ßÊÇÈ الشورى الاسلامية ( اصولها – تطبيقاتها فى دراسة قرآنية )
الفصل الأول : أصول الشورى في الإسلام

في الأحد ٢٨ - أبريل - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الفصل الأول : أصول الشورى في الإسلام
أولا – ماهية الشورى في المنظور القرآني :الشورى فى الاسلام : فنّ ممارسة السلطة والقوة
1 ـ الشورى عندنا تقابل الديمقراطية في التراث الغربي .. وقد يجادلنا البعض في هذه المقولة ، وذلك ليس مستغربا ، لأن الديمقراطية نفسها في التطبيق الغربي تختلف من دولي لأخرى ، فشتان بين ديمقراطية إنجلترا وديمقراطية فرنسا ، وبينها وبين أمريكا قمة الديمقراطية في العالم ، آو هكذا يقولون . تتعدد الديمقراطيات الغربية ، ولكنها تشترك في أسس عامة – في الأغلب- تقوم على مسئولية السلطة التنفيذية أمام ممثلي الشعب .. بما يعني خضوع الحاكم للشعب أو ممثليه .. واستمداده السلطة منه أو منهم .. أو هكذا يقولون . ولسنا في مجال المقارنة بين الشورى الإسلامية في المنظور القرآني والديمقراطية الغربية النيابية ، ولكن نتوقف مع القدر المشترك بينهما وهو المعنى الحقيقي للشورى والديمقراطية ، وهو فن ممارسة السلطة والقوة ، لأن الجهة التي يخضع لها الحاكم هي المصدر الحقيقي للسلطة والمنبع الذي يستمد منه الحاكم سلطانه .
2 ـ إن الحكم هو القوة والسلطة .. أو ممارسة القوة والسلطة .. والعلاقة بين الحاكم والشعب تحدد من هو صاحب القوة والسلطة ومدي وجود الشورى (أو الديمقراطية ) في تلك العلاقة .
• هناك الحاكم المستبد الذي يتأثر بالقوة والسلطة ، وليس لشعبه عنده وزن ، بل يعتبر نفسه وصيا على ذلك الشعب الذي لم يبلغ بعد درجة المسئولية والأهلية ، وهذا الحاكم المستبد يعتبر نفسه مصدر السلطات كلها ، فهو نفسه مجلس الشورى والمشير وهو المستشار وهو الحاكم بأمره في كل شئ ، ومن هنا تكون المشورة في نطاق سلطاته التي يمنحها لنفسه ، غاية ما هنالك انه يستشير نفسه أو يعين مجموعة من الخدم لتفكر له فيما يرضيه .. وعلى الشعب الطاعة لأنه مجرد من القوة ، فقد احتكر الحاكم القوة لنفسه .
• ولكن قد يحس الشعب ببعض الوعي ويستحوذ على بعض التأثير والقليل من القوة مما يجعل الحاكم المستبد يضطر لتقديم بعض التنازلات تتناسب مع بعض القوة التي ينتزعها الشعب لنفسه ، ولذلك تتغير مجالس الشورى ، من مجرد العبيد والخصيان الذين يتفانون في التفكير لأرضاء الملك المستبد ألي مجالس شورى لها بعض الحرية في الحركة ألي دور أكبر ، وهذا مرهون بقدرة الشعب على انتزاع حقوقه ، وهل يرضى الشعب بوجود مجالس صورية تعطى شرعية زائفة لدكتاتورية الحاكم وتغطي عورة الاستبداد ، أم تتطور هذه المجالس لتحاسب الحاكم وتقلص سلطاته .. وفي كل الأحوال فالشورى هنا هي فن ممارسة القوة .. وتلك الممارسة يتجاذبها الشعب والحاكم كل منهما بحسب ما لديه من قوة وصمود .
• وقد تكون القوة – كل القوة – للشعب ، فيفرض سلطانه على الحكومة ويعين الحاكم ويسائله ويعزله ويعين بدله ويراقبه ويحاكمه ، والحاكم هنا يعتبر نفسه موظفا في خدمة الشعب ، أجير لديه ، والشعب هنا يمارس بمشورته فن القوة .
وهكذا فلدينا ثلاثة أنواع من الشورى :
• الشورى الحقيقية للشعب القوى الذي يملك إرادته بنفسه والذي يقوم بتعيين الحاكم ويعتبره أجيرا لديه ويحاسبه ويقرأ ويعزله ويعاقبه إذا اخطأ .
• والشورى الصورية لحاكم يدعى التمسك بالديمقراطية وهو يضطر لذلك لمواجهة الانتقادات واحتمالات التمرد من بعض طوائف شعبه ، ويدور صراع ( القوة) بين الحاكم والشعب وبقدر ما للشعب من قوة وصمود ينتزع حقوقه في المشاركة والشورى.
• و أخيرا لدينا الدكتاتور الفج المطلق الذي يحكم بالقوة ويستشير نفسه أو خدمة وحاشيته والشعب مجرد قطيع وقع في أسره وتحت هيمنته وسيطرته ، حيث احتكر ذلك المستبد لنفسه القوة ومارس من خلالها الشورى .. لنفسه .
إذن فالشورى هي لعبة القوة أولا و اخيرا .. القوة بكل أشكالها ، قوة السلاح وقوة المال وقوة التأثير في الجماهير .. وقوة الجماهير نفسها أو ضعفها وقوة الحاكم أو قوة شعبه . وحيث توجد القوة تكون القدرة على المشورة ، لأن المشورة هي فن ممارسة القوة . وهذه هي ماهية الشورى في المنظور القرآني . ومن هنا كانت تنشئة المؤمنين على أتساس القوة ، وكانت المشورة نابعة من عقيدة الإسلام القائلة انه " لا اله إلا الله " .
3 ـ وقبل أن ندخل في أسلوب القرآن في تربية وتنشئة الشورى في تكوين العقل المسلم . نتوقف مع بعض الآيات القرآنية التي تؤكد علاقة الشورى أو ( الاستبداد) بالقوة مما يعنى أن الشورى هي فن ممارسة القوة .
ففرعون موسى وصل به الاستبداد ألي درجة ادعاء الألوهية والربوبية الكبرى " فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24) " (النازعات ) " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي (38) " القصص .وبذلك الاستبداد الذي وصل به ادعاء الألوهية كان يتعامل مع الحاشية حوله ، أو الملأ الذي يفكر فيما يرضى الفرعون ، وكانت آراء الملأ أو الحاشية تأتى طبقا لما يريده الفرعون حتى أن القرآن الكريم ينسب الأقوال الواحدة مرة لفرعون ومرة أخرى للملأ ليدل على أن الملأ أو الحاشية جزء لا يتجزأ من الفرعون ، وان فرعون حين كان يستشيرهم لا يسمع صدى صوته أو صدى صوتهم: راجع سورة الأعراف (قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) ) وسورة الشعراء : ( قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) . أيضا راجع سورة الأعراف ( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) ، وسورة غافر ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وفي النهاية فان فرعون يقول لهم " ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) غافر . أي انه لا يتصرف ألا برأيه ، ورأيه هو الهدي وسبيل الرشاد ، وذلك هو نهاية المطاف في الشورى عنده .
والأرضية التي كان يستمد منها فرعون سلطته الاستبدادية أو يمارس من فوقها فن الشورى هي انفراده بكل عناصر القوة . والتاريخ الفرعوني يؤكد أن عصر الزعامة – ومنهم فرعون موسى – شهد انفراد الفرعون بالملك والحكم وقيادة الجيوش وتحول مصر ألي وحدة واحدة في قبضة الفرعون على حساب حكام المقاطعات الذين اصبحوا خدما للفرعون. والقرآن يؤكد على أن هذه المعاني قبل أن يكتشفها علم المصريات بعشرة قرون . فالقرآن يؤكد أن فرعون موسى عقد مؤتمرا حاشدا لقومه وأعلن فيهم انه وحده يملك مصر وخيرها " وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف . والقرآن يؤكد النزعة الحربية لفرعون وقيادته للجيوش التي كانت أقوى جيوش ا"لأرض ، يقول تعالى عنه : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) " القصص . وكانت صفة الجندية من صفات فرعون موسى في القرآن " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) " البروج . " وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً (90) " يونس . " فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) " طه . " فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) " القصص / فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) الذارات . أي ارتبط فرعون بالجنود وكانوا جنوده … أي يملكهم ويقودهم ، وبذلك اجتمع لفرعون ملك مصر وقوتها الحربية .
ولذلك كانت سلطته طاغية ، وكانت رهبته ما حقه ألي درجة أن موسى خاف مواجهته وطلب من الله تعالى أن يبعث معه أخاه هارون ، ولكن الخوف تملكها معا من مواجهة فرعون فأمرهما الله تعالى أن يذهب إليه ، " اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) " طه .
4 ـ ونصل ألي درجة اقل استبدادا ، حكاها القرآن في قصة ملكة سبأ . وكان استبداد هذه الملكة مستمدا من ملكيتها لكل شئ ؟ يقول القرآن عنها فى سورة النمل " إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) " . لذلك كان الملأ – أو الحاشية حولها – يدينون لها بالولاء ، وحين استشارت الملأ أكدوا لها أنها صاحبة الأمر " قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) " . النمل . كانت تطلب رأي الملأ من قادة الجيش أولى البأس الشديد لتتوثق من تأييدهم لها ، وجاءها التأكيد بالولاء المطلق لكل ما تراه .. أي كانت المشورة محصورة في الملكة والملأ حولها أما الشعب الذي يتربعون على صدره فلم يكن له من الأمر شئ .. لأن الشعب كان مملوكا للملكة. وقد تسلمت الملكة رسالة النبي سليمان نيابة عن ذلك الشعب ، مثلما كان موسى مرسلا الي فرعون وليس للشعب المصري ، لأن الشعوب في تلك العصور كانت مجرد رعية من الخراف والمواشي يملكها الحكام المستبد . ونزل القرآن لكي يحول تلك الرعية ألي بشر مسئولين أحرار . وندخل بذلك على أسلوب القرآن في تربية الفرد المسلم والأمة المسلمة على أساس الشورى . ليدخل به في عصر جديد .
ثانيا – الشورى في تربية المسلم :
1 ـ البداية في عقيدة الإسلام : إلا اله إلا الله ، والتي تعنى أن البشر كلهم عباد الله ، ولا يجوز لإنسان مهما كان أن يسمو فوق مستوى البشر ويصير إلها مع الله . لأن لا اله مع الله ولا اله إلا الله . وصلة الشورى هنا أو نظرية الشورى القائمة على إنها فن ممارسة القوة أن الله تعالى وحده هو الذي بيده ملكوت كل شئ وانه القاهر فوق عباده وان له القوة جميعا ، لذلك فهو وحده الذي لا يسأل عما يفعل وما عداه يمكن مساءلتهم ، فالقاهر فوق عبادة لا يمكن أن يسائله عباده ، ولا يمكن أن ينتظر منه عباده أن يكونوا شركاء له في ملكه وسلطانه أو أن يستشيرهم في أي أمر من أموره ، لذلك فأنه تعالى هو الفعال لما يريد وهو يأمر عباده وعليهم الطاعة والخضوع . وذلك الذي يحكم مستبدا وينتظر من الناس أن يطيعوه ويخضعوا له إنما ينتحل لنفسه صفة من صفات الله تعالى .
2ـ والله تعالى خلق البشر أحرارا في أن يطيعوا أمره أو أن يعصوا شرعه ، وفي مقابل حرية الإرادة التي يتمتع بها الإنسان فانه سيأتي أمام الله تعالى يوم الدين آو يوم الحساب ليحاسبه ربه على طاعته آو عصيانه . وهكذا فإن الخالق القاهر فوق عباده الذي بيده ملكوت كل شئ هو الذي شاء آن يكون العباد أحرارا في الطاعة والمعصية ولم يلزمهم بقهره وجبروته في الدنيا على الطاعة مكتفيا بمسئوليتهم يوم القيامة على اختيارهم في حياتهم الدنيا . وإذا كان الخالق جل وعلا لم يتدخل في حرية البشر في الطاعة والمعصية فانه من الحمق آن يخضع البشر باختيارهم لواحد منهم ادعى لنفسه ما ليس له من صفات الله ، واستولى لنفسه ما ليس له من حقوق الآخرين في الثروة والسلطة واحتكرها لنفسه دونهم وأرغمهم على طاعته من دون الله ، بل وانتزع لنفسه ما رغب عنه رب العزة وهو التحكم في حرية الناس ومصادرتها .
3 ـ ثم إن الله تعالى حين خلق الأرض وقدّر فيها الأقوات فانه جعل الأقوات آو الإمكانات المادية حقا مشاعا للجميع لجميع الخلق الساعين للرزق السائلين عنه ، يقول تعالى عن الأرض " وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) " فصلت . آي كل الإمكانات في الأرض حق لكل البشر وليست حكرا على واحد بعينه آو جيل محدد وإنما هي للبشر جميعا سواء لكل السائلين الباحثين عنها . ولكن البحث عن تلك الموارد والسعي في ذلك الرزق يتفاوت من شخص لآخر حسب الإمكانيات الجسدية والعقلية وحسب طبيعة المكان وما فيه من ثروات ، والقران يعترف بذلك التفاوت بين الناس في الرزق " وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ (71) " النحل . ولكن القرآن في نفس الوقت يضع التشريعات الاقتصادية التي تمنع تركيز الثروة في يد فئة أو شخص ، أو بتعبير القرآن " كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ (7) " الحشر . فحيث تتركز الثروة والقوة في يد فئة بعينها على حساب أخرى ينشا الترف والاستبداد ، ويأتي الحاكم المستبد والملأ الذين حوله . وبالتالي فان وجود فئة مترفة حاكمة تفرز الاستبداد يعتبر خروجا على شرع الله تعالى .
4 ـ والمؤمن يقول في صلاته يخاطب ربه ج وعلا " إياك نعبد " أى انه لا يعبد مع الله أحد ، والعبادة تعنى أيضا الخضوع والذل والدعاء . صحيح أن البشر يتصارعون حول اكبر كمية من الرزق ويتقاتلون في سبيل اكبر نصيب من الممتلكات والمتع ، ولكن ينسى الإنسان انه مهما جمع من أموال وممتلكات فأنه سيتركها للموت أو تتركه بالخسارة ، وان أمواله التي يتركها لذريته من بعده ستسهم في فسادهم وتنازعهم ، كما أنّ إمكاناته الجسدية لا تساعده على اغتراف ما يشاء من مُتع ، وحتى لو قضى حياته يغترف من المتع فأنه يفقد الإحساس بها ويستهلك جسده وحيويته سريعا ولا يبقى له مع الأرض إلا الندم والحسرة في نهاية العمر . وفي النهاية فإن الرزق الذي ضمنه الله له هو مقدار ما يأكل وما يشرب وما يغطى جسده وما يستهلكه ، وفي ذلك لا يستطيع إنسان أن يأخذ فوق طاقته . وعليه فالمؤمن يعتقد أن لكل إنسان بطاقة رزق إلهية أو ( كارت) مسجل فيه مقدار ما يستهلكه من حطام الدنيا وأموالها ، ومنذ ولادته وهو ينفق من هذه البطاقة ألي آخر ما بتنفسه من هواء في الدنيا ، وحينما يتوفى آخر مقدار مقدر له من رزقه ومن عمره وعمله .. يموت ويتوفى ، وذلك معنى الوفاة . وهكذا فالمؤمن يدرك انه إذا صار من الملأ أو حاشية السلطان أو إذا صار من أعداء السلطان فان ذلك لن يغير شيئا في كمية الرزق المسجلة في بطاقته ، وان السلطان لا يملك أن يزيد في رزقه شيئا ، ولو أعطاه السلطان الملايين مما ليس مكتوبا في بطاقة رزقه فان تلك الملايين لن تصل الى جوفه ، قد يصيبه موت او افلاس او مرض او نكبة او مصادرة لأمواله ولن يأخذ شيئا من هذه الملايين الا الوزر ، او الذنب الذي دفعه في مقابل تأييد الظالم في استبداده وظلمه . ولسان حال المؤمن يقول : اذا كان الرزق من الله وحده ، وقد حدده ربى سلفا قبل ان يخلقني فلماذا أؤيد حاكما مستبدا ظالما لن أستفيد منه في شئ في رزقي ، ولن اجنى منه الا اللعنة؟.
5 ـ وقد يهلل الناس للمستبد خوفا من الاضطهاد والابتلاء ، ولكن المؤمن يعلم ان الابتلاء يأتى من الله وحده ، وقد يكون الابتلاء للناس بالخير او بالشر " وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (35) " الانبياء . وكشف ذلك الابتلاء يأتى ايضا من الله وحده " وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) " الانعام . ثم ان الابتلاء والمصائب والمسرات شانها شأن الرزق كلها مكتوبة ومسجلة قبل ان نولد ولا مناص من مواجهتها لأنها قدر مكتوب . يقول تعالى " قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (51) " التوبة . اى انه من بين كل المصائب التى نتوقعها ويهددنا بها الآخرون فلن يصيبنا منها الا ما هو مكتوب علينا ، ولن نستطيع الفرار من ذلك المكتوب علينا . ولذلك فالمؤمن يتخذ موقفا محايدا وسيطا بين المصائب والمسرات التى تواجهه لأنها قدر مكتوب لا فرار منه ، ولذلك لا ينهار عند المصائب ولا يختال سرورا عند النعمة ، يقول تعالى " مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) ."الحديد . وطالما وقر في يقين المؤمن هذا فلن يخشى تهديد المستبد وحاشيته لأن المستبد يتعرض للمصائب والمسرات مثل كل انسان ، بل هو اكثر فزعا منها ، بل ان ضحايا بطشه تتحول الى كوابيس مفزعة وتحيل ليله ونهاره الى جحيم ، ويجعله اسيرا سجن الحراسة والخوف ، فكيف يخشى الناس من هو اكثر منهم خوفا وجبنا .؟؟
6 ـ الحرص على الحياة وغريزة حب البقاء غالبا ما يدفع الناس الى الصبر على الطغيان ، اذ يخشون الموت والقتل على يد الطاغية وزبانيته ، هذا مع انهم في النهاية لابد ان يموتوا ، واذا كانوا يخشون من الحكم عليهم بالاعدام ، فكل البشر محكوم عليهم بالموت والاعدام . وكل الشعوب التى استكانت للطغيان ماتوا وانتهوا الى نفس المصير الذي كانوا من أجله يخشون الطغيان ويرضون به املا في حياة لم تدم لهم ولن تدوم لغيرهم ، لأنها حياة مؤقتة نهايتها الموت . والقرآن يقول لكل من يريد لكل من يريد الفرار من الموت ان الموت لابد ان يقابله في طريق فراره " قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ (8) " الجمعة . ويقول " أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ (78) " النساء . وقد يقول قائل قائل ان من يصبر على الطغيان يخشى القتل لا الموت ، ولكن ليس هناك فارق بين القتل والموت ، فالأجل محدد بالزمان والمكان ولن يستطيع انسان ان يفلت من موعد موته ومن المكان المحدد له ان يموت فيه او يقتل فيه . وفي غزوة أحد قال بعضهم .. لو ظللنا في المدينة ما حدثت الهزيمة وما فقدنا القتلى والضحايا ، ورد عليهم القرآن " قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ (154) " آل عمران . اى ان الذي قدر الله عليه القتل سيذهب بنفسه الى المكان الذي حدده الله لمصرعه وفي نفس الوقت المحدد ، ولا يمكن ان يتخلف عن ذلك . و لا يستطيع المستبد ان يقتل احدا قبل موعد موته ، ولا تستطيع قوة في العالم ان تؤجل موعد موت احد او ان تزيد دقيقة في عمر أحد ، لأن أجل الموت اذا حلّ لا يمكن تأجيله او الفرار منه ، فذلك حكم الله " وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) " المنافقون ." إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4)" نوح . 7 ـ
إنّ لسان حال المؤمن يقول : اذا كان الله وحده هو النافع الضار الذي يبتلي بالخير والشر والذي بيده الموت والحياة والرزق والاعطاء والحرمان . فكيف اخشى غيره ؟ واذا كان الطاغية لا يختلف عنى في احتياجه لله تعالى وفي ان الله تعالى قادر عليه بقهره ويعطيه ويحرمه ، فكيف اخشى ذلك الطاغية ؟ وكيف اعصى الله تعالى في طاعتى وخضوعى لذلك الطاغية الذي يسلبنى حقي في شرع الله ؟ ؟. ولذلك فان المؤمن فى عقيدة الاسلام لا يمكن ان يكون سلبيا او خاضعا للاستبداد او مشاركا للمستبد في ظلمه واستبداده ، وطالما تسود عقيدة الاسلام الحقيقية فلا مجال لاستبداد او طغيان وحيث تربى المؤمن على تلك العقيدة ستجده ايجابيا في مواجهة الطغيان .
ثالثا : الشورى وايجابية السلوك عند المسلم :
1 ـ الطغيان السياسي يستند دائما الى طغيان دينى او مؤسسة تبارك ظلمه وتعطيه مشروعية دينية زائفة ، ويجنى رجال الدين المكسب تقديسا لذواتهم احياء وامواتا . و الشعب المقهور يدفن احزانه واحباطاته لدى العتبات المقدسة للأضرحة ويتوسل بالأولياء الموتى يرجوهم العون والمدد ، وتضيع اعمار الأجيال في انتظار حلم لا يتحقق ، والطغيان يزداد ويزداد معه نفوذ الهيئة الدينية وسلطانها وثرواتها ، ويزداد معها بؤس الشعب وهوانه .
هذا السكوت والخنوع والرضى بالمقسوم لا يمكن ان يوجد في مجتمع يقدس الله وحده ويخشاه وحده ويطلب منه المدد وحده ولا يستعين الا به ، فأياه تعالى يعبد ، واياه تعالى يستعين .. في ذلك المجتمع الحر لا مجال لتقديس البشر سواء كانوا حكاما في الدنيا ( اى السلاطين) او يعتبرهم ملوكا في الأخرة ( اى الأولياء والقديسين والأئمة )، وانما التقديس فيه لله وحده . وهذا الشعب الذي لا يخضع الا لله وحده لا يسمح بوجود شخص يدعى لنفسه ماليس له من حقوق الله او حقوق البشر .. وذلك الشعب يعيش حياته آمنا اذ ان مصيره في يده وليس متوقفا على نزوة فرد مستبد يستطيع ان يدمر الحاضر والمستقبل في لحظة . وكم يحفل تاريخا بأمثلة دامية لما احدثه حكم الفرد المستبد بثروة أمته البشرية والمادية ، ولو استطاع الشعب ان ينتزع حقوقه من ذلك الطاغية لتجنب الدمار والخزى والعار. ـ وما يحدث في تاريخنا المعاصر حدث قبل ذلك مع فرعون موسى النموذج الكلاسيكي لكل حاكم مستبد ، والذي ذكره القرآن اماما لكل حاكم مستبد ظالم ، ومعروف ان نتيجة استبداد فرعون وظلمه لم يدفعها فرعون وحده ، بل دفعه معه قومه وآله وجنده . وتتكرر قصة فرعون وملائه مع كل طاغية يدمر قومه لأنه لم يجد امامه من يقف في وجهه ويمنعه من العبث بكيان الشعب ومقدراته .
2 ـ والشعب المؤمن بالله تعالى – حق الايمان – يعلم ان الله تعالى أوكل المبادرة بالتغيير الى الانسان ، وجعل الارادة الالهية في احداث ذلك التغيير تالية او نتيجة للتغيير الذي يحدثه الانسان ، وهنا يكون التقدير الكامل للحرية الانسانية ، وتكون ايضا المسئولية الخطيرة الملقاة على عاتق الانسان. يقول الله تعالى يحذر من تكرار قصة فرعون وقومه " كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) ( الأنفال ). فالأية الاولى تتحدث عن مصير آل فرعون ، والآية التالية تتحدث عن اهمية العامل الانساني في التغيير ، وان الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . ويقول تعالى مؤكد على نفس القانون الالهى " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ (11) "الرعد . ولو قام الشعب بتغيير ما في الانفس من خضوع واستكانة وخوف وسلبية وتطاحن على الصغائر وأنانية وبحث عن المكاسب الشخصية دون نظر لمصلحة المجموع – لو تغيرت الأنفس من كل ذلك ، ولو تطهرت من كل ذلك لامتلك الشعب من اسباب القوة المعنوية التى يتحول بها الطاغية المستأسد الى قط أليف . والتراث الشعبى المصري له تاريخ طويل في الصبر على الاستبداد والخنوع له ، ومن هذه التجربة الطويلة يقول المثل الشعبى يفسر الطريقة المثلى لصناعة الفراعنة " قالوا لفرعون مين فرعنك ؟ قال مالقيتش حد يقف في طريقي.." وقد لا يوجد حاكم مستبد بالفطرة ، ولكن من المؤكد ان شعبا خاضعا مستكينا يخلق عشرات من الفراعنة ، وكلما هلك فرعون انتصب بعده فرعون ، ولا يمكن ان يتغير الحال الا اذا بدّل ذلك الشعب وغير ما بنفسه اولا ، وحينئذ تاتى ارادة الله بتنفيذ ذلك التغيير ومباركته .
3 ـ وذلك التغيير المطلوب لا يأتي الا عن طريق نهضة ثقافية فكرية او دعوة ترتفع بوعي الشعب توضح له حقوقه وترد على غسيل المخ الذي يقوم به الملأ والحاشية من خدم الحاكم المستبد . وترد على التأويلات الدينية للكهنوت الدينى الذي يخدم الاستبداد السياسي . او بمعنى آخر دعوة دينية سياسية ثقافية تهدف الى تغيير ما بأنفس الناس من سلبية وخضوع وانانية . وتلك الدعوة لن يسكت عنها المستبد وأعوانه والكهنوت الذي يخدمه ، واصحاب تلك الدعوة مرشحون لاتهامات سياسية ( الخيانة والعمالة ) واتهامات دينية ( الكفر والألحاد) وكلها تؤدي الى طريق واحد وهو القتل . ولأنها دعوة حق لا تمتلك الا الحجة والبرهان امام القوة والسلطان فالمنتظر ان تصادرها قوة السلطان المستبد بالقوة والقهر . ولكن اخمادها بالقوة وسفك الدماء لا يعنى اجتثاث جذورها لأن تجربة البشر التاريخية تثبت ان الاضطهاد هو اكبر عوامل انتشار الافكار واستمرارها ، وهكذا فكلما اسرف المستبد في مطاردة تلك الافكار القويمة وحربها واغتيال اصحابها ماديا ومعنويا انتشرت تلك الافكار وتنبه الشعب واستمع لها ، خصوصا وان الشعب الساكن الساكت يعرف التعاطف مع كل ما يكرهه الحاكم المستبد الظالم ، ويتعاظم تعاطفه مع اولئك الدعاة الابرياء المسالمين الذين يضطهدهم المستبد بالحديد والنار لمجرد كلمات يقولونها وصفحات يسطرونها . وباستمرار الاضطهاد بالحديد والنار تنتشر الدعوة السلكية أكثر وأكثر .. ويزداد انصارها .. وتتحول من الضعف الى القوة ، ومن الصبر على الأذى والأضطهاد الى المقاومة ورد الاعتداء . ويصبح التغيير امرا حتميا .. ليس تغيير الحاكم المستبد وحده .. وانما تغيير النظام المستبد برمته واستبدال نظام آخر يعبر عن الشعب وبخدم الشعب – اى نظام شورى – بالمفهوم الذي عرفه المسلمون في عصر النبي عليه السلام .
4 ـ فالنبي محمد عليه السلام ظهر في مكة حيث لم تكن فيها دولة بالمعنى المألوف ، ولكن نوع من الحكومة القبلية تقوم على البيت الحرام وتتكسب من ايرادات الحج اليه ومن الاصنام المقامة حوله ، وتكونت تلك الحكومة من اشراف قريش ، ولم يكن للضعفاء دور الا مجرد الخدمة بجانب الرقيق والعبيد ، وجاءت دعوة الاسلام فاعتبرتها قريش تهديدا لوضعها الاقتصادي والاجتماعي في مكة وفي الجزيرة العربية .. وقابلت الدعوة الجديدة بالاضطهاد ، وأدي الاضطهاد والأذى الى نشر الدعوة وتحولها الى هجرة ودولة ، ثم اصبحت الدولة الجديدة – برغم استمرار الحصار حولها – موطنا لكل الاحرار ، وانتصرت في النهاية . والقرآن الكريم صاحبت آياته الكريمة خطوات النبي في مكة وفي المدينة .. وعلى اساسه تربى المسلمون وعرفوا الشورى ضمن قيم أخرى عظيمة ، وتعلموا من القرآن السلوك الايجابي في مقاومة الظلم والاستبداد .. كما تعلموا منه عدم الاعتماد على الغير وان يكون الجهاد بهدف تقرير حرية العقيدة في الايمان وفي الكفر ، وتلك قصة اخرى تتداخل احيانا مع موضوعنا عن الشورى .
5 ـ والفلاسفة العمليون والخياليون يقولون ان وظيفة الدولة هي اقامة العدل ، والقرآن يؤكد هذه الحقيقة ، بل يجعل الهدف من ارسال الانبياء والرسل وانزال الكتب السماوية هو ان يقوم الناس بالقسط والعدل ، يقول تعالى " لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ (25) " . (الحديد ). وقيام الناس بالقسط معناه ان لا يكون هناك حكم مستبد ولا طائفة او طبقة تحتكر لنفسها الروة والسلطة .و قيام الناس بالقسط و العدل معناه سريان قاعدة العدل في التعامل مع الله تعالى فلا مجال لاتخاذ اولياء وآلهة مع الله من البشر والكهنوت السياسي والكهنوت الديني .وتسرى قاعدة العدل في التعامل السياسي والاجتماعى والاقتصادي ، وذلك في التعامل البشري يستلزم نظاما للتشاور والديمقراطية يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه بحيث تسير الأمور على قاعدة الشفافية والصراحة والمساواة واعطاء كل ذي حق حقه . واذا تحقق هذا فان المجتمع الذي يريده القرآن قد تحقق .. وتلتقى بذلك احلام الفلاسفة والمصلحين مع الهدف من اقامة الشرع والدين .
6 ـ فكيف اذا لم يتحقق ذلك الهدف .؟ كيف اذا احتكرت طائفة الثروة والقوة والسيطرة واستبدت بالأمر وأكلت على الناس حقوقهم في الثروة وفي المشاركة السياسية ؟ وكيف اذا سيطرت تلك الفئة على مقاليد السلطة واصبح زحزحتها عن السلطة لأقامة العدل وتستلزم اللجوء للقوة والحديد والنار ؟ هل يكون مشروعا ان يلجأ المستضعفون للحديد والنار لتحقيق ميزان العدل ؟ … القرآن الكريم يقول نعم ؟؟‍‍!!.نرجع الى الاية السابقة ونكملها الى نهايتها : لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد . فكما ارسل الله تعالى الرسل وكما انزل الكتاب ليكون ميزانا للقسط والعدل فكذلك انزل الحديد الذي فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وبالحديد يستطيع من يريد العدل المفقود ان ينصر الله تعالى ورسله ويقيم شرعه . وهنا تصل ارادة التغيير الى ذروتها ، بأن يتحول تغيير ما في النفس الى تغيير الواقع واقامة العدل بدلا من الظلم ، وتأسيس حكم الشعب على اشلاء استبداد الفرد . وبعد ان كان المستبد يحاور ويشاور نفسه اصبح الشعب يستشير نفسه ويملك مصيره بيده ولا يخضع الا للخالق وحده جل وعلا ، هذا ما ينبغى ان يكون .
7 ـ ولكن الأغلب ان الثائرين على الحاكم المستبد يجيدون فن اللعب على آلام الشعب وحين يصلون به للسلطة يعيدون سيرة الاستبداد والظلم ، وينتظر الشعب ثائرين آخرين يعيطيهم ثقته ليتخلص بهم من المستبدين الجدد . وتظل مسيرة الظلم مستمرة طالما ان الشعب سائر في غفلته وسلبيته مكتفيا بالتفرج على الصراع بين القائم في الحكم والطامع في الحكم .،وطالما ظلّ الوعى الشعبي قاصرا لم يرتفع بالناس الى درجة الاحساس بالمسئولية الجماعية وضرورة التصدي لها بوضع نظام للشوري قائم على العدل وخضوع السلطة التنفيذية للشعب وتداول السلطة في اطار خدمة الشعب . وقد شهدنا في تاريخنا المعاصر قيام ثورة عسكرية ترفع شعارات اجتماعية وسيلة لتحظى باجتماع الشعب حولها ، وتحولت الثورة الى دولة مستبدة تحطمت على قلعتها السميكة كثير من الأحلام الاجتماعية والسياسية التى طالما نادت بها .. وجاء ثوار جدد يرفعون شعارات دينية سياسية جديدة ، والخطورة في اولئك الثوار انهم لا يخفون رغبتهم في العودة لتراث العصور الوسطى حيث سادت مفاهيم الحاكمية والراعي المسئول عن رعيته امام الله وحده والذي لا يسال عما يفعل ، والذي يملك الأرض ومن عليها ، واقام الجناح المدنى لاولئك الثوار دولة موازية للدولة القائمة وسيطر على الاعلام والتعليم ، واتيح له بذلك ان يصيغ المجتمع والشباب على مفاهيم العصر العباسي التى تخالف القرآن وما كان عليه النبي عليه السلام . وبذلك تم قلب الحقائق ، فأصبح الاسلام القائم على السلام عنوانا للأرهاب وسفك الدماء ، وتحولت سماحة الاسلام الى تعصب ، وابدلوا الشورى الاسلامية الى الحاكمية والاستبداد … وندخل بذلك الى موقع الشورى في عقيدة الاسلام ورسوم العبادة فيه ، ليتضح الفارق بين الاسلام الحق وذلك الزيف الذي يخدعون الناس به .
رابعا : موقع الشورى في عقيدة الاسلام ورسوم العبادة :
الشورى في عقيدة الاسلام :
1ـ اشرنا فيما سبق الى صلة الشورى بعقيدة الاسلام ، فالله تعالى هو وحده الذي لا يسال عما يفعل ، لأن الاله هو الذي لا يملك احد مساءلته ، وتلك صفة يتميز بها عن المخلوقات ، ولذلك يقول تعالى في معرض انفراده وحده بالالوهية ": (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) الأنبياء ) ، أي لو كان هناك آلهة مع الله لفسد نظام الكون ، من السموات والارض وتقول الآية التالية عن الله تعالى : ( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) الأنبياء ) . وهنا ارتباط بين وحدانيته تعالى وانفراده وحده تعالى بأنه الفعّال لما يريد دون ان يكون مسئولا عما يفعل امام غيره ، اما اولئك الغير فهم مسئولون امام الله خالقهم في يوم الحساب . وتتعاظم مسئولية البشر بقدر ما يناط بهم من اختصاصات ، ولذلك فالانبياء – مثلا- اكبر مسئولية من الافراد العاديين ، والله تعالى يقول عن مسئولية الانبياء والبشر " فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) الاعراف ) . اى ان مسئولية الامم التى ارسل اليها الانبياء في كفة وتعادلها في كفة أخرى مسئولية الانبياء ، وهذا بالنسبة لليوم الآخر ، والدنيا يقاس حالها على حال الآخرة ، وحقوق العباد يقاس اعتبارها على حقوق الله تعالى ، بل ان الله تعالى يجعل العقوبات الدنيوية في تشريع الجرائم ، فيما يخص حقوق العباد من السرقة والزنا والقتل والقذف .
2 ـ والاستبداد هو نوع من ادعاء الالوهية ، فالشخص المستبد يرفع نفسه فوق النبي الذي كان مأمورا بالشورى .. والمستبد المتأله يبدأ بزعم انه قائد ملهم ، وينتهي به الأمر الى انه يحكم بتفويض الهى ، او بمفهوم الحاكمية او الحق الملكى المقدس الذى عرفته اوربا في العصور الوسطى وعرفه المسلمون في الخلافة العباسية . و لو كان هناك تفويض الهى بالسلطة السياسية فان النبي محمدا كان هو الأولى بذلك التفويض حين كان قائدا في المدينة . والمعروف ان الحاكم الديمقراطي يستمد سلطته من الناس الذين يملكون توليته ويملكون مساءلته ويملكون عزله . ونطرح هنا قضية مصدرية السلطة ، هل هي من الله كما يقول دعاة الاستبداد الثيوقراطي او الحاكمية ؟ او هى من الناس والشعب كما تؤكد الديمقراطية الحديثة . وبمعنى آخر ، ونحن نتحدث عن الشورى في الاسلام وفي عقيدته القائمة على انه لا اله الا الله ، هل كان النبي ( وهو صاحب الوحى السماوي ) يحكم المدينة بتفويض الاهى ويستمد سلطته السياسية من الله ؟ ام يستمد سلطته السياسية من اجتماع الناس حوله ؟ . الذي يتبادر الى الذهن انه كان يستمد سلطته السياسية من الوحى الالهى ومن التفويض الالهى لأنه كان نبيا حاكما وكان الوحى يصاحب خطواته وحركاته . وذلك الرأى يسعد أنصار الاستبداد الديني ويرونه مؤكدا لنظرية الحاكمية ، وقد يرد عليه انصار الشورى والحرية السياسية ان ذلك يعتبر خصوصية للنبي لأنه كان نبيا اولا وحاكما ثانيا ، ولأنه ليس بعد محمد عليه السلام نبي ولأنه خاتم النبيين فأن التفويض الألهى بالحكم انتهي يموته لأنه لا وحى بعد كتاب الله ولا نبي بعد خاتم النبيين . ولكننا نعرض صفحا عن هذا الرأى ، ونعود الى الآية الكريمة التى امرت النبي بالشورى ، فهى قبل ان تأمره بالشورى أكدت على التربة تنبت فيها شجرة المشورة وتثمر ، وتلك التربة هى استمرارية السلطة ومصدريتها ، هل هى من الله بالتفويض الالهى او من الناس .
والآية الكريمة تقول : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) آل عمران ) والشاهد في الآية الكريمة قوله تعالى : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) فقد جعله الله لينا هينا معهم ولم يجعله فظا غليظ القلب ، لأنه لو كان فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله . وماذا يحدث لو انفضوا من حوله ؟ لن يكون له سلطان ولن تكون له دولة ، وما كان حاكما مطاعا ، اذا فاجتماعهم حوله هو الذي اقام له دولة وجعل له سلطة ، وقبل ذلك كان في مكة مضطهدا ، واذا انفضوا عنه عادت اليه قصة الاضطهاد والمطاردة . اذن هم مصدر السلطة له باجتماعهم حوله ، وليست مصدرية السلطة بتفويض الله تعالى له ، ويكفي ان الله تعالى هو الذي جعله لينا هينا مع الناس حتى تجتمع عليه قلوب الناس ، وحذره من ان يكون فظا غليظ القلب حتى لا ينفضوا من حوله ، وامره ان يعفو عنهم وان يستغفر لهم وان يشاورهم في الأمر ، لأنهم شركاؤه في الأمر ولأنهم مصدر سلطته وكيان دولته واسباب عزته وقوته . وهكذا فإن امر الله تعالى له بالشورى تأكيد على استمدادية السلطة من الناس ، الذين اجتمعوا حول النبي ، وألف الله تعالى بين قلوبهم فأصبحو بنعمته اخوانا ، والله تعالى يمتن على النبي أنه جعله رحيما هينا بالناس حوله وأنه الف بين قلوبهم ، ولو أنفق النبي ما في الارض جميعا ما استطاع ان يؤلف بين قلوب الذين آمنوا معه : ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) الانفال ) . ومعناه ان العناية الالهية تركزت على الشعب الذي اقام النبي في وسطه حاكما عليه . ركزت بتأليف قلوبهم وبجعل النبي لينا معهم ، والهدف ان يكونوا مع النبى قلبا وقالبا .. والمعنى انهم مصدر السلطة ، ولأنهم لو انفضوا من حول النبي وتركوه فلن تكون له دولة .. ولن تكون له ايضا … دعوة . واذا كان هذا حال النبي وهو يحكم المدينة .. فكيف بغيره من البشر ؟ واذا كان النبى لم يدع التفويض الالهى في الحكم ، واذا كان القرآن أكد على استمداده السلطة السياسية من الناس فأى حجة لأصحاب الحكم الثيوقراطي والاستبداد الدينى والكهنوت السياسي ؟
الشورى في رسوم العبادة الاسلامية :
ظهر كما سبق ان الشورى عنصر من عناصر العقيدة الاسلامية ، فالله تعالى هو وحده الذي لا يسأل عمل يفعل ، والنبي نفسه كان مأمورا بالشورى ويستمد سلطته السياسية من الشعب ، وذلك المستبد يقتفي أثر فرعون ويسير في طريق ادعاء الألوهية . والمؤمن بالله ايمانا حقيقيا لا تشتمل عقيدته على الاعتقاد في حاكم مؤله مستبد ولا يرضى بالخضوع له . وطالما ان للشورى هذا القسط في عقيدة الاسلام فالمنتظر ان يكون لها نصيب في تشريعاته ورسوم العبادة فيه ، اى ان تكون الشورى فرضا من فرائض الاسلام ، فرضا لازما كالصلاة والزكاة . ونستغرب من هذا الكلام . هل الشورى فرض من الفروض كالصلاة والزكاة ، او فريضة اسلامية على كل انسان ؟ واذا كانت كذلك فلماذا سكت عنها الفقهاء ؟
نبدأ بالجواب عن السؤال الثانى : لقد سكت عنها الفقهاء لأن الفقه وباقى مصادر التراث ومؤلفاته – كالحديث والتفسير – قد صيغت في عصور الاستبداد السياسي – الذي لم يكن قصرا على الحكام ، بل ان الثوار على الحكام – من الشيعة وغيرهم – كانوا يؤمنون بالاستبداد بل كانت العصور الوسطى كلها تنبض بالحق الالهى للسلطان ، سواء الخليفة العباسي أو الفاطمى او امبراطور الدولة الرومانية المقدسة او ملك انجلتره او فرنسا . والاستثناء الوحيد كان في دولة الاسلام الأولى التى كان القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يعبر عنها .
والجواب على السؤال الأول : ان القرآن الكريم في آياته المكية أوضح صفات المجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية قبل ان يقيم المسلمون دولتهم في المدينة . يقول تعالى في سورة ( الشورى ): (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) الشورى ) . والمعنى ان المجتمنع المسلم له متاع الحياة الدنيا ، وله ايضا ما عند الله تعالى من متاع الآخرة التى هى خير وأبقى . ولكى يستحق هذا المجتمع خير الدنيا والآخرة معا فلابد أن يتصف بعدة صفات هى الأيمان والتوكل على الله تعالى واجتناب الكبائر والفواحش ، والعفو عند المقدرة ، وطاعة الله تعالى والاستجابة له ، واقامة الصلاة واقامة الشورى والزكاة والعزة او الانتصار عندما يقع عليهم بغى او عدوان .
وتلك الصفات يمكن تقسيمها الى صفات ايمانية وصفات اخلاقية وعبادات ، فالصفات الايمانية هى قوله تعالى " للذين آمنو وعلى ربهم يتوكلون " ، والذين استجابوا لربهم " والصفات الأخلاقية " والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون " ، : والذين اذا اصابهم البغي هم ينتصرون " . اما العبادات فهى الصلاة والشورى والزكاة او قوله تعالى " واقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون " .
والمعنى ان الشورى جاءت فريضة بين أشهر فريضتين من فرائض الاسلام وهما الصلاة والزكاة ، وهى المرة الوحيدة التى جاء فيها فاصل بين الصلاة وايتاء الزكاة معا وبالترتيب وبدون فاصل بينهما ، وهى المرة الوحيدة التى جاء فيها ذكر الشورى مع الصلاة والزكاة ليؤكد رب العزة على أنها فرض تعبدي مثل الصلاة والزكاة وبنفس الملامح .
فاذا كانت الصلاة فرض عين لازما واجبا فكذلك الشورى واذا كانت الصلاة واجبة على كل مسلم ومسلمة وجوبا ذاتيا وشخصيا وعينيا فكذلك الشورى ، واذا كانت الصلاة واجبة في كل الأحوال في السفر والحضر وفي الصحة والمرض وفي السلم وفي الحرب .. فكذلك الفصل الأول : أصول الشورى في الإسلام
أولا – ماهية الشورى في المنظور القرآني :الشورى فى الاسلام : فنّ ممارسة السلطة والقوة
1 ـ الشورى عندنا تقابل الديمقراطية في التراث الغربي .. وقد يجادلنا البعض في هذه المقولة ، وذلك ليس مستغربا ، لأن الديمقراطية نفسها في التطبيق الغربي تختلف من دولي لأخرى ، فشتان بين ديمقراطية إنجلترا وديمقراطية فرنسا ، وبينها وبين أمريكا قمة الديمقراطية في العالم ، آو هكذا يقولون . تتعدد الديمقراطيات الغربية ، ولكنها تشترك في أسس عامة – في الأغلب- تقوم على مسئولية السلطة التنفيذية أمام ممثلي الشعب .. بما يعني خضوع الحاكم للشعب أو ممثليه .. واستمداده السلطة منه أو منهم .. أو هكذا يقولون . ولسنا في مجال المقارنة بين الشورى الإسلامية في المنظور القرآني والديمقراطية الغربية النيابية ، ولكن نتوقف مع القدر المشترك بينهما وهو المعنى الحقيقي للشورى والديمقراطية ، وهو فن ممارسة السلطة والقوة ، لأن الجهة التي يخضع لها الحاكم هي المصدر الحقيقي للسلطة والمنبع الذي يستمد منه الحاكم سلطانه .
2 ـ إن الحكم هو القوة والسلطة .. أو ممارسة القوة والسلطة .. والعلاقة بين الحاكم والشعب تحدد من هو صاحب القوة والسلطة ومدي وجود الشورى (أو الديمقراطية ) في تلك العلاقة .
• هناك الحاكم المستبد الذي يتأثر بالقوة والسلطة ، وليس لشعبه عنده وزن ، بل يعتبر نفسه وصيا على ذلك الشعب الذي لم يبلغ بعد درجة المسئولية والأهلية ، وهذا الحاكم المستبد يعتبر نفسه مصدر السلطات كلها ، فهو نفسه مجلس الشورى والمشير وهو المستشار وهو الحاكم بأمره في كل شئ ، ومن هنا تكون المشورة في نطاق سلطاته التي يمنحها لنفسه ، غاية ما هنالك انه يستشير نفسه أو يعين مجموعة من الخدم لتفكر له فيما يرضيه .. وعلى الشعب الطاعة لأنه مجرد من القوة ، فقد احتكر الحاكم القوة لنفسه .
• ولكن قد يحس الشعب ببعض الوعي ويستحوذ على بعض التأثير والقليل من القوة مما يجعل الحاكم المستبد يضطر لتقديم بعض التنازلات تتناسب مع بعض القوة التي ينتزعها الشعب لنفسه ، ولذلك تتغير مجالس الشورى ، من مجرد العبيد والخصيان الذين يتفانون في التفكير لأرضاء الملك المستبد ألي مجالس شورى لها بعض الحرية في الحركة ألي دور أكبر ، وهذا مرهون بقدرة الشعب على انتزاع حقوقه ، وهل يرضى الشعب بوجود مجالس صورية تعطى شرعية زائفة لدكتاتورية الحاكم وتغطي عورة الاستبداد ، أم تتطور هذه المجالس لتحاسب الحاكم وتقلص سلطاته .. وفي كل الأحوال فالشورى هنا هي فن ممارسة القوة .. وتلك الممارسة يتجاذبها الشعب والحاكم كل منهما بحسب ما لديه من قوة وصمود .
• وقد تكون القوة – كل القوة – للشعب ، فيفرض سلطانه على الحكومة ويعين الحاكم ويسائله ويعزله ويعين بدله ويراقبه ويحاكمه ، والحاكم هنا يعتبر نفسه موظفا في خدمة الشعب ، أجير لديه ، والشعب هنا يمارس بمشورته فن القوة .
وهكذا فلدينا ثلاثة أنواع من الشورى :
• الشورى الحقيقية للشعب القوى الذي يملك إرادته بنفسه والذي يقوم بتعيين الحاكم ويعتبره أجيرا لديه ويحاسبه ويقرأ ويعزله ويعاقبه إذا اخطأ .
• والشورى الصورية لحاكم يدعى التمسك بالديمقراطية وهو يضطر لذلك لمواجهة الانتقادات واحتمالات التمرد من بعض طوائف شعبه ، ويدور صراع ( القوة) بين الحاكم والشعب وبقدر ما للشعب من قوة وصمود ينتزع حقوقه في المشاركة والشورى.
• و أخيرا لدينا الدكتاتور الفج المطلق الذي يحكم بالقوة ويستشير نفسه أو خدمة وحاشيته والشعب مجرد قطيع وقع في أسره وتحت هيمنته وسيطرته ، حيث احتكر ذلك المستبد لنفسه القوة ومارس من خلالها الشورى .. لنفسه .
إذن فالشورى هي لعبة القوة أولا و اخيرا .. القوة بكل أشكالها ، قوة السلاح وقوة المال وقوة التأثير في الجماهير .. وقوة الجماهير نفسها أو ضعفها وقوة الحاكم أو قوة شعبه . وحيث توجد القوة تكون القدرة على المشورة ، لأن المشورة هي فن ممارسة القوة . وهذه هي ماهية الشورى في المنظور القرآني . ومن هنا كانت تنشئة المؤمنين على أتساس القوة ، وكانت المشورة نابعة من عقيدة الإسلام القائلة انه " لا اله إلا الله " .
3 ـ وقبل أن ندخل في أسلوب القرآن في تربية وتنشئة الشورى في تكوين العقل المسلم . نتوقف مع بعض الآيات القرآنية التي تؤكد علاقة الشورى أو ( الاستبداد) بالقوة مما يعنى أن الشورى هي فن ممارسة القوة .
ففرعون موسى وصل به الاستبداد ألي درجة ادعاء الألوهية والربوبية الكبرى " فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى (24) " (النازعات ) " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي (38) " القصص .وبذلك الاستبداد الذي وصل به ادعاء الألوهية كان يتعامل مع الحاشية حوله ، أو الملأ الذي يفكر فيما يرضى الفرعون ، وكانت آراء الملأ أو الحاشية تأتى طبقا لما يريده الفرعون حتى أن القرآن الكريم ينسب الأقوال الواحدة مرة لفرعون ومرة أخرى للملأ ليدل على أن الملأ أو الحاشية جزء لا يتجزأ من الفرعون ، وان فرعون حين كان يستشيرهم لا يسمع صدى صوته أو صدى صوتهم: راجع سورة الأعراف (قَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) ) وسورة الشعراء : ( قَالَ لِلْمَلإٍ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهِ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) . أيضا راجع سورة الأعراف ( وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) ، وسورة غافر ( فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وفي النهاية فان فرعون يقول لهم " ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد " قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ (29) غافر . أي انه لا يتصرف ألا برأيه ، ورأيه هو الهدي وسبيل الرشاد ، وذلك هو نهاية المطاف في الشورى عنده .
والأرضية التي كان يستمد منها فرعون سلطته الاستبدادية أو يمارس من فوقها فن الشورى هي انفراده بكل عناصر القوة . والتاريخ الفرعوني يؤكد أن عصر الزعامة – ومنهم فرعون موسى – شهد انفراد الفرعون بالملك والحكم وقيادة الجيوش وتحول مصر ألي وحدة واحدة في قبضة الفرعون على حساب حكام المقاطعات الذين اصبحوا خدما للفرعون. والقرآن يؤكد على أن هذه المعاني قبل أن يكتشفها علم المصريات بعشرة قرون . فالقرآن يؤكد أن فرعون موسى عقد مؤتمرا حاشدا لقومه وأعلن فيهم انه وحده يملك مصر وخيرها " وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) الزخرف . والقرآن يؤكد النزعة الحربية لفرعون وقيادته للجيوش التي كانت أقوى جيوش ا"لأرض ، يقول تعالى عنه : (وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) " القصص . وكانت صفة الجندية من صفات فرعون موسى في القرآن " هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) " البروج . " وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً (90) " يونس . " فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنْ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) " طه . " فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) " القصص / فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) الذارات . أي ارتبط فرعون بالجنود وكانوا جنوده … أي يملكهم ويقودهم ، وبذلك اجتمع لفرعون ملك مصر وقوتها الحربية .
ولذلك كانت سلطته طاغية ، وكانت رهبته ما حقه ألي درجة أن موسى خاف مواجهته وطلب من الله تعالى أن يبعث معه أخاه هارون ، ولكن الخوف تملكها معا من مواجهة فرعون فأمرهما الله تعالى أن يذهب إليه ، " اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) " طه .
4 ـ ونصل ألي درجة اقل استبدادا ، حكاها القرآن في قصة ملكة سبأ . وكان استبداد هذه الملكة مستمدا من ملكيتها لكل شئ ؟ يقول القرآن عنها فى سورة النمل " إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) " . لذلك كان الملأ – أو الحاشية حولها – يدينون لها بالولاء ، وحين استشارت الملأ أكدوا لها أنها صاحبة الأمر " قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) " . النمل . كانت تطلب رأي الملأ من قادة الجيش أولى البأس الشديد لتتوثق من تأييدهم لها ، وجاءها التأكيد بالولاء المطلق لكل ما تراه .. أي كانت المشورة محصورة في الملكة والملأ حولها أما الشعب الذي يتربعون على صدره فلم يكن له من الأمر شئ .. لأن الشعب كان مملوكا للملكة. وقد تسلمت الملكة رسالة النبي سليمان نيابة عن ذلك الشعب ، مثلما كان موسى مرسلا الي فرعون وليس للشعب المصري ، لأن الشعوب في تلك العصور كانت مجرد رعية من الخراف والمواشي يملكها الحكام المستبد . ونزل القرآن لكي يحول تلك الرعية ألي بشر مسئولين أحرار . وندخل بذلك على أسلوب القرآن في تربية الفرد المسلم والأمة المسلمة على أساس الشورى . ليدخل به في عصر جديد .
ثانيا – الشورى في تربية المسلم :
1 ـ البداية في عقيدة الإسلام : إلا اله إلا الله ، والتي تعنى أن البشر كلهم عباد الله ، ولا يجوز لإنسان مهما كان أن يسمو فوق مستوى البشر ويصير إلها مع الله . لأن لا اله مع الله ولا اله إلا الله . وصلة الشورى هنا أو نظرية الشورى القائمة على إنها فن ممارسة القوة أن الله تعالى وحده هو الذي بيده ملكوت كل شئ وانه القاهر فوق عباده وان له القوة جميعا ، لذلك فهو وحده الذي لا يسأل عما يفعل وما عداه يمكن مساءلتهم ، فالقاهر فوق عبادة لا يمكن أن يسائله عباده ، ولا يمكن أن ينتظر منه عباده أن يكونوا شركاء له في ملكه وسلطانه أو أن يستشيرهم في أي أمر من أموره ، لذلك فأنه تعالى هو الفعال لما يريد وهو يأمر عباده وعليهم الطاعة والخضوع . وذلك الذي يحكم مستبدا وينتظر من الناس أن يطيعوه ويخضعوا له إنما ينتحل لنفسه صفة من صفات الله تعالى .
2ـ والله تعالى خلق البشر أحرارا في أن يطيعوا أمره أو أن يعصوا شرعه ، وفي مقابل حرية الإرادة التي يتمتع بها الإنسان فانه سيأتي أمام الله تعالى يوم الدين آو يوم الحساب ليحاسبه ربه على طاعته آو عصيانه . وهكذا فإن الخالق القاهر فوق عباده الذي بيده ملكوت كل شئ هو الذي شاء آن يكون العباد أحرارا في الطاعة والمعصية ولم يلزمهم بقهره وجبروته في الدنيا على الطاعة مكتفيا بمسئوليتهم يوم القيامة على اختيارهم في حياتهم الدنيا . وإذا كان الخالق جل وعلا لم يتدخل في حرية البشر في الطاعة والمعصية فانه من الحمق آن يخضع البشر باختيارهم لواحد منهم ادعى لنفسه ما ليس له من صفات الله ، واستولى لنفسه ما ليس له من حقوق الآخرين في الثروة والسلطة واحتكرها لنفسه دونهم وأرغمهم على طاعته من دون الله ، بل وانتزع لنفسه ما رغب عنه رب العزة وهو التحكم في حرية الناس ومصادرتها .
3 ـ ثم إن الله تعالى حين خلق الأرض وقدّر فيها الأقوات فانه جعل الأقوات آو الإمكانات المادية حقا مشاعا للجميع لجميع الخلق الساعين للرزق السائلين عنه ، يقول تعالى عن الأرض " وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) " فصلت . آي كل الإمكانات في الأرض حق لكل البشر وليست حكرا على واحد بعينه آو جيل محدد وإنما هي للبشر جميعا سواء لكل السائلين الباحثين عنها . ولكن البحث عن تلك الموارد والسعي في ذلك الرزق يتفاوت من شخص لآخر حسب الإمكانيات الجسدية والعقلية وحسب طبيعة المكان وما فيه من ثروات ، والقران يعترف بذلك التفاوت بين الناس في الرزق " وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ (71) " النحل . ولكن القرآن في نفس الوقت يضع التشريعات الاقتصادية التي تمنع تركيز الثروة في يد فئة أو شخص ، أو بتعبير القرآن " كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ (7) " الحشر . فحيث تتركز الثروة والقوة في يد فئة بعينها على حساب أخرى ينشا الترف والاستبداد ، ويأتي الحاكم المستبد والملأ الذين حوله . وبالتالي فان وجود فئة مترفة حاكمة تفرز الاستبداد يعتبر خروجا على شرع الله تعالى .
4 ـ والمؤمن يقول في صلاته يخاطب ربه ج وعلا " إياك نعبد " أى انه لا يعبد مع الله أحد ، والعبادة تعنى أيضا الخضوع والذل والدعاء . صحيح أن البشر يتصارعون حول اكبر كمية من الرزق ويتقاتلون في سبيل اكبر نصيب من الممتلكات والمتع ، ولكن ينسى الإنسان انه مهما جمع من أموال وممتلكات فأنه سيتركها للموت أو تتركه بالخسارة ، وان أمواله التي يتركها لذريته من بعده ستسهم في فسادهم وتنازعهم ، كما أنّ إمكاناته الجسدية لا تساعده على اغتراف ما يشاء من مُتع ، وحتى لو قضى حياته يغترف من المتع فأنه يفقد الإحساس بها ويستهلك جسده وحيويته سريعا ولا يبقى له مع الأرض إلا الندم والحسرة في نهاية العمر . وفي النهاية فإن الرزق الذي ضمنه الله له هو مقدار ما يأكل وما يشرب وما يغطى جسده وما يستهلكه ، وفي ذلك لا يستطيع إنسان أن يأخذ فوق طاقته . وعليه فالمؤمن يعتقد أن لكل إنسان بطاقة رزق إلهية أو ( كارت) مسجل فيه مقدار ما يستهلكه من حطام الدنيا وأموالها ، ومنذ ولادته وهو ينفق من هذه البطاقة ألي آخر ما بتنفسه من هواء في الدنيا ، وحينما يتوفى آخر مقدار مقدر له من رزقه ومن عمره وعمله .. يموت ويتوفى ، وذلك معنى الوفاة . وهكذا فالمؤمن يدرك انه إذا صار من الملأ أو حاشية السلطان أو إذا صار من أعداء السلطان فان ذلك لن يغير شيئا في كمية الرزق المسجلة في بطاقته ، وان السلطان لا يملك أن يزيد في رزقه شيئا ، ولو أعطاه السلطان الملايين مما ليس مكتوبا في بطاقة رزقه فان تلك الملايين لن تصل الى جوفه ، قد يصيبه موت او افلاس او مرض او نكبة او مصادرة لأمواله ولن يأخذ شيئا من هذه الملايين الا الوزر ، او الذنب الذي دفعه في مقابل تأييد الظالم في استبداده وظلمه . ولسان حال المؤمن يقول : اذا كان الرزق من الله وحده ، وقد حدده ربى سلفا قبل ان يخلقني فلماذا أؤيد حاكما مستبدا ظالما لن أستفيد منه في شئ في رزقي ، ولن اجنى منه الا اللعنة؟.
5 ـ وقد يهلل الناس للمستبد خوفا من الاضطهاد والابتلاء ، ولكن المؤمن يعلم ان الابتلاء يأتى من الله وحده ، وقد يكون الابتلاء للناس بالخير او بالشر " وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً (35) " الانبياء . وكشف ذلك الابتلاء يأتى ايضا من الله وحده " وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) " الانعام . ثم ان الابتلاء والمصائب والمسرات شانها شأن الرزق كلها مكتوبة ومسجلة قبل ان نولد ولا مناص من مواجهتها لأنها قدر مكتوب . يقول تعالى " قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ (51) " التوبة . اى انه من بين كل المصائب التى نتوقعها ويهددنا بها الآخرون فلن يصيبنا منها الا ما هو مكتوب علينا ، ولن نستطيع الفرار من ذلك المكتوب علينا . ولذلك فالمؤمن يتخذ موقفا محايدا وسيطا بين المصائب والمسرات التى تواجهه لأنها قدر مكتوب لا فرار منه ، ولذلك لا ينهار عند المصائب ولا يختال سرورا عند النعمة ، يقول تعالى " مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) ."الحديد . وطالما وقر في يقين المؤمن هذا فلن يخشى تهديد المستبد وحاشيته لأن المستبد يتعرض للمصائب والمسرات مثل كل انسان ، بل هو اكثر فزعا منها ، بل ان ضحايا بطشه تتحول الى كوابيس مفزعة وتحيل ليله ونهاره الى جحيم ، ويجعله اسيرا سجن الحراسة والخوف ، فكيف يخشى الناس من هو اكثر منهم خوفا وجبنا .؟؟
6 ـ الحرص على الحياة وغريزة حب البقاء غالبا ما يدفع الناس الى الصبر على الطغيان ، اذ يخشون الموت والقتل على يد الطاغية وزبانيته ، هذا مع انهم في النهاية لابد ان يموتوا ، واذا كانوا يخشون من الحكم عليهم بالاعدام ، فكل البشر محكوم عليهم بالموت والاعدام . وكل الشعوب التى استكانت للطغيان ماتوا وانتهوا الى نفس المصير الذي كانوا من أجله يخشون الطغيان ويرضون به املا في حياة لم تدم لهم ولن تدوم لغيرهم ، لأنها حياة مؤقتة نهايتها الموت . والقرآن يقول لكل من يريد لكل من يريد الفرار من الموت ان الموت لابد ان يقابله في طريق فراره " قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ (8) " الجمعة . ويقول " أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ (78) " النساء . وقد يقول قائل قائل ان من يصبر على الطغيان يخشى القتل لا الموت ، ولكن ليس هناك فارق بين القتل والموت ، فالأجل محدد بالزمان والمكان ولن يستطيع انسان ان يفلت من موعد موته ومن المكان المحدد له ان يموت فيه او يقتل فيه . وفي غزوة أحد قال بعضهم .. لو ظللنا في المدينة ما حدثت الهزيمة وما فقدنا القتلى والضحايا ، ورد عليهم القرآن " قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ (154) " آل عمران . اى ان الذي قدر الله عليه القتل سيذهب بنفسه الى المكان الذي حدده الله لمصرعه وفي نفس الوقت المحدد ، ولا يمكن ان يتخلف عن ذلك . و لا يستطيع المستبد ان يقتل احدا قبل موعد موته ، ولا تستطيع قوة في العالم ان تؤجل موعد موت احد او ان تزيد دقيقة في عمر أحد ، لأن أجل الموت اذا حلّ لا يمكن تأجيله او الفرار منه ، فذلك حكم الله " وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) " المنافقون ." إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (4)" نوح . 7 ـ
إنّ لسان حال المؤمن يقول : اذا كان الله وحده هو النافع الضار الذي يبتلي بالخير والشر والذي بيده الموت والحياة والرزق والاعطاء والحرمان . فكيف اخشى غيره ؟ واذا كان الطاغية لا يختلف عنى في احتياجه لله تعالى وفي ان الله تعالى قادر عليه بقهره ويعطيه ويحرمه ، فكيف اخشى ذلك الطاغية ؟ وكيف اعصى الله تعالى في طاعتى وخضوعى لذلك الطاغية الذي يسلبنى حقي في شرع الله ؟ ؟. ولذلك فان المؤمن فى عقيدة الاسلام لا يمكن ان يكون سلبيا او خاضعا للاستبداد او مشاركا للمستبد في ظلمه واستبداده ، وطالما تسود عقيدة الاسلام الحقيقية فلا مجال لاستبداد او طغيان وحيث تربى المؤمن على تلك العقيدة ستجده ايجابيا في مواجهة الطغيان .
ثالثا : الشورى وايجابية السلوك عند المسلم :
1 ـ الطغيان السياسي يستند دائما الى طغيان دينى او مؤسسة تبارك ظلمه وتعطيه مشروعية دينية زائفة ، ويجنى رجال الدين المكسب تقديسا لذواتهم احياء وامواتا . و الشعب المقهور يدفن احزانه واحباطاته لدى العتبات المقدسة للأضرحة ويتوسل بالأولياء الموتى يرجوهم العون والمدد ، وتضيع اعمار الأجيال في انتظار حلم لا يتحقق ، والطغيان يزداد ويزداد معه نفوذ الهيئة الدينية وسلطانها وثرواتها ، ويزداد معها بؤس الشعب وهوانه .
هذا السكوت والخنوع والرضى بالمقسوم لا يمكن ان يوجد في مجتمع يقدس الله وحده ويخشاه وحده ويطلب منه المدد وحده ولا يستعين الا به ، فأياه تعالى يعبد ، واياه تعالى يستعين .. في ذلك المجتمع الحر لا مجال لتقديس البشر سواء كانوا حكاما في الدنيا ( اى السلاطين) او يعتبرهم ملوكا في الأخرة ( اى الأولياء والقديسين والأئمة )، وانما التقديس فيه لله وحده . وهذا الشعب الذي لا يخضع الا لله وحده لا يسمح بوجود شخص يدعى لنفسه ماليس له من حقوق الله او حقوق البشر .. وذلك الشعب يعيش حياته آمنا اذ ان مصيره في يده وليس متوقفا على نزوة فرد مستبد يستطيع ان يدمر الحاضر والمستقبل في لحظة . وكم يحفل تاريخا بأمثلة دامية لما احدثه حكم الفرد المستبد بثروة أمته البشرية والمادية ، ولو استطاع الشعب ان ينتزع حقوقه من ذلك الطاغية لتجنب الدمار والخزى والعار. ـ وما يحدث في تاريخنا المعاصر حدث قبل ذلك مع فرعون موسى النموذج الكلاسيكي لكل حاكم مستبد ، والذي ذكره القرآن اماما لكل حاكم مستبد ظالم ، ومعروف ان نتيجة استبداد فرعون وظلمه لم يدفعها فرعون وحده ، بل دفعه معه قومه وآله وجنده . وتتكرر قصة فرعون وملائه مع كل طاغية يدمر قومه لأنه لم يجد امامه من يقف في وجهه ويمنعه من العبث بكيان الشعب ومقدراته .
2 ـ والشعب المؤمن بالله تعالى – حق الايمان – يعلم ان الله تعالى أوكل المبادرة بالتغيير الى الانسان ، وجعل الارادة الالهية في احداث ذلك التغيير تالية او نتيجة للتغيير الذي يحدثه الانسان ، وهنا يكون التقدير الكامل للحرية الانسانية ، وتكون ايضا المسئولية الخطيرة الملقاة على عاتق الانسان. يقول الله تعالى يحذر من تكرار قصة فرعون وقومه " كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) ( الأنفال ). فالأية الاولى تتحدث عن مصير آل فرعون ، والآية التالية تتحدث عن اهمية العامل الانساني في التغيير ، وان الله تعالى لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . ويقول تعالى مؤكد على نفس القانون الالهى " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ (11) "الرعد . ولو قام الشعب بتغيير ما في الانفس من خضوع واستكانة وخوف وسلبية وتطاحن على الصغائر وأنانية وبحث عن المكاسب الشخصية دون نظر لمصلحة المجموع – لو تغيرت الأنفس من كل ذلك ، ولو تطهرت من كل ذلك لامتلك الشعب من اسباب القوة المعنوية التى يتحول بها الطاغية المستأسد الى قط أليف . والتراث الشعبى المصري له تاريخ طويل في الصبر على الاستبداد والخنوع له ، ومن هذه التجربة الطويلة يقول المثل الشعبى يفسر الطريقة المثلى لصناعة الفراعنة " قالوا لفرعون مين فرعنك ؟ قال مالقيتش حد يقف في طريقي.." وقد لا يوجد حاكم مستبد بالفطرة ، ولكن من المؤكد ان شعبا خاضعا مستكينا يخلق عشرات من الفراعنة ، وكلما هلك فرعون انتصب بعده فرعون ، ولا يمكن ان يتغير الحال الا اذا بدّل ذلك الشعب وغير ما بنفسه اولا ، وحينئذ تاتى ارادة الله بتنفيذ ذلك التغيير ومباركته .
3 ـ وذلك التغيير المطلوب لا يأتي الا عن طريق نهضة ثقافية فكرية او دعوة ترتفع بوعي الشعب توضح له حقوقه وترد على غسيل المخ الذي يقوم به الملأ والحاشية من خدم الحاكم المستبد . وترد على التأويلات الدينية للكهنوت الدينى الذي يخدم الاستبداد السياسي . او بمعنى آخر دعوة دينية سياسية ثقافية تهدف الى تغيير ما بأنفس الناس من سلبية وخضوع وانانية . وتلك الدعوة لن يسكت عنها المستبد وأعوانه والكهنوت الذي يخدمه ، واصحاب تلك الدعوة مرشحون لاتهامات سياسية ( الخيانة والعمالة ) واتهامات دينية ( الكفر والألحاد) وكلها تؤدي الى طريق واحد وهو القتل . ولأنها دعوة حق لا تمتلك الا الحجة والبرهان امام القوة والسلطان فالمنتظر ان تصادرها قوة السلطان المستبد بالقوة والقهر . ولكن اخمادها بالقوة وسفك الدماء لا يعنى اجتثاث جذورها لأن تجربة البشر التاريخية تثبت ان الاضطهاد هو اكبر عوامل انتشار الافكار واستمرارها ، وهكذا فكلما اسرف المستبد في مطاردة تلك الافكار القويمة وحربها واغتيال اصحابها ماديا ومعنويا انتشرت تلك الافكار وتنبه الشعب واستمع لها ، خصوصا وان الشعب الساكن الساكت يعرف التعاطف مع كل ما يكرهه الحاكم المستبد الظالم ، ويتعاظم تعاطفه مع اولئك الدعاة الابرياء المسالمين الذين يضطهدهم المستبد بالحديد والنار لمجرد كلمات يقولونها وصفحات يسطرونها . وباستمرار الاضطهاد بالحديد والنار تنتشر الدعوة السلكية أكثر وأكثر .. ويزداد انصارها .. وتتحول من الضعف الى القوة ، ومن الصبر على الأذى والأضطهاد الى المقاومة ورد الاعتداء . ويصبح التغيير امرا حتميا .. ليس تغيير الحاكم المستبد وحده .. وانما تغيير النظام المستبد برمته واستبدال نظام آخر يعبر عن الشعب وبخدم الشعب – اى نظام شورى – بالمفهوم الذي عرفه المسلمون في عصر النبي عليه السلام .
4 ـ فالنبي محمد عليه السلام ظهر في مكة حيث لم تكن فيها دولة بالمعنى المألوف ، ولكن نوع من الحكومة القبلية تقوم على البيت الحرام وتتكسب من ايرادات الحج اليه ومن الاصنام المقامة حوله ، وتكونت تلك الحكومة من اشراف قريش ، ولم يكن للضعفاء دور الا مجرد الخدمة بجانب الرقيق والعبيد ، وجاءت دعوة الاسلام فاعتبرتها قريش تهديدا لوضعها الاقتصادي والاجتماعي في مكة وفي الجزيرة العربية .. وقابلت الدعوة الجديدة بالاضطهاد ، وأدي الاضطهاد والأذى الى نشر الدعوة وتحولها الى هجرة ودولة ، ثم اصبحت الدولة الجديدة – برغم استمرار الحصار حولها – موطنا لكل الاحرار ، وانتصرت في النهاية . والقرآن الكريم صاحبت آياته الكريمة خطوات النبي في مكة وفي المدينة .. وعلى اساسه تربى المسلمون وعرفوا الشورى ضمن قيم أخرى عظيمة ، وتعلموا من القرآن السلوك الايجابي في مقاومة الظلم والاستبداد .. كما تعلموا منه عدم الاعتماد على الغير وان يكون الجهاد بهدف تقرير حرية العقيدة في الايمان وفي الكفر ، وتلك قصة اخرى تتداخل احيانا مع موضوعنا عن الشورى .
5 ـ والفلاسفة العمليون والخياليون يقولون ان وظيفة الدولة هي اقامة العدل ، والقرآن يؤكد هذه الحقيقة ، بل يجعل الهدف من ارسال الانبياء والرسل وانزال الكتب السماوية هو ان يقوم الناس بالقسط والعدل ، يقول تعالى " لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ (25) " . (الحديد ). وقيام الناس بالقسط معناه ان لا يكون هناك حكم مستبد ولا طائفة او طبقة تحتكر لنفسها الروة والسلطة .و قيام الناس بالقسط و العدل معناه سريان قاعدة العدل في التعامل مع الله تعالى فلا مجال لاتخاذ اولياء وآلهة مع الله من البشر والكهنوت السياسي والكهنوت الديني .وتسرى قاعدة العدل في التعامل السياسي والاجتماعى والاقتصادي ، وذلك في التعامل البشري يستلزم نظاما للتشاور والديمقراطية يحكم فيه الشعب نفسه بنفسه بحيث تسير الأمور على قاعدة الشفافية والصراحة والمساواة واعطاء كل ذي حق حقه . واذا تحقق هذا فان المجتمع الذي يريده القرآن قد تحقق .. وتلتقى بذلك احلام الفلاسفة والمصلحين مع الهدف من اقامة الشرع والدين .
6 ـ فكيف اذا لم يتحقق ذلك الهدف .؟ كيف اذا احتكرت طائفة الثروة والقوة والسيطرة واستبدت بالأمر وأكلت على الناس حقوقهم في الثروة وفي المشاركة السياسية ؟ وكيف اذا سيطرت تلك الفئة على مقاليد السلطة واصبح زحزحتها عن السلطة لأقامة العدل وتستلزم اللجوء للقوة والحديد والنار ؟ هل يكون مشروعا ان يلجأ المستضعفون للحديد والنار لتحقيق ميزان العدل ؟ … القرآن الكريم يقول نعم ؟؟‍‍!!.نرجع الى الاية السابقة ونكملها الى نهايتها : لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) الحديد . فكما ارسل الله تعالى الرسل وكما انزل الكتاب ليكون ميزانا للقسط والعدل فكذلك انزل الحديد الذي فيه بأس شديد ومنافع للناس ، وبالحديد يستطيع من يريد العدل المفقود ان ينصر الله تعالى ورسله ويقيم شرعه . وهنا تصل ارادة التغيير الى ذروتها ، بأن يتحول تغيير ما في النفس الى تغيير الواقع واقامة العدل بدلا من الظلم ، وتأسيس حكم الشعب على اشلاء استبداد الفرد . وبعد ان كان المستبد يحاور ويشاور نفسه اصبح الشعب يستشير نفسه ويملك مصيره بيده ولا يخضع الا للخالق وحده جل وعلا ، هذا ما ينبغى ان يكون .
7 ـ ولكن الأغلب ان الثائرين على الحاكم المستبد يجيدون فن اللعب على آلام الشعب وحين يصلون به للسلطة يعيدون سيرة الاستبداد والظلم ، وينتظر الشعب ثائرين آخرين يعيطيهم ثقته ليتخلص بهم من المستبدين الجدد . وتظل مسيرة الظلم مستمرة طالما ان الشعب سائر في غفلته وسلبيته مكتفيا بالتفرج على الصراع بين القائم في الحكم والطامع في الحكم .،وطالما ظلّ الوعى الشعبي قاصرا لم يرتفع بالناس الى درجة الاحساس بالمسئولية الجماعية وضرورة التصدي لها بوضع نظام للشوري قائم على العدل وخضوع السلطة التنفيذية للشعب وتداول السلطة في اطار خدمة الشعب . وقد شهدنا في تاريخنا المعاصر قيام ثورة عسكرية ترفع شعارات اجتماعية وسيلة لتحظى باجتماع الشعب حولها ، وتحولت الثورة الى دولة مستبدة تحطمت على قلعتها السميكة كثير من الأحلام الاجتماعية والسياسية التى طالما نادت بها .. وجاء ثوار جدد يرفعون شعارات دينية سياسية جديدة ، والخطورة في اولئك الثوار انهم لا يخفون رغبتهم في العودة لتراث العصور الوسطى حيث سادت مفاهيم الحاكمية والراعي المسئول عن رعيته امام الله وحده والذي لا يسال عما يفعل ، والذي يملك الأرض ومن عليها ، واقام الجناح المدنى لاولئك الثوار دولة موازية للدولة القائمة وسيطر على الاعلام والتعليم ، واتيح له بذلك ان يصيغ المجتمع والشباب على مفاهيم العصر العباسي التى تخالف القرآن وما كان عليه النبي عليه السلام . وبذلك تم قلب الحقائق ، فأصبح الاسلام القائم على السلام عنوانا للأرهاب وسفك الدماء ، وتحولت سماحة الاسلام الى تعصب ، وابدلوا الشورى الاسلامية الى الحاكمية والاستبداد … وندخل بذلك الى موقع الشورى في عقيدة الاسلام ورسوم العبادة فيه ، ليتضح الفارق بين الاسلام الحق وذلك الزيف الذي يخدعون الناس به .
رابعا : موقع الشورى في عقيدة الاسلام ورسوم العبادة :
الشورى في عقيدة الاسلام :
1ـ اشرنا فيما سبق الى صلة الشورى بعقيدة الاسلام ، فالله تعالى هو وحده الذي لا يسال عما يفعل ، لأن الاله هو الذي لا يملك احد مساءلته ، وتلك صفة يتميز بها عن المخلوقات ، ولذلك يقول تعالى في معرض انفراده وحده بالالوهية ": (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) الأنبياء ) ، أي لو كان هناك آلهة مع الله لفسد نظام الكون ، من السموات والارض وتقول الآية التالية عن الله تعالى : ( لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23) الأنبياء ) . وهنا ارتباط بين وحدانيته تعالى وانفراده وحده تعالى بأنه الفعّال لما يريد دون ان يكون مسئولا عما يفعل امام غيره ، اما اولئك الغير فهم مسئولون امام الله خالقهم في يوم الحساب . وتتعاظم مسئولية البشر بقدر ما يناط بهم من اختصاصات ، ولذلك فالانبياء – مثلا- اكبر مسئولية من الافراد العاديين ، والله تعالى يقول عن مسئولية الانبياء والبشر " فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) الاعراف ) . اى ان مسئولية الامم التى ارسل اليها الانبياء في كفة وتعادلها في كفة أخرى مسئولية الانبياء ، وهذا بالنسبة لليوم الآخر ، والدنيا يقاس حالها على حال الآخرة ، وحقوق العباد يقاس اعتبارها على حقوق الله تعالى ، بل ان الله تعالى يجعل العقوبات الدنيوية في تشريع الجرائم ، فيما يخص حقوق العباد من السرقة والزنا والقتل والقذف .
2 ـ والاستبداد هو نوع من ادعاء الالوهية ، فالشخص المستبد يرفع نفسه فوق النبي الذي كان مأمورا بالشورى .. والمستبد المتأله يبدأ بزعم انه قائد ملهم ، وينتهي به الأمر الى انه يحكم بتفويض الهى ، او بمفهوم الحاكمية او الحق الملكى المقدس الذى عرفته اوربا في العصور الوسطى وعرفه المسلمون في الخلافة العباسية . و لو كان هناك تفويض الهى بالسلطة السياسية فان النبي محمدا كان هو الأولى بذلك التفويض حين كان قائدا في المدينة . والمعروف ان الحاكم الديمقراطي يستمد سلطته من الناس الذين يملكون توليته ويملكون مساءلته ويملكون عزله . ونطرح هنا قضية مصدرية السلطة ، هل هي من الله كما يقول دعاة الاستبداد الثيوقراطي او الحاكمية ؟ او هى من الناس والشعب كما تؤكد الديمقراطية الحديثة . وبمعنى آخر ، ونحن نتحدث عن الشورى في الاسلام وفي عقيدته القائمة على انه لا اله الا الله ، هل كان النبي ( وهو صاحب الوحى السماوي ) يحكم المدينة بتفويض الاهى ويستمد سلطته السياسية من الله ؟ ام يستمد سلطته السياسية من اجتماع الناس حوله ؟ . الذي يتبادر الى الذهن انه كان يستمد سلطته السياسية من الوحى الالهى ومن التفويض الالهى لأنه كان نبيا حاكما وكان الوحى يصاحب خطواته وحركاته . وذلك الرأى يسعد أنصار الاستبداد الديني ويرونه مؤكدا لنظرية الحاكمية ، وقد يرد عليه انصار الشورى والحرية السياسية ان ذلك يعتبر خصوصية للنبي لأنه كان نبيا اولا وحاكما ثانيا ، ولأنه ليس بعد محمد عليه السلام نبي ولأنه خاتم النبيين فأن التفويض الألهى بالحكم انتهي يموته لأنه لا وحى بعد كتاب الله ولا نبي بعد خاتم النبيين . ولكننا نعرض صفحا عن هذا الرأى ، ونعود الى الآية الكريمة التى امرت النبي بالشورى ، فهى قبل ان تأمره بالشورى أكدت على التربة تنبت فيها شجرة المشورة وتثمر ، وتلك التربة هى استمرارية السلطة ومصدريتها ، هل هى من الله بالتفويض الالهى او من الناس .
والآية الكريمة تقول : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) آل عمران ) والشاهد في الآية الكريمة قوله تعالى : ( وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ) فقد جعله الله لينا هينا معهم ولم يجعله فظا غليظ القلب ، لأنه لو كان فظا غليظ القلب لانفضوا من حوله . وماذا يحدث لو انفضوا من حوله ؟ لن يكون له سلطان ولن تكون له دولة ، وما كان حاكما مطاعا ، اذا فاجتماعهم حوله هو الذي اقام له دولة وجعل له سلطة ، وقبل ذلك كان في مكة مضطهدا ، واذا انفضوا عنه عادت اليه قصة الاضطهاد والمطاردة . اذن هم مصدر السلطة له باجتماعهم حوله ، وليست مصدرية السلطة بتفويض الله تعالى له ، ويكفي ان الله تعالى هو الذي جعله لينا هينا مع الناس حتى تجتمع عليه قلوب الناس ، وحذره من ان يكون فظا غليظ القلب حتى لا ينفضوا من حوله ، وامره ان يعفو عنهم وان يستغفر لهم وان يشاورهم في الأمر ، لأنهم شركاؤه في الأمر ولأنهم مصدر سلطته وكيان دولته واسباب عزته وقوته . وهكذا فإن امر الله تعالى له بالشورى تأكيد على استمدادية السلطة من الناس ، الذين اجتمعوا حول النبي ، وألف الله تعالى بين قلوبهم فأصبحو بنعمته اخوانا ، والله تعالى يمتن على النبي أنه جعله رحيما هينا بالناس حوله وأنه الف بين قلوبهم ، ولو أنفق النبي ما في الارض جميعا ما استطاع ان يؤلف بين قلوب الذين آمنوا معه : ( هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) الانفال ) . ومعناه ان العناية الالهية تركزت على الشعب الذي اقام النبي في وسطه حاكما عليه . ركزت بتأليف قلوبهم وبجعل النبي لينا معهم ، والهدف ان يكونوا مع النبى قلبا وقالبا .. والمعنى انهم مصدر السلطة ، ولأنهم لو انفضوا من حول النبي وتركوه فلن تكون له دولة .. ولن تكون له ايضا … دعوة . واذا كان هذا حال النبي وهو يحكم المدينة .. فكيف بغيره من البشر ؟ واذا كان النبى لم يدع التفويض الالهى في الحكم ، واذا كان القرآن أكد على استمداده السلطة السياسية من الناس فأى حجة لأصحاب الحكم الثيوقراطي والاستبداد الدينى والكهنوت السياسي ؟
الشورى في رسوم العبادة الاسلامية :
ظهر كما سبق ان الشورى عنصر من عناصر العقيدة الاسلامية ، فالله تعالى هو وحده الذي لا يسأل عمل يفعل ، والنبي نفسه كان مأمورا بالشورى ويستمد سلطته السياسية من الشعب ، وذلك المستبد يقتفي أثر فرعون ويسير في طريق ادعاء الألوهية . والمؤمن بالله ايمانا حقيقيا لا تشتمل عقيدته على الاعتقاد في حاكم مؤله مستبد ولا يرضى بالخضوع له . وطالما ان للشورى هذا القسط في عقيدة الاسلام فالمنتظر ان يكون لها نصيب في تشريعاته ورسوم العبادة فيه ، اى ان تكون الشورى فرضا من فرائض الاسلام ، فرضا لازما كالصلاة والزكاة . ونستغرب من هذا الكلام . هل الشورى فرض من الفروض كالصلاة والزكاة ، او فريضة اسلامية على كل انسان ؟ واذا كانت كذلك فلماذا سكت عنها الفقهاء ؟
نبدأ بالجواب عن السؤال الثانى : لقد سكت عنها الفقهاء لأن الفقه وباقى مصادر التراث ومؤلفاته – كالحديث والتفسير – قد صيغت في عصور الاستبداد السياسي – الذي لم يكن قصرا على الحكام ، بل ان الثوار على الحكام – من الشيعة وغيرهم – كانوا يؤمنون بالاستبداد بل كانت العصور الوسطى كلها تنبض بالحق الالهى للسلطان ، سواء الخليفة العباسي أو الفاطمى او امبراطور الدولة الرومانية المقدسة او ملك انجلتره او فرنسا . والاستثناء الوحيد كان في دولة الاسلام الأولى التى كان القرآن هو الكتاب الوحيد الذي يعبر عنها .
والجواب على السؤال الأول : ان القرآن الكريم في آياته المكية أوضح صفات المجتمع الاسلامي والدولة الاسلامية قبل ان يقيم المسلمون دولتهم في المدينة . يقول تعالى في سورة ( الشورى ): (فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) الشورى ) . والمعنى ان المجتمنع المسلم له متاع الحياة الدنيا ، وله ايضا ما عند الله تعالى من متاع الآخرة التى هى خير وأبقى . ولكى يستحق هذا المجتمع خير الدنيا والآخرة معا فلابد أن يتصف بعدة صفات هى الأيمان والتوكل على الله تعالى واجتناب الكبائر والفواحش ، والعفو عند المقدرة ، وطاعة الله تعالى والاستجابة له ، واقامة الصلاة واقامة الشورى والزكاة والعزة او الانتصار عندما يقع عليهم بغى او عدوان .
وتلك الصفات يمكن تقسيمها الى صفات ايمانية وصفات اخلاقية وعبادات ، فالصفات الايمانية هى قوله تعالى " للذين آمنو وعلى ربهم يتوكلون " ، والذين استجابوا لربهم " والصفات الأخلاقية " والذين يجتنبون كبائر الاثم والفواحش واذا ما غضبوا هم يغفرون " ، : والذين اذا اصابهم البغي هم ينتصرون " . اما العبادات فهى الصلاة والشورى والزكاة او قوله تعالى " واقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون " .
والمعنى ان الشورى جاءت فريضة بين أشهر فريضتين من فرائض الاسلام وهما الصلاة والزكاة ، وهى المرة الوحيدة التى جاء فيها فاصل بين الصلاة وايتاء الزكاة معا وبالترتيب وبدون فاصل بينهما ، وهى المرة الوحيدة التى جاء فيها ذكر الشورى مع الصلاة والزكاة ليؤكد رب العزة على أنها فرض تعبدي مثل الصلاة والزكاة وبنفس الملامح .
فاذا كانت الصلاة فرض عين لازما واجبا فكذلك الشورى واذا كانت الصلاة واجبة على كل مسلم ومسلمة وجوبا ذاتيا وشخصيا وعينيا فكذلك الشورى ، واذا كانت الصلاة واجبة في كل الأحوال في السفر والحضر وفي الصحة والمرض وفي السلم وفي الحرب .. فكذلك الشورى . ثم اذا كانت الاستنابة لا تصح في الصلاة اى لا يصح ان يصلى احد عنك .. فكذلك لا يصح في الشورى الاسلامية ان يكون فيها نظام نيابي او أهل الحل والعقد الذين يفكرون بالنيابة عن الناس وانما مجتمع المسلمين كلهم اعضاء في مجلس الشورى ، كل واحد في موقعه . ولأن الشورى في الاسلام عبادة فالمسلم عليه ان يمارسها في كل موقع ، في بيته ومصنعه ومعمله ومجتمعه ، أي يتنفس الشورى وينبض بها قلب المجتمع ، حيث لا مجال فيها لأى عذر شأن الصلاة .. فكذلك كان النبي والمسلمون يمارسون فريضة الشورى .

الشورى . ثم اذا كانت الاستنابة لا تصح في الصلاة اى لا يصح ان يصلى احد عنك .. فكذلك لا يصح في الشورى الاسلامية ان يكون فيها نظام نيابي او أهل الحل والعقد الذين يفكرون بالنيابة عن الناس وانما مجتمع المسلمين كلهم اعضاء في مجلس الشورى ، كل واحد في موقعه . ولأن الشورى في الاسلام عبادة فالمسلم عليه ان يمارسها في كل موقع ، في بيته ومصنعه ومعمله ومجتمعه ، أي يتنفس الشورى وينبض بها قلب المجتمع ، حيث لا مجال فيها لأى عذر شأن الصلاة .. فكذلك كان النبي والمسلمون يمارسون فريضة الشورى .