرض لشريك ولا أقدر عليه ، فأصاب الخادم خزي ولحق ببغداد وما جرؤ علي أن يعود بعدها للكوفة .

     وكانت لوالي الكوفة موسي بن عيسي تجربة سابقة مع القاضي شريك هي التي جعلته يقف هذا الموقف ويتوقف عن معارضة شريك في موضوع خادم الخيزران ، فيحكي عمر بن الهياج بن سعيد أن امرأة من نسل الصحابي جرير بن عبد الله البجلي جاءت إلي شريك تستغيث به من ظلم الوالي موسي بن عيسي وتقول له : كان لي بستان علي شاطيء الفرات لي فيه نخل ورثته عن آبائي وقاسمت أخوتي وبنيت بيني وبينهم حائطا ، وجعلت فيه خادما يحفظ النخل ، فاشتري الأمير موسي بن عيسي من أخوتي جميعا وساومني علي شراء نصيبي فلم أبعه ، فبعث خمسمائة رجل  فهدموا الحائط فأصبحت لا أعرف من نخلي شيئا واختلط بالنخل الذي كان ملكا لأخوتي واشتراه الأمير ، فنادي شريك غلاما كان عنده وأرسله برسالة إلي الأمير موسي بن عيسي يستدعيه إلي مجلس الحكم ليقف بجانب المرأة ، وذهبت المرأة مع الرسول إلي باب الأمير ، ودخل الحاجب علي الأمير يخبره بالأمر ، فما كان من الأمير إلا أن استدعي رئيس الشرطة وقال له امض إلي القاضي شريك وقل له يا سبحان الله ما رأيت أعجب من أمرك ، امرأة ادعت دعوة لم تصح أتنصرها علي ؟ فقال له رئيس الشرطة : أرجو أن يعفيني الأمير من حمل هذه الرسالة فأنا أعرف القاضي ، فانتهره الأمير وأمره بحمل الرسالة إلي شريك ، فرضخ صاحب الشرطة للأمر وأمر أعوانه أن يجهزوا الحبس بكل ما يلزم من فراش وطعام لأنه يعرف أن القاضي سيأمر بحبسه ، وذهب للقاضي وأدي الرسالة فقال شريك للحاجب الواقف عنده: خذ بيده فضعه في الحبس فقال رئيس الشرطة : قد والله يا أبا عبد الله عرفت أنك تفعل بي هذا فجعلت في الحبس ما يعينني عليه، ووصل الخبر إلي الأمير فغضب وأرسل الحاجب إلي شريك يقول له : إن رئيس الشرطة كان رسولا إليك فلماذا حبسته ؟ فأمر القاضي بحبس الحاجب أيضا . وعلم الأمير بالخبر فأرسل إلي كبار أهل الكوفة وأصدقاء شريك وشكا لهم ما فعل شريك وأرسلهم إليه وقال لهم امضوا إليه وأبلغوه السلام واعلموه أنه قد استخف بي وأني لست كالعامة ، فجاءوا إلي شريك وهو جالس في المسجد بعد العصر فابلغوه الرسالة فلما انقضي كلامهم وتوسلاتهم قال لهم: مالي لا أراكم جئتم في غيره من الناس تكلمونني؟ ونادي علي فتيان الحي وقال لهم ليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من هؤلاء فيذهب به إلي الحبس ، ولابد أن يقضي الليل فيه ، فقالوا له : أتتكلم جادا، قال نعم ، حتي لا تعودوا برسالة ظالم ، فذهبوا بهم إلي الحبس ، وأحاط الخزي بالوالي فركب بالليل ومعه أعوانه إلي الحبس وفتح الباب  وأخرج الجميع منه ، وفي الغد جلس شريك في المجلس كعادته ،  وجاءه السجان وأخبره بما حدث فدعا بأوراقه وختمها وذهب إلي داره واحتمل متاعه وتجهز لمغادرة الكوفة معتزلا القضاء وقال : والله ما طلبنا هذا الأمر منهم ولكن اكرهونا عليه ، ولقد ضمنوا لنا الإعزاز فيه حين تقلدناه لهم ، وسار شريك خارجا من الكوفة فبلغ القنطرة في طريقه إلي بغداد وعلم الوالي بما حدث فركب في موكبه فلحقه وجعل يناشده الله أن يرجع ويعتذر إليه ، فقال له شريك لا أرجع حتي ترد الجميع إلي الحبس وإلا مضيت إلي أمير المؤمنين استعفيه من القضاء ، فأمر الوالي بأن يرد الجميع إلي الحبس وظل شريك في مكانه حتي جاءه السجان وقال : لقد رجعوا إلي الحبس ، فقال القاضي لأعوانه : خذوا بلجام الأمير وقودوه إلي مجلس الحكم ، فأخذوه من أمام القاضي ، وجيء بالوالي أمام القاضي في مجلس الحكم ، وطلب القاضي المرأة فجاءت ، فقال لها هذا خصمك قد حضر إلي جانبك ، فقال الأمير : أما وقد جلست أمام مجلس القضاء فأخرج أولئك الذين حبستهم قبل كل شيء ، فقال له القاضي: أما الآن فنعم ، وأمر بإخراجهم وقال للأمير : ما تقول فيما تدعيه هذه المرأة عليك ؟ فقال الأمير : إنها صادقة ، قال القاضي : إذن ترد جميع ما أخذته منها وتبني حائطا في وقت واحد سريعا كما هدمته ، قال أفعل ، فقال القاضي : وتقول المرأة انك أخذت متاع البستان خادمها فقال الأمير : وأرد ذلك أيضا ، هل بقي لك شيء تدعينه يا امرأة ، فقالت المرأة : لا. وجزاك الله خيرا. وقال القاضي للمرأة : إذا قومي يرحمك الله ، ثم وثب القاضي من مجلسه وأخذ بيد الأمير وأجلسه معه وقال له : السلام عليك أيها الأمير ، أتأمر بشيء ؟ فضحك الأمير قائلا  هل أنا الذي  آمر؟

                                                عزل شــــريك

    وكان من الطبيعي أن يستعدي شريك علي نفسه مراكز القوي في قصر الخلافة في عهد المهدي الذي كان بالخيزران وبقية الجواري فيه كل النفوذ . هذا بالإضافة إلي ما عرف عن شريك من حب لآل البيت العلوي ومن جرأة في خطاب الخليفة وغيره مما كان غير محتمل عند المهدي الذي تتبع خصومه بالقتل بتهمة الزندقة .

    ويقال عن سبب عزله عن القضاء  إن وكيلا لبعض ذوات النفوذ وهي مؤنسة تخاصم مع رجل أمام شريك وأخذ ذلك الوكيل يستطيل علي خصمه أمام القاضي يتيه بمكانته ومكانة سيدته فزجره القاضي فقال للقاضي أتقول لي هذا وأنا وكيل مؤنسة فأمر القاضي بصفعه عشر صفعات ، فانصرف ودخل علي سيدته يبكي فكتبت مؤنسة إلي الخليفة المهدي فعزله عن القضاء ، وكانت تلك القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون ، إذ ضاقت الخيزران بعدل شريك ، وضاق الخليفة بجرأته، إذ حدث قبيل ذلك أن قال له الخليفة .. ما ينبغي لك أن تتقلد القضاء بين المسلمين ، فقال له شريك : لماذا ؟ قال لخلافك علي الجماعة وقولك بالإمامة " الشيعية " فقال أما قولك بخلافك عن الجماعة فعن الجماعة أخذت ديني فكيف أخالفهم وهم اصلي في ديني ، وأما قولك بالإمامة " الشيعية " فما أعرف إلا كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، وأما قولك مثلك لا يتقلد القضاء فهذا شيء أنتم فعلتموه فإن كان خطأ فاستغفروا الله منه ، وإن كان صوابا فأمسكوا عليه ، فقال له المهدي : ما تقول في علي بن أبي طالب ؟ قال : ما قال فيه جدك العباس وعبد الله بن عباس ، فقال : وما قالا فيه؟ قال : فأما العباس فمات وعلي عنده أفضل الصحابة ، وأما عبد الله بن عباس فإنه كان يقاتل بين يديه بسيفين ، وكان في حروبه معه قائدا فلو كانت إمامته علي جور كان أول من يقعد عنها جدك عبد الله بن عباس لعلمه بدين الله . فسكت المهدي وأطرق وعجز عن الإجابة ، ولم يمض بعدها إلا قليل حتي عزله عن القضاء .

                                                   جرأته في الرد

     ويبدو مما سبق أنه كان جريئا في الرد سريع الإجابة لا يهاب أحدا، ومن الطريف أن الوالي علي الكوفة موسي بن عيسي وجد فرصة في عزل شريك ليتشفى فيه فقال له : ما صنع أمير المؤمنين بأحد مثل ما صنع بك حين عزلك عن القضاء ، فرد عليه شريك ردا موجعا، قال له: هم أمراء المؤمنين يعزلون القضاة ويخلعون ولاة العهود فلا يعاب عليهم ذلك ، فغضب موسي منه وقال : ما رأيت مجنونا مثلك لا يبالي بما ينطق به ، والسبب في غضب موسي بن عيسي أن أباه عيسي بن موسي كان وليا للعهد بعد أبي جعفر المنصور وهو ابن عم له ، فخلعه أبو جعفر المنصور في مقابل الأموال وجعل المهدي وليا للعهد بعده ، ورد شريك علي موسي بن عيسي بن موسي يذكره بأنهم عزلوا أباه من ولاية العهد قبل أن يعزلوا شريك من القضاء ..فأفحمه وأغاظه .

     ولم تكن جرأته في الرد علي الخليفة لتتأثر بالتهديد الخفي أو الظاهر ، هو يعلم أن الخليفة المهدي كان يقتل خصومه متهما إياهم بالزندقة وقد لوح بهذه التهمة في وجه شريك حين قال له : يا شريك كأني أري رأس زنديق يقطعها السيف الساعة . فقال شريك مسرعا: يا أمير المؤمنين إن للزنادقة علامات ، فاضطر المهدي لأن يقول له : يا أبا عبد الله إننا لم نقصدك بهذا.   يقول الراوي : وهو يحيي بن نعيم : إن الخليفة وجد شريك حاضر الجواب فأنجبه منه .

    وكان بعض خصومه يجدون في اتهامه بالتشيع لعلي طريقا للطعن فيه إلا أنه كان يسلقهم بلسان حديد لا يستطيعون الإفلات منه . وقد حدث أن حكم شريك في قضية علي وكيل لعبد الله ابن مصعب بن الزبير ، ولم يعجب ابن مصعب ذلك الحكم فقال لشريك ما حكمت علي وكيلي بالحق ، فقال له شريك : ومن أنـت ؟ قال له ابن مصعب : أنا من لا تنكر ، أي يتيه باسمه ونسبه ، فقال له شريك : فقد نكرتك أشد النكير (أى لا أعرف من أنت ) ، فاضطر ابن مصعب لأن يقول له : أنا عبد الله بن مصعب بن الزبير ، فقال له شريك أنت لا كثير ولا طيب ، فغضب ابن مصعب وقال : وكيف لا تقول هذا وأنت تبغض الشيخين : فقال شريك : ومن الشيخان ؟ قال : أبو بكر وعمر فقال شريك له : رده الموجع : والله ما ابغض أباك الزبير ابن العوام وهو دونهما ( أى أقل منهما ) فكيف أبغضهما؟ فلم يستطع ابن مصعب أن يرد عليه .

    وكان في قضائه وفتاويه سريع الجواب كثير الصواب ، قال له رجل : ما تقول في من أراد أن يقنت في الصبح قبل الركوع فقنت بعده ؟ فقال له : هذا أراد أن يخطيء فأصاب !!

    وتوفي شريك بالكوفة في يوم السبت مستهل ذي القعدة 177 هـ في خلافة الرشيد وصلي عليه الوالي موسي بن عيسي وكان هارون الرشيد في الحيرة فجاء إلي الكوفة ليصلي عليه فوجدهم قد دفنوه فانصرف ولم يدخل الكوفة .. رحم الله القاضي شريك بن عبد الله.

 

ملاحظة : فى مشروع (تحويل التراث الى دراما ) ومن بين سطور التاريخ تم تجميع كل المعلومات عن شريك النخعى ومنها علاقته بزوجته المخلصة له مع فارق السّن بينهما    ، وهذه هى المرحلة الأولى ، ثم تمت كتابة هذه القصة بناءا علي بعض المعلومات فيما يخص عمله بالقضاء ، وهذا فى المرحلة الثانية ، وأخيرا تمت كتابة سيناريو درامى عليها ، بنفس العنوان . ومشروع (تحويل التراث الى دراما ) يحوى عشرات الأعمال بنفس الطريقة. وسبق نشر عشرات القصص على موقعنا ، وهى كلها من قصص هذا المشروع . نقول هذا حفظا لحقنا . 

هذه المقالة تمت قرائتها 306 مرة