حين كنت أحمل مصريتى عارا فوق جبهتى
ßÊÇÈ موقع التراث فى مستقبل الثقافة العربية :
مقدمة حزينة.!!

في الخميس ٢٨ - مارس - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

1 ـ د . على الشابى كان وزير الأوقاف فى تونس فى التسعينيات . كان وزيرا متفتحا ، تخرج فى قسم اللغات الشرقية بكلية الآداب جامعة القاهرة ، وبعد تخرجه فى هذا القسم بعشرين عاما تقريبا كان شقيقى الراحل د محمد علاء الدين منصور رئيسا لذلك القسم . قرأ د. على الشابى كتابى ( حد الردة ) الذى ينفى عن الاسلام هذه الأكذوبة . أعجبه الكتاب ، ودعانى رسميا لحضور إحتفالية تونس بإختيارها عاصمة ثقافية عام 1997 . كانت الدعوة مفاجئة لى ومفاجأة لى . لم يكن مطلوبا تجهيز ورقة بحثية ، ولكننى فى عدة ساعات كتبت هذه الورقة عن ( موقع التراث فى مستقبل الثقافة العربية )  . تمّ إستقبالى بحفاوة كما لوكنت وزير الثقافة المصرى، وتمتعت بكرم الضيافة التونسية ، وتمتعت اكثر بالتعرف الى الوزير د على الشابى وصُحبته ، وباقة من مثقفى تونس ، تكلموا معى فى إمكانية نشر كتبى فى باريس بما يدرّ دخلا هائلا . بالليل جاءت صحفية تصحبها فتاة رائعة الجمال تقول إنها ممثلة تريد منى أن أعرفها بالمخرج يوسف شاهين ، فقلت إنه لا يعرفنى . سجلت معى الصحفية الشابة حديثا مطولا عن رأيى فى تونس ونظامها الحاكم ( زين العابدين بن على ) فأفضت فى الدعوة للديمقراطية وحقوق الانسان . فى اليوم التالى لم أجد فى فعاليات الاحتفالات موقعا لألقى فيه ورقتى التى أعددتها . فهمت الرسالة فيما بعد لأن الحديث الذى أدليت به لم تنشره الصحيفة . طلب منى د .على الشابى أن أصحب وزير الثقافة التونسية ضمن شخصيات أخرى وهو يتفقد الاحتفاليات ومعرض الكتاب وغيره . سرت مع الوزير قليلا ، ثم تركته. فلست كومبارس يسير فى صُحبة وزير أو رئيس . قضيت أياما سعيدة كريمة فى تونس ، ثم عدت بنفس التكريم الذى حظيت به . وكالعادة عند عودتى من أى رحلة خارجية كان أمن الدولة فى إنتظارى بالمطار ، يعتقلنى ويستجوبنى ويفتش ما معى ، والويل كل الويل لو كان معى ورقة أو جريدة أو كتاب . وبعد التحقيق والتفتيش والاهانة إنتظر الضابط القرار من الرئيس الأعلى للجهاز . أفرجوا عنى بعد التنبيه المعتاد بأن أذهب للتحقيق مرة أخرى فى مقرّ أمن الدولة .

فارق كبير بين التكريم الذى تنعمت به فى تونس ــ برغم الاختلاف السياسى فى الرأى حول الديمقراطية وحقوق الانسان ــ والاهانة التى قابلتها من ( دولتى ) المصرية التى تنفذ أوامر سعودية بإهانة مواطن مصرى ، كل جريمته أنه مفكر اسلامى مسالم يدعو الى الاصلاح ويواجه الوهابية ـ التى تهدد وطنه ــ يحتكم بشأنها الى القرآن الكريم .

2 ـ أذكر أن د على الشابى دعانى بعدها فى مؤتمر تعقده وزارة الأوقاف التى يرؤسها ، وكالعادة قدمت لهم ورقة بحثية ــ نشرتها هنا ــ عن ( مدرسة الامام محمد عبده بين مصر وتونس) ، ولقيت نفس التكريم ، وطلبت أن أرى باقة المثقفين التونسيين الذين قابلتهم من قبل وسعدت بصحبتهم فسمعت إعتذرار مهذبا .  وعُدت ، وكالعادة يخفق قلبى مما ينتظرنى من إعتقال فى المطار ، وأتمنى أن يمرّ على خير ، ولكن هذه المرة كانت بؤسا وذلّا لم أتوقعه . كان د على الشابى ــ دون أن أدرى ــ  قد بعث خلفى بهدية علمية ، كانت حقيبة كبيرة تحتوى على أكثر من خمسين جزءا من تفسير القرآن للمفكر التونسى الطاهر بن عاشور مع مؤلفات التنوير لمؤلفين تونسيين . فوجئت بها فى مطار القاهرة تحمل إسمى وأختام وزارة الأوقاف التونسية ، وهى مغلقة . وقف جهاز امن الدولة فى مطار القاهرة على قدم واحدة ، فإذا كانت مجرد ورقة معى تستلزم التحقيق فكيف بهذه الحمولة من الكتب والمجلدات ؟ فتحوها وفحصوها وهم يستجوبوننى ، كما لو كانت مخدرات . قلت لهم أننى أعرف بوجودها لأول مرة ، وهى مختومة بختم وزارة الأوقاف التونسية وهى بالمناسبة نشيطة جدا فى مواجهة الارهاب ، وقد دعتنى لهذا السبب.  وقلت لهم : لا أريد هذه الكتب ، خذوها واتركونى أرجع بيتى . بعد ساعات من المرمطة وانتظار لقرار رئيس مباحث أمن الدولة خرجت ،وأنا اشعر أننى أحمل مصريتى عارا فوق جبهتى . وهو نفس الشعور الذى كان ينتابنى مع كل إستدعاء من أمن الدولة لاهانتى تنفيذا لأوامر السفارة السعودية .

2 ـ إحساسى بأننى أحمل مصريتى عارا فوق جبهتى بدأ بتداعيات عودة العلاقات بين نظام حسنى مبارك والسعودية. كنت الضحية . قبلها كان الوزير يوسف والى فى صفى إثناء صرعى مع جامعة الأزهر ( 1985 : 1987 ) ، بعودة العلاقات بين مبارك و( الأسرة السعودية ) وضع فى أيديهم الملف الخاص بى ، وسرعان ما دخلت السجن ، وخرجت منه أواجه حملة إعلامية مركزة من التكفير وإهدار الدم بدأت بشهور قبل دخولى السجن واستمرت بعده. خفت على حياتى فهاجرت الى أمريكا فى يناير 1988 ، وتعرضت لابتلاء النصّاب رشاد خليفة ، وتركته ، وضاق بى الحال وخفت على أولادى الصغار ، فعدت فى اكتوبر 1988 ،عالما بما ينتظرنى. وكان أمن الدولة فى إنتظارى بالمطار. وقتها قضيت ليلة سوداء فى إعتقال المطار ، وزوجتى وأهلى ينتظرون خروجى بلا فائدة ، ثم نقلونى الى جُبّ ( سجن ) قضيت فيه ليلتين رهيبتين فى ضيافة أمن الدولة فى لاظوغلى ، وخرجت منه وأنا أحمل مصريتى عارا فوق جبهتى .

وأصبحت عادة من وقتها أن يتم إستدعائى بصورة دورية للتحقيق فى أمن الدولة ، بلا سبب ، لمجرد الارهاب والإذلال ، حيث كان ضابط امن الدولة  يملك إحتجازى مع أعدائى المتطرفين أو الارهابيين إذا شاء، وبهذا كانوا يضغطون علىّ ، ينفذون أسيادهم السعوديين . فأعاشونى زمنا كئيبا أحمل فيه مصريتى عارا فوق جبهتى .

تجربة إستقبالى فى المطار بالاعتقال والاستجواب كانت فرصتهم لإيلامى . كنت كلما إقتربت الطائرة من القاهرة أعيش بين الشوق للوطن والخوف من الاعتقال لو إستمر . كنت أتعجب من اللافتة الضخمة المكتوبة تستقبل القادمين لمصر فى المطار ، تحمل الآية الكريمة (ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ) ، وأتعجب واتألم وأنا أعيش فى وطن يبيعنى للسعوديين بثمن بخس ، ولو كنتُ شيخا فاسدا من الخونة المتاجرين بالدين لكان إستقبالى فى صالة كبار الزوار وليس فى حجرة الاعتقال .! . 

3 ــ أذكر أننى دُعيت الى مؤتمر فى لندن للرد على الارهابيين ، وكانت لغة المؤتمر باللغة الانجليزية ، فاشتريت ( قاموس إلياس ) للجيب ، ومؤلفه مصرى وناشره مصرى . وحرصت عند العودة ألّا تكون معى أى ورقة تخفيفا من متاعب الاستجواب المنتظر . وفوجئت بإستجواب حاد وجاد لأن معى ( قاموس الياس للجيب ) . هى مهزلة.!!. وقتها كان ممكنا التواصل بالانترنت بلا ورقة . ولكنه التعمد لإذلالى تنفيذا لأوامر ( من فوق ).

4 ــ أذكر أن حوالى 70 من المثقفين والنشطاء المصريين حملتهم طائرة خاصة الى صنعاء لحضور مؤتمر هناك ، وكنت من بينهم . كان الاخوان المسلمون مشاركين بقوة ، ولم تكن رائحتهم العفنة قد فاحت بعد ، وكان هناك مناصرين لهم من التيار الناصرى والحقوقى . ودخلت فى جدل هائل مع الإخوان أفسدت عليهم رغبتهم فى السيطرة على المؤتمر ، وأظهرت جهلهم وعداءهم للإسلام ، الى درجة أن محاميا شهيرا اسكندرانيا من رواد حقوق الانسان أعلن تراجعه عن تأييدهم وعزمه على أن يقرا لى ليتعرف على الفكر الجديد . كان إنتصارا رائعا ، أسعدنى وقتها ، خصوصا ونظرات الحقد من الاخوان تتابعنى فى أروقة المؤتمر ممزوجة بالحسرة . كنت أعتقد أن عملاء أمن الدولة فى المؤتمر سينقلون صورة ما حدث لأنجو من إستجواب لى عما حدث وما قلت . تبدد هذا فى العودة ، ونحن نقف صفا فى المطار . خرجوا جميعا ، وتم إحتجازى أنا ، ورأيت مشاعر التشفى على وجوه الاخوان وهم يخرجون مع عبارات الترحيب  بينما يصطحبنى المخبرون الى غياهب حجرات الاعتقال فى المطار والتعرض ساعات للإجتجاز والاستجواب .!!.

5 ـ تعدى الأمر الى أهلى البسطاء فى قريتى أبوحريز ، والذين لا ذنب لهم سوى أنهم أقاربى . إنى مُصاب بحبّ أهلى وأقاربى ، وكنت لا أحب الابتعاد عنهم . وكانت زيارتى لأمى ـ يرحمها الله جل وعلا ـ بلسما يريحنى من القلق الذى أعايشه فى القاهرة ، والذى كان يسبب لى أحيانا صدعا مستمرا  . أتذكر أن هذا الصداع كان يختفى حين أركب السيارة الأجرة من موقف مسطرد الى الزقازيق ذاهبا الى ابوحريز . إعتدت الذهاب اسبوعيا اليها ، وإعتدت أن أصلى بأهلى الجمعة فى منزلنا ، والعيدين أيضا ، فى إجتماع عائلى دافىء لا زلت أحمل ذكراه حتى الآن . إخترع أمن الدولة حيلة خبيثة لمنعى من الذهاب لقريتى ورؤية اهلى . قبض على أحد أقاربى ، وأوسعوه ضربا وتعذيبا ، وأفرجوا عنه ليدخل البلد متورم الوجه وآثار التعذيب على وجهه وجسده ، وكان مُنهارا وهو يحكى لأختى ما جرى له بسببى  . فهمت الرسالة ، وظللت بعيدا عن بلدتى ولقاء أهلى والذهاب لمحافظة الشرقية بأسرها خوفا من تعرض أحبتى للإهانة والتعذيب . شعرت أن حبى لأهلى قد اصبح نقمة ولعنة عليهم . ظللت مبتعدا عنهم الى أن هاجرت الى أمريكا ناجيا بحياتى وكرامتى . ماتت عمتى فلم أذهب لعزائها ، مات خالى فتحرّجت من حضور جنازته . كنت أشعر أن العار المصرى الذى أحمله فوق جبهتى قد إتّسع ليشمل كل من أحب .. بسببى . إستمر إضطهادهم لأهلى بموجتين من الاعتقال بعد هجرتى لأمريكا . ولا يزالون يعيشون فى خوف بسببى .!!

6 ـ  صعب جدا أن تعيش فى وطن يكرهك وأنت تحبه ، يؤذيك وأنت تدافع عنه ، تضحّى من أجله وتسعى لسلامته  وهو يريدك ميتا أو مسجونا ، تفخر به وهو يمقتُك . تريد أن ترفعه الى أعلى عليين وهو يريد أن يخسف بك فى أسفل سافلين . كل جريمتك أنك تدعو الى الاصلاح سلميا ، و لا تفرض رأيك على أحد ، ولا تفرض نفسك على أحد ، ولا تطلب أجرا من أحد ، ثم تعفو وتصفح ما استطعت . ولكن تظل فى نظرهم زنديقا مرتدا مُباح الدّم . إن لم يتمكنوا من قتلك ماديا فهم لا يتوانون عن إغتيالك معنويا بإتهامات الخيانة والعمالة والتكفير . ثم أنت فرد فقير قليل الحيلة  ، وهم جيوش من الشيوخ فى الأزهر والجمعيات والجماعات وحملة الأقلام وحملة الحناجر والمباخر ، وخلفهم الرعاع والدهماء وملايين الدواب ـ شرّ الدواب ـ التى تسعى على قدمين . مُحرّم عليك أن تشكو إلّا لخالقك جل وعلا ، صعب أن تعيش فى دولها من المفروض أن تدافع عنك باعتبارك مواطنا شريفا مُسالما فتجد تلك الدولة تبيعك بثمن بخس لدولة أخرى تُعاديك .!!

صعب جدا أن أكتب فى مصر عشرات الكتب ومئات المقالات وأكون أكبر متخصص فى تاريخها فى العصور الوسطى ـ ثم  أعيش فيها أحمل مصريتى عارا فوق جبهتى .!

6 ــ ما علينا .

 الحمد لرب العالمين الذى أنجانا من القوم الظالمين .

 أنشر لأول مرة هذه الورقة البحثية التى كتبتها عام 1997 ، عن موقع التراث فى مستقبل الثقافة العربية .

أنشرها كما هى لأنها تعبر عن آمال وطموحات تنتمى لوقتها فى اواخر القرن العشرين 1997 . وللقارىء أن يقارنها بالحاضر البائس فى القرن الحادى والعشرين .

أحمد صبحى منصور

فى أول مايو 2015