ßÊÇÈ المقريزى وثقافة الفتوحات فى عصرنا
الباب الثانى موقف المقريزى من اضطهاد المصريين بعد الفتح العربى لمصر الفصل الثانى فى العصر العباسى

في الجمعة ١٩ - أبريل - ٢٠٢٤ ١٢:٠٠ صباحاً

 

الباب الثانى موقف المقريزى من اضطهاد المصريين بعد الفتح العربى لمصر

الفصل الثانىفى العصر العباسى

 1 ـ عشنا مع معاناة المصريين من الظلم الهائل بعد الفتوحات العربية فى عصر الخلفاء الراشدين والأمويين ، ورأينا تطرف العرب فى نهب المصريين وتطرف الأمويين بالذات فى قهر المصريين وتعذيبهم وإذلالهم. لم ينقشع الظلم بقيام الدولة العباسية بل إستمر مما إستوجب استمرار الفلاحين المصريين فى ثوراتهم، يقول المقريزى:(خرج القبط بناحية سخا وأخرجوا العمال في سنة خمسين ومائةوصاروا في جمع ، فبعث إليهم يزيد بن حاتم بن قبيصة أمير مصر عسكرًا ) وانتهى الأمر بهزيمة الثوار ومعاناة شديدة للمصريين ،أو بتعبير المقريزى :(وهزموا باقيهم فاشتد البلاء على النصارى واحتاجواإلى أكل الجيف ).

2 ـ على أن العباسيين أضافوا نوعية جديدة من الاضطهاد توجّه لهدم الكنائس فإفتتح الوالى العباسى سليمان بن على عهده بهدم الكنائس المصرية التى أقامها المصريون حديثا، يقول المقريزى:(وهُدمت الكنائس المحدثة بمصر، فهدمت كنيسة مريم المجاورة لأبي شنودةبمصر، وهدمت كنائس محارس قسطنطين، فبذل النصارى لسليمان بن علي أمير مصر في تركهاخمسين ألف دينار فأبى). وبعد رحيل الوالى سليمان بن على وتولى ابن عمه موسى بن عيسى عارض الليث بن سعد والقاضى ابن لهيعة هدم الكنائس، يقول المقريزى: ( فلما ولي بعده موسى بن عيسى أذن لهم في بنائها فبنيت كلهابمشورة الليث ابن سعد وعبد الله بن لهيعة قاضي مصر، واحتجا بأنّ بناءها من عمارةالبلاد، وبأن الكنائس التي بمصر لم تبن إلا في الإسلام في زمن الصحابة والتابعين ).

3 ـ و إستمر فرض الضرائب الباهظة فنشبت ثورة مصرية عام 156 وهزمهم العباسيون كالعادة ، يقول المقريزى عن ولاية موسى بن عيسى :( وفي أيامه خرج القبط ببلهيت سنة ست وخمسين فبعث إليهم موسى بن عليّأمير مصر وهزمهم )‏.‏وانتهز الجند العباسيون فرصة الفوضى التى حدثت فى الشرق بالصراع الحربى بين الخليفة الأمين وأخيه المأمون فقاموا بنهب مدينة الاسكندرية وسكانها المصريين ، وأحرقوا بيوتهم ونهبوا الأديرة هناك فهرب معظم الرهبان خوفا ، يقول المقريزى :( وفي الفتنة بين الأمين والمأمون فانتُهبت النصارىبالإسكندرية وأحرقت لهم مواضع عديدة وأحرقت ديارات وادي هبيب ونهبت فلم يبق بها منرهبانها إلاّ نفر قليل‏.‏). وجاء الفرج للمصريين ، فقد مرضت جارية من محظيات الخليفة فى بغداد فاستدعى البطرك المصرى لعلاجها،وكان طبيبا حاذقا ، فتم شفاء الجارية على يديه فكافأه الخليفة برد بعض الكنائس اليه .

4 ـ على أن الظلم تطوّر فى خلافة المأمون بطريقة أشعلت ثورة عامة للمصريين سنة 210، وعجز الجند العباسيون عن إخمادها فأرسل لهم المأمون قائده الافشين بجيش جرّار إستطاع هزيمة الثوار، ومن وقع منهم فى الأسر أمر المأمون بقتله وسبى نسائه وأولاده وبيعهم رقيقا ، واستعمل أشد القسوة فى معاملة المصريين وقهرهم فأنهى حلمهم فى الثورة والتحرر. نتأمل ما يقوله المقريزى عن المصريين الأحرار وهو يتشفّى فيهم وما إنتهى اليه أمرهم بعد هزيمتهم الكبرى:( انتقض القبط في سنة ست عشرة ومائتين ، فأوقع بهم الإفشين حتى نزلوا على حكمأمير المؤمنين عبد اللّه المأمون ، فحكم فيهم بقتل الرجال وبيع النساء والذرية ، فبيعوا،وسبى أكثرهم.). بعدها جاء الخليفة المأمون بنفسه لمصر وتجوّل فى الريف المصرى يتفقّد أحواله فشهد معالم من الظلم ، إلّا إن رحلته أسفرت فى النهاية عن إحكام قبضة العباسيين على الريف المصرى والفلاحين المصريين ، بعد القضاء على زعاماتهم الوطنية . ويقول المقريزى يهنّىء نفسه بكسر المصريين وقهرهم من وقتها : ( ومن حينئذ ذُلت القبط في جميع أرض مصر، ولم يقدر أحد منهم بعد ذلك علىالخروج على السلطان، وغلبهم المسلمون على عامّة القرى ، فرجعوا من المحاربة إلىالمكايدة واستعمال المكر والحيلة ومكايدة المسلمين ) . أى بهزيمة الثورة المصرية وقتل زعماء الثوار الذين لا نعرف أسماءهم ، وبسبى واسترقاق نسائهم وأبنائهم وبناتهم إستكان عوام المصريين للذّل وانتهت ثوراتهم ، وتوسع العرب فى الريف المصرى يتملكونه ويسخّرون الفلاحين المصريين فى الأرض الزراعية بعد القضاء على الطبقة الحيّة الوطنية من المصريين . ومن بقى منهم حيّا لجأ الى الحيلة والمكر كى ينجو من الظلم بعد أن إستحال عليه أن يواجه الظلم بالثورة كما كان من قبل . وهذا ما يستنكره المقريزى ويستكثره على المصريين المقهورين المستضعفين أمام جبروت العباسيين فيقول : (فرجعوا من المحاربة إلىالمكايدة واستعمال المكر والحيلة ومكايدة المسلمين .). الروايات التاريخية عن الخليفة المأمون العباسى تصفه بالاستنارة وسعة الأفق والتسامح ، ولكنه هو الذى إضطهد الفقهاء السنيين بزعامة أحمد بن حنبل ومحمد بن نوح ومحمد بن سعد المؤرخ بسب أنهم خالفوا رأيه فى موضوع ( خلق القرآن ). ورأينا قسوته المفرطة مع الثوار المصريين الأحرار . وفى عهده بدأ تمكّن العباسيين من الثروة المصرية الزراعية والتحكّم فيها مباشرة حيث إنساح العرب المسلمون فى الريف المصرى يتحكمون فيه .

5 ـ هذا الوضع الجديد كان مشجعا للخليفة المتوكل العباسى المشهور بتعصبه ليوقع بالمصريين المسيحيين واليهود أفظع سياسة فى التحقير والإذلال والامتهان ، تمثلت فى إرغامهم على إرتداء زىّ معين ،وحملهم أشياء محددة ومنعهم من ممارسة حقهم فى ركوب الخيل، بل والسير بطريقة معينة ، وطردهم من وظائفهم . فى هذا الوقت كانت الأغلبية الساحقة من المصريين  يرفضون الدخول فى الاسلام ، فلم يروا من المسلمين سوى القهر والظلم والقتل والسلب والنهب والسبى . يقول المقريزى دون أى إحساس بالعار:( أمر المتوكل على الله في سنة خمس وثلاثين ومائتين أهلالذمّة بلبس الطيالسة العسلية وشد الزنانير وركوب السروج بالركب الخشب،وعمل كرتينفي مؤخر السرج، وعمل رقعتين على لباس رجالهم تخالفان لون الثوب، قدر كلّ واحدة منهماأربعة أصابع ولون كلّ واحدة منهما غير لون الأخرى ) هذا بالنسبة للرجال . ( ومن خرج من نسائهم تلبس إزارًاعسليًا. ) (ومنعهم من لباس المناطق ) كالعرب، ليس هذا فقط ، بل هدم كنائس النصارى وبيع اليهود، يقول المقريزى:( وأمر بهدم بيعهم المحدثة ) وفرض ضريبة العُشر على منازلهم:( وبأخذ العشر من منازلهم ).وألزمهم بوضع صور وتماثيل للشياطين على أبواب بيوتهم:( وأنيجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب ) ومنعهم من التوظيف ومن التعليم العام:( ونهى أن يستعان بهم في أعمال السلطان،ولايعلمهم مسلم ) وحرمهم من ممارسة شعائرهم الدينية:( ونهى أن يظهروا في شعانينهم صليبًا وأن لا يشعلوا في الطريق نارًا ) وأمر بهدم قبورهم ( وأمربتسوية قبورهم مع الأرض،)، وجعل ذلك قانونا عاما فى كل الدولة العباسية:( وكتب بذلك إلى الآفاق).

ثم أصدر قوانين إضافية فى الزى وفى منعهم من ركوب الخيل:( ثم أمر في سنة تسع وثلاثين أهل الذمّةبلبس دراعتين عسليتين على الذراريع والأقبية، وبالاقتصار في مراكبهم على ركوب البغالوالحمير دون الخيل والبراذين‏.‏). تخيل تطبيق هذا على الملايين من أهل الكتاب فى مصر والشام والعراق وايران وشمال أفريقيا . هو ظلم مركب يصادر الثروة والحرية الشخصية والدينية ويفرض حصارا إقتصاديا وتحقيرا للناس لمجرد الاختلاف فى الدين. وهو أيضا ظلم لا يحرّك شعرة فى رأس المقريزى،ما أقسى قلبه.!

هذا (المتوكل ) هو الخليفة المفضّل للسنيين، فبعد موته توالت منهم المنامات تزعم صلاحه ودخوله الجنة لأتّه هو الذى جعل الأحاديث دينا تحت مصطلح ( السّنة )، وتعصّب لها فأضطهد أهل الكتاب والشيعة والصوفية والمعتزلة. هذا المتوكل إمتد تعصبه ليشمل العرب والفرس فطردهم من الجندية والوظائف واستعاض عنهم بالجند الأتراك فأصبحوا عماد الجيش وقوّاده وولاته وحرس قصره. هذا الخليفة المتوكل مع تعصبه الدينى فلم يكن متدينا بل كان ماجنا سكيرا ، يذكر المسعودى فى تاريخه أنه كان له 3 آلاف جارية محظية ، ( وطأهنّ ) جميعا مع تدلهه بغرام جاريته ( قبيحة ) أم ولده المعتز.ولقد تعصب لإبنه المعتز فأراد جعله ولى عهده بدلا من إبنه الأكبر ( المنتصر ) وجعل يهزأ بإبنه المنتصر ويضطهده فما كان من المنتصر إلا أن قتل أباه بمساعدة بعض الأتراك ، دخل بهم على أبيه المتوكل وكان يسكر مع وزيره الفتح بن خاقان ، فقتلوهما.

6 ـ القادة الترك الذين إستجلبهم المتوكل ما لبث أن تحكموا فى الخلافة والخلفاء بعد قتلهم المتوكل وابنه المنتصر وخلفاء آخرين . ومنهم من إستقل بحكم بعض أقاليم الدولة العباسية مثل أحمد بن طولون الذى أسس فى مصر الدولة الطولونية وضم اليها الشام،وأسس عاصمة له بجانب الفسطاط والعسكر هى ( القطائع ). ولم يخل ابن طولون من تعصب ضد المصريين، يقول المقريزى:(.. وقدم أحمد بن طولون مصر أميرًا عليها ، ثم قدّم اليعاقبةميخائيل ( بطركا ) فأقام خمسًا وعشرين سنة ، ومات بعدما ألزمه أحمد بن طولون‏ بحمل عشرين ألف دينار، باع فيها رباع الكنائس الموقوفة عليها، وأرضالحبش ظاهر فسطاط مصر، وباع الكنيسة بجوار المعلقة من قصر الشمع لليهود، وقرّرالديارية على كلّ نصرانيّ قيراطًا في السنة ، فقام بنصف المقرّر عليه‏.‏). أى إنّ أحمد بن طولون الذى إشتهر بالعدل ( نسبيا) مع المسلمين لم يكن عادلا مع المصريين ، ولأنّ المصريين إفتقروا وكانوا بالتعبير المصرى (على الحديدة ) لم يعد مال يمكن أن ينهبه ابن طولون فقد طمع ابن طولون فى البطرك أو البابا لأن لديه أوقاف الكنيسة ، واليه تذهب التبرعات والقرابين من المستطيع من المصريين ، لذا فرض ابن طولون على البطرك غرامة ناء البطرك بحملها ، فاضطر لبيع بعض الكنائس وبعض أوقافها ، وإضطر لفرض ضرائب على بعض الأديرة ، ومع هذا فلم يستطع البطرك دفع كل الغرامة .

7 ـ بعد طرد العرب من الجيش العباسى ومن الوظائف لم يعد لديهم عمل ، فإحترفوا السلب والنهب ، ولأنهم لا يستطيعون نهب ما يملكه ابن طولون فقد كان المصريون وكنائسهم صيدا سهلا لعصابات العرب المسلمين فى ذلك الوقت ، وهم يعرفون أن ابن طولون أو أى حاكم من الأتراك لن يهتم بحماية المصريين وكنائسهم ، يقول المقريزى:( وفي يوم الاثنين ثالث شوّالسنة ثلاثمائة أحرقت الكنيسة الكبرى المعروفة بالقيامة في الإسكندرية . وهي التي كانتهيكل زحل وكانت من بناء كلابطرة‏.)، وإمتدّ هذا الى الشام ، يقول المقريزى:( وفي يوم السبت النصف من شهر رجب سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة أحرقالمسلمون كنيسة مريم بدمشق ونهبوا ما فيها من الآلات والأواني وقيمتهما كثيرة جدًّا،  ونهبوا ديرًا للنساء بجوارها ، وشعّثوا ( أى أتلفوا وخرّبوا ) كنائس النسطورية واليعقوبية‏.‏).

8 ـ وصار المصريون لعبة يتسلى كل تركى حاكم بالتسلط عليهم ونهب أموالهم بما يتجاوز سياسة الخليفة العباسى نفسه ، يقول المقريزى :( وفي سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة قدم الوزير عليّ بن عيسى بن الجرّاحإلى مصر ، فكشف البلد ) أى تجول بنفسه فى الريف واستطلع الايراد ومساحات الأراضى الزراعية وما عليها من ضرائب.يقول المقريزى:( وألزم الأساقفة والرهبان وضعفاء النصارى بأداء الجزية فأدّوها) وبسسب ما حاق بهم من ظلم فقد ذهب وفد من المصريين الى بغداد يشكو الوزير إبن الجراح للخليفة المقتدر، فكتب بإنصافهم:(ومضى طائفة منهم إلى بغداد واستغاثوا بالمقتدر باللّه فكتب إلى مصر بأن لا يؤخذ منالأساقفة والرهبان والضعفاء جزية، وأن يجروا على العهد الذي بأيديهم‏.‏). وعن مسلمى القدس يقول المقريزى :( ثار المسلمون بالقدس سنة خمس وعشرينوثلاثمائة وحرّقوا كنيسة القيامة ونهبوها وخرّبوا منها ما قدروا عليه‏.‏). المضحك هنا هو قول المقريزى ( ثار المسلمون ) لأن المفهوم أن الثورة تكون تعبيرا عن مقاومة الظلم . ولكننا هنا نرى أن الظالمين هم الذين (ثاروا ) فحرقوا ونهبوا وخربوا كنائس المستضعفين المظلومين من أهل الكتاب.ويقول المقريزى بنفس الاسلوب : (وثار المسلمون أيضًابمدينة عسقلان وهدمواكنيسة مريم الخضراء ونهبوا ما فيها وأعانهم اليهود حتى أحرقوها ففرّ أسقف عسقلانإلى الرملة وأقام بها حتى مات ) .

9 ـ وسقطت الدولة الطولونية ، وقامت الدولة الإخشيدية فلم ينقشع الظلم ، إذ سكن الإخشيد مساكن الذين ظلموا أنفسهم، يقول المقريزى:( بعث الأمير أبو بكر محمد بن طغج الإخشيد أبا الحسين من قوّاده فيطائفة من الجند إلى مدينة تنيس،حتى ختم على كنائس الملكية ، وأحضر آلاتها إلى الفسطاط، وكانت كثيرة جدًّا فافتكّها الأسقف بخمسة آلاف دينار، باعوا فيها من وقف الكنائس .). هنا يقوم الحاكم بدور قاطع الطريق ، وبلا أدنى خجل ، فيبعث بجيش لكى يحارب كنيسة وينهبها .. وهذا ما كانت عليه سياسة العباسيين ودينهم السّنى ..

فكيف تصرف الشيعة الفاطميون مع المصريين ؟

موعدنا الحلقة التالية .