( سيجعل الله بعد عسر يسرا )
القرآن والواقع الاجتماعى (9)

في الأحد ٣١ - أكتوبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

القرآن الكريم لغة الحياة ، وما يقوله القرآن عن البشر يتجسد واقعا في حياة الناس ولا تملك إلا أن تقول ، صدق الله العظيم "

(  سيجعل الله بعد عسر يسرا )

 

عمرو بن مسعدة ،هوأشهر كاتب للخليفة المأمون ، وقد توفى فى يوم الأضحى عام ‏217  . وأحد الرواة فى عهد المأمون . وقد روى هذه الحكاية من تعاملاته فى عصر المأمون . وننقلها عن تاريخ ابن الجوزى ( المنتظم ) لما فيها من واقعية تجعلها قابلة للتصديق وتكرار الحدوث فى اى عصر ، ولأنها تحقق وعد الله جل وعلا بأنه سيجعل ببعد عسر يسرا ، أى يعطى رب العزة أملا لكل مأزوم ومقهور و يائس وعابس ولكل فقير وحسير .

قال عمرو بن مسعدة ‏:‏ ( كنت معالمأمون عند قدومه من بلاد الروم حتى إذا نزل الرقة قال‏:‏ يا عمرو أو ما ترىالرخجي قد احتوى على الأهوار وجمع الأموال وطمع فيها ، وكتبي تصل إليه في حملها وهويتعلل ويتربص بي الدوائر‏!‏ فقلت‏:‏ أنا أكفي أمير المؤمنين هذا وأنقذ من يضطره إلىحمل ما عليه ‏،فقال‏:‏ ما يقنعني هذا ‏.‏قلت‏:‏ فيأمر أمير المؤمنين بأمره ‏.‏قال‏:‏ تخرج إليه بنفسك حتى تصفده بالحديد وتحمله إلى بغداد وتقبضعلى جميع ما في يديه من أموالنا وتنظر في العمل وترتب فيه عمالًا ‏.‏فقلت‏:‏ السمع والطاعة ‏.‏)

أى إن المأمون أمر كاتبه عمرو بن مسعده أن يسافر بنفسه ليحاسب الوالى الرخجى ، وهو حاكم الأهوار باسم المأمون ، وقد جمع ذلك الوالى الأموال وطمع فيها ، ورفض ارسالها ، والمأمون يخشى من تمرده فأرسل ابن مسعدة ليعتقله ويحاسبه على ما جمع من أموال ، ويولى مكانه واليا آخر .

ونتابع عمرو بن مسعدة وهو يحكى كيف أنه فى طريقه راكبا سفينته استغاث به شيخ عجوز قطع اللصوص عليه الطريق وجردوه من كل شىء ، ثم جاءه الفرج واليسر بعد العسر حين صادف سفينة عمرو بن مسعدة . استضافه عمرو فى السفينة ، وفى النقاش بينهما اكتشف عمرو بن مسعدة أن هذا الرجل الرث الهيئة خبير فى الكتابة والسياسة والتعامل مع اجهزة الدواوين ، وأنه هو الذى يريده عمرو بن مسعدة فى مهمته فى التحقيق مع ذلك الوالى الرخجى ، وانتهت القصة بأن إستأجره عمرو بن مسعدة ليقوم بمساعدته فى محاسبة الرخجى ، وأعطاه مكافأة وملابس و ووظيفة ، وحلّ اليسر بهذا الشيخ البائس بعد العسر .

يقول ابن مسعدة :

( فلما كان من الغد دخلت إليه (أى الى المأمون ) فاستعجلني (فى القيام بالمهمة ) فانحدرت (أى أبحرت جنوبا )  في زلال ( أى مركب ) أريد البصرة،  واستكثرت من الثلج لشدة الحر ، فلما صرت بين جرايا وجيل ، سمعت صائحًا من الشاطئيصيح‏:‏ يا ملاح ، فرفعت سجف الزلال فإذا شيخ كبير السن حاسر حافي القدمين خلق القميص‏.‏فقلت للغلام‏:‏ أجبه . فأجابه فقال‏:‏ يا غلام أنا شيخ كبير السن علىهذه الصورة التي ترى وقد أحرقتني الشمس وكادت تتلفني وأريد جيل (أى أريد الذهاب الى بلدة جيل ) فاحملوني معكم فإنالله يأجركم ‏.‏فشتمه الملاح وانتهرهفأدركتني عليه رقة ، فقلت للغلام‏:‏ خذوه معنا.  فحملناه .  فتقدمت بدفع قميص ومنديل إليه (أى أمر باعطائه قميصا ومنديلا ) فغسل وجهه واستراح . وحضر وقت الغداء. فقلت للغلام‏:‏ هاته يأكل معنا ‏.‏فجاء فأكل معنا أكل أديب (أى أكل مثل أهل الجاه والمثقفين ) إلا أن الجوع قد بين عليه (أى ظهر عليه )  فلما أكلت قلت‏:‏يا شيخ أي شيء صناعتك ؟ قال‏:‏ حائك. فتناومت عليه ( أى تصنع النوم )ومددت رجلي ‏( أى دليلا على عدم الاحترام له ) .‏فقال (الرجل ) ‏:‏ وأنت أعزك الله أي شيء صناعتك ؟ فأكبرت ذلك ، وقلت‏:‏ أنا جنيتعلى نفسي !  أتراه لا يرى زلالي وغلماني ونعمتي وأن مثلي لا يقال له هذا ؟!  ثم قلت‏:‏ ليسإلا الزهد بهذا(أى عدم الاهتمام به )  فقلت‏:‏ كاتب. فقال لي‏:‏ أصلحك الله ! إن الكتاب خمسة.. فأيهم أنت ؟ فسمعت كلمة أكبرتها،  وكنت متكئًا فجلست ، ثم قلت‏:‏ فصّل الخمسة ‏(أى أوضح أصناف الكتّاب الخمسة ) .‏قال‏:‏ نعم . كاتب خراج‏:‏ يحتاج أن يكون عالمًا بالشروط والطسوقوالحساب والمساحة والبثوق والفتوق والرتوق، وكاتب أحكام‏:‏ يحتاج أن يكون عالمًا بالحلال والحرام والاختلافوالأصول والفروع ‏.‏وكاتب معونة‏( شرطة وبوليس ) :‏ يحتاج أن يكون عالمًا بالقصاص والحدود والجراحات ‏.‏وكاتب جيش‏:‏ يحتاج أن يكون عالمًا بحلي الرجال وسمات الدوابومداراة الأولياء وشيء من العلم بالنسب والحساب ‏.‏وكاتب رسائل‏:‏ يحتاج أن يكون عالمًا بالصدور والفصول والإطالةوالإيجاز وحسن الخط والبلاغة ‏.‏قلت له‏:‏ فإني كاتب رسائل‏:‏ فقال‏:‏ أصلحك الله لو أن رجلًا منإخوانك تزوجت أمه وأردت أن تكاتبه مهنئًا له كيف تكاتبه ؟ ففكرت في الحال فلم يخطرببالي شيء ، فقلت‏:‏ اعفني ‏.‏فقال‏:‏ قد فعلت ‏.‏فقلت‏:‏ ما أرى للتهنئة وجهًا . قال‏:‏ فتكتب إليه تعزية ‏.‏ففكرت فلميخطر ببالي أيضًا شيء . فقلت‏:‏ اعفني ‏.‏قال‏:‏ قد فعلت ولكن لست بكاتب رسائل ‏.‏قلت‏:‏ فأنا كاتب خراج ‏.‏قال‏:‏ لو أن أمير المؤمنين ولاك ناحية وأمرك فيها بالعدل واستيفاءحق السلطان فتظّلم بعضهم من مساحتك وأحضرتهم للنظر بينهم وبين رعيتك فحلف المساحبالله لقد أنصفوا وحلفت الرعية بالله لقد ظلموا فقالت الرعية‏:‏ قف معنا على مسحهفخرجت لتقف فوقفوك على قراح كذا وكذا - لشيء وصفه - كيف تكتب قلت‏:‏ لا أدري قال‏:‏فلست بكاتب خراج . فما زال يذكر في حق كل كاتب حاله فلا أعلمها إلى أن قلت‏:‏ فاشرحأنت فشرح الكل . فقلت‏:‏ يا شيخ أليس زعمت أنك حائك ‏.‏فقال‏:‏ أنا حائك كلام  ، وأنشد :

ما مر بي شر ولا نعيم إلا ولي فيهمانصيب

قد ذقت حلوًا وذقت مرًا كذاك عيسى الفتى ضروب

نوائب الدهر أدبتني وإنما يوعظالأديب

فقلت‏:‏ فما الذي أرى بك من سوء الحال فقال‏:‏ أنا رجل دامت عطلتي فخرجتأطلب البصرة فقطع علي الطريق فتركت كما ترى، (أى تركوه على الحال السىء الذى شوهد عليه ) فمشيت على وجهي فلما رأيت الزلال استغثتبك ‏.‏قلت‏:‏ فإني قد خرجت إلى تصرف جليل أحتاج فيه إلى جماعة مثلك وقدأمرت لك عاجلًا بخلعة حسنة ( ثيابا حسنة ) ىوخمسة آلاف درهم تصلح بها من أمرك وتنفذ منها إلى عيالكوتصير معي إلى عملي فأوليك أجله ‏.‏قال‏:‏ أحسن الله جزاك إذًا تجدني بحيث ما يسرك.

 فانحدر(أى ركب )  معي فجعلتهالمناظر للرخجي (أى الذى يحقق مع الوالى الرخجى ) والمحاسب له فقام بذلك أحسن قيام فحسنت حاله معي وعادت نعمته ‏.‏)

هذه المقالة تمت قرائتها 572 مرة