فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا
من علوم القرآن :القرآن والواقع الاجتماعى (11 )

في الإثنين ٠٨ - نوفمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

القرآن الكريم لغة الحياة ، وما يقوله القرآن عن البشر يتجسد واقعا في حياة الناس ولا تملك إلا أن تقول ، صدق الله العظيم "

 

 

فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا

القاضى العباسى ( أبو حسان الزيادي ) هو: (  الحسن بن عثمان بن حماد بن حسان بن يزيد) المتوفى عام 242 هجرية . قال عنه ابن الجوزى فى تاريخ ( المنتظم ) : ( كان من العلماء الأفاضل صالحًا دينًا كريمًا مصنفًا وله تاريخ حسنوولي قضاء الشرقية ‏.‏).

كانت له حكاية يتجلى فيها الواقع القرآنى فى قوله جل وعلا. ( فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا )، فلقد وقع فى أزمة مالية عسيرة وموقف حرج للغاية ، ولكن جاءه اليسر مع اشتداد العسر . ونقرأ تفاصيل القصة التى حكاها ابن الجوزى :

( أخبرنا أبو منصور القزاز قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر الخطيب قال‏:‏أخبرنا الحسن بن علي الجوهري قال‏:‏ أخبرنا محمد بن عمران المرزباني قال‏:‏ أخبرناعبد الواحد بن محمد الخصيبي قال‏:‏ حدثنا أبو حازم القاضي وأبو علي أحمد بن إسماعيلقالا‏:‏ حدثنا أبو سهل الرازي قال‏:‏ حدثني أبو حسان الزيادي قال‏:‏

( ضقت ضيقة بلغتفيها إلى الغاية ، حتى ألحّ علي القصاب والبقال والخباز وسائر المعاملين ولم تبق ليحيلة) أى تعرض لضائقة مالية شديدة حتى أصبح الجزار والبقال وغيرهم يطالبونه بالديون وهو عاجز عن السداد ، ولم تعد لديه حيلة .

( فإني ليومًا على تلك الحال وأنا مفكر في الحيلة إذ دخل علي الغلام فقال‏:‏حاجي بالباب يستأذن) أى مسافر للحج من خراسان مار فى طريقه على بغداد ، وقد وقف بباب أبى حسان يستأذن فى الدخول .

( فقلت له‏:‏ ائذن له فدخل الخراساني فسلم ، وقال‏:‏ ألست أبا حسان؟ قلت‏:‏ بلى ، فما حاجتك ؟ قال‏:‏ أنا رجل غريب أريد الحج ومعي عشرة آلاف درهم واحتجت أنتكون قبلك حتى أقضي حجي وأرجع،  فقلت هاتها فأحضرها وخرج بعد أن وزنها وختمها). أى إن ذلك الراغب فى الحج خاف على ماله من غارات قطاع الطرق من الأعراب فأراد أن يودعها عند رجل أمين فى بغداد ، وقد سأل فدلوه على بطل القصة أبوحسان ، فأودع عنده عشرة آلاف درهم ، على أن يستلمها منه عند عودته من الحج ومروره ببغداد . لم يعرف أن أبا حسان كان يمرّ بأزمة مالية خانقة ، ويطارده البقال والجزار والدائنون .

( فلماخرج فككت الخاتم على المكان ثم أحضرت المعاملين فقضيت كل دين كان علي ، واتسعت وأنفقت، وقلت‏:‏ أضمن هذا المال للخراساني وإلى أن يجيء يكون قد أتى الله بفرج من عنده ، فكنتيومي ذلك في سعة وأنا لا أشك في خروج الخراساني). أى بمجرد خروج الخراسانى فتح أبو حسان صرّة المال ، وسدّد ديونه ، وهو على أمل أن يأتى الفرج بعدها بحيث يرد مال الخراسانى . ولكن حدثت المفاجأة المفجعة :

( فلما أصبحت من غد ذلك اليوم دخل عليالغلام فقال‏:‏ الخراساني الحاج بالباب يستأذن ، فقلت‏:‏ ائذن له ، فدخل فقال‏:‏ إنيكنت عازمًا على ما أعلمتك ثم ورد علي الخبر بوفاة والدي وقد عزمت على الرجوع إلىبلدي فتأمر لي بالمال الذي أعطيتك أمس ‏.‏). اى عاد الخراسانى فى اليوم التالى يطلب ماله فقد ألغى مشروع الحج ، وعزم على العودة لخراسان بعد أن علم بوفاة والده .

(‏ فورد علي أمر لم يرد علي مثله قط ، وتحيرت فلم أدر ما أقول لهولا بما أجيبه ، وفكرت فقلت‏:‏ ماذا أقول للرجل ثم قلت‏:‏ نعم ، عافاك الله تعالى ، منزليهذا ليس بحريز ، ولما أخذت مالك وجهت به إلى من هو قبله ، فتعود في غد لتأخذه ). عقدت المفاجأة لسان أبى حسان الزيادى ، ثم نطق متعللا بأنه أودع المال فى مكان أكثر أمنا ، وطلب من الخراسانى مهلة يوم ليعود ويأخذ ماله .

(فانصرفوبقيت متحيرًا ما أعمل .!! إن جحدته قدمني فاستحلفني وكانت الفضيحة في الدنيا والآخرةوإن دافعته صاح وهتكني ، ) أى إحتار الزيادى ، فلا يستطيع الكذب ، وهو يخشى الفضيحة . وأبو حسان الزيادى نموذج للطبقة ( المستورة ) من العلماء ، له إسم وصيت ، ولكن علاقته بالثروة ليست على ما يرام ، ولكى تتحسن علاقته بالثروة لا بد من المحافظة على المظهر الشكلى بأن يظل له بيت وبغلة و غلام شأن الميسورين . وفى الفقرات التالية نعرف أن له خادما مملوكا وبغلة ، وبيت بالطبع ، مع أنه مفلس .!!

( وغلظ الأمر علي جدًا وأدركني الليل وفكرت في بكور الخراسانيإليّ ،  فلم يأخذني النوم ولا قدرت على الغمض ، فقمت إلى الغلام ، فقلت له‏:‏ أسرج البغلة،فقال‏:‏ يا مولاي هذه العتمة بعد وما مضى من الليل شيء ، فإلى أين تمضي ؟ فرجعت إلىفراشي فإذا النوم ممتنع فلم أزل أقوم إلى الغلام وهو يردني حتى فعلت ذلك ثلاث مرات، وأنا لا يأخذني القرار( الراحة والهدوء ) وطلع الفجر فأسرج البغلة وركبت وأنا لا أدري أين أتوجه ، وطرحتعنان البغلة وأقبلت أفكر وهي تسير بي حتى بلغت الجسر فعدلت بي فتركتها فعبرت ثمقلت‏:‏ إلى أين أعبر وإلى أين أمضي ولكن إن رجعت وجدت الخراساني على بابي دعها تمضيإلى حيث شاءت ، ومضت البغلة فلما عبرت الجسر أخذت بي يمنة إلى ناحية دار المأمونفتركتها إلى أن قاربت باب المأمون ، والدنيا بعد مظلمة ، فإذا بفارس قد تلقاني فنظر فيوجهي ثم سار وتركني ثم رجع إلي ،  فقال‏:‏ ألست بأبي حسان الزيادي ؟ قلت‏:‏ بلى، قال‏:‏أجب الأمير الحسن بن سهل ، فقلت في نفسي‏:‏ وما يريد الحسن بن سهل مني ؟  ثم سرت معه حتىصرنا إلى بابه ، فاستأذن لي عليه فأذن لي،  فقال‏:‏ أبا حسان ما خبرك وكيف حالك ولمانقطعت عنا؟ فقلت‏:‏ لأسباب وذهبت لأعتذر ‏.‏

فقال‏:‏ دع عنك هذا أنت في لوثة أو في أمر ، فإني رأيتك البارحة فيالنوم في تخليط كثير. فابتدأت فشرحت له قصتي من أولها إلى آخرها إلى أن لقيني صاحبهودخلت عليه، فقال‏:‏ لا يغمك يا أبا حسان قد فرج الله عنك . هذه بدرة للخراساني مكانبدرته ، وبدرة أخرى لك تتسع بها ، وإذا نفذت أعلمنا . فرجعت من مكاني فقضيت الخراسانيواتسعت وفرج الله .وله الحمد ‏.‏)

موجز ما سبق أن أبا حسان فى محنته ركب بغلته لا يدرى أن يتوجه بها وهو فى حال يرثى له ، لا يستطيع العودة للبيت خوف ملاقاة الخراسانى ، ولا يعرف أين يذهب ، والبغلة تسير به وهو ذاهل ، الى أن لحقه فارس كان يبحث عنه ، وعرف من الفارس أن الوزير الحسن بن سهل وزير المأمون يبحث عنه . وذهب به الفارس الى دار الوزير ، وأعلمه الوزير أنه رآى أبا حسان فى المنام فى رؤيا مزعجة فقلق عليه وبعث بالفارس ليحضره . فحكى له أبو حسشان محنته ، فأنعم عليه الوزير بمال كثير فرّج به كربته .

ونحن هنا نتحدث عن عصر كانت فيه مروءة و نخوة ، وليس كعصرنا ، نتحدث عن زمن كان فيه العلم رحم بين أهله من العلماء ، وليس مثل زمننا الذى لم يعد فيه علماء بل كلاب سلطة يتخفون فى زى العلماء يفتون للمستبد باستحلال التعذيب والنهب و السلب .

ومع ذلك فان الله جل وعلا غالب على أمره ولو كره المبطلون ، ورحمته تصل الى المحسنين وتنقذ المظلومين ، ووعده قائم بأن (يسرا ) قادم مع (العسر) حتى لو كنا فى عصر(العسكر) .!!